[الدخان : 16] يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ
16 - اذكر (يوم نبطش البطشة الكبرى) هو يوم بدر (إنا منتقمون) منهم والبطش الأخذ بالقوة
إنكم عائدون فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حإلهم فأنزل الله يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون يعني يوم بدر
يقول تعالى ذكره : إنكم أيها المشركون إن كشفت عنكم العذاب النازل بكم ، والضر الحال بكم ، ثم عدتم في كفركم ، ونقضتم عهدكم الذي عاهدتم ربكم ، انتقمت منكم يوم أبطش بكم بطشتي الكبرى في عاجل الدنيا ، فأهلككم . وكشف الله عنهم ، فعادوا ، فبطش بهم جل ثناؤه بطشته الكبرى في الدنيا ، فأهلكهم قتلاً بالسيف .
وقد اختلف أهل التأويل في البطشة الكبرى ، فقال بعضهم : هي بطشة الله بمشركي قريش يوم بدر .
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود ، أنه قال : البطشة الكبرى : يوم بدر .
حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، قال :ثنا مالك بن سعير ، قال : ثنا الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق قال : قال يوم بدر ، البطشة الكبرى .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال :ثنا أيوب ، عن محمد ، قال : نبئت أن ابن مسعود كان يقول : " يوم نبطش البطشة الكبرى " يوم بدر .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد " يوم نبطش البطشة الكبرى " قال : يوم بدر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : " يوم نبطش البطشة الكبرى " قال :يوم بدر .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، قال : سمعت أبا العالية في هذه الآية " يوم نبطش البطشة الكبرى " قال : يوم بدر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون " قال : يعني يوم بدر .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثام بن علي ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : قلت : ما البطشة الكبرى ؟ فقال : يوم القيامة ، فقلت : إن عبد الله كان يقول : يوم بدر . قال : فبلغني أنه سئل بعد ذلك فقال : يوم بدر .
حدثنا أبو كريب و أبو السائب قالا : ثنا ابن ادريس ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، بنحوه .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن مجاهد ، عن أبي بن كعب ، قال : يوم بدر .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " يوم نبطش البطشة الكبرى " يوم بدر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " يوم نبطش البطشة الكبرى " قال : هذا يوم بدر .
وقال آخرون : بل هي بطشة الله بأعدائه يوم القيامة .
ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، قال : قال ابن عباس : قال ابن مسعود : البطشة الكبرى يوم بدر ، وأنا أقول : هي يوم القيامة .
حدثنا أبو كريب و أبو السائب ، قالا : ثنا ابن ادريس ، قال : ثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : مر بي عكرمة ، فسألته عن البطشة الكبرى فقال : يوم القيامة ، قال : قلت : إن عبد الله بن مسعود كان يقول : يوم بدر . وأخبرني من سأله بعد ذلك فقال : يوم بدر .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : " يوم نبطش البطشة الكبرى " قال قتادة عن الحسن : إنه يوم القيامة .
وقد بينا الصواب في ذلك فيما مضى ، والعلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من القول فيه .
قوله تعالى : " يوم " محمول على ما دل عليه " منتقمون " ، أي ننتقم منهم يوم نبطش ، وأبعده بعض النحويين بسبب أن ما بعد ( إن ) لا يفسر ما قبلها ، وقيل : إن العامل فيه ( منتقمون ) وهو بعيد أيضاً ، لأن ما بعد ( إن ) لا يعمل فيه قبلها ، ولا يحسن تعلقه بقوله : ( عائدون ) ولا بقوله : ( إنا كاشفو العذاب ) ، إذ ليس المعنى عليه ، ويجوز نصبه بإضمار فعل ، كأنه قال : ذكرهم أو اذكر ، ويجوز أن يكون المعنى إنكم عائدون ، فإذا عدتم أنتقم منكم يوم نبطش البطشة الكبرى ، ولهذا وصل هذه بقصة فرعون ، فإنهم وعدوا موسى الإيمان إن كشف عنهم العذاب ، ثم لم يؤمنوا حتى غرقوا ، وقيل : ( إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون ) كلام تام ، ثم ابتدأ : ( يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ) أي نتقم من جميع الكفار ، وقيل : المعنى وارتقب الدخان وارتقب يوم نبطش ، فحذف واو العطف ، كما تقوم : اتق العذاب ، " البطشة الكبرى " في قول ابن مسعود : يوم بدر ، وهو قول ابن عباس وأبي كعب و مجاهد و الضحاك وقيل : عذاب جهنم يوم القيامة ، قاله الحسن و عكرمة وابن عباس أيضاً ،واختاره الزجاج ، وقيل : دخان يقع في الدنيا ، أو جوع أو قحط يقع قيل يوم القيامة ، الماوردي : ويحتمل أنها قيام الساعة ، لأنها خاتمة بطشاته في الدنيا ، ويقال : انتقم الله منه ، أي عاقبه ، والاسم منه النقمة والجمع النقمات ، وقيل بالفرق بين النقمة والعقوبة ، فالعقوبة بعد المعصية لأنها من العاقبة ، والنقمة قد تكون قبلها : قاله ابن عباس ، وقيل : العقوبة ما تقدرت والانتقام غير مقدر .
يقول تعالى: بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون أي قد جاءهم الحق اليقين وهم يشكون فيه ويمترون ولا يصدقون به, ثم قال عز وجل متوعداً لهم ومهدداً: "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين" قال سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح, عن مسروق قال: دخلنا المسجد, يعني مسجد الكوفة عند أبواب كندة, فإذا رجل يقص على أصحابه "يوم تأتي السماء بدخان مبين" تدرون ما ذلك الدخان ؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام, قال: فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه, فذكرنا له ذلك وكان مضطجعاً, ففزع فقعد وقال: إن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم: "قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين" إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم الله أعلم سأحدثكم عن ذلك, إن قريشاً لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف, فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة, وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان, وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد.
قال الله تعالى: " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم " فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت, فاستسقى صلى الله عليه وسلم لهم فسقوا فنزلت " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " قال ابن مسعود رضي الله عنه: فيكشف عنهم العذاب يوم القيامة فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله عز وجل: "يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون" قال يعني يوم بدر قال ابن مسعود رضي الله عنه: فقد مضى خمسة: الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام, وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ورواه الإمام أحمد في مسنده, وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما, وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الأعمش به, وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الاية بهذا, وأن الدخان مضى: جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي, وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا جعفر بن مسافر, حدثنا يحيى بن حسان, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عز وجل: "يوم تأتي السماء بدخان مبين" قال: كان يوم فتح مكة وهذا القول غريب جداً بل منكر. وقال آخرون لم يمض الدخان بعد بل هو من أمارات الساعة كما تقدم من حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه, قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها, والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى بن مريم والدجال وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق, وخسف بالمغرب, وخسف بجزيرة العرب, ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس ـ أو تحشر الناس ـ تبيت معهم حيث باتوا, وتقيل معهم حيث قالوا". تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه, وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد: "إني خبأت لك خبأ" قال: هو الدخ, قال صلى الله عليه وسلم "اخسأ فلن تعدو قدرك" قال: وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين" وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب, وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان, وهم يقرطمون العبارة, ولهذا قال هو الدخ, يعني الدخان, فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته وأنها شيطانية فقال صلى الله عليه وسلم: "اخسأ فلن تعدو قدرك".
ثم قال ابن جرير: وحدثني عصام بن رواد بن الجراح, حدثنا أبي, حدثنا سفيان بن أبي سعيد الثوري, حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول الايات الدجال ونزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام, ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا, والدخان ـ قال حذيفة رضي الله عنه يا رسول الله وما الدخان ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم" ـ يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة, أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة, وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره". قال ابن جرير: لو صح هذا الحديث لكان فاصلاً وإنما لم أشهد له بالصحة لأن محمد بن خلف العسقلاني حدثني أنه سأل رواداً عن هذا الحديث هل سمعه من سفيان ؟ فقال له: لا , قال فقلت: أقرأته عليه ؟ قال: لا , قال فقلت: أقرىء عليه وأنت حاضر فأقر به ؟ فقال: لا , فقلت له: فمن أين جئت به ؟ فقال: جاءني به قوم فعرضوه علي وقالوا لي اسمعه منا, فقرءوه علي ثم ذهبوا به فحدثوا به عني أو كما قال وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث ههنا, فإنه موضوع بهذا السند, وقد أكثر ابن جرير من سياقه في أماكن من هذا التفسير, وفيه منكرات كثيرة جداً, ولا سيما في أول سورة بني إسرائيل في ذكر المسجد الأقصى, والله أعلم.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا محمد بن عوف, حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش, حدثني أبي, حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة, ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه, والثانية الدابة والثالثة الدجال". ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد عن محمد بن إسماعيل بن عياش به وهذا إسناد جيد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا خليل عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يهيج الدخان بالناس, فأما المؤمن فيأخذه الزكمة, وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه". ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه موقوفاً, وروى سعيد بن عوف عن الحسن مثله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: لم تمض آية الدخان بعد, يأخذ المؤمن كهيئة الزكام وتنفخ الكافر حتى ينفذ وروى ابن جرير من حديث الوليد بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة, عن عبد الرحمن بن البيلماني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام, ويدخل مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ أي المشوي على الرضف, ثم قال ابن جرير: حدثني يعقوب, حدثنا ابن علية عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لم ؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذو الذنب, فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت. وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن أبي عمر عن سفيان عن عبد الله بن أبي يزيد, عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره, وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن, وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها مما فيه مقنع, ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الايات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن, قال الله تبارك وتعالى: "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين" أي بين واضح يراه كل أحد, وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد, وهكذا قوله تعالى: "يغشى الناس" أي يتغشاهم ويعمهم, ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه "يغشى الناس".
وقوله تعالى: "هذا عذاب أليم" أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً كقوله عز وجل: " يوم يدعون إلى نار جهنم دعا * هذه النار التي كنتم بها تكذبون " أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله سبحانه وتعالى: "ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون" أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم كقوله جلت عظمته "ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين" وكذا قوله جل وعلا: "وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال". وهكذا قال جل وعلا ههنا: "أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين * ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون". يقول: كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة, ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه بل كذبوه وقالوا معلم مجنون, وهذا كقوله جلت عظمته: " يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى " الاية وكقوله عز وجل: "ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب * وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد" إلى آخر السورة.
وقوله تعالى: " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " يحتمل معنيين: (أحدهما) أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا, لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب كقوله تعالى: "ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون" وكقوله جلت عظمته: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون". و (الثاني) أن يكون المراد إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم. وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال, ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم كقوله تعالى: "إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين". ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه عليهم, ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه, قال الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا: " لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها " وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم, وقال قتادة: إنكم عائدون إلى عذاب الله.
وقوله عز وجل: "يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون" فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر, وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم, وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وعن أبي بن كعب رضي الله عنه, وهو محتمل, والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً قال ابن جرير: حدثني ابن علية, حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة, وهذا إسناد صحيح عنه وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه, والله أعلم.
16- "يوم نبطش البطشة الكبرى" الظرف منصوب بإضمار اذكر، وقيل هو بدل من يوم تأتي السماء، وقيل هو متعلق بمنتقمون، وقيل بما دل عليه منتقمون وهو منتقم. والبطشة الكبرى: هي يوم بدر، قاله الأكثر. والمعنى: أنهم لما عادوا إلى التكذيب والكفر بعد رفع العذاب عنهم انتقم الله منهم بوقعة بدر. وقال الحسن وعكرمة: المراد بها عذاب النار، واختار هذا الزجاج: والأول أولى. قرأ الجمهور "نبطش" بفتح النون وكسر الطاء: أي نبطش بهم، وقرأ الحسن وأبو جعفر بضم الطاء وهي لغة، وقرأ أبو رجاء وطلحة بضم النون وكسر الطاء.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس "في ليلة مباركة" قال: أنزل القرآن في ليلة القدر ونزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً لجواب الناس. وأخرج محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: "فيها يفرق كل أمر حكيم" قال: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق وموت، وحياة ومطر، حتى يكتب الحاج: يحج فلان، ويحج فلان. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر "فيها يفرق كل أمر حكيم" قال: أمر السنة إلى السنة إلا الشقاء والسعادة، فإنه في كتاب الله لا يبدل ولا يغير. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب قال: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى ثم قرأ "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" الآية، يعني ليلة القدر، قال: ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل من موت أو حياة أو رزق، كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها. وأخرج ابن زنجويه والديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى". وأخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس، وهذا مرسل ولا تقوم به حجة ولا تعارض بمثله صرائح القرآن. وما روي في هذا فهو إما مرسل أو غير صحيح. وقد أورد ذلك صاحب الدر المنثور، وأورد ما ورد في فضل ليلة النصف ن شعبان، وذلك لا يستلزم أنها المراد بقوله في ليلة مباركة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود أن قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأوا عن الإسلام قال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل بنظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين" الآية، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر، فاستسقى لهم فسقوا، فأنزل الله "إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون" فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله "يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون" فانتقم الله منهم يوم بدر، فقد مضى البطشة والدخان واللزام. وقد روي عن ابن مسعود نحو هذا من غير وجه، وروي نحوه عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن أبي مليكة قال: دخلت على ابن عباس فقال: لم أنم هذه الليلة، فقلت لم؟ قال: طلع الكوكب فخشيت أن يطرق الدخان. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، وكذا صححه السيوطي ولكن ليس فيه أنه سبب نزول الآية. وقد عرفناك أنه لا منافاة بين كون هذه الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع، وبين كون الدخان من آيات الساعة وعلاماتها وأشراطها. فقد وردت أحاديث صحاح وحسان وضعاف بذلك، وليس فيها أن سبب نزول الآية، فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكرها، والواجب التمسك بما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن دخان قريش عند الجهد والجوع هو سبب النزول، وبهذا تعرف اندفاع ترجيح من رجح أن الدخان الذي هو من أشراط الساعة كابن كثير في تفسيره وغيره، وهكذا يندفع قول من قال إنه الدخان الكائن يوم فتح مكة متمسكاً بما أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال: كان يوم فتح مكة دخان وهو قول الله "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين" فإن هذا لا يعارض ما في الصحيحين على تقدير صحة إسناده مع احتمال أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه ظن من وقوع ذلك الدخان يوم الفتح أنه المراد بالآية، ولهذا لم يصرح بأنه سبب نزولها. وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: قال ابن عباس قال ابن مسعود: البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح. وقال ابن كثير قبل هذا: فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضاً عن ابن عباس من رواية العوفي عنه وعن أبي بن كعب وجماعة وهو محتمل. والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة كبرى أيضاً انتهى.
قلت: بل الظاهر أنه يوم بدر، وإن كان يوم القيامة يوم بطشة أكبر من كل بطشة، فإن السياق مع قريش، فتفسيره بالبطشة الخاصة بهم أولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل عاص من الإنس والجن.
16. " يوم نبطش البطشة الكبرى "، وهو يوم بدر، " إنا منتقمون "، وهذا قول ابن مسعود وأكثر العلماء، وقال الحسن : يوم القيامة، وروى عكرمة ذلك عن ابن عباس.
16-" يوم نبطش البطشة الكبرى " يوم القيامة أو يوم بدر ظرف لفعل دل عليه . " إنا منتقمون " لا لمنتقمون فإن إن تحجزه عنه ، أو بدل من " يوم تأتي " . وقرئ " نبطش " أي نجعل البطشة الكبرى باطشة بهم ، أو نحمل الملائكة على بطشهم وهو التناول بصوله .
16. On the day when We shall seize them with the greater seizure (then), in truth We shall punish.
16 - One day We shall seize you with a mighty onslaught: We will indeed (then) exact Retribution!