[ص : 63] أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ
63 - (أتخذناهم سخريا) بضم السين وكسرها كنا نسخر بهم والياء للنسب أمفقودون هم (أم زاغت) مالت (عنهم الأبصار) فلم ترهم وهم فقراء المسلمين كعمار وبلال وصهيب وسلمان
وقوله "أتخذناهم سخريا" اختلفت القراء في قراءته ، فقرأته عامة قراء المدينة والشام وبعض قراء الكوفة "أتخذناهم سخريا" بفتح الألف من أتخذناهم ، وقطعها على وجه الاستفهام وقرأته عامة قراء الكوفة والبصرة، وبعض قراء مكة بوصل الألف من الأشرار اتخذناهم . وقد بينا فيما مضى قبل ، أن كل استفهام كان بمعنى التعجب والتوبيخ ، فإن العرب تستفهم فيه أحياناً، وتخرجه على وجه الخبر أحياناً.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بالوصل على غير وجه الاستفهام ، لتقدم الاستفهام قبل ذلك في قوله "ما لنا لا نرى رجالا كنا" فيصير قوله اتخذناهم بالخبر أولى وإن كان للاستفهام وجه مفهوم لما وصفت قبل من أنه بمعنى التعجب.
وإذ كان الصواب من القراءة في ذلك ما اخترنا لما وصفنا، فمعنى الكلام : وقال الطاغون : ما لنا لا نرى سلمان وبلالاً وخباباً الذين كنا نعدهم في الدنيا أشراراً، أتخذناهم فيها سخرياً نهزأ بهم فيها معنا اليوم في النار.
وكان بعض أهل العلم بالعربية من أهل البصرة يقول : من كسر السين من السخري ، فإنه يريد به الهزء يريد يسخر به ، ومن ضمها فإنه يجعله من السخرة، يستسخرونهم : يستذلونهم. أزاغت عنهم أبصارنا وهم معنا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال : ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد "أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار" يقول : أهم في النار لا نعرف مكانهم؟.
وحدثت عن المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك "وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار" قال : هم قوم كانوا يسخرون من محمد وأصحابه ، فانطلق به وبأصحابه إلى الجنة، وذهب بهم إلى النار فـ "قالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار * أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار" يقولون : أزاغت أبصارنا عنهم فلا ندري أين هم؟.
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم، قال : ثنا عيسى، وحدثني الحارث، نال : ثنا الحسن، قال : ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله "أتخذناهم سخريا" قال : أخطأناهم "أم زاغت عنهم الأبصار" ولا نراهم؟.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله "وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار" قال : فقدوا أهل الجنة "أتخذناهم سخريا" في الدنيا "أم زاغت عنهم الأبصار" وهم معنا في النار.
" أتخذناهم سخريا " قال مجاهد : أتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا " أم زاغت عنهم الأبصار " فلم نعلم مكانهم . قال الحسن : كل ذلك قد فعلوا ، اتخذوهم سخرياً ، وزاغت عنهم أبصارهم في الدنيا محقرة لهم . وقيل : معنى " أم زاغت عنهم الأبصار " أي أهم معنا في النار فلا نراهم . وكان ابن كثير و الأعمش و أبو عمرو و حمزة و الكسائي يقرؤون < من الأشرار اتخذناهم > بحذف الألف في الوصل . وكان أبو جعفر و شيبة و نافع و عاصم و ابن عامر يقرؤون < أتخذناهم > بقطع الألف على الاستفهام وسقطت ألف الوصل ، لأنه قد استغنى عنها ، فمن قرأ بحذف الألف لم يقف على < الأشرار > لأن < اتخذناهم > حال . وقال النحاس و السجستاني : هو نعت لرجال . قال ابن الأنباري : وهذا خطأ ، لأن النعت لا يكون ماضياً ولا مستقبلاً . ومن قرأ : < اتخذناهم > بقطع الألف وقف على < الأشرار > قال الفراء : والاستفهام هنا بمعنى التوبيخ والتعجب . < أم زاغت عنهم الأبصار > إذا قرأت بالاستفهام كانت أم للتسوية ، وإذا قرأت بغير الاستفهام فهي بمعنى بل . وقرأ أبو جعفر و نافع و شيبة و المفضل و هبيرة و يحيى و الأعمش و حمزة و الكسائي : < سخريا > بضم السين . الباقون بالكسر . قال أبو عبيدة : من كسر جعله من الهزء ومن ضم جعله من التسخير . وقد تقدم .
لما ذكر تبارك وتعالى مآل السعداء ثنى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم وحسابهم فقال عز وجل: "هذا وإن للطاغين" وهم الخارجون عن طاعة الله عز وجل المخالفون لرسل الله صلى الله عليه وسلم "لشر مآب" أي لسوء منقلب ومرجع. ثم فسره بقوله جل وعلا: "جهنم يصلونها" أي يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم "فبئس المهاد * هذا فليذوقوه حميم وغساق" أما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره, وأما الغساق فهو ضده وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم.
ولهذا قال عز وجل: "وآخر من شكله أزواج" أي وأشياء من هذا القبيل: الشيء وضده يعاقبون بها. قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أن دلواً من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا" ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دراج به ثم قال لا نعرفه إلا من حديث رشدين كذا قال وقد تقدم في غير حديثه, ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث به.
وقال كعب الأحبار: غساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع فيؤتى بالادمي فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه ويجر لحمه كله كما يجر الرجل ثوبه, رواه ابن أبي حاتم. وقال الحسن البصري في قوله تعالى: "وآخر من شكله أزواج" ألوان من العذاب, وقال غيره كالزمهرير والسموم وشرب الحميم وأكل الزقوم والصعود والهوي إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة المتضادة والجميع مما يعذبون به, ويهانون بسببه.
وقوله عز وجل: "هذا فوج مقتحم معكم لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار" هذا إخبار من الله تعالى عن قيل أهل النار بعضهم لبعض كما قال تعالى: "كلما دخلت أمة لعنت أختها" يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية "هذا فوج مقتحم" أي داخل "معكم لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار" أي لأنهم من أهل جهنم "قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم" أي فيقول لهم الداخلون "بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدمتموه لنا" أي أنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير "فبئس القرار" أي فبئس المنزل والمستقر والمصير "قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار" كما قال عز وجل: " قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " أي لكل منكم عذاب بحسبه " وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار * أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار " هذا إخبار عن الكفار في النار أنهم يفقدون رجالاً كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون في زعمهم قالوا مالنا لا نراهم معنا في النار. قال مجاهد: هذا قول أبي جهل يقول مالي لا أرى بلالاً وعماراً وصهيباً وفلاناً وفلاناً وهذا ضرب مثل وإلا فكل الكفار هذا حالهم يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار, فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم فقالوا " ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار * أتخذناهم سخريا " أي في الدار الدنيا " أم زاغت عنهم الأبصار " يسألون أنفسهم بالمحال يقولون أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم, فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله عز وجل: " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون * وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون * وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين * ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون " وقوله تعالى: "إن ذلك لحق تخاصم أهل النار" أي إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض ولعن بعضهم لبعض لحق لا مرية فيه ولا شك.
63- " أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار " قال مجاهد: المعنى اتخذناهم سخرياً في الدنيا فأخطأنا أم زاغت عنهم الأبصار فلم نعلم مكانهم؟ والإنكار المفهوم من الاستفهام متوجه إلى كل واحد من الأمرين. قال الحسن: كل ذلك قد فعلوا: اتخذوهم سخرياً، وزاغت عنهم الأبصار. قال الفراء: والاستفهام هنا بمعنى التوبيخ والتعجب. قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن كثير والأعمش بحذف همزة اتخذناهم في الوصل، وهذه القراءة تحتمل أن يكون الكلام خبراً محضاً، وتكون الجملة في محل نصب صفة ثانية لرجالاً، وأن يكون المراد الاستفهام، وحذفت أداته لدلالة أم عليها، فتكون أم على الوجه الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة: أي بل زاغت عنهم الأبصار على معنى توبيخ أنفسهم على الاستسخار، ثم الإضراب والانتقال منه إلى التوبيخ على الازدراء والتحقير، وعلى الثاني أم هي المتصلة. وقرأ الباقون بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل، ولا محل للجملة حينئذ وفيه التوبيخ لأنفسهم على الأمرين جميعاً لأن أم على هذه القراءة هي للتسوية. وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة والمفضل وهبيرة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي "سخرياً" بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها: قال ابو عبيدة: من كسر جعله من الهزء، ومن ضم جعله من التسخير.
63. فقالوا: " أتخذناهم سخرياً "، قرأ أهل البصرة، و حمزة ، و الكسائي : (( من الأشرار اتخذناهم ))، وصل ويكسرون الألاف عند الابتداء، وقرأ الآخرون بقطع الألاف وفتحها على الاستفهام.
قال أهل المعاني: القراءة الأولى أولى، لأنهم علموا أنهم اتخذوهم سخرياً فلا يستقيم الاستفهام، وتكون ((أم)) على هذه القراءة بمعنى ((بل))، ومن فتح الألف قال: هو على اللفظ لا على المعنى ليعادل ((أم)) في قوله: " أم زاغت عنهم الأبصار "، قال الفراء : هذا من الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتعجب، (( أم زاغت ))، أي: مالت، (( عنهم الأبصار ))، ومجاز الآية: ما لنا لا نرى هؤلاء الذيي اتخذناهم سخرياً لم يدخلوا معنا النار؟ أم دخلوها فزاغت عنهم أبصارنا، فلم نرهم حين دخلوها.
وقيل: أن هم في النار ولكن احتجبوا عن أبصارنا؟
وقال ابن كيسان : أم كانوا خيراً منا ولكن نحن لا نعلم، فكانت أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهم شيئاً.
63-" أتخذناهم سخرياً " صفة أخرى لـ" رجالاً " وقرأ الحجازيان و ابن عامر و عاصم بهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم ، وقرأ نافع و حمزة و الكسائي " سخرياً " بالضم وقد سبق مثله في المؤمنين . " أم زاغت " مالت . " عنهم الأبصار " فلا نراهم " أم " معادلة لـ" ما لنا لا نرى " على أن المراد نفي رؤيتهم لغيبتهم كأنهم قالوا : أليسوا ها هنا أم زاغت عنهم أبصارنا ، أو لاتخذناهم على القراءة الثانية بمعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم تحقيرهم ، فإن زيغ الأبصار كناية عنه على معنى إنكارهما على أنفسهم ، أو منقطعة والمراد الدلالة على أن استرذالهم والاستسخار منهم كان لزيغ أبصارهم وقصور أنظارهم على رثاثة حالهم .
63. Did we take them (wrongly) for a laughing stock, or have our eyes missed them?
63 - Did we treat them (as such) in ridicule, or have (our) eyes failed to preceive them?