[يس : 28] وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ
28 - (وما) نافية (أنزلنا على قومه) قوم حبيب (من بعده) بعد موته (من جند من السماء) ملائكة لإهلاكهم (وما كنا منزلين) ملائكة لإهلاك أحد
يقول تعالى ذكره: وما أنزلنا على قوم هذا المؤمن الذي قتله قومه لدعائه إياهم إلى الله ونصيحته لهم " من بعده " يعني: من بعد مهلكه " من جند من السماء ".
واختلف أهل التأويل في معنى الجند الذي أخبر الله انه لم ينزل إلى قوم هذا المؤمن بعد قتلهموه فقال بعضهم: عني بذلك أنه لم ينزل الله بعد ذلك إليهم رسالة، ولا بعث إليهم نبياً.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله " من جند من السماء " قال: رسالة.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكاك، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين " قال فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ".
وقال آخرون: بل عني بذلك أن الله تعالى ذكره لم يبعث لهم جنوداً يقاتلهم بها، ولكنه أهلكهم بصيحة واحدة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، عن بعض أصحابه، أن عبد الله بن مسعود، قال: غضب الله له، يعني لهذا المؤمن، لاستضعافهم إياه غضبةً لم تبق من القوم شيئاً، فعجل لهم النقمة بما استحلوا منه، وقال: " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين " يقول: ما كاثرناهم بالجموع، أي الأمر أيسر علينا من ذلك " إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون " فأهلك الله ذلك الملك وأهل أنطاكية، فبادوا عن وجه الأرض، فلم تبق منهم باقية.
وهذا القول الثاني أولى القولين بتأويل الآية، وذلك أن الرسالة لا يقال لها جند إلا أن يكون أراد مجاهد بذلك الرسل، فيكون وجهاً، وإن كان أيضاً من المفهوم بظاهر الآية بعيداً، وذلك أن الرسول من بني آدم لا ينزلون من السماء والخبر في ظاهر هذه الآية عن أنه لم ينزل من السماء بعد مهلك هذا المؤمن على قومه جنداً وذلك بالملائكة أشبه منه ببني آدم.
فذلك قوله : " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين " أي ما أنزلنا عليهم من رسالة ولا نبي بعد قتله ، قاله قتادة و مجاهد و الحسن . قال الحسن : الجند الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء . وقيل : الجند العساكر ، أي لم أحتج في هلاكهم إلى إرسال جنود ولا جيوش ولا عساكر ، بل أهلكهم بصيحة واحدة . قال معناه ابن مسعود وغيره . فقوله : " وما كنا منزلين " تصغير لأمرهم ، أي أهلكناهم بصيحة واحدة من بعد ذلك الرجل ، أو من بعد رفعه إلى السماء . وقيل : " وما كنا منزلين " على من كان قبلهم . الزمخشري : فإن قلت فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق ؟ فقال : " فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها " [ الأحزاب : 9 ] ، وقال : " بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين "" بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " [ آل عمران : 124 - 125 ] .
قلت :إنما كان يكفي ملك واحد ، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل ، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة ، ولكن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم بكل شيء على سائر الأنبياء وأولى العزم من الرسل فضلاً عن حبيب النجار ، وأولاه من أسباب الكرامة والإعزاز ما لم يوله أحداً ، فمن ذلك أنه أنزل له جنوداً من السماء ، وكأنه أشار بقوله : " وما أنزلنا " . " وما كنا منزلين " إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل إلا مثلك ، وما كنا نفعل لغيرك .
قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود رضي الله عنه, أنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره, وقال الله له: "ادخل الجنة" فدخلها فهو يرزق فيها قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها. وقال مجاهد : قيل لحبيب النجار : ادخل الجنة, وذلك أنه قتل فوجبت له, فلما رأى الثواب "قال يا ليت قومي يعلمون" قال قتادة : لا تلقى المؤمن إلا ناصحاً لا تلقاه غاشاً. لما عاين ما عاين من كرامة الله تعالى: " قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " تمنى على الله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هجم عليه. وقال ابن عباس : نصح قومه في حياته بقوله "يا قوم اتبعوا المرسلين" وبعد مماته في قوله " يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين " رواه ابن أبي حاتم .
وقال سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز "بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين" بإيماني بربي وتصديقي المرسلين ومقصودة أنهم لو اطلعوا على ما حصل لي من هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم, لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل فرحمه الله ورضي عنه, فلقد كان حريصاً على هداية قومه. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا هشام بن عبيد الله , حدثنا ابن جابر هو محمد عن عبد الملك يعني ابن عمير قال: قال " عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخاف أن يقتلوك فقال: لو وجدوني نائماً ما أيقظوني, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق فانطلق, فمر على اللات والعزى, فقال:لأصبحنك غداً بما يسوؤك, فغضبت ثقيف, فقال: يا معشر ثقيف إن اللات لالات وإن العزى لا عزى, أسلموا تسلموا, يا معشر الأحلاف إن العزى لا عزى وإن اللات لالات, أسلموا تسلموا, قال ذلك ثلاث مرات, فرماه رجل فأصاب أكحله فقتله, فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مثله كمثل صاحب يس" " قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ".
وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم أنه حدث عن كعب الأحبار , أنه ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار الذي كان مسيلمة الكذاب قطعه باليمامة حين جعل يسأله عن رسول لله صلى الله عليه وسلم, فجعل يقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فيقول: نعم, ثم يقول: أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع, فيقول له مسيلمة لعنه الله: أتسمع هذا, ولا تسمع ذاك ؟ فيقول: نعم, فجعل يقطعه عضواً عضواً كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه, فقال كعب حين قيل له اسمه حبيب: وكان والله صاحب يس اسمه حبيب.
وقوله تبارك وتعالى: "وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين" يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضباً منه تبارك وتعالى عليهم, لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليه, ويذكر عز وجل أنه ما أنزل عليهم وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم, بل الأمر كان أيسر من ذلك. قاله ابن مسعود فيما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه عنه أنه قال في قوله تعالى: "وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين" أي ما كاثرناهم بالجموع, الأمر كان أيسر علينا من ذلك "إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون" قال: فأهلك الله تعالى ذلك الملك الجبار, وأهلك أهل أنطاكية, فبادوا عن وجه الأرض فلم يبق منهم باقية, وقيل "وما كنا منزلين" أي وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم بل نبعث عليهم عذاباً يدمرهم, وقيل المعنى في قوله تعالى: "وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء" أي من رسالة أخرى إليهم, قاله مجاهد وقتادة . قال قتادة : فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله "إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون" قال ابن جرير : والأول أصح, لأن الرسالة لا تسمى جنداً. قال المفسرون. بعث الله تعالى إليهم جبريل عليه الصلاة والسلام, فأخذ بعضادتي باب بلدهم, ثم صاح بهم صيحة واحدة, فإذا هم خامدون عن آخرهم لم تبق بهم روح تتردد في جسد وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية, وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام, كما نص عليه قتادة وغيره, وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره, وفي ذلك نظر من وجوه:
(أحدها) أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل, لا من جهة المسيح عليه السلام كما قال تعالى: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون * قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا البلاغ المبين " ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام. والله تعالى أعلم, ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم "إن أنتم إلا بشر مثلنا".
(الثاني) أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم, وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح, ولهذا كانت عندالنصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة, وهن: القدس لأنها بلد المسيح, وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها, والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين, ثم رومية لأنها مدنية الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأوطده, ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البترك من رومية إليها, كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم, كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين, فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت, فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم, والله أعلم.
(الثالث) أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة, وقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغير واحد من السلف أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم, بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين, ذكروه عند قوله تبارك وتعالى: "ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى" فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية, كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضاً. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة, فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك, والله سبحانه وتعالى أعلم.
فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري , حدثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني , حدثنا حسين الأشقر , حدثنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السبق ثلاثة: فالسابق إلى موسى عليه الصلاة والسلام يوشع بن نون , والسابق إلى عيسى عليه الصلاة والسلام صاحب يس , والسابق إلى محمد صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه" فإنه حديث منكر, لا يعرف إلا من طريق حسين الأشقر , وهو شيعي متروك, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
لما وقع منهم مع حبيب النجار غضب الله له وعجل لهم النقمة وأهلكهم بالصيحة، ومعنى 28- "وما أنزلنا على قومه من بعده" أي على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له، أو من بعد رفع الله له إلى السموات على الاختلاف السابق "من جند من السماء" لإهلاكهم وللانتقام منهم: أي لم نحتج إلى إرسال جنود من السماء لإهلاكهم كما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر من إرسال الملائكة لنصرته وحرب أعدائه "وما كنا منزلين" أي وما صح في قضائنا وحكمتنا أن ننزل لإهلاكهم جنداً لسبق قضائنا وقدرنا بإن إهلاكهم بالصيحة لا بإنزال الجند. وقال قتادة ومجاهد والحسن: أي ما أنزلنا عليهم من رسالة من السماء ولا نبي بعد قتله. وروي عن الحسن أنه قال: هم الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء، والظاهر أن معنى النظم القرآني تحقير شأنهم وتصغير أمرهم: أي ليسوا بأحقاء بأن ننزل لإهلاكهم جنداً من السماء.
28. فذلك قوله عز وجل: " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء "، يعني: الملائكة، " وما كنا منزلين "، وما كنا نفعل هذا، بل الأمر في إهلاكهم كان أيسر مما يظنون.
وقيل: معناه (( وما أنزلنا على قومه من بعده )) أي: على قوم حبيب النجار من بعد قتله من جند، وما كنا ننزلهم على المم إذا أهلكناهم، كالطوفان والصاعقة والريح.
28 -" وما أنزلنا على قومه من بعده " من بعد هلاكه أو رفعه . " من جند من السماء " لإهلاكهم كما أرسلنا يوم بدر والخندق بل كفينا أمرهم بصيحة ملك ، وفيه استحقار لإهلكهم وإيماء بتعظيم الرسول عليه السلام . " وما كنا منزلين " وما صح في حكمتنا أن ننزل جنداً لإهلاكم قومه إذ قدرنا لكل شيء سبباً لانتصارك من قومك ، وقيل " ما " موصولة معطوفة على " جند " أي ومما كنا منزلين على من قبلهم من حجارة وريح وأمطار شديدة .
28. We sent not down against his people after him a host from heaven, nor do We ever send.
28 - And We sent not down against his People, after him, any hosts from heaven, Nor was it needful for Us so to do.