[الحجرات : 6] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
6 - (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) خبر (فتبينوا) صدقه من كذبه وفي قراءة فتثبتوا من الثبات (أن تصيبوا قوما) مفعوله أي خشية ذلك (بجهالة) حال من الفاعل أي جاهلين (فتصبحوا) تصيروا (على ما فعلتم) من الخطأ بالقوم (نادمين) وأرسل صلى الله عليه وسلم إليهم بعد عودهم إلى بلادهم خالدا فلم ير فيهم إلا الطاعة والخير فأخبر النبي بذلك
قوله تعالى يا ايها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق أخرج أحمد وغيره بسند جيد عن الحرث بن ضرار الخزامي قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فأقررت به ودخلت فيه ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته فترسل إلي لإبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة فلما جمع الحرث الزكاة وبلغ الإبان احتبس الرسول فلم يأته فظن الحرث أنه قد حدث سخطة فدعا سروات قومه فقال لهم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد وقت وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ولا أدري حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة ليقبض ما كان عنده فلما أن سار الوليد فرق فرجع فقال ان الحرث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحرث فأقبل الحرث بأصحابه إذ استقبل البعث فقال لهم إلى أين بعثتم قالوا اليك قال ولم قالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته ولا أتاني فلما دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال منعت الزكاة وأردت قتل رسولي قال لا والذي بعثك بالحق فنزلت يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ إلى قوله والله عليم حكيم رجال إسناده ثقات وروى الطبراني نحوه من حديث جابر بن عبد الله وعلقمة بن ناجية وأم سلمة وابن جرير نحوه من طريق العوفي عن ابن عباس ومن طرق أخرى مرسلة
يقول تعالىذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله " إن جاءكم فاسق بنبإ " عن قوم " فتبينوا " .
واختلفت القراء في قراءة قوله " فتبينوا " فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة فتثبتوا بالثاء ، وذكر أنها في مصحف عبد الله منقوطة بالثاء . وقرأ ذلك بعض القراء فتبينوا بالباء ، بمعنى : أمهلوا حتى تعرفوا صحته ، لا تعجلوا بقبوله ، وكذلك معنى فتثبتوا .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
وذكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط .
ذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك :
حدثنا أبو كريب قال : ثنا جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن ثابت مولى أم سلمة عن أم سلمة قال : " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقعة ، فسمع بذلك القوم ، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عيه سلم ، قال : فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، قال : فرجع إلى رسول الله صلى الله عيه وسلم ، فقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قال : فبلغ القوم رجوعه قال : فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر فقالوا : نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله بعثت إلينا رجلا مصدقا ، فسررنا بذلك ، قرت به أعيننا ، ثم إنه رجع من بعض الطريق ، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله ، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال ، وأذن بصلاة العصر ، قال : ونزلت " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " " .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس قوله " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ " ... الآية ، قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، ثم أحد بني عمرو بن أمية ، ثم أحد بني أبي معيط إلى بني المصطلق ، ليأخذ منهم الصدقات ، وإنه لما أتاهم الخبر فرحوا ، وخرجوا ليلتقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه ، رجع إلى رسول الله صلى الله عيه وسلم ، فقال يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة ، فغضب رسول الله صلى الله عيه وسلم غضبا شديدا ، فبينما هو يحدث نفسه أن نغزوهم ، إذ أتاه الوفد ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنا خشينا أن يكون إنما ردة كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فأنزل الله عذرهم في الكتاب ، فقال " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " " .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " في قوله " إن جاءكم فاسق بنبإ " قال : الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه الله صلى الله عيه وسلم إلى بني المصطلق ، ليصدقهم ، فتلقوه بالهدية فرجع إلى محمد صلى الله عيه وسلم ، فقال : إن بني المصطلق جمعت لتقاتلك " .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ " حتى بلغ " بجهالة " " وهو ابن أبي معيط الوليد بن عقبة ، بعثه نبي الله صلى الله عليه وسلم مصدقا إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه ، فهابهم ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام ، فبعث نبي الله صلى الله عيه وسلم خالدا بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلا ، فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالد أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ، فرأى الذي يعجبه ، فرجع إلى الني صلى الله عيه وسلم ، فأخبره الخبر ، فأنزل الله عزوجل ما تسمعون ، فكان نبي الله يقول : التبين من الله والعجلة من الشيطان " .
حدثنا ابن عبد الاعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ " فذكر نحوه .
حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن هلال الوزان عن ابن أبي ليى في قوله " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا " قال : نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن حميد عن هلال الأنصاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى " إن جاءكم فاسق بنبإ " قال : نزلت في الوليد بن عقبة حين أرسل إلى بني المصطلق .
قال : ثنا سلمة قال : ثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم ، الوليد بن [عقبة بن ] أبي معيط ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم خافهم فرجع إلى رسول الله صلى الله عيه وسلم ، فأخبره أن القوم قد هموا بقتله ، ومنعوا ما قبلهم من صدقاتهم . فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتى هم رسول الله صلى الله عيه وسلم بأن يغزوهم ، فبينما هم في ذلك قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عيه وسلم ، فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا ، فخرجنا إليه لنكرمه ، ولنؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فاستمر راجعا ، فبلغنا أنه يزعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خرجنا إليه لنقاتله ، والله ما خرجنا لذلك ، فأنزل الله في الوليد بن عقبة وفيهم : " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ " ... الآية .
قال : " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أصحابه إلى قوم يصدقهم ، فأتاهم الرجل ، وكان بينه وبينهم إحنة في الجاهلية ، فلما أتاهم رحبوا به ، وأقروا بالزكاة ، وأعطوا ما عليهم من الحق ، فرجع الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، منع بنو فلان الصدقة ، ورجعوا عن الإسلام فغضب رسول اللله صلى الله عليه وسلم ، وبعث إليهم فأتوه فقال : أمنعتم الزكاة ، وطردتم رسولي ؟ فقالوا : والله ما فعلنا ، وإنا لنعلم أنك رسول الله ، ولا بدلنا ولا منعنا حق الله في أموالنا ، فلم يصدقهم رسول الله صلى الله عيه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية ، فعذرهم . " وقوله " أن تصيبوا قوما بجهالة " يقول تعالى ذكره : فتبيوا لئلا تصيبوا قوما براء مما قذفوا به بجناية بجهالة منكم " فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " يقول : فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها.
فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ " قيل : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة . أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقاً إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم في رواية : لإحنة كانت بينه وبينهم ، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام ، فبعث نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً ، فبعث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالداً أنهم متمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، وفلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه ، فعاد إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فنزلت هذه الآية ، فكان يقول نبي الله صلى الله عليه وسلم : التأني من الله والعجلة من الشيطان ، وفي رواية : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد إسلامهم ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم خافهم ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن القوم قد هموا بقتله ، ومنعوا صدقاتهم ، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوهم ، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فاستمر راجعاً ، وبلغنا أنه يزعم لرسول الله أنا خرجنا لنقاتله ، والله ما خرجنا لذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وسمي الوليد فاسقاً أي كاذباً ، قال ابن زيد و مقاتل و سهل بن عبد الله : الفاسق الكذاب ، وقال أبو الحسن الوراق : هو المعلن بالنب ، وقال ابن طاهر : الذي لا يستحي من الله ، وقرأ حمزة و الكسائي ( فتثبتوا ) من التثبت ، الباقون : ( فتبينوا ) من التبيين " أن تصيبوا " أي لئلا تصيبوا ، ( أن ) في محل نصب بإسقاط الخافض " قوما بجهالة " أي بخطأ " فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " على العجلة وترك التأني .
الثانية : في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلاً لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق ، ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعاً ، لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها ، وقد استثنى الإجماع من جملة ذلك ما يتعلق بالدعوى والجحود ، وإثبات حق مقصود على الغير ، مثل أن يقول : هذا عبدي ، فإنه يقبل قوله وإذا قال : قد أنفذ فلان هذا لك هدي ، فإنه يقبل ذلك ، وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر ، وكذلك إذا أقر لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعاً وأما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره ، لا يكون ولياً في النكاح ، وقال أبو حنيفة و مالك : يكون ولياً ، لأنه يلي ما لها فيلي بضعها ، كالعدل ، وهو إن كان فاسقاً في دينه إلا أن غيرته موفرة وبها يحمي الحريم وقد يبذل المال ويصون الحرمة ،وإذا ولي المال فالنكاح أولى .
الثالثة : قال ابن العربي : ومن العجب أن يجوز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق ، ومن لا يؤتمن على حبة مال كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دين ، وهذا إنما كان أصله أن الولاة الذين كانوا يصلون بالناس لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة وراءهم ، ولا استطيعت إزالتهم صلي معهم وراءهم ، كما قال عثمان : الصلاة أحسن ما يفعل الناس ، فإذا أحسنوا فأحسن ، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم ، ثم كان من الناس من إذا صلى معهم تقية أعادوا الصلاة لله ، ومنهم من كان يجعلها صلاته ، وبوجوب الإعادة أقول ، فلا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة مع من لا يرضى من الأئمة ، ولكن يعيد سراً في نفسه ، ولا يؤثر ذلك عند غيره .
الرابعة : وأما أحكامه إن كان والياً فينفذ منها ما وافق الحق ويرد ما خالفه ، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال ، ولا تلتفتوا إلى غير هذا القول من رواية تؤثر أو قول يحكى ، فإن الكلام كثير والحق ظاهر .
الخامسة : لا خلاف في أنه يصح أن يكون رسولاً عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله ، أو إذن يعلمه ، إذا لم يخرج عن حق المرسل والمبلغ ، فإن تعلق به حق لغيرهما لم يقبل قوله ، وهذا جائز للضرورة الداعية إليه ، فإنه لو لم يتصرف بين الخلق في هذه المعاني إلا العدول لم يحصل منها شيء لعدمهم في ذلك ، والله أعلم .
السادسة : وفي الآية دليل على فساد قول من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتثبيت قبل القبول ، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم ، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة .
السابعة : فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملاً بجهالة ، كالقضاء بالشاهدين العدلين ، وقبول قول العالم المجتهد ، وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله ، ذكر هذه المسألة القشيري ، والذي قبلها المهدوي .
يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له لئلا يحكم بقوله, فيكون في نفس الأمر كاذباً أو مخطئاً, فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه, وقد نهى الله عز وجل عن اتباع سبيل المفسدين, ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر, وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق, وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال, وقد قررنا هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري ولله تعالى الحمد والمنة, وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الاية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط, حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق, وقد روي ذلك من طرق ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق, وهو الحارث بن ضرار والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق, حدثنا عيسى بن دينار, حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: قدمت على رسول الله فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به. ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت يا رسول الله أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته. وترسل إلي يا رسول الله رسولاً إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول لم يأته وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله, فدعا بسروات قومه فقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف, ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة, فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة, فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق أي خاف, فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه وأتى الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث, فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم ؟ قالوا: إليك. قال: ولم ؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال رضي الله عنه: لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني.
فلما دخل الحارث على رسول الله قال: "منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟" قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم, خشيت أن يكون كانت سخطة الله تعالى ورسوله. قال فنزلت الحجرات " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ " إلى قوله "حكيم " ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار عن محمد بن سابق به. ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق به, غير أنه سماه الحارث بن سرار والصواب أنه الحارث بن ضرار كما تقدم. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن ثابت مولى أم سلمة, عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة فسمع بذلك القوم فتلقوه يعظمون أمر رسول الله قالت فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله, قالت فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون, قالت فبلغ القوم رجوعه, فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر, فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله, بعثت إلينا رجلاً مصدقاً فسررنا بذلك وقرت به أعيننا, ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضباً من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم, فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال رضي الله عنه فأذن بصلاة العصر قالت ونزلت " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ".
وروى ابن جرير أيضاً من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الاية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات, وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضباً شديداً, فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله, إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق, وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا, وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله, وإن النبي صلى الله عليه وسلم استغشهم وهم بهم, فأنزل الله تبارك وتعالى عذرهم في الكتاب فقال: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا " إلى آخر الاية.
وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليصدقهم, فتلقوه بالصدقة فرجع فقال إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك, زاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم, وأمره أن يتثبت ولا يعجل, فانطلق حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام, وسمعوا أذانهم وصلاتهم, فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله تعالى هذه الاية. قال قتادة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "التثبث من الله والعجلة من الشيطان" وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ويزيد بن رومان والضحاك, ومقاتل بن حيان, وغيرهم في هذه الاية أنها أنزلت في الوليد بن عقبة, والله أعلم.
وقوله تعالى: "واعلموا أن فيكم رسول الله" أي اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره, فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم, ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم كما قال تبارك وتعالى: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم" ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: "لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم" أي لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم, كما قال سبحانه وتعالى: "ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون" وقوله عز وجل: "ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم" أي حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم.
قال الإمام أحمد: حدثنا بهز حدثنا علي بن مسعدة, حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام علانية والإيمان في القلب ـ قال ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول ـ التقوى ههنا التقوى ههنا" "وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان" أي وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار والعصيان, وهي جميع المعاصي وهذا تدريج لكمال النعمة, وقوله تعالى: "أولئك هم الراشدون" أي المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون الذين قد آتاهم الله رشدهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري, حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى أثني على ربي عز وجل" فصاروا خلفه صفوفاً فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك الحمد كله, اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت, ولا هادي لمن أضللت, ولا مضل لمن هديت, ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت, ولا مقرب لما باعدت, ولا مباعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك, اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين, اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك, اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق" ورواه النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب عن مروان بن معاوية عن عبد الواحد ابن أيمن عن عبيد بن رفاعة عن أبيه به. وفي الحديث المرفوع: "من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن" ثم قال: "فضلاً من الله ونعمة" أي هذا العطاء الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من لدنه "والله عليم حكيم" أي عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدرته.
6- " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا " قرأ الجمهور "فتبينوا" من التبين، وقرأ حمزة والكسائي " فتبينوا " من التثبت، والمراد من التبين التعرف والتفحص، ومن التثبت الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر. قال المفسرون: إن هذه الآية نزلت في الويد بن عقبة بن أبي معيط كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وقوله: "أن تصيبوا قوماً بجهالة" مفعول له: أي كراهة أن تصيبوا، أو لئلا تصيبوا، أو لئلا تصيبوا لأن الخطأ ممن لم يتبين الأمر ولم يثبت فيه هو الغالب وهو جهالة، لأنه لم يصدر عن علم، والمعنى: ملتبسين بجهالة بحالهم "فتصبحوا على ما فعلتم" بهم من إصابتهم بالخطأ "نادمين" على ذلك مغتمين له مهتمين به.
6. قوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا " الآية، نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقاً، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلناه من حق الله عز وجل، فبدا له الرجوع، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه، وقال له: انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار، ففعل ذلك خالد، ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء، فأخذ منهم صدقاتهم، ولم ير منهم إلا الطاعة والخير، فانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق "، يعني الوليد بن عقبة، " بنبإ "، بخبر، " فتبينوا أن تصيبوا "، كي لا تصيبوا بالقتل والقتال، " قوماً "، برآء، " بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين "، من إصابتكم بالخطأ
6-" يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا " فتعرفوا وتصفحوا ، روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث الوليد بن عقبة مصدقاً إلى بني المصطلق وكان بينه وبينهم إحنة ، فلما سمعوا به استقبلوه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فهم بقتالهم فنزلت .وقيل بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع ،وتنكير الفاسق والنبأ للتعميم ، وتعليق الأمر بالتبين على فسق المخبر يقتضي جواز قبول خبر العدل من حيث إن المعلق على شيء بكلمة إن عدم عند عدمه ، وأن خبر الواحد لو وجب تبينه من حيث هو كذلك لما رتب على الفسق ، إذ الترتيب يفيد التعليل وما بالذات لا يعلل بالغير .وقرأ حمزة و الكسائي فتثبتوا أي فتوقفوا إلى أن يتبين لكم الحال " أن تصيبوا " كراهة إصابتكم " قوماً بجهالة " جاهلين بحالهم . " فتصبحوا "فتصيروا " على ما فعلتم نادمين " مغتمين غما لازماً متمنين أنه لم يقع ، وتركيب هذه الأحرف الثلاثة دائر على الدوام .
6. O ye who believe! If an evil liver bring you tidings, verify it, lest ye smite some folk in ignorance and afterward repent of what ye did.
6 - O ye who believe! If a wicked person comes to you with any news, ascertain the truth, lest ye harm people unwittingly, and afterwards become full of repentance for what ye have done.