[الدخان : 56] لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ
56 - (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) أي التي في الدنيا بعد حياتهم فيها قال بعضهم الا بمعنى بعد (ووقاهم عذاب الجحيم)
وقوله : " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " يقول تعالى ذكره : لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا .
وكان بعض أهل العربية يوجه < إلا > في هذا الموضع إلى أنها في معنى سوى ، ويقول : معنى الكلام : لا يذوقون فيها الموت سوى الموتة الأولى ، ويمثله بقوله تعالى ذكره : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " [ النساء : 22 ] بمعنى : سوى ما قد فعل آباؤكم ، وليس للذي قال من ذلك عندي وجه مفهوم ، لأن الأغلب من قول القائل : لا أذوق اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته قبل اليوم أنه يريد الخبر عن قائله أن عنده طعاماً في ذلك اليوم ذائقه وطاعمه دون سائر الأطعمة غيره . وإذا كان ذلك الأغلب من معناه وجب أن يكون قد أثبت بقوله : " إلا الموتة الأولى " موتة من نوع الأولى هم ذائقوها ، ومعلوم أن ذلك ليس كذلك ، لأن الله عز وجل قد آمن أهل الجنة في الجنة إذا هم دخلوها من الموت ، ولكن ذلك كما وصفت من معناه . وإنما جاز أن توضع < إلا > في موضع < بعد > لتقارب معنييهما في هذا الموضع وذلك أن القائل إذا قال : لا أكلم اليوم رجلاً إلا رجلاً عند عمرو قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلاً بعد كلام الرجل الذي عند عمرو . وكذلك إذا قال : لا أكلم اليوم رجلاً بعد رجل عند عمرو ، قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلاً إلا رجلاً عند عمرو ، فبعد وإلا متقاربتا المعنى في هذا الموضع . ومن شأن العرب أن تضع الكلمة مكان غيرها إذا تقارب معنياهما ، وذلك كوضعهم الرجاء مكان الخوف لما في معنى الرجاء من الخوف ، لأن الرجاء ليس بيقين ، وإنما هو طمع ، وقد يصدق ويكذب كما الخوف يصدق أحياناً ويكذب ، فقال في ذلك أو ذؤيب :
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل
فقال : لم يرج لسعها ، ومعناه في ذلك : لم يخف لسعها . وكوضعهم الظن موضع العلم الذي لم يدرك من قبل العيان ، وإنما ادرك استدلالاً أو خبراً ، كما قال الشاعر :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
بمعنى : أيقنوا بألفي مدجج واعلموا ، فوضع الظن موضع اليقين إذا لم يكن المقول لهم ذلك قد عاينوا ألفي مدجج ، ولا رأوهم ، وإن ما أخبرهم به هذا المخبر ، فقال لهم ظنوا العلم بما لم يعاين من فعل القلب ، فوضع أحدهما موضع الآخر لتقارب معنييهما في نظائر لما ذكرت يكثر إحصاؤها . كما يتقارب معنى الكلمتين في بعض المعاني . وهما مختلفتا المعنى في أشياء أخر ، فتضع العرب إحداهما مكان صاحبتها في الموضع الذي يتقارب معنياهما فيه ، فكذلك قوله : " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " وضع < إلا > في موضع < بعد > لما نصف من تقارب معنى < إلا > و < بعد > في هذا الموضع ، وكذلك " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " [ النساء : 22 ] إنما معناه : بعد الذي سلف منكم في الجاهلية ، فأما إذا وجهت < إلا > في هذا الموضع إلى معنى سوى ، فإنما هو ترجمة عن المكان ، وبيان عنها بما هو أشد التباساً على من أراد علم معناها منها .
قوله تعالى : " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " أي لا يذوقون فيها الموت ألبتة لأنهم خالدون فيها ، ثم قال : " إلا الموتة الأولى " على الاستثناء المنقطع أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا ، وأنشد سيبويه :
من كان أسرع في تفرق فالج فلبونه جربت معاً وأغدت
ثم استثنى بما ليس من الأول فقال :
إلا كناشرة الذي ضيعتم كالغصن في غلوائه المتنبت
وقيل : إن ( إلا ) بمعنى بعد ، كقولك : ما كلمت رجلاً اليوم إلا رجلاً عندك ، أي بعد رجل عندك ، وقيل : ( إلا ) بمعنى سوى ، أي سوى الموتة التي ماتوها في الدنيا ، كقوله تعالى : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " [ النساء : 22 ]، وهو كما تقول : ما ذقت اليوم طعاماً سوى ما أكلت أمس ، وقال القتبي : ( إلا الموتة الأولى ) معناه أن المؤمن إذا أشرف على الموت استقبلته ملائكة الرحمة ويلقى الروح والريحان ، وكان موته في الجنة لاتصافه بأسبابها ، فهو استثناء صحيح ، والموت عرض لا يذاق ، ولكن جعل كالطعام الذي يكره ذوقه ، فاستعير فيه لفظ الذوق ، " ووقاهم عذاب الجحيم " .
لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر السعداء ولهذا سمي القرآن مثاني, فقال: "إن المتقين" أي لله في الدنيا "في مقام أمين" أي في الاخرة وهو الجنة, قد أمنوا فيها من الموت والخروج, ومن كل هم وحزن وجزع وتعب ونصب ومن الشيطان وكيده وسائر الافات والمصائب "في جنات وعيون" وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجرة الزقوم وشرب الحميم, وقوله تعالى: "يلبسون من سندس" وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها "وإستبرق" وهو ما فيه بريق ولمعان وذلك كالريش وما يلبس على أعالي القماش "متقابلين" أي على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره. وقوله تعالى: "كذلك وزوجناهم بحور عين" أي هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين اللاتي "لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان" "كأنهن الياقوت والمرجان" " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا نوح بن حبيب, حدثنا نصر بن مزاحم العطار. حدثنا عمر بن سعد عن رجل عن أنس رضي الله عنه رفعه نوح قال: لو أن حوراء بزقت في بحر لجي لعذب ذلك الماء لعذوبة ريقها.
وقوله عز وجل: "يدعون فيها بكل فاكهة آمنين" أي مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه بل يحضر إليهم كلما أرادوا. وقوله: "لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى" هذا استثناء يؤكد النفي فإنه استثناء منقطع, ومعناه أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت" وقد تقدم الحديث في سورة مريم عليها الصلاة والسلام. وقال عبد الرزاق: حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً, وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبداً, وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً, وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً" رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد, كلاهما عن عبد الرزاق به هكذا يقول أبو إسحاق, وأهل العراق يقولون أبو مسلم الأغر, وأهل المدينة يقولون أبو عبد الله الأغر. وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني: حدثنا أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن الحجاج هو ابن حجاج عن عبادة عن عبيد الله بن عمرو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتقى الله دخل الجنة ينعم فيها ولا يبأس ويحيا فيها فلا يموت, لا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه".
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن يحيى, حدثنا عمرو بن محمد الناقد, حدثنا سليم بن عبد الله الرقي, حدثنا مصعب بن إبراهيم, حدثنا عمران بن الربيع الكوفي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: سئل نبي الله صلى الله عليه وسلم: أينام أهل الجنة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون" وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره, حدثنا أحمد بن القاسم بن صدقة المصري, حدثنا المقدام بن داود, حدثنا عبد الله بن المغيرة, حدثنا سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون", وقال أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا الفضل بن يعقوب , حدثنا محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: "قيل يا رسول الله: هل ينام أهل الجنة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا , النوم أخو الموت" , ثم قال: لا نعلم أحداً أسنده عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه إلا الثوري ولا عن الثوري إلا الفريابي, هكذا قال, وقد تقدم خلاف ذلك, والله أعلم.
وقوله تعالى: "ووقاهم عذاب الجحيم" أي مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم وسلمهم ونجاهم وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم, فحصل لهم المطلوب ونجاهم من المرهوب ولهذا قال عز وجل: "فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم" أي إنما كان هذا بفضله عليهم وإحسانه إليهم كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحداً لن يدخله عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل", وقوله تعالى: "فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" أي إنما يسرنا هذا القرآن الذي أنزلناه سهلاً واضحاً بيناً جلياً بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأعلاها "لعلهم يتذكرون" أي يتفهمون ويعلمون.
ثم لما كان مع هذا الوضوح والبيان من الناس من كفر وخالف وعاند قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم مسلياً له وواعداً له بالنصر, ومتوعداً لمن كذبه بالعطب والهلاك: "فارتقب" أي انتظر "إنهم مرتقبون" أي فسيعملون لمن تكون النصرة والظفر وعلو الكلمة في الدنيا والاخرة, فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين ومن اتبعكم من المؤمنين كما قال تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي" الاية. وقال تعالى: "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار".
56- "لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى" أي لا يموتون فيها أبداً إلا الموتة التي ذاقوها في الدنيا، والاستثناء منقطع: أي لكن الموتة التي قد ذاقوها في الدنيا كذا قال الزجاج والفراء وغيرهما، ومثل هذه الآية قوله: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" وقيل إن إلا بمعنى بعد، كقولك: ما كلمت رجلاً اليوم إلا رجلاً عندك: أي بعد رجل عندك، وقيل هي بمعنى سوى: أي سوى الموتة الأولى. وقال ابن قتيبة: إنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا، لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله وقدرته إلى أسباب من الجنة يلقون الروح والريحان، ويرون منازلهم من الجنة، وتفتح لهم أبوابها، فإذا ماتوا في الدنيا فكأنهم ماتوا في الجنة لاتصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها، فيكون الاستثناء على هذا متصلاً. واختار ابن جرير أن إلا بمعنى بعد، واختار كونها بمعنى سوى ابن عطية "ووقاهم عذاب الجحيم". قرأ الجمهور "وقاهم" بالتخفيف، وقرأ أبو حيوة بالتشديد على المبالغة.
56. " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى "، أي سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا، وبعدها وضع: ((إلا)) موضع سوى وبعد، وهذا كقوله تعالى: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " (النساء-22)، أي سوى ما قد سلف، وبعد ما قد سلف، وقيل: إنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا من موت في الجنة لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله إلى أسباب الجنة، يلقون الروح والريحان ويرون منازلهم في الجنة، فكان موتهم في الدنيا كأنهم في الجنة لاتصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها. " ووقاهم عذاب الجحيم ".
56-" لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " بل يحيون فيها دائماً ، والاستثناء منقطع أو متصل والضمير للآخرة و " الموت " أول أحوالها ، أو الجنة والمؤمن يشارفها بالموت ويشاهدها عنده فكأنه فيها ، أو الاستثناء للمبالغة في تعميم النفي وامتناع " الموت " فكأنه قال : " لا يذوقون فيها الموت " إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل . " ووقاهم عذاب الجحيم " وقرئ ووقاهم على المبالغة .
56. They taste not death therein, save the first death. And He hath saved them from the doom of hell,
56 - Nor will they there taste Death, except the first death; and He will preserve them from the Penalty of the Blazing Fire,