[ص : 76] قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
76 - (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)
"قال أنا خير منه خلقتني من نار" يقول جل ثناؤه : قال إبليس لربه : فعلت ذلك فلم أسجد للذي أمرتني بالسجود له لأني خير منه وكنت خيراً لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين والنار تأكل الطين وتحرقه ، فالنار خير منه ، يقول : لم أفعل ذلك استكباراً عليك ، ولا لأني كنت من العالين ولكني فعلته من أجل أني أشرف منه. وهذا تقريع من الله للمشركين الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأبوا الانقياد له، واتباع ما جاءهم به من عند الله استكباراً عن أن يكونوا تبعا لرجل منهم حين قالوا أأنزل عليه الذكر من بيننا وهل هذا إلا بشر مثلكم فقص عليهم تعالى ذكره قصة إبليس وإهلاكه باستكباره عن السجود لآدم بدعواه أنه خير منه ، من أجل أنه خلق من نار، وخلق آدم من طين ، حتى صار شيطاناً رجيماً، وحقت عليه من الله لعنته ، محذرهم بذلك أن يستحقوا باستكبارهم على محمد، وتكذيبهم إياه فيما جاءهم به من عند الله حسداً وتعظماً، من اللعن والسخط ما استحقه إبليس بتكبره عن السجود لآدم.
قوله تعالى : " قال أنا خير منه " قال الفراء : من العرب من يقول أنا أخير منه وأشر منه ، وهذا هو الأصل إلا أنه حذف لكثرة الاستعمال . " خلقتني من نار وخلقته من طين " فضل النار على الطين وهذا جهل منه ، لأن الجواهر متجانسة فقاس فأخطأ القياس . وقد مضى في < الأعراف > بيانه .
هذه القصة ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة البقرة وفي أول سورة الأعراف وفي سورة الحجر وسبحان والكهف وههنا وهي أن الله سبحانه وتعالى أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام بأنه سيخلق بشراً من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراماً وإعظاماً واحتراماً وامتثالاً لأمر الله عز وجل فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنساً. كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لادم وخاصم ربه عز وجل فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه, وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله تعالى وكفر بذلك فأبعده الله عز وجل وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه, وحضرة قدسه, وسماه إبليس إعلاماً له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموماً مدحوراً إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه. فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى
وقال: "فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين" كما قال عز وجل: " أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا " وهؤلاء هم المستثنون في الاية الأخرى وهي قوله تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلاً".
وقوله تبارك وتعالى: "قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين" قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع الحق الأول وفسره مجاهد بأن معناه أنا الحق والحق أقول, وفي رواية عنه: الحق مني وأقول الحق, وقرأ آخرون بنصبهما قال السدي هو قسم أقسم الله به (قلت) وهذه الاية كقوله تعالى: "ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" وكقوله عز وجل: "قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً".
قل مآ أسألكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين
يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجراً تعطونيه من عرض الحياة الدنيا "وما أنا من المتكلفين" أي وما أريد على ما أرسلني الله تعالى به ولا أبتغي زيادة عليه بل ما أمرت به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه, وإنما أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار الاخرة, قال سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق قال: أتينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم, الله أعلم, فإن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم: "قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين" أخرجاه من حديث الأعمش, به وقوله تعالى: "إن هو إلا ذكر للعالمين" يعني القرآن ذكر لجميع المكلفين به من الإنس والجن, قاله ابن عباس رضي الله عنهما, وروى ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي غسان مالك بن إسماعيل: حدثنا قيس عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "للعالمين" قال: الجن والإنس, وهذه الاية الكريمة كقوله تعالى: "لأنذركم به ومن بلغ" وكقوله عز وجل: "ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده" وقوله تعالى: "ولتعلمن نبأه" أي خبره وصدقه "بعد حين" أي عن قريب قال قتادة بعد الموت وقال عكرمة يعني يوم القيامة, ولا منافاة بين القولين فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة, وقال قتادة في قوله تعالى: "ولتعلمن نبأه بعد حين" قال الحسن يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
وجملة 76- "قال أنا خير منه" مستأنفة جواب سؤال مقدر، ادعى اللعين لنفسه أنه خير من آدم، وفي ضمن كلامه هذا أن سجود الفاضل للمفضول لا يحسن. ثم علل ما ادعاه من كونه خيراً منه بقوله: "خلقتني من نار وخلقته من طين" وفي زعمه أن عنصر النار أشرف من عنصر الطين، وذهب عنه أن النار إنما هي بمنزلة الخادم لعنصر الطين إن احتيج إليها استدعيت كما يستدعى الخادم وإن استغني عنها طردتن، وأيضاً فالطين يستولي على النار فيطفئها، وأيضاً فهي لا توجد إلا بما أصله من عنصر الأرض، وعلى كل حال فقد شرف آدم بشرف وكرم بكرامة لا يوازيها شيء من شرف العناصر، وذلك أن الله خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه، والجواهر في أنفسها متجانسة، وإنما تشرف بعارض من عوارضها.
76. " قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين "
76-" قال أنا خير منه " إبداء للمانع وقوله : " خلقتني من نار وخلقته من طين " دليل عليه وقد سبق الكلام فيه .
76. He said: I am better than him. Thou createdst me off fire, whilst him Thou didst create of clay.
76 - (Iblis) said: I am better than he: Thou createdst me from fire, and him thou createdst from clay.