[النساء : 99] فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا
(فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا)
يقول الله جل ثناؤه : "فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم"، يعني: هؤلاء المستضعفين، يقول : لعل الله أن يعفو عنهم ، للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون ، فيفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة، إذ لم يتركوها اختياراً ولا إيثاراً منهم لدار الكفر على دار الإسلام ، ولكن للعجز الذي هم فيه عن النقلة عنها، "وكان الله عفوا غفورا" يقول : ولم يزل الله "عفوا" يعني : ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده ، بتركه العقوبة عليها، "غفورا"، ساتراً عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها.
وذكر أن هاتين الآيتين والتي بعدهما، نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسول ، وتخلفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر، وعرض بعضهم على الفتنة فافتتن ، وشهد مع المشركين حرب المسلمين ، فأبى الله قبول معذرتهم التي اعتذروا بها، التي بينها في قوله خبراً عنهم : "قالوا كنا مستضعفين في الأرض".
ذكر الأخبار الواردة بصحة ما ذكرنا ، من نزول الآية في الذين ذكرنا أنها نزلت فيهم:
حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا أشعث ، عن عكرمة : "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، قال : كان ناس من أهل مكة أسلموا، فمن مات منهم بها هلك ، قال الله : "فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان" إلى قوله : "عفوا غفورا"، قال ابن عباس : فأنا منهم ، وأمي منهم ، قال عكرمة: وكان العباس منهم.
حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال ، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال ، حدثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ، وأكرهوا! فاستغفروا لهم ، فنزلت : "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم" الآية، قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، لا عذر لهم. قال : فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت في : "ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله" [العنكبوت:10]، إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فحزنوا وأيسوا من كل خير، ثم نزل فيهم : "إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم" [النحل: 110]، فكتبوا إليهم بذلك : إن الله قد جعل لكم مخرجاً، فخرجوا فأدركهم المشركون ، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرنا حيوة أو: ابن لهيعة، الشك من يونس -، عن أبي الأسود: أنه سمع مولى لابن عباس يقول عن ابن عباس : إن ناساً مسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم يرمى به ، فيصيب أحدهم فيقتله ، أو يضرب فيقتل ، فأنزل الله فيهم : "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " حتى بلغ "فتهاجروا فيها".
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرىء قال ، أخبرنا حيوة قال، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي قال: قطع على أهل المدينة بعث إلى اليمن، فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباش، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناساً مسلمين كانوا مع المشركين، ثم ذكر مثل حديث يونس، عن ابن وهب.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، هم قوم تخلقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودبره.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم"، إلى قوله: "وساءت مصيرا"، قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود، وقيس بن الوليد بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف. قال: لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة، خرجوا معهم شباب كارهين، كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد، فقتلوا ببدر كفاراً، ورجعوا عن الإسلام، وهم هؤلاء الذين سميناهم. قال ابن جريج، وقال مجاهد: نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم بدر من الضعفاء من كفار قريش. قال ابن جريج، وقال عكرمة: لما نزل القرآن في هؤلاء النفر إلى قول، "وساءت مصيرا" "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، قال: يعني الشيخ الكبير والعجوز والجواري الصغار والغلمان.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله: "وساءت مصيرا"، قال: لما أسر العباس وعقل! ونوفل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابن أخيك. قال: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك ونشهد شهادتك ؟ قال: يا عباس، إنكم خاصمتم فخصمتم! ثم تلا هذه الآية: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا"، فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر، فهو كافر حتى يهاجر، إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، حيلة في المال، والسبيل الطريق. قال ابن عباس: كنت أنا منهم، من الولدان.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت عكرمة يقول: كان ناس بمكة قد شهدوا أن لا إله إلا الله، فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم معهم، فقتلوا، فنزلت فيهم: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قول: "أولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا"، شف بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين الذين بمكة. قال: نخرج ناس من المسلمين، حتى إذا كانوا ببعض الطريق طلبهم المشركون،فأدركوهم فمنهم من أعطى الفتنة؟ فأنزل الله فيهم: "ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله" [العنكبوت:10]. فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين بمكة، وأنزل الله في أولئك الذين أعطوا الفتنة: "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا"إلى "غفور رحيم" [النحل : 110].
قال ابن عيينة: أخبرني محمد بن إسحق في قوله: "إن الذين توفاهم الملائكة"، قال: هم خمسة فتية من قريش: علي بن أمية، وأبو قيس بن الفاكه، وزمعة بن الأسود، وأبو العاص بن منبه، ونسيت الخامس.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآية، حدثنا أن هذه الآية أنزلت في أناس تكلموا بالإسلام من أهل مكة، فخرجوا مع عدو الله أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، فاعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن يقبل منهم. وقول: "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، أناس من أهل مكة عذرهم الله فاستثناهم، فقال: "فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا"، قال: لم كان ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآية، قال: هم أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يخرجوا معه إلى المدينة، وخرجوا مح مشركي قريش إلى بدر، فأصيبوا يومئذ فيمن أصيب، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألته -يعني ابن زيد- عن قول الله: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" فقرأ حتى بلغ: "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، فقال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وظهر، ونبع الإيمان، نبع النفاق معه. فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال فقالوا: يا رسول الله، لولا أنا نخاف هؤلاء القوم يعذبوننا، ويفعلون ويفعلون، لأسلمنا، ولكنا نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله! فكانوا يقولون ذلك له. فلما كان يوم بدر، قام المشركون فقالوا: لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره واستبحنا ماله! فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبي صلى الله عليه وسلم سهم، فقتلت طائفة منهم وأسرت طائفة. قال: فأما الذين قتلوا، فهم الذين قال الله فيهم: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، الآية كلها، "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"، وتتركوا هؤلاء الذين يستضفونكم، "أولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا". قال: ثم عذر الله أهل الصدق فقال: "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيل"، يتوجهون له، لو خرجوا لهلكوا، "فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم"، إقامتهم بين ظهري المشركين. وقال الذين أسروا: يا رسول الله.إنك تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن إله إلا الله وأنك رسول الله، وأن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفاً! فقال الله: "يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً، يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم"، صنيعكم الذي صنعتم بخروجكم مع المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم، "وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل" خرجوا مع المشركين "فأمكن منهم والله عليم حكيم" [الأنفال:70 ، 71 ].
حدثني محمد بن خالد بن خداش قال، حدثني أبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن ابن عباس أنه قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله: "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا".
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، قال ابن عباس: أنا من المستضعفين.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجبح، عن مجاهد في قوله: "ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم"، قال: من قتل من ضعفاء كفار قريش يوم بدر.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبى يزيد قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان.
حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن عبد الله أو: إبراهيم بن عبد الله القرشي - عن أبي هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر:! اللهم خلص الوليد، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيل".
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، قال: مؤمنون مستضعفون بمكة، فقال فيهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: هم بمنزلة هؤلاء الذين قتلوا ببدر ضعفاء مع كفار قريش. فأنزل الله فيهم: "لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، الآية.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبوحذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
وأما قوله: "لا يستطيعون حيلة"، فإن معناه كما:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة في قوله: "لا يستطيعون حيلة"، قال: نهوضاً إلى المدينة، "ولا يهتدون سبيلا"، طريقاً إلى ا لمدينة.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ولا يهتدون سبيلا"، طريقاً إلى المدينة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبوحذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: :الحيلة، المال، و السبيل، الطريق إلى المدينة.
وأما قوله: "إن الذين توفاهم الملائكة"، ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون "توفاهم" في موضع نصب، بمعنى المضي، لأن فعل منصوبة في كل حال.
والآخر: أن يكون في موضع رفع بمعنى الاستقبال، يراد به: إن الذين تتوفاهم الملائكة، فتكون إحدى التاءين من "توفاهم" محذوفة وهي مرادة في الكلمة، لأن العرب تفعل ذلك، إذا اجتمعت تاءان في أول الكلمة، ربما حذفت إحداهما وأثبتت الأخرى، وربما أثبتتهما جميعا.
قوله تعالى : " فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا " .
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرىء, حدثنا حيوة وغيره, قالا: حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود, قال: قطع على أهل المدينة بعث, فاكتتبت فيه, فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته, فنهاني عن ذلك أشد النهي, قال: أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم, فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل, فأنزل الله "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم", وراه الليث عن أبي الأسود. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي, حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري, حدثنا محمد بن شريك المكي, حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام, فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم, فأصيب بعضهم بفعل بعض. قال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم, فنزلت "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الاية. قال عكرمة: فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الاية لا عذر لهم. قال: فخرجوا, فلحقهم المشركون, فأعطوهم التقية, فنزلت هذه الاية "ومن الناس من يقول آمنا بالله" الاية. قال عكرمة: نزلت هذه الاية في شباب من قريش كانوا تكلموا بالإسلام بمكة منهم علي بن أمية بن خلف وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو العاص بن منبه بن الحجاج والحارث بن زمعة, قال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب, فنزلت هذه الاية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين, وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع, وبنص هذه الاية, حيث يقول تعالى: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" أي بترك الهجرة "قالوا فيم كنتم" أي لم مكثتم ها هنا وتركتم الهجرة "قالوا كنا مستضعفين في الأرض" أي لا نقدر على الخروج من البلد, ولا الذهاب في الأرض "قالوا ألم تكن أرض الله واسعة" الاية, وقال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان, حدثني يحيى بن حسان, أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود, حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب, حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة, عن سمرة بن جندب, أما بعد, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله", وقال السدي: لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: "افد نفسك وابن أخيك" فقال: يا رسول الله, ألم نصل إلى قبلتك, ونشهد شهادتك, قال "يا عباس, إنكم خاصمتم فخصمتم", ثم تلا عليه هذه الاية "ألم تكن أرض الله واسعة" الاية, وراه ابن أبي حاتم.
وقوله: "إلا المستضعفين" إلى آخر الاية, هذه عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة, وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين, ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق, ولهذا قال: "لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً", قال مجاهد وعكرمة والسدي: يعني طريقاً.
وقوله تعالى: "فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم" أي يتجاوز من الله عنهم بترك الهجرة, عسى من الله موجبة, "وكان الله عفواً غفوراً", قال البخاري: حدثنا أبو نعيم, حدثنا شيبان عن يحيى, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال: سمع الله لمن حمده, ثم قال قبل أن يسجد "اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة, اللهم أنج سلمة بن هشام, اللهم أنج الوليد بن الوليد, اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين, اللهم اشدد وطأتك على مضر, اللهم اجعلها سنين كسني يوسف".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو معمر المقري, حدثني عبد الوارث, حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده بعد ما سلم وهو مستقبل القبلة, فقال: "اللهم خلص الوليد بن الوليد, وعياش بن أبي ربيعة, وسلمة بن هشام, وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً من أيدي الكفار". وقال ابن جرير: حدثنا المثنى, حدثنا حجاج, حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عبد الله أو إبراهيم بن عبد الله القرشي, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر "اللهم خلص الوليد, وسلمة بن هشام, وعياش بن أبي ربيعة وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا", ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه كما تقدم. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد, قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان. وقال البخاري: أنبأنا أبو النعمان, حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي مليكة, عن ابن عباس "إلا المستضعفين" قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز وجل.
وقوله: "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة", هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه, والمراغم مصدر تقول العرب: راغم فلان قومه مراغماً ومراغمة, قال النابغة بن جعدة:
كطود يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمهرب
وقال ابن عباس: المراغم التحول من أرض إلى أرض. وكذا روي عن الضحاك والربيع بن أنس والثوري. وقال مجاهد: "مراغماً كثيراً" يعني متزحزحاً عما يكره. وقال سفيان بن عيينة: مراغماً كثيراً يعني بروجاً, والظاهر ـ والله أعلم ـ أنه المنع الذي يتحصن به ويراغم به الأعداء. قوله "وسعة" يعني الرزق, قاله غير واحد منهم قتادة حيث قال: في قوله: " يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة " أي من الضلالة إلى الهدى, ومن القلة إلى الغنى, وقوله: "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله" أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر, كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي, عن علقمة بن وقاص الليثي, عن عمر بن الخطاب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها, أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال. ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً, ثم أكمل بذلك العابد المائة ثم سأل عالماً: هل له من توبة ؟ فقال له, ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه. فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الاخر أدركه الموت في أثناء الطريق, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فقال هؤلاء: إنه جاء تائباً, وقال هؤلاء إنه لم يصل بعد, فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها, فأمر الله هذه أن تقترب من هذه, وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر, فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية أنه لما جاءه الموت ناء بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم, عن محمد بن عبد الله بن عتيك, عن أبيه عبد الله بن عتيك, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله, ثم قال: ـ وأين المجاهدون في سبيل الله ـ فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله, أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله, أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله ـ يعني بحتف أنفه على فراشه, والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ومن قتل قعصاً فقد استوجب الجنة". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي, حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الخزامي, عن المنذر بن عبدالله عن هشام بن عروة عن أبيه, أن الزبير بن العوام قال: هاجر خالد بن حزام إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات فنزلت فيه "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً", قال الزبير, فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة, فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغتني, لأنه قل أحد ممن هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله, أو ذوي رحمه, ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى, ولا أرجو غيره, وهذا الأثر غريب جداً, فإن هذه القصة مكية, ونزول هذه الاية مدنية, فلعله أراد أنها أنزلت تعم حكمه مع غيره وإن لم يكن ذلك سبب النزول, والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر, حدثنا سهل بن عثمان, حدثنا عبد الرحمن بن سليمان, حدثنا أشعث هو ابن سوار, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما, قال: خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله" الاية, وحدثنا أبي, حدثنا عبدالله بن رجاء, أنبأنا إسرائيل عن سالم, عن سعيد بن جبير, عن أبي ضمرة بن العيص الزرقي الذي كان مصاب البصر وكان بمكة, فلما نزلت "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة" فقلت: إني لغني, وإني لذو حيلة, فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتنعيم, فنزلت هذه الاية "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت" الاية.
وقال الطبراني: حدثنا الحسن بن عروبة البصري, حدثنا حيوة بن شريح الحمصي حدثنا بقية بن الوليد, حدثنا ابن ثوبان عن أبيه, حدثنا مكحول عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري, أنبأنا أبو مالك, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قال: من انتدب خارجاً في سبيلي غازياً ابتغاء وجهي, وتصديق وعدي, وإيماناً برسلي فهو في ضمان على الله, إما أن يتوفاه بالجيش فيدخله الجنة, وإما أن يرجع في ضمان الله, وإن طالب عبداً فنغصه حتى يرده إلى أهله مع ما نال من أجر, أو غنيمة, ونال من فضل الله فمات, أو قتل, أو رفصته فرسه, أو بعيره, أو لدغته هامة, أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله, فهو شهيد". وروى أبو داود من حديث بقية من فضل الله إلى آخره, وزاد بعد قوله: فهو شهيد, وإن له الجنة. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان, حدثنا أبو معاوية, حدثنا محمد بن إسحاق عن حميد بن أبي حميد, عن عطاء بن يزيد الليثي, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج حاجاً فمات, كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة, ومن خرج معتمراً فمات, كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة, ومن خرج غازياً في سبيل الله فمات, كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة". وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
99- "فأولئك" إشارة إلى المستضعفين الموصوفين بما ذكر "عسى الله أن يعفو عنهم" وجيء بكلمة الإطماع لتأكيد أمر الهجرة، حتى يظن أن تركها ممن لا تجب عليه يكون ذنباً يجب طلب العفو عنه.
99-"فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم" ، يتجاوزا عنهم ، وعسى من الله واجب ، لأنه للإطماع ، والله تعالى إذا أطمع عبداً وصله إليه،"وكان الله عفواً غفوراً" قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت أنا وأمي ممن عذر الله ، يعني من المستضعفين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين في الصلاة.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا معاذ بن فضالة أنا هشام عن يحيى هو ابن أبي كثير عن أبي سلمة عن ابي هريرة رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد في الركعة الآخرة من صلاة العشاء قنت اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج الوليد اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف".
99" فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم " ذكر بكلمة الإطماع ولفظ العفو إيذاناً بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر من حقه أن لا يأمن ويترصد الفرصة ويعلق بها قلبه. " وكان الله عفوا غفورا ".
99. As for such, it may be that Allah will pardon them. Allah is ever Clement, Forgiving.
99 - For these, there is hope that God will forgive: for God doth blot out (sins) and forgive again and again.