[الصافات : 144] لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
144 - (للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة
"للبث في بطنه إلى يوم يبعثون" يقول : لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، يوم يبعث الله فيه خلقه ، محبوساً، ولكنه كان من الذاكرين الله قبل البلاء، فذكره الله في حال البلاء، فأنقذه ونجاه.
وقد اختلف أهل التأويل في وقت تسبيح يونس الذي ذكره الله به ، فقال "فلولا أنه كان من المسبحين" فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك ، وقالوا مثل قولنا في معنى قوله "من المسبحين".
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة "فلولا أنه كان من المسبحين" كان كثير الصلاة في الرخاء، فنجاه الله بذلك، قال : وقد كان يقال في الحكمة : أن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا ما عثر، فإذا صرع وجد متكئاً.
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية، عن بعض أصحابه ، عن قتادة، في قوله "فلولا أنه كان من المسبحين" قال : كان طويل الصلاة في الرخاء، قال ؟ وإن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا ضر، وإذا صرع وجد متكئاً.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا أبو صخر، أن يزيد الرقاشي ، حدثه ، قال : سمعت أنس بن مالك ، قال : ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم : أن يونس النبي حين بدا له أن يدعو الله بالكلمات حين ناداه وهو في بطن الحوت ، فقال : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فأقبلت الدعوة تحت العرش ، فقالت الملائكة : يا رب هذا صوت ضعيف معروف في بلاد غريبة، قال : أما تعرفون ذلك ؟ قالوا يا رب ومن هو؟ قال : ذلك عبدي يونس ، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة؟ قالوا : يا رب أو لا يرحم بما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال : بلى ، فأمر الحوت فطرحه بالعراء.
حدثنا ابن بشار، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس "فلولا أنه كان من المسبحين" قال : من المصلين.
حدثنا ابن بشار، قال : اثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير "فلولا أنه كان من المسبحين" قال: من المصلين.
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية "فلولا أنه كان من المسبحين" قال : كان له عمل صالح فيما خلا.
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله "من المسبحين" قال : المصلين.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا كثير بن هشام ، قال : ثنا جعفر، قال : ثنا ميمون بن مهران قال : سمعت الضحاك بن قيس يقول على منبره : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس كان عبداً لله ذاكراً، فلما أصابته الشدة دعا الله فقال الله : "فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون" فذكره الله بما كان منه ، وكان فرعون طاغياً باغياً فلما "أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين" [يونس : 90 - 91] قال الضحاك : فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة.
قال أبو جعفر: وقيل : إنما أحدث الصلاة التي أخبر الله عنه بها، فقال : "فلولا أنه كان من المسبحين" في بطن الحوت.
وقال بعضهم : كان ذلك تسبيحاً، لا صلاة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال : ثنا أبو داود، قال : ثنا عمران القطان ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله "فلولا أنه كان من المسبحين" قال : فوالله ما كانت إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت ؟ قال عمران : فذكرت ذلك لقتادة، فأنكر ذلك وقال : كان والله يكثر الصلاة في الرخاء.
حدثنا ابن حميد، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد ابن جبير: "فالتقمه الحوت وهو مليم" قال : قال "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" [الأنبياء : 87] فلما قالها ، قذفه الحوت ، وهو مغرب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله "للبث في بطنه إلى يوم يبعثون": فصار له بطن الحوت قبراً إلى يوم القيامة.
حدثنا ابن بشار، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك ، قال : لبث يونس في بطن الحوت أربعين يوماً.
"للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " أي عقوبة له ، أي يكون بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة . و اختلفت كم أقام في بطن الحوت . فقال السدي و الكلبي و مقاتل بن سليمان : أربعين يوماً .الضحاك :عشرون يوماً عطاء :سبعة أيام مقاتل بن حيان ثلاثة أيام . و قيل :ساعة واحدة . و الله أعلم .
الخامسة - " روى الطبري من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما اراد الله - تعالى ذكره - حبس يونس في بطن الحوت اوحى الله الى الحوت ان خذه و لا تحدش لحماً و لا تكسر عظماً فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه من البحر ، فلما إنتهى به إلى اسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه ما هذا ؟ فاوحى الله تبارك وتعالى إليه و هو في بطن الحوت : إن هذا تسبيح دواب البحر قال : فسبح وهو في بطن الحوت قال : فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة قال : ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر . قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال : نعم . فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت بقذفه في الساحل كما قال تعالى : " وهو سقيم " "وكان سقمه الذي وصفه به الله تعالى ذكره : انه ألقاه الحوت على الساحل كالصبي المنفوس قد نشر اللحم والعظم . وقد روى : أن الحوت سار مع سفينة رافعاً رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح ، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر ، فلفظه سالماً لم يتغير منه شيء فأسلموا ، ذكره الزمخشري في تفسيره وقال ابن العربي أخبرني غير واحد من أصحابنا عن إمام الحرمينأبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني : إنه سئل عن الباري في جهة ؟ فقال : لا ، وهو يتعالى عن ذلك . قيل له : ما الدليل عليه ؟ قال : " الدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا تفضلوني على يونس بن متى " فقيل : ما وجه الدليل في هذا الخبر ؟ فقال : لا أقوله حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها ديناً . فقام رجلان فقالا : هي علينا . فقال : لايتبع بها إثنين لأنه يشق عليه فقال واحد هي علي . فقال : إن يونس بن متى رمى بنفسه في البحر فالتقمه الحوت فسار في قعر البحر في ظلمات ثلاث ، ونادى " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " [ الأنبياء : 87 ] . كما أخبر الله عنه ، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم حين جلس على الرفوف الأخضر وارتقى به صعداً ، حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام فناجاه ربه بما ناجاه به وأوحى إليه ما أوحى - بأقرب إلى الله تعالى من يونس في بطن الحوت في ظلمة البحر .
السادسة - ذكر الطبري : إن يونس عليه السلام لم ركب في السفينة أصاب أهلها عاصف من الريح ، فقالوا : هذه بخطيئة أحدكم فقال يونس وعرف أنه صاحب الذنب هذه خطيئتي فألقوني في البحر وإنهم أبوا علي حتى أفاضوا بسهامهم " فساهم فكان من المدحضين " فقال لهم : قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي وأنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم الثانية فكان من المدحضين ، وإنهم أبوا أن يلقوه في البحر حتى أعادوا سهامهم الثالثة فكان من المدحضين فلما رأى ذلك ألقى نفسه في البحر ، وذلك تحت الليل فابتلعه الحوت فروى أنه لم ركب في السفينة تقنع ورقد فساروا غير بعيد إذ جاءتهم ريح كادت السفينة أن تغرق فاجتمع أهل السفينة فدعوا فقالوا : أيقظوا الرجل النائم يدعو معنا فدعى الله معهم فرفع الله عنهم تلك الريح . ثم انطلق يونس إلى مكانه فرقد ، فجاءت ريح كادت السفينة أن تغرق فأيقظوه ودعى الله فارتفعت الريح . قال : فبينما هم كذلك إذ رفع حوت عظيم رأسه إليهم أراد أن يبتلع السفينة ، قال لهم يونس : يا قوم ! هذا من أجلي ! فلو طرحتموني في البحر لسرتم ولذهب الريح عنكم والروع . قالوا لا نطرحك حتى نتساهم فمن وقعت عليه رميناه في البحر قال : فتساهموا فوقع على يونس ، قال لهم يا قوم اطرحوني ! فمن أجلي أوتيتم ، فقالوا : لا نفعل حتى نتساهم مرة أخرى ففعلوا فوقع على يونس فقال لهم : يا قوم اطرحوني ! فمن أجلي أوتيتم ، فذلك قول الله عز وجل : " فساهم فكان من المدحضين" أي وقع السهم عليه ، فانطلقوا به على صدر السفينة ليلقوه في البحر ، فإذا الحوت فاتح فاه ، ثم جاءوا به إلى جانب السفينة ، فإذا الحوت ، ثم رجعوا به إلى الجانب الآخر ، فإذا بالحوت فاتح قاه ، فلما رأى ذلك ألقى بنفسه فالتقمه الحوت ، فأوحجى الله تعالى إلى الحةت : إني لم أجعله لك رزقاً ولكن جعلت بطنك له وعاء . فمكث في بطن الحوت أربعين ليلة فنادى في الظلمات " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين " [ المؤمنون : 88 ] وقد تقدم ويأتي . ففي هذا من الفقه أن القرعة كانت معمولاً بها في شرع من قبلنا ، وجاءت في شرعنا على ما تقدم ف < آل عمران > قال ابن العربي : وقد وردت القرعة في الشرع في ثلاثة مواطن : الأول " - كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه " الثاني : " أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه أن رجلاً أعتق ستة أعبد لا مال له غيرهم ، فأقرع بينهم ، فأعتق اثنين وأرق أربعة " الثالث " أن رجلين اختصما إليه في مواريث قد درست فقال : إذهبا وتوخيا الحق واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه " . فهذ ثلاثة مواطن ، وهي القسم في النكاح ، والعتق ، والقسمة ، وجريان القرعة فيها لرفع الإشكال وحسم داء التشهي . واختلف علماؤنا في القرعة بين الزوجات في الغزو على قولين ، الصحيح منهما الإقراع ، وبه قال فقهاء الأمصار . وذلك أن السفر بجميعهن لا يمكن ، واختيار واحدة منهم إيثار فلم يبق إلا القرعة . وكذلك في مسألة الأعبد الستة ، فإن كل اثنين منهما ثلث ، وهو القدر الذي يجوز له فيه العتق في مرض الموت ، وتعينهما للتشهي لا يجوز شرعا ، فلم يبق إلا القرعة وكذلك التشاجر إذا وقع في أعيان المواريث لم يميز الحق إلا القرعة فصارت أصلاً في تعيين المستحق إذا أشكل . قال : والحق عندي أن تجري في كل مشكل ، فذلك أبين لها، وأقوى لفصل الحكم فيها ، وأجلى لرفع الإشكال عنها ، ولذلك قلنا : إن القرعة بين الزوجات في الطلاق كالقرعة بين الإماء في العتق .
السابعة - الاقتراع على إلقاء الآدمي في البح لا يجوز . وإنما كان ذلك في يونس وزمانهم مقدمه لتحقيق برهانه ، وزيادة في إيمانه ، فإنه لا يجوز لمن كان عاصياً أن يقتل ولا يرمى به في النار أو البحر ، وإنما تجري عليه الحدود والتعزير على مقدار جنايته وقد ظن بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم ، فيطرح بعضهم تخفيفاً ، وهذا فاسد ، فإنها لا تخف برمي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال ، ولكنهم يصبرون على قضاء الله عز وجل .
الثامنة - أخبر الله عز وجل أن يونس كان من المسبحين ، وأن تسبيحه كان سبب نجاته ، ولذلك قيل : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر . قال ابن عباس : < من المسبحين > من المصلين . قال قتادة : كان يصلي قبل ذلك لحفظ الله عز وجل له فنجاه . وقال الربيع بن أنس : لولا أنه كان له قبل ذلك عمل صالح " للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " قال : ومكتوب في الحكمة _ إن العمل الصالح يرفع ربه إذا عثر . وقال مقاتل : < من المسبحين > من المصلين المطيعين قبل المعصية . وقال وهب : من العابدين . وقال الحسن : ما كان له صلاة في بطن الحوت ، ولكنه قدم عملاً صالحاً في حال الرخاء فذكره الله به في حال البلاء ، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه ، وإذا عثر وجد منكأ .
قلت : ومن هذا المعنى "قوله صلى الله عليه وسلم : من استطاع منكم أن تون له خبيئة من عمل صالح فليفعل " فيجتهد العبد ، ويحرص على خصلة من صالح عمله، يخلص فيها بينه وبين ربه ، ويدخرها ليوم فاقته وفقره ، ويخبؤها بجهده ، ويسترها عن خلقه ، يصل إليه نفعها أحوج لما كان إليه .و قد خرج البخاري و مسلم من " حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : بينما ثلاثة نفر - في رواية ممن كان قبلكم - يتماشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم الغار صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله فادعوا الله بها لعله يفرجها عنكم " الحديث بكماله وهو مشهور ، شهرته أغنت عن تمامه . وقال سعيد بن جبير : لما قال في بطن الحوت : " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " [ الأنبياء : 87 ] قذفه الحوت . وقيل " من المسبحين " من المصلين في بطن الحوت .
قلت : والأظهر أنه تسبيح اللسان الموافق للجنان ، وعليه يدل حديث أبي هريرة المذكور قبل الذي ذكره الطبري . قال : فسبح في بطن الحوت . قال : فسمعت الملائكة تسبيحه ، فقالوا : يا ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة . وتكون < كان > على هذا القول زائدة ، أي فلولا أنه من المسبحين . وفي كتاب أبي داود " عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دعاء ذي النون في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له " وقد مضى هذا في سورة < الأنبياء > فيونس عليه السلام كان قبل مصلياً مسبحاً ، وفي بطن الحوت كذلك . وفي الخبر : فنودي الحوت : إنا لم نجعل يونس لك رزقاً ، إنما جعلناك له حرزاً ومسجداً . وقد تقدم .
قد تقدمت قصة يونس عليه الصلاة والسلام في سورة الأنبياء, وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" ونسبه إلى أمه وفي رواية إلى أبيه. وقوله تعالى: "إذ أبق إلى الفلك المشحون" قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الموقر أي المملوء بالأمتعة "فساهم" أي قارع "فكان من المدحضين" أي المغلوبين, وذلك أن السفينة تلعبت بها الأمواج من كل جانب وأشرفوا على الغرق فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقي في البحر لتخف بهم السفينة فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات وهم يضنون به أن يلقى من بينهم فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك, وأمر الله تعالى حوتاً من البحر الأخضر أن يشق البحار وأن يلتقم يونس عليه السلام فلا يهشم له لحماً ولا يكسر له عظماً فجاء ذلك الحوت وألقى يونس عليه السلام نفسه فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلها. ولما استقر يونس في بطن الحوت حسب أنه قد مات ثم حرك رأسه ورجليه وأطرافه فإذا هو حي فقام فصلى في بطن الحوت, وكان من جملة دعائه يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس, واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت فقيل ثلاثة أيام قاله قتادة. وقيل سبعة قاله جعفر الصادق رضي الله عنه, وقيل أربعين يوماً قاله أبو مالك. وقال مجاهد عن الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية, والله تعالى أعلم بمقدار ذلك, وفي شعر أمية بن أبي الصلت:
وأنت بفضل منك نجيت يونسا وقد بات في أضعاف حوت لياليا
وقوله تعالى: "فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون" قيل لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء قاله الضحاك بن قيس وأبو العالية ووهب بن منبه وقتادة وغير واحد, واختاره ابن جرير, وقد ورد في الحديث الذي سنورده إن شاء الله تعالى ما يدل على ذلك إن صح الخبر, وفي حديث ابن عباس "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة". وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك وعطاء بن السائب والسدي والحسن وقتادة "فلولا أنه كان من المسبحين" يعني المصلين, وصرح بعضهم بأنه كان من المصلين قبل ذلك, وقال بعضهم كان من المسبحين في جوف أبويه, وقيل المراد "فلولا أنه كان من المسبحين" هو قوله عز وجل "فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين" قاله سعيد بن جبير وغيره. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي بن وهب حدثنا عمي حدثنا أبو صخر أن يزيد الرقاشي حدثه أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه ـ ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن يونس النبي عليه الصلاة والسلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت فقال اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين, فأقبلت الدعوة تحف بالعرش, قالت الملائكة يا رب هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيدة غريبة فقال الله تعالى أما تعرفون ذلك ؟ قالوا يا رب ومن هو ؟ قال عز وجل عبدي يونس قالوا عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة قالوا يارب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه في البلاء, قال بلى فأمر الحوت فطرحه بالعراء" ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب به, زاد ابن أبي حاتم قال أبو صخر حميد بن زياد فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدثه هذا الحديث أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: طرح بالعراء وأنبت الله عز وجل عليه اليقطينة قلنا يا أبا هريرة وما اليقطينة, قال شجرة الدباء. قال أبو هريرة رضي الله عنه: وهيأ الله له أروية وحشية تأكل من حشائش الأرض ـ قال فتتفسخ عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتاً من شعره وهو:
فأنبت يقطيناً عليه برحمة من الله لولا الله ألقى ضاحيا
وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه مسنداً مرفوعاً في تفسير سورة الأنبياء, ولهذا قال تعالى: "فنبذناه" أي ألقيناه "بالعراء" قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وهو الأرض التي ليس بها نبت ولا بناء قيل على جانب دجلة وقيل بأرض اليمن فالله أعلم "وهو سقيم" أي ضعيف البدن, قال ابن مسعود رضي الله عنه كهيئة الفرخ ليس عليه ريش, وقال السدي كهيئة الصبي حين يولد وهو المنفوس وقاله ابن عباس رضي الله عنهما وابن زيد أيضاً "وأنبتنا عليه شجرة من يقطين" قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وهلال بن يساف وعبد الله بن طاوس والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغير واحد قالوا كلهم: اليقطين هو القرع. وقال هشيم عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير وكل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين وفي رواية عنه كل شجرة تهلك من عامها فهي من اليقطين, وذكر بعضهم في القرع فوائد منها سرعة نباته وتظليل ورقه لكبره ونعومته وأنه لا يقربها الذباب وجودة تغذية ثمره, وأنه يؤكل نيئاً ومطبوخاً بلبه وقشره أيضاً وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء ويتتبعه من نواحي الصحفة. وقوله تعالى: "وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون" روى شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنما كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام بعد ما نبذه الحوت, رواه ابن جرير حدثني الحارث حدثنا أبو هلال عن شهر به, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت (قلت): ولا مانع أن يكون الذين أرسل إليهم أولاً أمر بالعود إليهم بعد خروجه من الحوت فصدقوه كلهم وآمنوا به, وحكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت كانوا مائة ألف أو يزيدون وقوله تعالى: "أو يزيدون" قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه: بل يزيدون وكانوا مائة وثلاثين ألفاً وعنه مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفاً وعنه مائة ألف وبضعة وأربعين ألفاً والله أعلم, وقال سعيد بن جبير يزيدون سبعين ألفاً. وقال مكحول كانوا مائة ألف وعشرة آلاف رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الرحيم البرقي حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال سمعت زهيراً يحدث عمن سمع أبا العالية يقول حدثني أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: "وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون" قال يزيدون عشرين ألفاً ورواه الترمذي عن علي بن حجر عن الوليد بن مسلم عن زهير عن رجل عن أبي العالية عن أبي بن كعب به وقال غريب. ورواه ابن أبي حاتم من حديث زهير به. قال ابن جرير: وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في ذلك معناه إلى المائة الألف أو كانوا يزيدون عندكم, يقول كذلك كانوا عندكم ولهذا سلك ابن جرير ههنا ما سلكه عند قوله تعالى: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة" وقوله تعالى: "إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية" وقوله تعالى: "فكان قاب قوسين أو أدنى" المراد ليس أنقص من ذلك بل أزيد وقوله تعالى: "فآمنوا" أي فآمن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم يونس عليه السلام جميعهم "فمتعناهم إلى حين" أي إلى وقت آجالهم كقوله جلت عظمته "فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين".
144- "للبث في بطنه إلى يوم يبعثون" أي لصار بطن الحوت له قبراً إلى يوم البعث، وقيل للبث في بطنه حياً.
واختلف المفسرون كم أقام في بطن الحوت؟ فقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوماً. وقال الضحاك: عشرين يوماً. وقال عطاء: سبعة أيام. وقال مقاتل بن حبان: ثلاثة أيام، وقيل ساعة واحدة. وفي هذه الآية ترغيب في ذكر الله، وتنشيط للذاكرين له.
144. " للبث في بطنه إلى يوم يبعثون "، لصار بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة.
144-" للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " حياً وقيل ميتاً ، وفيه حث على إكثار الذكر وتعظيم لشأنه ، ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده عند الضراء .
144. He would have tarried in its belly till the day when they are raised;
144 - He would certainly have remained inside the Fish till the Day of Resurrection.