[الفتح : 25] هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
25 - (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام) أي عن الوصول إليه (والهدي) معطوف على كم (معكوفا) محبوسا حال (أن يبلغ محله) أي مكانه الذي ينحر فيه عادة وهو الحرم بدل اشتمال (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) موجودون بمكة مع الكفار (لم تعلموهم) بصفة إيمان (أن تطؤوهم) أي تقتلوهم مع الكفار لو اذن لكم في الفتح بدل اشتمال من هم (فتصيبكم منهم معرة) أي إثم (بغير علم) منكم به وضمائر الغيبة للصنفين بتغليب الذكور وجواب لو لا محذوف أي لاذن لكم في الفتح لكن لم يؤذن فيه حينئذ (ليدخل الله في رحمته من يشاء) كالمؤمنين المذكورين (لو تزيلوا) تميزوا عن الكفار (لعذبنا الذين كفروا منهم) من أهل مكة حينئذ بأن نأذن لكم في فتحها (عذابا أليما) مؤلما
وأخرج الطبراني وأبو يعلى عن أبي جمعة جنيد بن سبع قال قاتلت النبي صلى الله عليه وسلم أول النهار كافرا وقاتلت معه آخر النهار مسلما وكنا ثلاثة رجال وسبع نسوة وفينا نزلت ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات
يقول تعالى ذكره : هؤلاء المشركون من قريش هم الذين جحدوا توحيد الله ، وصدوكم أيها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام ، وصدوا الهدي معكوفا : يقول : محبوسا عن أن يبلغ محله . فموضع أن نصب لتعلقه إن شئت بمعكوف، وإن شئت بصدوا. وكان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك : صدوا الهدي معكوفا كراهية أن يبلغ محله .
وعنى بقوله تعالى ذكره : " أن يبلغ محله " أن يبلغ محل نحره ، وذلك دخول الحرم ، والموضع الذي إذا صار إليه حل نحره ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك سبعين بدنة .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة قال : ثني محمد ابن إسحاق عن محمد بن مسلم الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة و مروان بن الحكم أنهما حدثاه ، قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا ، وساق الهدي معه سبعين بدنة وكان الناس سبع مئة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله " قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا " : أي محبوسا " أن يبلغ محله " وأقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ، ومعهم الهدي ، حتى إذا كانوا بالحديبية ، صدهم المشركون ، فصالحهم نبي الله صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك ، ثم يرجع من العام المقبل ، فيكون بمكة ثلاث ليال ، ولا يدخلها إلا بسلاح الراكب ، ولا يخرج بأحد من أهلها ، فنحروا الهدي ، وحلقوا وقصروا ، حتى إذا كان من العام المقبل ، أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة ، فأقام بها ثلاث ليال ، وكان المشركون قد فجروا عليه حين ردوه ، فأقصه الله منهم فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردوه فيه ، فأنزل الله " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " البقرة: 149 .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي و أحمد بن منصور الرمادي واللفظ لابن عمارة قالا : حدثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا موسى بن عبيدة عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه ، قال : " بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، وحفص ابن فلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصالحوه فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمر، قال : قد سهل الله لكم من أمركم ، القوم ماتون إليكم بأرحامهم وسائلوكم الصلح ، فابعثوا الهدي ، وأظهروا التلبيه ، لعل ذلك يلين قلوبهم . فلبوا من نواحي العسكر حتى ارتجت أصواتهم بالتلبية فجاؤوا فسألوه الصلح ، قال : فبينما الناس قد توادعوا وفي المسلمين ناس من المشركين ، قال : فقيل به أبو سفيان ، قال : وإذا الوادي يسيل بالرجال ، قال : قال إياس ، قال سلمة : فجئت بستة من المشركين متسلحين أسوقهم ، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فأتيت بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يسلب ولم يقتل وعفا قال : فشددنا على من في أيدي المشركين منا ، فما تركنا في أيديهم منا رجلا إلا استنقذناه، قال : وغلبنا على من في أيدينا منهم ، ثم إن قريشا بعثوا سهيل بن عمرو ، وحويطبا ، فولوا صلحهم ، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا في صلحه ، فكتب علي بينهم : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ، صالحهم على أنه لا إهلال ولا امتلال ، وعلى أنه من قدم مكة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حاجا أو معتمرا ، أو يبتغي من فضل الله ، فهو أمن على دمه وماله ، ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله ، وعلى أنه من جاء محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش فهو إليهم رد ، ومن جاءهم من أصحاب محمد فهو لهم . فاشتد ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من جاءهم منا فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم فعلم الله الإسلام من نفسه ، جعل له مخرجا . فصالحوه على أنه يعتمر في عام قابل في هذا الشهر ، لا يدخل علينا بخيل ولا سلاح ، إلا ما يحمل المسافرفي قرابه ، يثوي فينا ثلاث ليال ، وعلى أن هذا الهدي حيثما حبسناه محله لا يقدمه علينا . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن نسوقه وأنتم تردون وجوهه ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الهدي وسار الناس . " .
حدثني محمد بن عمارة قال : ثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا موسى قال : أخبرني أبو مرة مولى أم هانئ عن ابن عمر قال :" كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية عرض له المشركون ، فردوا وجوهه ، قال : فنحر النبي صلى الله عليه وسلم الهدي حين حبسوه ، وهي الحديبية ، وحلق ، وتأسى به أناس حين رأوه حلق وتربص آخرون ، فقالوا : لعلنا نطوف بالبيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله المحلقين ، قيل : والمقصرين ، قال رحم الله المحلقين ، قيل : والمقصرين ، قال : والمقصرين " .
حدثنا ابن حميد قال : قال : ثنا الحكم بن بشير قال : ثنا عمر بن ذر الهمداني عن مجاهد " أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر ، كلها في ذي القعدة ، يرجع في كلها إلى المدينة ، منها العمرة التي صد فيها الهدي ، فنحره في محله ، عند الشجرة ، وشارطوه أن يأتي في العام المقبل معتمرا ، فيدخل مكة ، فيطوف بالبيت ثلاثة أيام ، ثم يخرج ،ولا يحبسون عنه أحدا قدم معه ، ولا يخرج من مكة بأحد كان فيها قبل قدومه من المسلمين ، فلما كان من العام المقبل دخل مكة ، فأقام بها ثلاثا يطوف بالبيت ، فلما كان اليوم الثالث قريبا من الظهر ، أرسلوا إليه : إن قومك قد آذاهم مقامك ، فنودي في الناس : لا تغرب الشمس وفيها أحد من المسلمين قدم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
حدثنا ابن عبد الاعلى قال : ثنا ابن ثور عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة قال :" خرج النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مئة من أصحابه ، حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره ، وأحرم بالعمرة ، وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش ، وسار النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من قيقعان ، أتاه عينه الخزاعي ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشيروا علي ، أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين وإن لخوا تكن عنقا قطعها الله ؟ أم ترون أنا نؤم البيت ، فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال : يا رسول الله : إنا لم نأت لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فروحوا إذا ، وكان أبو هريرة يقول : ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم ، فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين ، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش ، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ، بركت به راحلته ، فقال الناس : حل حل ، فقال : ما حل ؟ فقالوا خلأت القصواء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما خلأت وما ذاك لها بخلق ، ولكنها حبسها حابس الفيل ، ثم قال : والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ، ثم زجرت فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش ، فنزع سهما من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ، فوالله مازال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي ،وعامر بن لؤي ، قد نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل ، هم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لم نأت لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب ، وأضرت بهم ، فإن شاؤوا ماددناهم مدة ، ويخلوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره ، فقال بديل : سنبلغهم ما تقول ،فانطلق حتى أتى قريشا : فقال : إنا جئناكم من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولا ، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، قال سفهاؤهم : لا حاجة لنا في أن تحدثنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته ، يقول : قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام عروة بن مسعود الثقفي ، فقال : أي قوم ، ألستم بالولد ؟ قالوا : بلى ، قال : أولست بالوالد ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل أنتم تتهموني ؟ قالوا : لا ، قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى ، قال : فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشدفاقبلوها ، ودعوني آته ، فقالوا : ائته ، فأتاه ، فجعل يكلم النبي صلى الله عيه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من مقالته لبديل ، فقال عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت إن استأصلت قومك ، فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأوباشا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ، فقال أبو بكر : امصص بظر اللات - واللات : طاغية ثقيف الذي كانوا يعبدون - أنحن نفر وندعه ؟ فقال : من هذا ؟ فقالوا : أبو بكر ، فقال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ، وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف ، وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ضرب يده بنصل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحيته ، فرفع رأسه فقال : من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة ، قال : أي غدر أو لست أسعى في غدرتك . وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية ، فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الإسلام فقد قبلناه ، وأما المال مال غدر لا حاجة لنا فيه . وإن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه ، فوالله إن تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وأذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها .
فقال رجل من كنانة : دعوني آته فقالوا : ائته ، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها له ، فبعث له ، واستقبله قوم يلبون فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت . فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته ، فقالوا ائته ، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر ، فجاء فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلمه ، إذ جاء سهيل بن عمرو ، قال أيوب : قال عكرمة : إنه لما جاء سهيل ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : قد سهل لكم من أمركم . قال الزهري : فجاء سهيل بن عمرو ، فقال : هات نكتب : بيننا وبينك كتابا ، فدعا الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم فقال : ما الرحمن ؟ فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتب : باسمك اللهم ، ثم قال : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ، فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صدنناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال الزهري : وذلك لقوله : والله لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به قال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ، ولكن لك من العام المقبل فكتب فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كنا على دينك إلا رددته إلينا ، فقال المسلمون : سبحان الله وكيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلينا فقال النبي : فأجره لي فقال : ما أنا بمجيره لك ، قال: بلىفافعل قال : ما أنا بفاعل قال صاحبه مكرز وسهيل إلىجنبه : قد أجرناه لك ، فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ، أأرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ؟ ألا ترون ما قد لقيت ؟ كان قد عذب عذابا شديدا في الله .
قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ؟ قال : إني رسول الله ، ولست أعصيه وهو ناصري ، قلت : ألست تحدثنا أنا سنأتي البيت ، فنطوف به ؟ قال : بلى : ، قال : فأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا قال : فإنك آتيه ومتطوف به ، قال : ثم أتيت أبا بكر ، فقلت : أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال : بلى قلت : ألسنا علىالحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال أيها الرجل إنه رسول الله ، وليس يعصي ربه ، فاستمسك بغرزه حتى تموت ، فوالله إنه لعلى الحق ، قلت : أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قال : لا ، قال : فإنك آتيه ومتطوف به. قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالا ، فلما فرغ من قصته ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : قوموا فانحروا ثم احلقوا ، قال : فوالله ما قام منا رجل حتى قال ذلك ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يارسول الله أتحب ذلك ؟ اخرج ، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك ، فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم كلمة ، حتى نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، ثم جاءه نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عزوجل عليه : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ) حتى بلغ ( بعصم الكوافر ) قال : فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، قال : فنهاهم أن يردوهن ، وأمرهم أن يردوا الصداق حينئذ ، قال رجل للزهري : أمن أجل الفروج ؟ قال : نعم ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فجاءه أبو بصير ، رجل من قريش وهو مسلم ، فأرسل في طلبه رجلان ، فقالا : العهد الذي جعلت لنا ، فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به ، حتى إذا بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا ، فاستله الآخر فقال : والله إنه لجيد ، لقد جربت به وجربت ، فقال : أبو بصير : أرني أنظر إليه ! فأمكنه منه ، فضربه به حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو ، فقال النبي الله صلى الله عليه وسلم : رأى هذا ذعرا ، فقال : والله قتل صاحبي ، إني والله لمقتول ، فجاء أبو بصير فقال : قد والله أوفى ذمتك ورددتني إليهم، ثم أغاثني الله منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد فلما سمع عرف أنه سيرده إليهم ، قال : فخرج حتى أتى سيف البحر ، وتفلت أبو جندل بن صهيل بن عمر، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لهم فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن فأنزل الله"وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم " حتى بلغ " حمية الجاهلية " وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي ،ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت ."
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا يحيى بن سعيد قال : ثنا عبد الله بن المبارك قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة عن المسور بن مخرمة و مروان بن الحكم قالا :" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مئة ، ثم ذكر نحوه إلا أنه قال في حديثه ، قال الزهري ، فحدثني القاسم بن محمد ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ألست برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بلى . قال أيضا : و خرج أبو نصير والذين أسلموا من الذين رد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بالساحل على طرق عير قريش ، فقتلوا من فيها من الكفار ، وتغنموها ، فلما رأى ذلك كفار قريش ، ركب نفر منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا له : إنها لا تغني مدتك شيئا ، ونحن نقتل وتنهب أموالنا ، وإنا نسألك أن تدخل هؤلاء في الذين أسلموا منا في صلحك وتمنعهم ، وتحجز عنا قتاله ، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم " ، ثم ساق الحديث إلى آخره ، نحو حديثابن عبد الاعلى " .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة و مروان بن الحكم أنهما حدثاه ، قالا : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا ، وساق معه هديه سبعين بدنة ، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي ، فقال له : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور ، ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله ، لا تدخلها عليهم أبدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم ، قد قدموها إلى كراع الغميم ، قال : فقال صلى الله عليه وسلم : يا ويح قريش لقد أهلكتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام داخرين ثم ذكر نحو حديث معمر بزيادات فيه كثيرة على حديث معمر تركت ذكرها " .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " والهدي معكوفا أن يبلغ محله " قال :" كان الهدي بذي طوى ، والحديبية خارجة من الحرم ، نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غورت قريش عليه الماء . "
وقوله " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم " يقول تعالى ذكره : ولولا رجال من أهل الإيمان ونساء منهم أيها المؤمنون بالله أن تطئوهم بخيلكم ورجلكم لم تعلموهم بمكة ، وقد حبسهم المشركون بها عنكم ، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم فتقتلوهم .
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات" .... حتى بلغ " بغير علم " هذا حين رد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يدخلوا مكة ، فكان بها رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ، فكره الله أن يؤذوا أو يوطئوا بغير علم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم .
واختلف أهل التأويل في المعرة التي عناها الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى بها الإثم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم " قال : إثم بغير علم .
وقال آخرون : عنى بها غرم الدية .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة عن ابن إسحاق " فتصيبكم منهم معرة بغير علم " فتخرجوا ديته ، فأما إثم فلم يحسبه عليهم . والمعرة : هي المفعلة من العر ، وهو الجرب . وإنما المعنى : فتصيبكم من قبلهم معرة تعرون بها يلزمكم من أجلها كفارة قتل الخطأ ، وذلك عتق رقبة مؤمنة ، من أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين .
وإنما اخترت هذا القول دون الذي قاله ابن إسحاق لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يكن قاتله علم إيمانه ، الكفارة دون الدية ، فقال : ( وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ) لم يوجب على قاتله خطأ ديته ، فلذلك قلنا : عني بالمعرة في هذا الموضع الكفارة ، و أن من قوله " أن تطئوهم " في موضع رفع ردا على الرجال ، لأن معنى الكلام : ولولا أن تطئوا في رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموها ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم لأذن الله لكم أيها المؤمنون في دخول مكة ، ولكنه حال بينكم وبين ذلك " ليدخل الله في رحمته من يشاء " يقول : ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها ، وحذف جواب لولا استغناء بدلالة الكلام عليه .
وقوله " لو تزيلوا " يقول : لو تميز الذين في مشركي مكة من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات ، الذين لم تعلموهم منهم ، ففارقوهم وخرجوا من بين أظهرهم " لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " يقول : لقتلنا من بقي فيها بالسيف ، أو لأهلكناهم ببعض ما يؤلمهمم من عذابنا العاجل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله " لو تزيلوا " ...الآية إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم " يعني أهل مكة كان فيهم مؤمنون مستضعفون . يقول الله لولا أولئك المستضعفون لو قد تزيلوا ، لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما .
حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله " لو تزيلوا " لو تفرقوا ، فتفرق المؤمن من الكافر ، لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما .
:
قوله تعالى : " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله " فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " هم الذين كفروا " يعني قريشاً ، منعوكم دخول المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بعمرة ، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله ، وهذا كانوا لا يعتقدونه ، ولكنه حملتهم الآنفة ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه ديناً ، فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه ، وأدخل الأنس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيانه ووعده .
الثانية : قوله تعالى : " والهدي معكوفا " أي محبوساً ، وقيل موقوفاً ، وقال أبو عمرو بن العلاء : مجموعاً الجوهري : عكفه أي حبسه ووقفه ، يعكفه ويعكفه عكفاً ، ومنه قوله تعالى " والهدي معكوفا " يقال : ما عكفك عن كذا ، ومنه الإعتكاف في المسجد وهو الاحتباس ، " أن يبلغ محله " أي منحوه ، قاله الفراء : وقال الشافعي رضي الله عنه : الحرم ، وكذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه ، المحصر محل هديه الحرم ، والمحل ( بكسر الحاء ) : غاية الشيء ، ( وبالفتح ) : هو الموضع الذي يحله الناس ، وكان الهدي سبعين بدنة ، ولكن الله بفضله له محلاً ، وقد اختلف العلماء في هذا على ما تقدم بيانه في البقرة ، عند قوله تعالى : " فإن أحصرتم " [ البقرة : 196 ] ، والصحيح ما ذكرناه ، وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة وعنه قال : اشتركنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة ، فقال رجل لجابر ، أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور ؟ قال : ما هي إلا من البدن ، وحضر جابر الحديبية قال : ونحرنا يومئذ سبعين بدنة ، اشتركنا كل سبعة في بدنة ، وفي البخاري ، " عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرين ، فحال كفار قريش دون البيت ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة وحلق رأسه قيل : إن الذي حلق رأسه يومئذ خراش بن أمية بن أبي العيص الخزاعي ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينحروا ويحلوا ، ففعلوا بعد توقف كان منهم أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت له أم سلمة : لو نحرت لنحروا ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية ونحروا بنحره ، وحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ودعا للمحلقين وللمقصرين مرة ، ورأى كعب بن عجرة والقمل يسقط على وجهه ، فقال : أيؤذيك هوامك ؟ قال نعم ، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية " ، خرجه البخاري و الدارقطني وقد مضى في البقرة .
الثالثة : قوله تعالى : " والهدي " الهدي والهدي لغتان ، وقرئ ( حتى يبلغ الهدي محله ) بالتخفيف ، والتشديد ، الواحدة هدية ، وقد مضى في البقرة أيضاً ، وهو معطوف على الكاف والميم من ( صدوكم ) و " معكوفا " حال ، وموضع ( أن ) من قوله : " أن يبلغ محله " نصب على تقدير الحمل على ( صدوكم ) أي صدوكم وصدوا الهدي عن أن يبلغ ويجوز أن يكون مفعولاً له ، كأنه قال : وصدوا الهدي كراهية أن يبلغ محله ، أبو علي : لا يصح حمله على العكف ، لأنا لا نعلم ( عكف ) جاء متعدياً ، ومجيء ( معكوفاً ) في الآية يجوز أن يكون محمولاً على المعنى ، كأنه لما كان حبساً حمل المعنى على ذلك ، كما حمل الرفث على معنى الإفضاء فعدي بإلى ، فإن حمل على ذلك كان موضعه نصباً على قياس قوله سيبويه ، وجرا على قياس قول الخليل ، أو يكون مفعولاً له ، كأنه قال : محبوساً كراهية أن يبلغ محله ، ويجوز تقدير الجر في ( أن ) لأن عن تقدمت فكأنه قال : وصدوكم عن المسجد الحرام ، وصدوا الهدي ( عن ) أن يبلغ محله ، مثله ما حكاه سيبويه عن يونس : مررت برجل أن زيد وإن عمرو ، فأضمر الجار لتقدم ذكره .
قوله تعلى : " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم " فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " ولولا رجال مؤمنون " يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار ، كسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل ، وأشباههم ، " لم تعلموهم " أي تعرفوهم ، وقيل لم تعلموهم أنهم مؤمنون ، " أن تطئوهم " بالقتل والإيقاع بهم ، يقال : وطئت القوم ، أي أوقعت بهم , ( أن ) يجوز أن يكون رفعاً على البدل من ( رجال ونساء ) كأنه قال ولولا وطؤكم رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات ، ويجوز أن يكون نصباً على البدل من الهاء والميم في ( تعلموهم ) فيكون التقدير : لم تعلموا وطأهم هو في الوجهين بدل الاشتمال و ( لم تعلموهم ) نعت لـ( رجال ) و ( نساء ) وجواب ( لولا ) محذوف ، والتقدير : ولو أن تطئوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة ، ولسلطكم عليهم ، ولكنا صنا من كان فيها يكتم إيمانه ، وقال الضحاك : لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطئوا آباءهم فتهلك أبناؤهم .
الثانية : قوله تعالى : " فتصيبكم منهم معرة بغير علم " المعرة العيب وهي مفعلة من العر وهو الجرب ، أي يقول المشركون : قد قتلوا أهل دينهم ، وقيل : المعنى يصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ ، لأن الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدية في قوله : " كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " [ النساء : 92 ] ، قاله الكلبي و مقاتل وغيرهما ، وقد مضى في النساء القول فيه ، وقال ابن زيد : ( معرة ) إثم وقال الجوهري و ابن إسحاق : غرم الدية ، قطرب : شدة ، وقيل عم .
الثالثة : قوله تعالى : " بغير علم " تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي ، حتى لو أنهم أصابوا من ذلك أحداً لكان عن غير قصد ، وهذا كما وصفت النملة عن جند سليمان عليه السلام في قولها " يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " [ النمل : 18 ] .
قوله تعالى : " ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا " فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا " اللام في ( ليدخل ) متعلقة بمحذوف ، أي لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته ، ويجوز أن تتعلق بالإيمان ولا تحمل على مؤمنين دون مؤمنات ولا على مؤمنات دون مؤمنين ، لأن الجميع يدخلون في الرحمة ، وقيل : المعنى لم يأذن الله لكم في قتال المشركين ليسلم بعد الصلح من قضى أن يسلم من أهل مكة ، وكذلك كان أسلم الكثير منهم وحسن إسلامه ، ودخلوا في رحمته ، أي جنته .
الثانية : قوله تعالى : " لو تزيلوا " أي تميزوا قاله القتبي ، وقيل : لو تفرقوا ، قاله الكلبي ، وقيل : لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف ، قاله الضحاك ، ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار ، وقال علي رضي الله عنه : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا " فقال : ( هم المشركون من أجداد نبي الله ومن كان بعدهم وفي عصرهم كان في أصلابهم ) قوم مؤمنون فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله تعالى الكافرين عذاباً أليماً .
الثالثة : هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن ، إذ لا يمكن أذية الكافر إلا بأذية المؤمن ، قال أبو زيد قلت لـ ابن القاسم : أرأيت لو أن قوماً من المشركين في حصن من حصونهم ، حصرهم أهل الإسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم أيحرق هذا الحصن أم لا ؟ قال : سمعت مالكاً وسئل عن قوم من المشركين في مراكبهم : أنرمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يمراكبهم بالنار ومعهم الأساري في مراكبهم ؟ قال : فقال مالك لا أرى ذلك ، لقوله تعالى لأهل مكة : " لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه ، وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحداً من المسلمين فعليه الدية والكفارة ، فإن لم يعلموا فلا دية ولا كفارة ، وذلك أنهم إذا علموا فليس لهم أن يرموا ، فإذا فعلوه صاروا قتلة خطأ والدية على عواقلهم ، فإن لم يعلموا فلهم أن يرموا وإذا أبيحوا الفعل لم يجز أن يبقى عليهم فيها تباعة قال ابن العربي : وقد قال جماعة إن معناه لو تزيلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال ، وهذا ضعيف ، لأن من في الصلب أو في البطن لا يوطأ ولا تصيب منه معرة ، وهو سبحانه قد صرح فقال : " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم " وذلك لا ينطلق على من في بطن المرأة وصلب الرجال ، وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وأبي جندل بن سهيل ، وكذلك قال مالك : وقد حاصرنا مدينة الروم فحبس عنهم الماء ، فكانوا ينزلون الأساري يستقون لهم الماء ، فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل ، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا ، وقد جوز أبو حنيفة وأصحابه و الثوري الرمي في حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى من المسلمين وأطفالهم ، ولو تترس كفار بولد مسلم رمي المشرك ، وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه ولا كفارة وقال الثوري : فيه كفارة ولا دية ، وقال الشافعي بقولنا : وهذا ظاهر ، فإن التوصل إلى المباح المحظور لا يجوز ، سيما بروح المسلم ، فلا قول إلا ما قاله مالك رضي الله عنه ، والله أعلم .
قلت : قد يجوز الترس ، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله ، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية ، فمعنى كونها ضرورية ، أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس ، ومعنى أنها كلية : أنها قاقطعة لكل الأمة ، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين ، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الأمة ، ومعنى كونها قطعية ، أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعاً ، قال علماؤنا : وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها ، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعاً ، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين ، وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون ، ولا يتأتى لعاقل أن يقول : لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه ، لأنه تلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين ، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة ، نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما يحصل منها عدم أو كالعدم ، والله أعلم .
الرابعة : قراءة العامة ( لو تزيلوا ) إلا أبو حيوة فإنه قرأ ( تزايلوا ) وهو مثل ( تزيلوا ) في المعنى ، والتزايل : التباين ، و ( تزيلوا ) تفعلوا ، من زلت ، وقيل : هي تفيعلوا ( لعذبنا الذين كفروا ) قيل : اللام جواب لكلامين ، أحدهما ( لولا رجال ) والثاني ( لو تزيلوا ) وقيل جواب ( لولا ) محذوف ، وقد تقدم ، ( ولو تزيلوا ) ابتداء كلام .
يقول تعالى مخبراً عن الكفار من مشركي العرب من قريش, ومن ما لأهم على نصرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم "هم الذين كفروا" أي هم الكفار دون غيرهم "وصدوكم عن المسجد الحرام" أي أنتم أحق به وأنتم أهله في نفس الأمر "والهدي معكوفاً أن يبلغ محله" أي صدوا الهدي أن يصل وهذا من بغيهم وعنادهم, وكان الهدي سبعين بدنة كما سيأتي إن شاء الله تعالى, وقوله عز وجل: "ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات" أي بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خيفة على أنفسهم من قومهم, لكنا سلطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة القتل, ولهذا قال تعالى: " لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة " أي إثم وغرامة "بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء" أي يؤخر عقوبتهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين, وليرجع كثير منهم إلى الإسلام, ثم قال تبارك وتعالى: "لو تزيلوا" أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم "لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً" أي لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتلاً ذريعاً.
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج, حدثنا عبد الرحمن بن أبي عباد المكي, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد مولى بني هاشم, حدثنا حجر بن خلف قال: سمعت عبد الله بن عوف يقول: سمعت جنيد بن سبع يقول: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافراً, وقاتلت معه آخر النهار مسلماً, وفينا نزلت "ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات" قال: كنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتين, ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن عباد المكي به, وقال فيه عن أبي جمعة جنيد بن سبع فذكره, والصواب أبو جعفر حبيب بن سباع, ورواه ابن أبي حاتم من حديث حجر بن خلف به: قال: كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة, وفينا نزلت "ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات" وقال ابن أبي حاتم, حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري. حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة عن أبي حمزة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً" يقول لو تزيل الكفار من المؤمنين لعذبهم الله عذاباً أليماً بقتلهم إياهم.
وقوله عز وجل: "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية" وذلك حين أبوا أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم, وأبوا أن يكتبوا هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله "فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى" وهي قول "لا إله إلا الله" كما قال ابن جرير وعبد الله بن الإمام أحمد. حدثنا الحسن بن قزعة أبو علي البصري حدثنا سفيان بن حبيب, حدثنا شعبة عن ثور عن أبيه عن الطفيل, يعني ابن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه, أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وألزمهم كلمة التقوى" قال "لا إله إلا الله" وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة, وقال غريب لا نعرفه إلا من حديثه, وسألت أبا زرعة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثني الليث, حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل" وأنزل الله في كتابه وذكر قوماً فقال: "إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون" وقال الله جل ثناؤه: "وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها" وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله, فاستكبروا عنها, واستكبر عنها المشركون يوم الحديبية فكاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة, وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري, والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري والله أعلم.
وقال مجاهد: كلمة التقوى الإخلاص, وقال عطاء بن أبي رباح هي "لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير" وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور "وألزمهم كلمة التقوى" قال "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن عباية بن ربعي عن علي رضي الله عنه "وألزمهم كلمة التقوى" قال: "لا إله إلا الله والله أكبر " وكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما , وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى "وألزمهم كلمة التقوى" قال يقول شهادة أن لا إله إلا الله وهي رأس كل تقوى, وقال سعيد بن جبير "وألزمهم كلمة التقوى" قال "لا إله إلا الله والجهاد في سبيله" وقال عطاء الخراساني هي لا إله إلا الله محمد رسول الله وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن الزهري "وألزمهم كلمة التقوى" قال "بسم الله الرحمن الرحيم". وقال قتادة "وألزمهم كلمة التقوى" قال "لا إله إلا الله" "وكانوا أحق بها وأهلها" كان المسلمون أحق بها وكانوا أهلها "وكان الله بكل شيء عليماً" أي هو عليم بمن يستحق الخير ممن يستحق الشر, وقد قال النسائي: حدثنا إبراهيم بن سعيد, حدثنا شبابة بن سوار عن أبي رزين عن عبد الله بن العلاء بن نوير عن بشر بن عبد الله عن أبي إدريس عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان يقرأ "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية" ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام, فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأغلظ له فقال إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمني مما علمه الله تعالى, فقال عمر رضي الله عنه: بل أنت رجل عندك علم وقرآن, فاقرأ وعلم مما علمك الله تعالى ورسوله.
وهذا ذكر الأحاديث الواردة في قصة الحديبية وقصة الصلح
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون. أخبرنا محمد بن إسحاق بن يسار عن الزهري عن عروة بن الزبير, عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً, وساق معه الهدي سبعين بدنة, وكان الناس سبعمائة رجل, فكانت كل بدنة عن عشرة, وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش, قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل, قد لبست جلود النمور يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً, وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب, ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا, وإن أظهرني الله تعالى دخلوا في الإسلام وهم وافرون, وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة, فماذا تظن قريش فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله تعالى به حتى يظهرني الله عز وجل أو تنفرد هذه السالفة" ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه على ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة, قال فسلك بالجيش تلك الطريق, فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم, ركضوا راجعين إلى قريش, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك ثنية المرار بركت ناقته فقال الناس خلأت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت وما ذلك لها بخلق, ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة, والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها".
ثم قال صلى الله عليه وسلم للناس: "انزلوا" قالوا: يا رسول الله ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس, فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه, فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه فيه, فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن. فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة, فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان, فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد صلى الله عليه وسلم, إن محمداً لم يأت لقتال إنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحقه, فاتهموهم. قال محمد بن إسحاق: قال الزهري وكانت خزاعة في عيبة رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم, مشركها ومسلمها لا يخفون على رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم شيئاً كان بمكة, فقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فوالله لا يدخلها أبداً علينا عنوة, ولا يتحدث بذلك العرب, ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص أحد بني عامر بن لؤي, فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا رجل غادر" فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم, كلمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بنحو مما تكلم مع أصحابه, ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني, وهو يومئذ سيد الأحابيش, فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي" فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله, رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فقال: يا معشر قريش لقد رأيت ما لا يحل صد الهدي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس على محله, قالوا: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك.
فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ, وقد عرفتم أنكم والد وأنا ولد, وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه فقال: يا محمد جمعت أوباش الناس ثم جئت بهم لبيضتك لنقضها, إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل, قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً, وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً, قال وأبو بكر رضي الله عنه قاعد خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: امصص بظر اللات أنحن ننكشف عنه ؟ قال من هذا يا محمد ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "هذا ابن أبي قحافة "قال: أما والله لو لا يد كانت لك عندي لكافأتك بها, ولكن هذه بها, ثم تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديد, قال: فقرع يده ثم قال أمسك يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل والله أن لا تصل إليك قال ويحك ما أفظك وأغلظك! فتبسم رسول الله قال: من هذا يا محمد ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة" قال: أغدر, وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ؟ قال: فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلم به أصحابه, وأخبره بأنه لم يأت يريد حرباً. قال فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ وضوءاً إلا ابتدروه, ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه, ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه, فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما, والله ما رأيت ملكاً قط مثل محمد صلى الله عليه وسلم في أصحابه, ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً فروا رأيكم.
قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة, وحمله على جمل له يقال له الثعلب, فلما دخل مكة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش, فمنعتهم الأحابيش حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدعا عمر رضي الله عنه ليبعثه إلى مكة فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وليس بها من بني عدي أحد يمنعني. وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها, ولكن أدلك على رجل هو أعز مني بها عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال: فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبعثه يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد, وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته, فخرج عثمان رضي الله عنه حتى أتى مكة, فلقيه أبان بن سعيد بن العاص, فنزل عن دابته وحمله بين يديه أردفه خلفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانطلق عثمان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش, فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به, فقالوا لعثمان رضي الله عنه: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به, فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: واحتبسته قريش عندها قال: وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه قد قتل.
قال محمد: فحدثني الزهري أن قريشاً بعثوا سهيل بن عمرو وقالوا: ائت محمداً فصالحه ولا تلن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا, فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبداً, فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل". فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, تكلما وأطالا الكلام وتراجعا حتى جرى بينهما الصلح, فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب, وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فأتى أبا بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر أوليس برسول الله ؟ أولسنا بالمسلمين ؟ أوليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا عمر الزم غرزه حيث كان فإني أشهد أنه رسول الله. فقال عمر رضي الله عنه: وأنا أشهد, ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أولسنا بالمسلمين ؟ أوليسوا بالمشركين ؟ قال صلى الله عليه وسلم "بلى" قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني" ثم قال عمر رضي الله عنه: ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ, حتى رجوت أن يكون خيراً.
قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: اكتب "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: لا أعرف هذا, ولكن اكتب: باسمك اللهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب باسمك اللهم. هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" فقال له سهيل بن عمرو لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك, ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين, يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض, على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليه, ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا أسلال ولا أغلال وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه, ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه, فتواثبت خزاعة فقالوا, نحن في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده, وتواثبت بنو بكر فقالوا نحن في عقد قريش وعهدهم, وأنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة, وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك وأقمت بها ثلاثا, معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب إذ جاءه أبو جندل بن سهيل بن عمرو في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه, دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا أن يهلكوا فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه قال يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا قال "صدقت" فقام إليه فأخذ بتلابيبه قال وصرخ أبو جندل بأعلى صوته يا معشر المسلمين أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني قال فزاد الناس شرا إلى ما بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا, فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدا وإنا لن نغدر بهم" قال فوثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فجعل يمشي مع أبي جندل, ويقول اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب, قال ويدني قائم السيف منه, قال يقول رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه قال فضن الرجل بأبيه, قال ونفذت القضية, فلما فرغا من الكتاب, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل, قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "يا أيها الناس انحروا واحلقوا " قال: فما قام أحد, قال ثم عاد صلى الله عليه وسلم بمثلها, فما قام رجل, ثم عاد صلى الله عليه وسلم بمثلها فما قام رجل, فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فقال "يا أم سلمة ما شأن الناس ؟" قالت: يا رسول الله قد دخلهم ما رأيت, فلا تكلمن منهم إنساناً واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق, فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلم أحداً حتى إذا أتى هديه فنحره ثم جلس فحلق, قال: فقام الناس ينحرون ويحلقون, حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وسط الطريق نزلت سورة الفتح, هكذا ساقه أحمد من هذا الوجه, وهكذا رواه يونس بن بكير وزياد البكائي عن أبي إسحاق بنحوه وفيه إغراب.
وقد رواه أيضاً عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به نحوه, وخالفه في أشياء, وقد رواه البخاري رحمه الله في صحيحه فساقه سياقة حسنة مطولة بزيادات جيدة, فقال في كتاب الشروط من صحيحه: حدثنا عبد الله بن محمد, حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم, يصدق كل واحد منهم حديث صاحبه, قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه, فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة, وبعث عيناً له من خزاعة وسار, حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إن قريشاً قد جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش, وهم مقاتلوك وصادوك ومانعوك. فقال صلى الله عليه وسلم: "أشيروا أيها الناس علي, أترون أن نميل على عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت ؟" وفي لفظ: "أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم, فإن يأتونا كان الله قد قطع عنقاً من المشركين, وإلا تركناهم محزونين", وفي لفظ "فإن قعدوا قعدوا موتورين مجهودين محرونين, وإن نجوا يكن عنقاً قطعها الله عز وجل. أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه".
فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت, لا تريد قتل أحد ولا حرباً, فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه, وفي لفظ: فقال أبو بكر رضي الله عنه: الله ورسوله علم إنما جئنا معتمرين ولم نجىء لقتال أحد, ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فروحوا إذن" وفي لفظ "فامضوا على اسم الله تعالى" حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيراً لقريش, وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته, فقال الناس: جل حل فألحت, فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل, ثم قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها". ثم زجرها فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً, فلم يلبث الناس حتى نزحوه, وشكي إلى رسول الله العطش, فانتزع صلى الله عليه وسلم من كنانته سهماً ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة, وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة, فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية, معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجىء لقتال أحد, ولكن جئنا معتمرين, وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب, فأضرت بهم, فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس, فإن أظهر, فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جمه, وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره". قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشاً فقال: إنا قد جئنا من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً, فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا, فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول كذا وكذا, فحدثهم بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم ألستم بالوالد ؟ قالوا: بلى, قال: أولست بالولد ؟ قالوا: بلى, قال: فهل تتهمونني ؟ قالوا: لا, قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ, فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته. قالوا: ائته, فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم له نحواً من قوله لبديل بن ورقاء, فقال عروة عند ذلك: أي محمد, أرأيت إن استأصلت أمر قومك, هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تك الأخرى فإني والله لأرى وجوهاً, وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك, فقال له أبو بكر رضي الله عنه: امصص بظر اللات أنحن نفر وندعه ؟ قال: من ذا ؟ قالوا أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته صلى الله عليه وسلم, والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم, ومعه السيف وعليه المغفر, وكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرفع عروة رأسه وقال: من هذا ؟ قال: المغيرة بن شعبة. قال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم, ثم جاء فأسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فأقبل, وأما المال فلست منه في شيء".
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده, وإذا أمرهم ابتدروا أمره, وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه, وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيماً له صلى الله عليه وسلم فرجع عروة إلى أصحابه. فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي, والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً, والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده, وإذا أمرهم ابتدروا أمره, وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده, وما يحدون النظر إليه تعظيماً له, وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل منهم من بني كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم, قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له". فبعثت واستقبله الناس يلبون. فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت, فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص, فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز وهو رجل فاجر" فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم , فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو, وقال معمر: أخبرني أيوب عن عكرمة أنه قال: لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سهل لكم من أمركم" قال معمر قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينك كتاباً. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بعلي رضي الله عنه وقال: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل بن عمرو: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو, ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اكتب باسمك اللهم ـ ثم قال ـ هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك, ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني, اكتب محمد بن عبد الله" قال الزهري: وذلك لقوله: "والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل, فكتب فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً ؟.
فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي. فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد" قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي" قال: ما أنا بمجيز ذلك لك قال "بلى فافعل" قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً, ألا ترون ما قد لقيت ؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله عز وجل. قال عمر رضي الله عنه: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبي الله حقاً ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بلى" قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال صلى الله عليه وسلم "بلى" قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري" قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بلى أفأخبرتك أنا نأتيه العام ؟". قلت: لا . قال صلى الله عليه وسلم: فإنك آتيه ومطوف به. قال: فأتيت أبا بكر فقلت أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً ؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه, وهو ناصره فاستمسك بغرزه, فوالله إنه على الحق. قلت: أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال بلى, أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت: لا . قال: فإنك تأتيه وتطوف به.
قال الزهري قال عمر رضي الله عنه: فعملت لذلك أعمالاً. قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات, فلما لم يقم منهم أحد دخل صلى الله عليه وسلم على أم سلمة رضي الله عنها, فذكر لها ما لقي من الناس, قالت له أم سلمة رضي الله عنها: يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك, نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً, ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات " حتى بلغ "بعصم الكوافر" فطلق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك, فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان, والأخرى صفوان بن أمية.
ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم, فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا, فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم, فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً, فاستله الاخر فقال: أجل والله إنه لجيد, لقد جربت منه ثم جربت. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الاخر حتى أتى المدينة, فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه "لقد رأى هذا ذعراً" فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا رسول الله قد والله أوفى الله ذمتك, قد رددتني إليهم ثم نجاني الله تعالى منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد".
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم, فخرج حتى أتى سيف البحر قال وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل, فلحق بأبي بصير, فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير, جتى اجتمعت منهم عصابة, فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها, فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم, فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وأنزل الله عز وجل: "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة" ـ حتى بلغ ـ "حمية الجاهلية" وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله, ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم, وحالوا بينهم وبين البيت. هكذا ساقه البخاري ههنا, وقد أخرجه في التفسير وفي عمرة الحديبية وفي الحج وغير ذلك من حديث معمر وسفيان بن عيينة, كلاهما عن الزهري به. ووقع في بعض الأماكن عن الزهري عن عروة عن مروان والمسور عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وهذا أشبه والله أعلم, ولم يسقه أبسط من ههنا, وبينه وبين سياق ابن إسحاق تباين في مواضع, وهناك فوائد ينبغي إضافتها إلى ما هنا, ولذلك سقنا تلك الرواية وهذه والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وقال البخاري في التفسير: حدثنا أحمد بن إسحاق السلمي, حدثنا يعلى, حدثنا عبد العزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل أسأله, فقال كنا بصفين, فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله, فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نعم, فقال سهل بن حنيف: اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية يعني الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين, ولو نرى قتالاً لقاتلنا, فجاء عمر رضي الله عنه فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ فقال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً" فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً, فنزلت سورة الفتح. وقد رواه البخاري أيضاً في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق أخر عن أبي وائل سفيان بن سلمة عن سهل بن حنيف به, وفي بعض ألفاظه: يا أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتني يوم أبي جندل, ولو أقدر على أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددته, وفي رواية: فنزلت سورة الفتح فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأها عليه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: إن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم سهيل بن عمرو, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم, ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم. فقال صلى الله عليه وسلم: "اكتب من محمد رسول الله" قال: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك, ولكن اكتب اسمك واسم أبيك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب من محمد بن عبد الله" واشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لا نرده عليكم, ومن جاءكم منا رددتموه علينا, فقال: يا رسول الله أنكتب هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله" رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.
وقال أحمد أيضاً, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عكرمة بن عمار قال حدثني سماك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا فقلت لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين, فقال لعلي رضي الله عنه: "اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" قالوا لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امح يا علي اللهم إنك تعلم أني رسولك امح يا علي واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله" والله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه ولم يكن محوه ذلك يمحوه من النبوة أخرجت من هذه ؟ قالوا نعم ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار اليمامي بنحوه وروى الإمام أحمد عن يحيى بن آدم عن زهير بن حرب عن محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها.
قوله: 25- "هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام" يعني كفار مكة، ومعنى صدهم عن المسجد الحرام: أنهم منعوهم أن يطوفوا به ويحلوا عن عمرتهم "والهدي معكوفاً" قرأ الجمهور بنصب "الهدي" عطفاً على الضمير المنصوب في صدوكم، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بالجر عطفاً على المسجد، ولا بد من تقدير مضاف: أي عن نحر الهدي، وقرئ بالرفع على تقدير وصد الهدي وقرأ الجمهور بفتح الهاء من الهدي وسكون الدال، وروي عن أبي عمرو عاصم بكسر الدال وتشديد الياء: وانتصاب معكوفاً على الحال من الهدي: أي محبوساً.قال الجوهري عكفه: أي حبسه ووقفه، ومنه "والهدي معكوفاً" ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس. وقال أبو عمرو بن العلاء: معكوفاً مجموعاً، وقوله: "أن يبلغ محله" أي عن أن يبلغ محله، أو هو مفعول لأجله، والمعنى: صدوا الهدي كراهة أن يبلغ محله، أو هو بدل من الهدي بدل اشتمال، ومحله منحره، وهو حيث يحل نحره من الحرم، وكان الهدي سبعين بدنة، ورخص الله سبحانه لهم بجعل ذلك الموضع الذي وصلوا إليه وهو الحديبية محلاً للنحر. وللعلماء في هذا كلام معروف في كتب الفروع "ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم" يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة، ومعنى: لم تعلموهم لم تعرفوهم، وقيل لم تعلموا أنهم مؤمنون " أن تطئوهم " يجوز أن يكون بدلاً من رجال ونساء، ولكنه غلب الذكور، وأن يكون بدلاً من مفعول تعلموهم، والمعنى أن تطأوهم بالقتل والإيقاع بهم، يقال وطئت القوم: أي أوقعت بهم، وذلك أنهم لو كسبوا مكة وأخذوها عنوة بالسيف لم يتميز المؤمنون الذين هم فيها من الكفار، وعند ذلك لا يأمنوا أن يقتلوا المؤمنين فتلزمهم الكفارة وتلحقهم سبة، وهو معنى قوله: "فتصيبكم منهم" أي من جهتهم "معرة" أي مشقة بما يلزمهم في قتلهم من كفارة وعيب، وأصل المعرة: العيب مأخوذة من العر، وهو الجرب، وذلك أن المشركين سيقولون: إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم. قال الزجاج: لولا أن تقتلوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات فتصيبكم منهم معرة: أي إثم. وكذا قال الجوهري [وبه] قال ابن زيد. وقال الكلبي ومقاتل وغيرهما: المعرة كفارة قتل الخطأ كما في قوله "فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة" وقال ابن إسحاق: المعرة غرم الدية. وقال قطرب: المعرة الشدة، وقيل الغم، و "بغير علم" متعلق بأن تطأوهم: أي غير عالمين، وجواب لولا محذوف، والتقدير: لأذن الله لكم أو لما كف أيديكم عنهم، واللام في "ليدخل الله في رحمته من يشاء" متعلقة بما يدل عليه الجواب المقدر أي ولكن لم يأذن لكم، أو كف أيديكم ليدخل الله في رحمته بذلك من يشاء من عباده وهم المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا في مكة، فيتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار ويفك أسرهم، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب. وقيل اللام متعلقة بمحذوف غير ما ذكر، وتقديره: لو قلتموهم لأدخلهم الله في رحمته، والأول أولى. وقيل إن من يشاء عباده ممن رغب في الإسلام من المشركين "لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً" التزيل: التميز: أي لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا منهم لغذبنا الذين كفروا، وقيل التزيل: التفرق: أي لو تفرق هؤلاء من هؤلاء، وقيل لو زال المؤمنون من بين أظهرهم، والمعاني متقاربة، والعذاب الأليم هو القتل والأسر والقهر.
25. قوله عز وجل: " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام "، الآية. روى الزهري ، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، يريدون زيارة البيت، لا يريد قتالاً، وساق معه سبعين بدنةً، والناس سبعمائة رجل، وكانت كل بدنة عن عشرة نفر، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان، أتاه عينه الخزاعي وقال: إن قريشاً قد جمعوا لك جموعاً، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، أترون أن أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين، وإن نجوا تكن عنقاً قطعها الله؟ أو ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟
فقال أبو بكر: يارسول الله إنما خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حرباً، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه.
فقال: امضوا على اسم الله، فنفروا، قال النبي صلى الله عليه وسلم إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل ، ثم قال: والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياه ، ثم زجرها فوثبت.
فقال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث الناس أن نزحوه، وشكا الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم العطش، فنزع سهماً من كنانته وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له ناجية بن عمير، وهو سائق بدن النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل في البئر فغرزه في جوفه، فوالله ما زال بجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره.
فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشاً، قال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، قال: فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول.
قال: سمعته يقول كذا وكذا، بما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحواعلي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا:ة بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته، قالوا: ائته. فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فإني والله لأرى وجوهاً وأشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك.
فقال له أبو بكر الصديق: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟.
فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرقع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: هذا المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك.
وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء .
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، فرجع عروةإلى أصحابه، فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظرة تعظيماً له، وإنه عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له ، فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت؟
فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه ، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صد الهدي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، فقالوا له: اجلس إنما أنت رجل أعرابي لا علم لك، فغضب الحليس عند ذلك، فقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظماً له، والذي نفس حليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، فقالوا: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به.
فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا مكرز وهو رجل فاجر ، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، وقال عكرمة: فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: قد سهل لكم من أمركم .
قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات نكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم .
فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ماهو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب.
فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب يا علي محمد بن عبد الله
قال الزهري : وذلك لقوله: لا يسألون خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وعلى أن تخلوا بيننا وبين البيت، فنطوف به ، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب إنا أخذناها ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيل، وعلى أن لا يأتيك منا رجل -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا، فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟.
وروى أبو إسحاق عن البراء قصة الصلح وفيه قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد الله، قال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله، ثم قال لعلي رضي الله عنه: امح رسول الله، قال: لا والله لا أمحوك أبداً، قال: فأرنيه، فأراه إياه، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، وفي روايته: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن أن يكتب، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد الله.
قال البراء: صالح على ثلاثة أشياء: على أن من أتاه من المشركين رده إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن يدخلها من قابل، ويقيم بها ثلاثة أيام، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف والقوس ونحوه.
وروى ثابت عن أنس: أن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا: أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقالوا: يارسول الله أنكتي هذا؟ قال: نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله فرجاً ومخرجاً .
رجعنا إلى حديث الزهري قال: فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جبدل بن سهيل بن عمرو، يرسف في قيوده قد انفلت وخرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي: إنا لم نقض الكتاب بعد ، قال: فوالله إذاً لا أصالحك علي شيء أبداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجره لي ، فقال: فما أنا بمجيره لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، ثم جعل سهيل يجره ليرده إلى قريش، قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله.
وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا جندل احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقداً وصلحاً، وإنا لا نغدر ، فوثب عمر يمشي إلى جنب أبي جندل، ويقول: اصبر فإنما هم المشركون ودم أحدهم كدم كلب، ويدني قائم السيف منه، قال عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح، لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ذلك دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، وزادهم أمر أبي جندل شراً إلى ما بهم.
قال عمر: [والله] ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ.
قال الزهري في حديثه عن عروة عن [مروان] والمسور، ورواه أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: ياأبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله ليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، افأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإني آتيه ومطوف به.
قال الزهري : قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً.
قال: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا، ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام رجل منهم، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم أن يقتل بعضاً غما.
قال ابن عمر وابن عباس: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: يرحم الله المحلقين ، قالوا: والمقصرين؟ قال: والمقصرين، قالوا: يا رسول الله فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: لأنهم لم يشكوا ، قال ابن عمر: وذلك لأنه تربص قوم وقالوا لعلنا نطوف بالبيت.
قال ابن عباس: وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ المشركين بذلك.
وقال الزهري في حديثه: ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات "، حتى بلغ " بعصم الكوافر " (الممتحنة-10)، فطلق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية، قال: فنهاهم أن يردوا النساء وأمر برد الصداق.
قال: ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير عتبة بن أسيد، رجل من قريش وهو مسلم، وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثا في طلبه رجلاً من بني عامر بن لؤي، ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالا: العهد الذي جعلت لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، ثم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيداً، فاستله الآخر، فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت به، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأخذوه وعلاه به فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه، لقد رأى هذا ذعراً، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ويلك مالك؟ قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله أوفى الله ذمتك قد ردتتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه أحد ، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وبلغ المسلمين الذين كانوا حبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد، فخرج عصابة منهم إليه، وانفلت أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، حتى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إى اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن آتاه فهو آمن، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقدموا عليه المدينة، فأنزل الله تعالى: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً " حتى بلغ " حمية الجاهلية "، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينه وبين البيت.
قال الله عز وجل: " هم الذين كفروا "، يعني كفار مكة، " وصدوكم عن المسجد الحرام "، أن تطوفوا به، " والهدي "، أي: وصدوا الهدي، وهي البدن التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعين بدنة، " معكوفاً "، محبوساً، يقال: عكفته عكفاً إذا حبسته وعكوفاً للازم، كما يقال: رجع رجعاً ورجوعاً، " أن يبلغ محله "، منحره وحيث يحل نحره يعني الحرم، " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات "، يعني المستضعفين بمكة، " لم تعلموهم "، لم تعرفوهم، " أن تطئوهم "، بالقتل وتوقعوا بهم، " فتصيبكم منهم معرة بغير علم "، قال ابن زيد : معرة إثم. وقال ابن إسحاق : غرم الدية.
وقيل: الكفارة لأن الله عز وجل أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدية، فقال: " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " (النساء-92).
وقيل: هو أن المسركين يعيبونكم ويقولون أهل دينهم، والمعرو: المشقة، يقول: لولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لا تعلموهم فليزمكم بهم كفارة أو يلحقكم سبة. وجواب لولا محذوف، تقديره: لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك.
" ليدخل الله في رحمته من يشاء "، فاللام في ((ليدخل)) متعلق بمحذوف دل عليه معنى الكلام، يعني: حال بينكم وبين ذلك ليدخل الله في رحمته في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح قبل أن تدخلوها، " لو تزيلوا "، لو تميزوا يعني المؤمنين من الكفار، " لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً "، بالسبي والقتل بأيديكم،.
وقال بعض أهل العلم: ((لعذبنا)) جواب لكلامين أحدهما: ((لولا رجال)) والثاني: ((لو تزيلوا))، ثم قال: " ليدخل الله في رحمته من يشاء "، يعني المؤمنين والمؤمنات.
وقوله: " في رحمته "، أي جنته. وقال قتادة في هذه الآية: إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة.



25-" هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله " يدل على أن ذلك كان عام الحديبية ، والهدي ما يهدى إلى مكة . وقرئ " الهدي " وهو فعيل بمعنى مفعول ، ومحله مكانه الذي يحل فيه نحره والمراد مكانه المعهود وهو منى لا مكانه الذي لا يجوز أن ينحر في غيره ، وإلا لما نحره الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أحصر فلا ينتهض حجة للحنفية على أن مذبح هدي المحصر هو الحرم ." ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم " لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين ." أن تطئوهم " أن توقعوا بهم وتبيدهم قال :
ووطئتنا وطأ على حنق وطء المقيد ثابت الهرم
وقال عليه الصلاة والسلام " إن آخر وطأة وطئها الله بوج " وهو واد بالطائف كان آخر وقعة للنبي صلى الله عليه وسلم بها ، وأصله الدوس وهو بدل الاشتمال من "رجال " " نساء " أو من ضميرهم في " تعلموهم " . " فتصيبكم منهم " من جهتهم " معرة " مكروه كوجوب الدية والكفارة بقتلهم وللتأسف عليهم ، وتعيير الكفار بذلك والإثم بالتقصير في البحث عنه مفعلة عن عره إذا أعراه ما يكرهه . " بغير علم " متعلق بـ" أن تطئوهم " أي تطؤهم غير عالمينبهم ، وجواب " لولا " محذوف لدلالة الكلام عليه ، والمعنى " لولا " كراهة أن تهلكوا أناساً مؤمنين بين أظهر الكافرين جاهلين بهم يصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم ."ليدخل الله في رحمته " علة لما دل عليه كف الأيدي عن أهل مكة صوناً لمن فيها من المؤمنين ، أي كان ذلك ليدخل الله في رحمته أي في توفيقه لزيادة الخير أو للإسلام . " من يشاء " من مؤمنيهم أو مشركيهم " لو تزيلوا " لو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض ، وقرئ تزايلوا ." لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً " بالقتل والسبي .
25. These it was who disbelieved and debarred you from the Inviolable Place of Worship, and debarred the offering from reaching its goal. And if it had not been for believing men and believing women, whom ye know not lest ye should tread them under foot and thus incur guilt for them unknowingly; that Allah might bring into His mercy whom He will. If (the believers and the disbelievers) had been clearly separated We verily had punished those of them who disbelieved with painful punishment.
25 - They are the ones who denied revelation and hindered you from the Sacred Mosque and the sacrificial animals, detained from reaching their place of sacrifice. Had there not been believing men and believing women whom ye did not know that ye were trampling down and on whose account a crime would have accrued to you without (your) knowledge, (God would have allowed you to force your way, but he held back your hands) that He may admit to His Mercy whom He will. If they had been apart, We should certainly have punished the Unbelievers among them with a grievous punishment.