[النساء : 140] وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا
(وقد نَزَّل) بالبناء للفاعل والمفعول (عليكم في الكتاب) القرآن في سورة الأنعام (أن) مخففة واسمها محذوف أي أنه (إذا سمعتم آيات الله) القرآن (يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم) أي الكافرين والمستهزئين (حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا) إن قعدتم معهم (مثلهم) في الإثم (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا) كما اجتمعوا في الدنيا على الكفر والاستهزاء
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : "بشر المنافقين"، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، "وقد نزل عليكم في الكتاب"، يقول : أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار أنصاراً وأولياء بعد ما نزل عليهم من القرآن ، "أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره"، يعني: بعد ما علموا نهي الله عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج الله وآي كتابه ويستهزئون بها -"حتى يخوضوا في حديث غيره"، يعني بقوله : "يخوضوا"، يتحدثوا حديثاً غيره ، "بأن لهم عذابا أليما".
وقوله : "إنكم إذا مثلهم"، يعني : وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزىء بها وأنتم تسمعون ، فأنتم مثله ، يعني : فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال ، مثلهم في فعلهم ، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله. فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي م توه منها، فانتم إذا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه.
وفي هذه الآية، الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع ، من المبتدعة والفسقة، عند خوضهم في باطلهم.
وبنحو ذلك كان جماعة من الأئمة الماضين يقولون ، تأولاً منهم هذه الآية أنه مراد بها النهي عن مشاهدة كل باطل عند خوض أهله فيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبي وائل ، قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكذب ليضحك بها جلساءه ، فيسخط الله عليهم. قال : فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي ، فقال : صدق أبو وائل ، أو ليس ذلك في كتاب الله: "أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم"؟
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن العلاء بن المنهال ، عن هشام بن عروة قال : أخذ عمر بن عبد العزيز قوماً على شراب فضربهم ، وفيهم صائم ، فقالوا: إن هذا صائم! فتلا: "فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم".
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها"، وقوله : "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" [الأنعام : 53]، وقوله : "أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" [الشورى : 13]، ونحو هذا من القرآن. قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم : إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله.
وقوله : "إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا"، يقول : إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار، فموفق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه، كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين ، وتوازروا على التخذيل عن دين الله- وعن الذي ارتضاه وأمر به - وأهله.
واختلفت القرأة في قراءة قوله : "وقد نزل عليكم في الكتاب".
فقرأ ذلك عامة القرأة بضم النون وتثقيل الزاي وتشديدها، على وجه ما لم يسم فاعله.
وقرأ بعض الكوفيين بفتح النون وتشديد الزاي، على معنى: وقد نزل الله عليكم. وقرأ بعض المكيين : وقد نزل عليكم ، بفتح النون، وتخفيف الزاي، بمعنى : وقد جاءكم من الله أن إذا سمعتم.
قال أبو جعفر: وليس في هذه القراآت الثلاث وجه يبعد معناه مما يحتمله الكلام. غير أن الذي أختار القراءة به ، قراءة من قرأ : وقد نزل بضم النون وتشديد الزاي، على وجه ما لم يسم فاعله. لأن معنى الكلام فيه التقديم على ما وصفت قبل ، على معنى : "الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، "وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها" إلى قوله : "حديث غيره"، "أيبتغون عندهم العزة". فقوله : "فإن العزة لله جميعا"، يعني التأخير، فلذلك كان ضم (النون) من قوله: نزل أصوب عندنا في هذا الموضع.
وكذلك اختلفوا في قراءة قوله : "والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل".
فقرأه بفتح "نزل" و "أنزل" أكثر القرأة، بمعنى: والكتاب الذي نزل الله على رسوله ، والكتاب الذي أنزل من قبل.
وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة بضمه في الحرفين كليهما، بمعنى ما لم يسم فاعله. وهما متقاربتا المعنى. غير أن الفتح في ذلك أعجب إلي من الضم، لأن ذكر الله قد جرى قبل ذلك في قوله: "آمنوا بالله ورسوله".
قوله تعالى :" وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها " الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من محق ومنافق، لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله فالمنزل قوله تعالى :" وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره " [ الأنعام :68] وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن وقرأ عاصم ويعقوب وقد نزل بفتح النون والزاي وشدها لتقدم اسم الله جل جلالة في قوله تعالى : " فإن العزة لله جميعا" وقرأ حميد كذلك إلا أنه خفف الزاي الباقون نزل غير مسمى الفاعل " أن إذا سمعتم آيات الله " موضع " أن إذا سمعتم " على قراءة عاصم ويعقوب نصب بوقوع الفعل عليه وفي قراءة الباقين رفع لكونه اسم ما لم يسم فاعله " يكفر بها " أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله فأوقع السماع الآيات والمراد سماع الكفر والاستهزاء كما تقول سمعت عبد الله يلام ، أي سمعت اللوم في عبد الله .
قوله تعالى:" فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره " أي غير الكفر " إنكم إذا مثلهم " فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم والرضا بالكفر كفر قال الله عز وجل ، " إنكم إذا مثلهم "فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سوءا وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه أخذ قوماً يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية " إنكم إذا مثلهم " أي إن الرضا بالمعصية معصية ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة كما قال:
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقد تقدم وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى وقال الكلبي: قوله تعالى : " فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره " نسخ بقوله تعالى :" وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء " [ الأنعام : 69] وقال عامة المفسرين: هي محكمة وروي جويبر عن الضحاك قال : دخل في هذه الآية كل محدث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة .
قوله تعالى :" إن الله جامع المنافقين " الأصل جامع بالتنوين فحذف استخفافاً فإنه بمعنى يجمع " الذين يتربصون بكم " يعنى المنافقين أي ينتظرون بكم الدوائر " فإن كان لكم فتح من الله " أي غلبة على اليهود وغنيمة " قالوا ألم نكن معكم " أي أعطونا من الغنيمة " وإن كان للكافرين نصيب " أي ظفر " قالوا ألم نستحوذ عليكم " أي ألم نغلب عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم يقال: استحوذ على كذا أي غلب عليه ومنه قوله تعالى :" استحوذ عليهم الشيطان " [ المجادلة :19] وقيل: أصل الاستحوذ الحوط حاذه يحوذه حوذاً إذا حاطه وهذا الفعل جاء على الأصل ولو أعل لكان ألم نستحذ والفعل على الإعلال استحاذ يستحيذ وعلى غير الأعلال استحوذ يستحوذ " ونمنعكم من المؤمنين " أي بتخذيلنا إياهم عنكم، وتفريقنا إياهم مما يريدونه منكم والآية تدل على أن المنافقين كانوا يخرجون فالغزوات مع المسلمين ولهذا قاولا: ألم نكن معكم وتدل على أنهم كانوا لا يعطونهم الغنيمة ولهذا طلبوها، وقالوا: ألم نكن معكم! ويحتمل أن يريدون بقولهم " ألم نكن معكم " الامتنان على المسلمين أي كنا نعلمكم بأخبارهم وكنا أنصاراً لكم .
فيه ثلاث مسائل:
الأولى- قوله تعالى :" ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا" للعلماء فيه تأويلات خمسة : أحدها- ما روي عن يسيع الحضرمي قال: من عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له رجل يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله :" ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " كيف ذلك وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحياناً فقال علي رضي الله عنه : معنى ذلك يوم القيامة يوم الحكم وكذا قال ابن عباس: ذاك يوم القيامة قال ابن عطية: وبهذا قال جميع أهل التأويل قال ابن العربي: وهذا ضعيف : لعدم فائدة الخبر فيه، وإن أوهم صدر الكلام معناه لقوله تعالى :" فالله يحكم بينكم يوم القيامة " فأخر الحكم إلى يوم القيامة، وجعل الأمر في الدنيا دولا تغلب الكفار تارة وتغلب أخرى بما رأى من الحكمة وسبق من الكلمة ثم قال:" ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " فتوهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله، وذلك يسقط فائدته إذ يكون تكراراً .
الثاني- إن الله لا يجعل لهم سبيلاً يمحو به دولة المؤمنين ويذهب آثارهم ويستبيح بنيضتهم كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذ قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليه عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليه من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً"
الثالث- إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً منه إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر، ويتقاعدوا من التوبة فيكون تسليط العدو من قبلهم كما قال تعالى :" وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " [ الشورى :30] قال ابن العربي: وهذا نفيس جداً .
قلت: ويدل عليه "قوله عليه السلام في حديث ثوبان حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً" وذلك أن حتى غاية فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض، وسبي بعضهم لبعض ، وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين فغلظت شوكة الكافرين واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا قلة، فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه ونصره ولطفه .
الرابع - إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً شرعاً، فإن وجد فبخلاف الشرع .
الخامس- " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " أي حجة عقلية ولا شرعية يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت .
الثانية - ابن العربي: ونزع علماؤنا بهذه الآية في الاحتجاج على أن الكافر لا يملك العبد المسلم وبه قال أشهب والشافعي: لأن الله سبحانه نفى السبيل للكافر عليه والملك بالشراء سبيل، فلا يشرع له ولا ينعقد بذلك وقال ابن القاسم عن مالك وهو قول أبي حنيفة: إن معنى " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " في دوام الملك لأنا نجد الابتداء يكون له عليه وذلك بالإرث، وصورته أن يسلم عبد كافر في يد كافر فيلزم القضاء عليه ببيعه ، فقبل الحكم عليه ببيعه مات، فيرث العبد المسلم وارث الكافر فهذه سبيل قد ثبت قهراً لا قصد فيه ، وأن ملك الشراء ثبت بقصد النية فقد أراد الكافر تملكه باختياره فإن حكم بعقد بيعه وثبوت ملكه فقد حقق فيه قصده وجعل له سبيل عليه. قال أبو عمر: وقد أجمع المسلمون على أن عتق النصراني أو اليهودي لعبده المسلم صيح نافذ عليه وأجمعوا أنه إذا أسلم عبد الكافر فبيع عليه أن ثمنه يدفع إليه فدل على أنه على ملكه بيع وعلى ملكه ثبت العتق له إلا أنه لا ملك غير مستقر لوجوب بيعه عليه وذلك والله أعلم لقول الله عز وجل : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " يريد الاسترقاق والملك والعبودية ملكاً مستقراً دائماً .
واختلف العلماء في شراء العبد الكافر العبد المسلم على قولين : أحدهما- البيع مفسوخ والثاني - البيع صحيح ويباح على المشتري .
الثالثة - واختلف العلماء أيضاً من هذا الباب في رجل نصراني دبر عبداً له نصرانياً فأسلم العبد فقال مالك والشافعي في أحد قوليه: يحال بينه وبين العبد ويخارج على سيده النصراني ولا يباع عليه حتى يبين أمره فإن هلك النصراني وعليه دين قضي دينه من ثم المعبد المدبر إلا أن يكون في ماله ما يحمل المدبر فيعتق المدبر وقال الشافعي في القول الآخر: إنه يباع عليه ساعة أسلم ، واختار المزني، لأن المدبر وصية ولا يجوز ترك مسلم في ملك مشرك يذله ويخارجه وقد صار بالإسلام عدواً له وقال الليث بن سعد يباع النصراني من مسلم فيعتقه ويكون ولاؤه للذي اشتراه وأعتقه ويدفع إلى النصراني ثمنه، وقال سفيان والكوفيون: إذا أسلم مدبر النصراني قوم قيمته فيسعى في قيمته فإن مات النصراني قبل أن يفرغ المدبر من سعايته عتق العبد وبطلت السعاية .

يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان, ثم رجع عنه, ثم عاد فيه, ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد حتى مات, فإنه لا توبة بعد موته ولا يغفر الله له ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقاً إلى الهدى, ولهذا قال: "لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً". قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبدة, حدثنا حفص بن جميع عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله تعالى: "ثم ازدادوا كفراً" قال: تمادوا على كفرهم حتى ماتوا, وكذا قال مجاهد. وروى ابن أبي حاتم من طريق جابر المعلى عن عامر الشعبي, عن علي رضي الله عنه, أنه قال: يستتاب المرتد ثلاثاً, ثم تلا هذه الاية "إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً", ثم قال: "بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً" يعني أن المنافقين من هذه الصفة, فإنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم, ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين, بمعنى أنهم معهم في الحقيقة يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة, ويقولون لهم إذا خلوا بهم: إنما نحن معكم, إنما نحن مستهزئون, أي بالمؤمنين, في إظهارنا لهم الموافقة, قال الله تعالى منكراً عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين "أيبتغون عندهم العزة", ثم أخبر الله تعالى بأن العزة كلها له وحده لا شريك له ولمن جعلها له, كما قال تعالى في الاية الأخرى "من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً". وقال تعالى: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون", والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله والإقبال على عبوديته والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا, ويوم يقوم الأشهاد, ويناسب هنا أن نذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد, حدثنا أبو بكر بن عياش بن حميد الكندي, عن عبادة بن نسيء, عن أبي ريحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزاً وفخراً, فهو عاشرهم في النار" تفرد به أحمد, وأبو ريحانة هذا هو أزدي, ويقال أنصاري, واسمه شمعون, بالمعجمة, فيما قاله البخاري, وقال غيره: بالمهملة, والله أعلم.
وقوله: "وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم", أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها وأقررتموهم على ذلك, فقد شاركتموهم في الذي هم فيه, فلهذا قال تعالى: "إنكم إذاً مثلهم" في المأثم, كما جاء في الحديث "من كان يؤمن بالله واليوم الاخر, فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر" والذي أحيل عليه في هذه الاية من النهي في ذلك هو قوله تعالى في سورة الأنعام, وهي مكية "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم" الاية, قال مقاتل بن حيان: نسخت هذه الاية التي في سورة الأنعام, يعني نسخ قوله: " إنكم إذا مثلهم " لقوله " وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون ". وقوله: "إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً" أي كما أشركوهم في الكفر كذلك يشارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم أبداً ويجمع بينهم في دار العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغسلين لا الزلال.
140- "وقد نزل عليكم في الكتاب" الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق، لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزله الله، وقيل: إنه خطاب للمنافقين فقط كما يفيده التشديد والتوبيخ. وقرأ عاصم ويعقوب "نزل" بفتح النون والزاي وتشديدها، وفاعله ضمير راجع إلى اسم الله تعالى في قوله "فإن العزة لله جميعاً" وقرأ حميد بتخفيف الزاي مفتوحة مع فتح النون، وقرأ الباقون بضم النون مع كسر الزاي مشددة على البناء للمجهول. وقوله "أن إذا سمعتم آيات الله" في محل نصب على القراءة الأولى على أنه مفعول نزل. وفي محل رفع على القراءة الثانية على أنه فاعل، وفي محل رفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله على القراءة الثالثة. وأن هي المخففة من الثقيلة، والتقدير أنه إذا سمعتم آيات الله. والكتاب: هو القرآن. وقوله "يكفر بها ويستهزأ بها" حالان: أي إذا سمعتم الكفر والاتسهزاء بآيات الله فأوقع السماع على الآيات والمراد سماع الكفر والاستهزاء. وقوله "فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره" أي: أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع للكفر والاستهزاء بآيات الله لا تقعدوا معهم ما داموا كذلك حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها. والذي أنزل الله عليهم الكتاب هو قوله تعالى "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره" وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن واستهزائهم به فنهوا عن ذلك.
وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية، كما يقع كثيراً من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ولم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا كذا، وقال فلان من أتباعه بكذا، وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ولم يرفعوا إلى ما قاله رأساً ولا بالوا به بالة وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل، مقدماً على الله وعلى كتابه وعلى رسوله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم، فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة بـ[القول المفيد في حكم التقليد] وفي مؤلفنا المسمى بـ[أدب الطلب ومنتهى الأرب] اللهم انفعنا بما علمتنا واجعلنا من المقتدين بالكتاب والسنة وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار، يا مجيب السائلين.
قوله "إنكم إذا مثلهم" تعليل للنهي: أي إنكم إن فعلتم ذلك ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر. قيل: وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل:
وكل قرين بالمقارن يقتدي
وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم إلا ما يروى عن الكلبي فإنه قال: هي منسوخة بقوله تعالى "وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء" وهو مردود فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها. قوله "إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً" هذا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر، قيل: وهم القاعدون والمقعود إليهم عند من جعل الخطاب موجهاً إلى المنافقين.
140-"وقد نزل عليكم في الكتاب" ، قرأ عاصم ويعقوب"نزل" بفتح النول والزاي:أي: نزل الله ، وقرأ الآخرون "نزل"بضم النون وكسر الزاي،أي: عليكم يا معشر المسلمين،"أن إذا سمعتم آيات الله"يعني القرآن،"يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم"، يعني : مع الذين يستهزؤون ، "حتى يخوضوا في حديث غيره"،أي: يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وهذا إشارة إلى ما انزل الله في سورة الأنعام "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره"(الأنعام-68).
وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع الى يوم القيامة،"إنكم إذا مثلهم"،أي:إن قعدتم عندهم وهم يخوضون ويستهزؤون ورضيتم به فانتم فار مثلهم ،وإن خاضوا في حديث غيره فلا بأس بالقعود معهم مع الكراهة ، وقال الحسن : لا يجوز القعود معهم وإن خاضوا في حديث غيره، لقوله تعالى:"وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين"، والأكثرون على الأول ،وآية الأنعام مكية وهذه مدنية والمتأخر أولى :"إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً".
140" وقد نزل عليكم في الكتاب " يعني القرآن. وقرأ عاصم "نزل" وقرأ الباقون "نزل" على البناء للمفعول والقائم مقام فاعله. "أن إذا سمعتم آيات الله" وهي المخففة والمعنى أنه إذا سمعتم. "يكفر بها ويستهزأ بها" حالان من الآيات جيء بهما لتقييد النهي عن المجالسة في قوله: " فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره " الذي هو جزاء الشرط بما إذا كان من يجالسه هازئاً معانداً غير مرجو، ويؤيده الغاية. وهذا تذكار لما نزل عليهم بمكة من قوله: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم" الآية. والضمير في معهم للكفرة المدلول عليهم بقوله يكفر بها ويستهزأ بها. " إنكم إذا مثلهم " في الإثم لأنكم قادرون على الاعراض عنهم والانكار عليهم، أو الكفر إن رضيتم بذلك، أو لأن الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار كانوا منافقين، ويدل عليه: " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " يعني القاعدين والمقعود معهم، وإذاً ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر، ولذلك لم يذكر بعدها الفعل وإفراد مثلهم، لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع. وقرئ بالفتح على البناء لإضافته إلى مبني كقوله تعالى: "مثل ما أنكم تنطقون".
140. He hath already revealed unto you in the Scripture that, when ye hear the revelations of Allah rejected and derided, (ye) sit not with them (who disbelieve and mock) until they engage in some other conversation. Lo ! in that case (if ye stayed) ye would be like unto them. Lo! Allah will gather hypocrites and disbelievers, all together, into hell;
140 - Already has he sent you word in the book, that when ye hear the signs of God held in defiance and ridicule, ye are not to sit with them unless they turn to a different theme: if ye did, ye would be like them. for God will collect the hypocrites and those who defy faith all in hell;