[النساء : 14] وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ
(ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله) بالوجهين (ناراً خالداً فيها وله) فيها (عذاب مهين) ذو إهانة روعي في الضمائر في الآيتين لفظ {من} وفي {خالدين} معناها
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : "ومن يعص الله ورسوله" في العمل بما أمراه به من قسمة المواريث على ما أمراه بقسمة ذلك بينهم وغير ذلك من فرائض الله ، مخالفاً أمرهما إلى ما نهياه عنه ، "ويتعد حدوده"، يقول : ويتجاوز فصول طاعته التي جعلها تعالى فاصلة بينها وبين معصيته ، إلى ما نهاه عنه من قسمة تركات موتاهم بين ورثتهم وغير ذلك من حدوده ، "يدخله نارا خالدا فيها"، يقول : باقياً فيها أبداً لا يموت ولا يخرج منها أبداً، "وله عذاب مهين"، يعني : وله عذاب مذل من عذب به مخز له.
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده"، الآية، في شأن المواريث التي ذكر قبل . قال ابن جريج : "ومن يعص الله ورسوله"، قال : من أصاب من الذنوب ما يعذب الله عليه.
فإن قال قائل : أومخلد في النار من عصى الله ورسوله في قسمة المواريث ؟
قيل : نعم ، إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين ، أو علم ذلك فحاد الله ورسوله في أمرهما، على ما ذكر ابن عباس من قول من قال حين نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى : "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين" إلى تمام الآيتين : أيورث من لا يركب الفرس ولا يقاتل العدو ولا يحوز الغنيمة، نصف المال أو جميع المال ؟ استنكاراً منهم قسمة الله ما قسم من ميراث أهل الميراث بينهم على ما قسمه في كتابه ، وخالف حكمه في ذلك وحكم رسوله ، استنكاراً منه حكمهما، كما استنكره الذين ذكر أمرهم ابن عباس ممن كان بين أظهر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين الذين فيهم نزلت وفي أشكالهم هذه الآية، فهو من أهل الخلود في النار، لأنه باستنكاره حكم الله في تلك ، يصير بالله كافراً، ومن ملة الإسلام خارجاً.
وقوله : " ومن يعص الله ورسوله " يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها " ويتعد حدوده" أي يخالف أمره " يدخله نارا خالدا فيها" والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدة ما كما تقول: خلد الله ملكه وقال زهير :
ولا خالداً إلا لجبال الرواسيا
وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع. وقرأ نافع وابن عامر ندخله بالنون في الموضعين، على معنى الإضافة إلى نفسه سبحانه. الباقون بالياء كلاهما، لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى أي يدخله الله
أي هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه, هي حدود الله, فلا تعتدوها ولا تجاوزوها, ولهذا قال "ومن يطع الله ورسوله" أي فيها فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضها بحيلة ووسيلة, بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته " يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين " أي لكونه غير ما حكم الله به وضاد الله في حكمه, وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به, ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن أيوب عن أشعث بن عبد الله, عن شهر بن حوشب, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة, فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم بشر عمله فيدخل النار, وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة, فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة" قال: ثم يقول أبو هريرة, اقرؤوا إن شئتم " تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين " قال أبو داود في باب الإضرار في الوصية من سننه: حدثنا عبدة بن عبد الله, أخبرنا عبد الصمد, حدثنا نصر بن علي الحداني, حدثنا الأشعث بن عبد الله بن جابر الحداني, حدثني شهر بن حوشب أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت, فيضاران في الوصية, فتجب لهما النار" وقال قرأ علي أبو هريرة من ههنا " من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم * تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم " وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عبد الله بن جابر الحداني به, وقال الترمذي: حسن غريب, وسياق الإمام أحمد أتم وأكمل.
وهكذا قوله 14- "ومن يعص الله ورسوله" قرأ نافع وابن عامر "ندخله" بالنون. وقرأ الباقون بالياء التحتية. قوله "وله عذاب مهين" أي: وله بعد إدخاله النار عذاب لا يعرف كنهه.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت. وقد قدمنا أن سبب النزول سؤال امرأة سعد بن الربيع. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال. فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها أم كحة وترك خمس جوار، فأخذ الورثة ماله، فشكت ذلك أم كحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية "فإن كن نساء فوق اثنتين" ثم قال في أم كحة: "ولهن الربع مما تركتم". وأخرج سعيد بن منصور والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود قال: كان عمر بن الخطاب إذا سلك بنا طريقاً فاتبعناه وجدناه سهلاً، وأنه سئل عن امرأة وأبوين فقال للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن زيد بن ثابت نحوه. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال: إن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث. قال الله "فإن كان له إخوة" والأخوان ليسا بلسان قومك إخوة، فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتواريث به الناس. وأخرج الحاكم والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت أنه قال: إن العرب تسمي الأخوين إخوة. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الجارود والدارقطني والبيهقي في سننه عن علي قال: إنكم تقرأون هذه الآية "من بعد وصية يوصي بها أو دين" وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وأن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً" يقول: أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة عند الله يوم القيامة، لأن الله سبحانه شفع للمؤمنين بعضهم في بعض. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله "أقرب لكم نفعاً" قال: في الدنيا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والدارمي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يقرأ " وله أخ أو أخت ". وأخرج البيهقي عن الشعبي قال: ما ورث أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الإخوة من الأم مع الجد شيئاً قط. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: قضى عمر أن ميراث الأخوة لأم بينهم للذكر مثل الأنثى، قال: ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علمه من رسول الله، ولهذه الآية التي قال الله "فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال: الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم قرأ "غير مضار". وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عنه مرفوعاً. وفي إسناده عمر بن المغيرة أبو حفص المصيصي. قال أبو القاسم بن عساكر: ويعرف بمفتي المساكين، وروى عنه غير واحد من الأئمة، قال فيه أبو حاتم الرازي: هو شيخ. قال: وعلي بن المديني: هو مجهول لا أعرفه. قال ابن جرير: والصحيح الموقوف انتهى. ورجال إسناد هذا الموقوف رجال الصحيح، فإن النسائي رواه في سننه عن علي بن حجر عن علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن عكرمة عنه. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه واللفظ له والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعون سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة" ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم "تلك حدود الله" إلى قوله "عذاب مهين" وفي إسناده شهر بن حوشب، وفيه مقال معروف. وأخرج ابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قطع ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة". وأخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة مرفوعاً. وأخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور عن سليمان بن موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه يعوده في مرضه فقال: إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بالثلثين؟ فقال: لا، قال: فالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس". وأخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال: إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم: يعني الوصية. وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث كثير". وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: ذكر عند عمر الثلث في الوصية فقال: الثلث وسط لا بخس ولا شطط. وأخرج ابن أبي شيبة عن علي قال: لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث، ومن أوصى بالثلث لم يترك.
فائدة ورد في الترغيب في تعلم الفرائض وتعليمها ما أخرجه الحاكم والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض وعلموه الناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها". وأخرجاه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض وعلموه، فإنه نصف العلم، وإنه ينسى، وهو أول ما ينزع من أمتي". وقد روي عن عمر وابن مسعود وأنس آثار في الترغيب في الفرائض، وكذلك روي عن جماعة من التابعين ومن بعدهم.
14-"ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين"، /قرأ أهل المدينة وابن عامر ندخله جنات ، وندخله ناراً، وفي سورة الفتح(ندخله) و(نعذبه) وفي سورة التغابن (نكفر)و(ندخله)وفي سورة الطلاق (ندخله) بالنون فيهن ، وقرأ الآخرون بالياء.
14" ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين " توحيد الضمير في يدخله، وجمع " خالدين " للفظ والمعنى. وقرأ نافع و ابن عامر " ندخله " بالنون و " خالدين " حال مقدرة كقولك: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً، وكذلك خالداً وليستا صفتين لجنات وناراً وإلا لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له.
14. And whoso disobeyeth Allah and His messenger and transgresseth His limits, He will make him enter Fire, where such will dwell for ever; his will be a shameful doom.
14 - But those who disobey God and his apostle and transgress his limits will be admitted to a fire, to abide therein: and they shall have a humiliating punishment.