[الحجرات : 14] قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
14 - (قالت الأعراب) نفر من بني أسد (آمنا) صدقنا بقلوبنا (قل) لهم (لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) انقدنا ظاهرا (ولما) لم (يدخل الإيمان في قلوبكم) إلى الآن لكنه يتوقع منكم (وإن تطيعوا الله ورسوله) بالإيمان وغيره (لا يلتكم) بالهمزة وتركه بابداله ألفا لا ينقصكم (من أعمالكم) من ثوابها (شيئا إن الله غفور) للمؤمنين (رحيم) بهم
يقول تعالى ذكره : قالت الأعراب : صدقنا بالله ورسوله ، فنحن مؤمنون ، قال الله لنبيه محمد صلى الله عيه وسلم : قل يا محمد لهم " لم تؤمنوا " ولستم مؤمنين " ولكن قولوا أسلمنا " .
وذكر أن هذه الآية نزلت في أعراب بني أسد .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله " قالت الأعراب آمنا " قال : أعراب بني أسد بن خزيمة .
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء الأعراب : قولوا أسلمنا ، ولا تقولوا آمنا : فقال بعضهم : إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، لأن القوم كانوا صدقوا بألسنتهم ، ولم يصدقوا قولهم بفعلهم ، فقيل لهم : قولوا أسلمنا ، لأن الإسلام قول ، والإيمان قول وعمل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " قال : إن الإسلام : الكلمة ، والإيمان : العمل .
حدثنا ابن عبد الاعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر وأخبرني الزهري ، عن عامر بن سعد عن أبيه ، قال : " أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رجالا ، ولم يعط رجلا منه شيئا ، فقال سعد : يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا ، ولم تعط فلان شيئا وهو مؤمن ، فقال النبي النبي صلى الله عليه وسلم : أو مسلم . حتى أعادها سعد ثلاثا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : أو مسلم ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم إني أعطي رجالا وأدع من هو أحب إلي منهم ، لا أعطيه شيئا مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم " .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا " قال : لم يصدقوا إيمانهم بأعمالهم ، فرد الله ذلك عليهم " قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " ، وأخبرهم أن المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون ، صدقوا إيمانهم بأعمالهم ، فمن قال منهم : أنا مؤمن فقد صدق ، قال : وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل فقد كذب ، وليس بصادق .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم " ولكن قولوا أسلمنا " قال : هو الإسلام .
وقال آخرون : إنما أمر النبي صلى الله عيله وسلم . بقيل ذلك لهم ، لأنهم أرادوا أن يتسموا بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا ، فأعلمهم الله أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله " قالت الأعراب آمنا "...الآية ، وذلك أنهم أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة ، ولا يتسموا بأسمائهم التي سماهم الله ، وكان ذلك في أول الهجرة بل أن تنزل المواريث لهم .
وقال آخرون : قيل لهلم ذلك لأنهم منوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم ، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم لم تؤمنوا ، ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا " ولعمري ما عمت هذه الآية الأعراب ، إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ، ولكن إنما أنزلت في حي من أحياء الأعراب امتنوا بإسلامهم على نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أسلمنا ، و ولم نقاتلك ، كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، فقال الله : لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا أسلمنا حتى بلغ في قلوبكم .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا محد بن ثور عن معمر عن قتادة " لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " قال : لم تعم هذه الآية الأعراب ، إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله ، ولكنها في طوائف من الأعراب .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن رباح عن أبي عوف عن سعيد بن جبير "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " قال : استسلمنا لخوف السباء والقتل .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران عن سفيان عن رجل عن مجاهد " قولوا أسلمنا " قال : استسلمنا .
حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد وقرأ قول الله " قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا" استسلمنا : دخلنا في السلم ، وتركنا المحاربة والقتال بقولهم : لا إله إلا الله . وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوا لا إله إلا الله ، عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا لحقها وحسابهم على الله " .
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن الزهري وهو أن الله تقدم إلى هؤلاء الأعراب الذين دخلوا في الملة إقرارا منهم بالقول ، ولم يحققوا قوولهم بعملهم أن يقولوا بالإطلاق آمنا دون تقييد قولهم لذلك ، بأن يقولوا آمنا بالله ورسوله ، ولكن أمرهم أن يقولوا القول الذي لا يشكل على سامعيه والذي قائله فيه محق ، وهو أن يقولوا أسلمنا ، بمعنى : دخلنا في الملة والأموال ، والشهادة الحق .
وقوله " ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " يقول تعالى ذكره : ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان ، وحقائق معانيه في قلوبكم .
وقوله " وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولما يدخل الإيمان في قولبهم : إن تطيعوا الله ورسوله أيها القوم ، فتأتمروا لأمره وأمر رسوله ، وتعلموا بما فرض عليكم ، وتنتهوا عما نهاكم عنه ، " لا يلتكم من أعمالكم شيئا " يقول : لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا ولا ينقصكم من ثوابها شيئا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله " لا يلتكم " لا ينقصكم .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله " لا يلتكم من أعمالكم شيئا " يقول : لن يظلمكم من أعمالكم شيئا .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في " وإن تطيعوا الله ورسوله " قال : إن تصدقوا إيمانكم بأعمالكم يقبل ذلك منكم . وقرأت قراءة الأمصار " لا يلتكم من أعمالكم " بغير همز ولا ألف ، سوى أبي عمرو فإنه قرأ ذلك لا يألتكم بألف اعتبارا منه في ذلك بقوله " وما ألتناهم من عملهم من شيء " الطور: 21 فمن قال : ألت ، قال : يألت . وأما الآخرون فإنهم جعلوا ذلك من لات يليت ، كما قال رؤبة بن العجاج :
وليلة ذات ندى سريت ولم يلتني عن سراها ليت
والصواب من القول عندنا في ذلك ، ما عليه قراءة المدينة والكوفة " لا يلتكم " بغير ألف ولا همز ، على لغة من قال : لات يليت ، لعلتين : إحداهما : إجماع الحدة من القراء عليها . والثانية أنها في المصحف بغير ألف ، ولا تسقط الهمزة في مثل هذا الموضع ، لأنها ساكنة ، والهمزة إذا سكنت ثبتت ، كما يقال : تأمرون وتأكلون ، وإنما تسقط إذا سكن ما قبلها ، ولا يحمل حرف في القرآن إذا أتى بلغة على آخر جاء بلغة خلافها إذا كانت اللغتان معروفتين في كلام العرب . وقد ذكرناه أن ألت ولات لغتان معروفتان من كلامهم .
وقوله " إن الله غفور رحيم " يقول تعالى ذكره : إن الله ذو عفو أيها الأعراب لمن أطاعه ، وتاب إليه من سالف ذنوبه ، فأطيعوه ، وانتهوا إلى أمره ونهيه ، يغفر لكم ذنوبكم ، رحيم بخلقه التائبين إليه أن، يعاقبهم بعد توبتهم من ذنوبهم ، على ما تابوا منه ، فتوبوا إليه يرحمكم .
كما حدثنا بشر قال : قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة " إن الله غفور رحيم " غفور للذنوب الكثيرة أو الكبيرة -شك يزيد - رحيم بعباده .
قوله تعالى : " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم "
نزلت في أعراب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة ، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ، وقال ابن عباس : نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا ، فأعلم الله أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين ، وقال السدي : نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح : أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والديل وأشجع ، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا ، فنزلت ، وبالجملة فالآية خاصة لبعض الأعراب ، لأن منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر كما وصف الله تعالى ، ومعنى ( ولكن قولوا أسلمنا ) أي استسلمنا خوف القتل والسبي ، وهذه صفة المنافقين ، لأنهم أسلموا في ظاهر إيمانهم ولم تؤمن قلوبهم ، وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب ، وأما الإسلام فقبول ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر ، وذلك يحقن الدم " وإن تطيعوا الله ورسوله " يعني إن تخلصوا الإيمان " لا يلتكم " أي لا ينقصكم " من أعمالكم شيئا " لاته يليته ويلوته ، نقصه وقرأ أبو عمرو ( لا يألتكم ) بالهمزة ، من ألت يألت ألتاً ، وهو اختيار أبي حاتم ، اعتباراً بقوله تعالى : " وما ألتناهم من عملهم من شيء " [ الطور : 21 ] ، قال الشاعر :
أبلغ بني ثعل عني مغلغلةً جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذبا
واختار الأولى أبو عبيد قال رؤبة :
وليلة ذات ندى سربت ولم يلتني عن سراها ليت
أي لم يمنعني عن سراها مانع ، وكذلك ألاته عن وجهه ، فعل وأفعل بمعنى ، ويقال أيضاً : ما ألاته من عمله شيئاً ، أي ما نقصه ، مثل ألته ، قاله الفراء : وأنشد :
ويأكلن ما أعني الولي فلم يلت كأن بحافات النهاء المزارعا
قوله : فلم ( يلت ) أي لم ينقص منه شيئاً ، و( أعنى ) بمعنى أنبت ، يقال : ما أعنت الأرض شيئاً ، أي ما أنبتت ، و( الولي ) المطر بعد الوسمي ، سمي وليا لأنه يلي الوسمي ، ولم يقل : لا يألتاكم ، لأن طاعة الله تعالى طاعة الرسول .
يقول تعالى منكراً على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" وقد استفيد من هذه الاية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة, ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان, فترقى من الأعم إلى الأخص ثم للأخص منه. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهما قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً, فقال سعد رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً, وهو مؤمن, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم ؟ حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أو مسلم ؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم, فلم أعطه شيئاً مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم" أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به, فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم, فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام, وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري ولله الحمد والمنة. ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلماً ليس منافقاً لأنه تركه من العطاء, ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام, فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الاية ليسوا بمنافقين وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم, فادعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك, وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير. وإنما قلنا هذا لأن البخاري رحمه الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الإيمان وليسوا كذلك.
وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد أنهم قالوا في قوله تبارك وتعالى: "ولكن قولوا أسلمنا" أي استسلمنا خوف القتل والسبي. قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة. وقال قتادة: نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, والصحيح الأول أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان, ولم يحصل لهم بعد فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد, ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا كما ذكر المنافقون في سورة براءة, وإنما قيل لهؤلاء تأديباً: "قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" أي لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد. ثم قال تعالى: "وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً" أي لا ينقصكم من أجوركم شيئاً كقوله عز وجل: "وما ألتناهم من عملهم من شيء" وقوله تعالى: "إن الله غفور رحيم" أي لمن تاب إليه وأناب. وقوله تعالى: "إنما المؤمنون" أي إنما المؤمنون الكمل "الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا" أي لم يشكوا ولا تزلزلوا بل ثبتوا على حال واحدة هي التصديق المحض "وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله" أي وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه "أولئك هم الصادقون" أي في قولهم إذا قالوا إنهم مؤمنون, لا كبعض الأعراب الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان, حدثنا رشدين, حدثنا عمرو بن الحارث عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله, والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم, والذي إذا أشرف على طمع تركه لله عز وجل" وقوله سبحانه وتعالى: "قل أتعلمون الله بدينكم" أي أتخبرونه بما في ضمائركم "والله يعلم ما في السموات وما في الأرض" أي لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر "والله بكل شيء عليم" ثم قال تعالى: "يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم" يعني الأعراب الذين يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى رداً عليهم: "قل لا تمنوا علي إسلامكم" فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ولله المنة عليكم فيه "بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين" أي في دعواكم ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي ؟" كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن قيس عن أبي عون, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فقههم قليل وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم. ونزلت هذه الاية "يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين" ثم قال: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه, ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد الله عن سعيد بن جبير غير هذا الحديث ثم كرر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات وبصره بأعمال المخلوقات فقال: " إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون " آخر تفسير سورة الحجرات, ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.
ولما ذكر سبحانه أن أكرم الناس عند الله أتقاهم له وكان أصل التقوى الإيمان ذكر ما كانت تقوله العرب من دعوى الإيمان ليثبت لهم الشرف والفضل فقال: 14- "قالت الأعراب آمنا" وهو بنو أسد أظهروا الإسلام في سنة مجدبة يريدون الصدقة، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم فقال: "قل لم تؤمنوا" أي لم تصدقوا تصديقاً صحيحاً عن اعتقاد قلب وخلوص نية وطمأنينة "ولكن قولوا أسلمنا" أي استسلمنا خوف القتل والسبي أو للطمع في الصدقة، وهذه صفة المنافقين لأنهم أسلموا في ظاهر الأمر ولم تؤمن قلوبهم، ولهذا قال سبحانه "ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" أي لم يكن ما أظهرتموه بألسنتكم عن مواطأة قلوبكم، بل مجرد قول باللسان من دون اعتقاد صحيح ولا نية خالصة، والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها، أو في محل نصب على الحال، وفي لما ممعنى التوقع. قال الزجاج: الإسلام إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي، وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن. وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله: "ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" أي لم تصدقوا وإنما أسلمتم تعوذاً من القتل "وإن تطيعوا الله ورسوله" طاعة صحيحة صادرة عن نيات خالصة، وقلوب مصدقة غير منافقة "لا يلتكم من أعمالكم شيئاً" يقال لات يلت: إذا نقص، ولاته يليته ويلوته: إذا نقصه، والمعنى: لا ينقصكم من أعمالكم شيئاً. قرأ الجمهور "يلتكم" من لاته يليته كباع يبيعه. وقرأ أبو عمرو " لا يلتكم " بالهمز من ألته يألته بالفتح في الماضي والكسر في المضارع، واختار قراءة أبي عمرو وأبو حاتم لقوله: "وما ألتناهم من عملهم من شيء" وعليها قول الشاعر:
أبلغ بني أسد عني مغلغلة جهر الرسالة لا ألتا ولا كذبا
واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور، وعليها قول رؤبة بن العجاج:
وليلة ذات ندى سريت ولم يلتني عن سراها ليت
وهما لغتان فصيحتان "إن الله غفور" أي بليغ المغفرة لمن فرط منه ذنب "رحيم" بليغ الرحمة لهم.
14. قوله عز وجل: " قالت الأعراب آمنا " الآية، نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة جدبة فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر، فأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والعيال والذراري، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، يمنون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويريدون الصدقة، ويقولون: أعطنا، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وقال السدي : نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح، وهم أعراب جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار، كانوا يقولون: آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا، فأنزل الله عز وجل " قالت الأعراب آمنا " صدقنا.
" قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا "، انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي، " ولما يدخل الإيمان في قلوبكم "، فأخبر أن حقيقة الإيمان التصديق بالقلب، وأن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون لإيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص.
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن غرير الزهري ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه، عن صالح ، عن ابن شهاب ، أخبرني عامر بن سعد، عن أبيه قال أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس فيهم، قال: فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رجلاً ولم يعطه وهو أعجبهم إلي، فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [فساررته]، فقلت: مالك عن فلان؟ والله إني لأراه مؤمناً، قال: أو مسلماً، قال: فسكت قليلاً ثم غلبني ما أعلم منه، فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان إني لأراه مؤمناً؟ قال: أو مسلماً، قال: " إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه ".
فالإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة، يقال: أسلم الرجل إذا دخل في السلم كما يقال: أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء، وأصاف إذا دخل في الصيف، وأربع إذا دخل في الربيع، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان، والأبدان والجنان، كقوله عز وجل لإبراهيم عليه السلام: " أسلم قال أسلمت لرب العالمين " (البقرة-131)، ومنه ما هة انقياد باللسان دون القلب، وذلك قوله: " ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ".
" وإن تطيعوا الله ورسوله "، ظاهراً وباطناً سراً وعلانية. قال ابن عباس تخلصوا الإيمان، " لا يلتكم "، قرأ أبو عمر (( يالتكم )) بالألف لقوله تعالى: " وما ألتناهم " (الطور-21)، والآخرون بغير ألف، وهما لغتان، معناهما: لا ينقصكم، يقال: ألت يألت ألتاً ولات ليتاً إذا نقص، " من أعمالكم شيئاً "، أي لا ينقص من ثواب أعمالكم شيئاً، " إن الله غفور رحيم "، ثم بين حقيقة الإيمان، فقال:
14-" قالت الأعراب آمنا " نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ،وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتيناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة ويمنون . " قل لم تؤمنوا " إذ الأيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب ، ولم يحصل لكم إلا لما مننتم على الرسول عليه الصلاة والسلام بالإسلام وترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة . " ولكن قولوا أسلمنا " فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادتين وترك المحاربة ، يشعر به وكان نظم الكلام أن يقول لا تقولوا آمنا " ولكن قولوا أسلمنا " ، أو لم تؤمنوا ولكن أسلمتم فعدل منه إلى هذا النظم احترازاً من النهي عن القول بالإيمان والجزم بإسلامهم ، وقد فقد شرط اعتباره شرعاً . " ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " توقيت لـ" قولوا " فإنه حال من ضميره أي : " ولكن قولوا أسلمنا " ولم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد . " وإن تطيعوا الله ورسوله " بالإخلاص وترك النفاق ." لا يلتكم من أعمالكم " لا ينقصكم من أجورها ." شيئاً " من لات يليت ليتاً إذا نقص ، وقرأ البصريان لا يألتكم من الألت وهو لغة غطفان . " إن الله غفور " لما فرط من المطيعين . " رحيم " بالتفضل عليهم .
14. The wandering Arabs say: We believe. Say (unto them, O Muhammad): Ye believe not, but rather say `We submit,' for the faith hath not yet entered into your hearts. Yet, if ye obey Allah and His messenger, He will not withhold from you aught of (the reward of) your deeds. Lo! Allah is Forgiving, Merciful.
14 - The desert Arabs say, We believe. Say, ye have no faith; but ye (only) say, We have submitted our wills to God, for not yet has Faith entered your hearts. But if ye obey God and His Apostle, He will not belittle aught of your deeds: for God is Oft Forgiving, Most Merciful.