[الأحزاب : 72] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا
72 - (إنا عرضنا الأمانة) الصلوات وغيرها مما في فعلها من الثواب وتركها من العقاب (على السماوات والأرض والجبال) بأن خلق فيها فهما ونطقا (فأبين أن يحملنها وأشفقن) خفن (منها وحملها الإنسان) آدم بعد عرضها عليه (إنه كان ظلوما) لنفسه بما حمله (جهولا) به
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: إن الله عرض طاعته وفرائضه على السماوات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت، وإن ضيعت عوقبت، فأبت حلمها شفقاً منها أن لا تقوم بالواجب عليها، وحملها آدم " إنه كان ظلوما " لنفسه " جهولا " بالذي فيه الحظ له.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها " قال: الأمانة: الفرائض التي افترضها الله على العباد.
قال: ثنا هشيم، عن العوام، عن الضحاك بن مزاحم ، عن ابن عباس، في قوله " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها " قال: الأمانة: الفرائض التي افترضها الله على عباده.
قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام بن حوشب وجويبر، كلاهما عن الضحاك ، عن ابن عباس، في قوله " إنا عرضنا الأمانة " ... إلى قوله " جهولا " قال: الأمانة: الفرائض. قال جويبر في حديثه: فلما عرضت على آدم، قال: أي رب وما الأمانة؟ قال: قيل: إن أديتها جزيت، وإن ضيعتها عوقبت، قال: أي رب حملتها بما فيها، قال: فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية، فأخرج منها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية " إنا عرضنا الأمانة " قال: عرضت على آدم، فقال: خذها بما فيها، فإن أطعت غفرت لك، وإن عصيت عذبتك، قال: قد قبلت، فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة.
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال " إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك، وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم، فقبلها بما فيها، وهو قوله " وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا " غراً بأمر الله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله " إنا عرضنا الأمانة ": الطاعة عرضها عليها قبل أني يعرضها على آدم، فلم تطقها، فقال لآدم: يا آدم إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فلم تطلقها، فهل أنت آخذها فما فيها؟ فقال: يا رب: وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فتحملها، فذلك قوله " وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن رجل، عن الضحاك ابن مزاحم ، في قوله " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا " قال آدم: قيل له: خذها بحقها. قال: وما حقها؟ قيل: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فما لبث ما بين الظهر والعصر حتى أخرج منها.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال " فلم يطقن حملها، فهل أنت يا آدم آخذها ما فيها؟ قال آدم: وما فيها يا رب؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فقال: تحملتها، فقال الله تبارك وتعالى: قد حملتكها، فما مكث آدم إلا مقدار ما بين الأولى إلى العصر حتى أخرجه إبليس لعنه الله من الجنة، والأمانة: الطاعة.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا بقية، قال: ثني عيسى بن إبراهيم، عن موسى بن أبي حبيب، عن الحكم بن عمرو، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء، فأرسلوا به، فمنهم رسول الله، ومنهم نبي، ومنهم نبي رسول، نزل القرآن وهو كلام الله، ونزلت العربية والعجمية، فعلموا أمر القرآن، وعلموا أمر السنن بألسنتهم، ولم يدع الله شيئاً من أمره مما يأتون ومما يجتنبون، وهي الحجج عليهم، إلا بينه لهم، فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن من القبيح. ثم الأمانة أول شيء يرفع، ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس، ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم، وتبقى الكتب، فعالم يعمل وجاهل يعرفها وينكرها، حتى وصل إلي وإلى أمتي، فلا يهلك على الله إلا هالك، ولا يغفله إلا تارك، والحذر أيها الناس، وإياكم والوسواس الخناس، وإنما يبلوكم أيكم أحسن عملاً ".
حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، قال: ثنا العوام العطار، قال: ثنا قتادة، وأبان بن أبي عياش، عن خليد العصري، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس، على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها - وكان يقول: وايم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن - وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأدى الأمانة، قالوا: يا أبا الدرداء: وما الأمانة؟ قال: الغسل من الجنابة، فإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش ، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن أبي بن كعب، قال: من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها " قال: إن الله عرض عليهن الأمانة أن يفترض عليهن الدين، ويجعل لهن ثواباً وعقاباً، ويستأمنهن على الدين، فقلن: لا، نحن مسخرات لأمرك، لا نريد ثواباً ولا عقاباً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وعرضها الله على آدم، فقال: بين أذني وعاتقي "، قال ابن زيد، فقال الله له: " أما إذ تحملت هذا فسأعينك، أجعل لبصرك حجاباً، فإذا خشيت أن تنظر إلا ما لا يحل لك، فأرخ عليه حجابه، وأجعل للسانك باباً وغلقاً، فإذا خشيت فأغلق، وأجعل لفرجك لباساً، فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال " يعني به: الدين والفرائض والحدود " فأبين أن يحملنها وأشفقن منها " قيل لهن: احملنها تؤدين حقها، فقلن: لا نطيق ذلك " وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا " قيل له: أتحملها؟ قال: نعم، قيل: أتؤدي حقها؟ قال: نعم، قال الله: إنه كان ظلوماً جهولاً عن حقها.
وقال آخرون: بل عني بالأمانة في هذا الموضع: أمانات الناس.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا تميم بن المنتصر، قال: ثنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش ، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن المسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها، أو قال: يكفر كل شيء إلا الأمانة، يؤتى بصاحب الأمانة، فيقال له: أد أمانتك، فيقول: أي رب وقد ذهبت الدنيا، ثلاثاً، فيقال: اذهبوا به إلى الهاوية فيذهب به إليها، فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها، فيجدها هناك كهيئتها، فيحملها، فيضعها على عاقته، فيصعد بها إلى شفير جهنم، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت، فهوى في أثرها أبد الآبدين. قالوا: والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع، فلقيت البراء فقلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله؟ فقال: صدق ".
قال شريك، وثني عياش العامري عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، ولم يذكر الأمانة في الصلاة، وفي كل شيء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن أبي هلال، عن أبي حازم، قال: " إن الله عرض الأمانة على سماء الدنيا، فأبت، ثم التي تليها، حتى فرغ منها، ثم الأرضين ثم الجبال، ثم عرضها على آدم، فقال: نعم، بين أذني وعاتقي. فثلاث آمرك بهن، فإنهن لك عون: إني جعلت لك لساناً بين لحيين، فكفه عن كل شيء نهيتك عنه، وجعلت لك فرجاً وواريته، فلا تكشفه إلى ما حرمت عليك ".
وقال آخرون: بل ذلك إنما عني به ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده، وخيانة قابيل أباه في قتله أخاه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له اثنان، يقال لهما قابيل وهابيل، وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل، وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال: هي أختي ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوجها، فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى، وإنهما قربا قرباناً إلى الله أيهما أحق بالجارية، وكان آدم يومئذ قد غاب عنهما، أي بمكة ينظر إليها، قال الله لآدم: يا آدم هل تعلم أن لي بيتاً في الأرض؟ قال: اللهم لا، قال: إن لي بيتاً بمكة فأته، فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت، وقال للأرض، فأبت، فقال للجبال، فأبت، فقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك، فلما انطلق آدم وقربا قرباناً، وكان قابيل يفخر عليه فيقول: أنا أحق بها منك، هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصي والدي، فلما قربا، قرب هابيل جذعة سمينة، وقرب هابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة، ففركها فأكلها،، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي، فقال هابيل ( إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلنك إني أخاف الله رب العالمين) ( المائدة: 27 - 28) ... إلى قوله ( فطوعت له نفسه قتل أخيه) ( المائدة: 30) فطلبه ليقتله، فراغ الغلام منه في روءس الجبال، وأتاه يوماً من الأيام، وهو يرعى غنمه في جبل، وهو نائم، فرفع صخرة، فشدخ بها رأسه، فمات، وتركه بالعراء، ولا يعلم كيف يدفن، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له، ثم حثا عليه، فلما رآه قال: ( يا وليتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي) ( المائدة: 31)، فهو قول الله تبارك وتعالى ( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه) ( المائدة: 31) فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه، فذلك حين يقول " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال " .... إلى آخر الآية ".
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا: إنه عني بالأمانة في هذا الموضع: جميع معاني الأمانات في الدين، وأمانات الناس، وذلك أن الله لم يخص بقوله " عرضنا الأمانة " بعض معاني الأمانات لما وصفنا.
وبنحو قولنا قال أهل التأويل في معنى قول الله " إنه كان ظلوما جهولا ".
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي " إنه كان ظلوما جهولا " يعني قابيل حين حمل أمانة آدم لم يحفظ له أهله.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد الزبيري، قال: ثنا سفيان، عن رجل، عن الضحاك ، في قوله " وحملها الإنسان " قال آدم " إنه كان ظلوما جهولا " قال: ظلوماً لنفسه، جهولاً فيما احتمل فيما بينه وبين ربه.
حدثنا علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس " إنه كان ظلوما جهولا " غر بأمر الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " إنه كان ظلوما جهولا " قال: ظلوماً لها، يعني للأمانة، جهولاً عن حقها.
قوله تعالى: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما".
لما بين تعالى في هذه السورة من الأحكام ما بين، أمر بالتزام أوامره. والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور. روى الترمذي الحكيم ابوعبدالله: حدثنا إسماعيل بن نصر عن صالح بن عبد الله عن محمد بن يزيد بن جوهر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى لآدم يا آدم إني عرضت الأمانة على السموات والأرض فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها فقال وما فيها يارب قال إن حملتها أجرت وإن ضيعتها عذبت فاحتملها بما فيها فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر حتى أخرجه الشيطان منها". فالأمانة هي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد. وقد اختلف في تفاصيل بعضها على أقوال فقال ابن مسعود: هي في أمانات الأموال كالودائع وغيرها. وروي عنه أنها في كل الفرائض، وأشدها أمانة المال. وقال أبي بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، وإن الله تعالى لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها. وفي حديث مرفوع: "الأمانة الصلاة" إن شئت قلت قد صليت وإن شئت قلت لم أصل. وكذلك الصيام وغسل الجنابة. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه وقال هذه أمانة استودعتكها، فلا تلبسها إلا بحق. فان حفظتها حفظتك، فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له. وقال السدي : هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده وأهله، وخيانته إياه في قتل أخيه. وذلك أن الله تعالى قال له: يا آدم، هل تعلم أن لي بيتا في الأرض قال:اللهم لا قال:فإن لي بيتًا بمكة فأته، فقال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للأرض: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للجبال كذلك فأبت. فقال لقابيل: احفظ ولدي بالأمانة، فقال نعم، تذهب وترجع فتجد ولدك كما يسرك. فرجع فوجده قد قتل أخاه، فذلك قوله تبارك وتعالى: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها" الآية. وروى معمر عن الحسن أن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال، قالت: وما فيها قيل لها: إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت. فقالت لا. قال مجاهد: فلما خلق الله تعالى آدم عرضها عليه، قال: وما هي قال: إن أحسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك. قال: فقد تحملتها يا رب. قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال" قال: الأمانة الفرائض، عرضها الله عز وجل على السموات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم. فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيمًا لدين الله عز وجل ألا يقوموا به. ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها. قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقيل: لما حضرت آدم صلى الله عليه وسلم الوفاة أمر أن يعرض الأمانة على الخلق، فعرضها فلم يقبلها إلا بنوه. وقيل: هذه الأمانة هي ما أودعه الله تعالى في السموات والأرض والجبال والخلق، من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها قاله بعض المتكلمين. ومعنى عرضنا اظهرنا، كما تقول: عرضت الجارية على البيع. والمعنى إنا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات واهل الأرض من الملائكة والإنس والجن " فأبين أن يحملنها" أي أن يحملن وزرها، كما قال جل وعز: " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم " (العنكبوت: 13) . "وحملها الإنسان" قال الحسن: المراد الكافر والمنافق. " إنه كان ظلوما" لنفسه "جهولا" بربه. فيكون على هذا الجواب مجازًا، مثل: " واسأل القرية " (يوسف:82). وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب، أي أظهر لهن ذلك فلم يحملن وزرها، وأشفقت وقالت: لا أبتغي ثوابًا ولا عقابًا، وكل يقول: هذا أمر لا نطيقه، ونحن لك سامعون ومطيعون فيما أمرن به وسخرن له، قاله الحسن وغيره. قال العلماء: معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلا بد من تقدير الحياة على القول الأخير. وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام. والعرض على الإنسان إلزام. وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل، اي أن السموات والأرض على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب، أي أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل. وهذا كقوله: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل " (الحشر: 21) ثم قال: "وتلك الأمثال نضربها للناس" (الحشر: 21). قال القفال: فإذا تقرر في أنه تعالى يضرب الأمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل، وجب حمله عليه. وقال قوم: إن الآية من المجاز، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت، فعبر عن هذا المعنى بقوله: " إنا عرضنا الأمانة" الآية. وهذا كما تقول: عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد قايست قوته بثقل الحمل، فرأيت أنها تقصر عنه. وقيل: عرضنا بمعنى عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة، ورجحت الأمانة بثقلها عليها. وقيل: إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام. وذلك أن الله تعالى لما استخلفه على ذريته، وسلطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والطير والوحش، وعهد إليه عهدًا أمره فيه ونهاه وحرم ، وأحل، فقبله ولم يزل عاملاً به. فلما أن حضرته الوفاة سأل الله أن يعلمه من يستخلف بعده، ويقلده من الأمانة ما تقلده، فأمره أن يعرض ذلك على السموات بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى، فأبين أن يقبلنه شفقًا من عذاب الله. ثم أمره أن يعرض ذلك على الأرض والجبال كلها فأبياه. ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فعرضه عليه فقبله بالشرط، ولم يهب منه ما تهيبت السموات والأرض والجبال. إنه كان ظلومًا لنفسه جهولاً بعاقبة ما تقلد لربه. قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي: عجبت من هذا القائل من أين أتى بهذه القصة فإن نظرنا إلى الآثار وجدناها بخلاف ما قال، وإن نظرنا إلى ظاهرها وجدناه بخلاف ما قال، وإن نظرنا إلى باطنه وجدناه بعيدًا مما قال وذلك أنه ردد ذكر الأمانة ولم يذكر ما الأمانة، إلا أنه يومىء في مقالته إلى أنه سلطه على جميع ما في الأرض، وعهد الله إليه عهدًا فيه أمره ونهيه وحله وحرامه، وزعم أنه أمره أن يعرض ذلك على السموات والأرض والجبال، فما تصنع السموات والأرض والجبال بالحلال والحرام؟ وما التسليط على الأنعام والطير والوحش وكيف إذا عرضه على ولده فقبله في أعناق ذريته من بعده. وفي مبتدأ الخبر في التنزيل أنه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال حتى ظهر الإباء منهم، ثم ذكر أن الإنسان حملها، أي من قبل نفسه لا أنه حمل ذلك، فسماه ظلومًا أي لنفسه، جهولاً بما فيها. وأما الآثار التي هي بخلاف ما ذكر، فحدثني أبي رحمه الله قال حدثنا الفيض بن الفضل الكوفي حدثنا السري بن إسماعيل عن عامر الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: لما خلق الله الأمانة مثلها صخرة، ثم وضعها حيث شاء، ثم دعا لها السموات والأرض والجبال ليحملنها، وقال لهن: إن هذه الأمانة، ولها ثواب وعليها عقاب، قالوا: يا رب، لا طاقة لنا بها وأقبل الإنسان من قبل أن يدعى فقال للسموات والأرض والجبال: ما وقوفكم؟ قالوا: دعانا ربنا أن نحمل هذه فأشفقن منها ولم نطقها قال: فحركها بيده وقال: والله لو شئت أن أحملها لحملتها فحملها حتى بلغ بها إلى ركبتيه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازددت قالوا: دونك فحملها حتى بلغ بها حقويه ، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازددت قالوا: دونك، فحملها حتى وضعها على عاتقه، فلما أهوى ليضعها، قالوا: مكانك إن هذه الأمانة ولها ثواب وعليها عقاب، وأمرنا ربنا أن نحملها فأشفقن منها، وحملتها أنت من غير أن تدعى لها، فهي في عنقك وفي أعناق ذريتك إلى يوم القيامة، إنك كنت ظلومًا جهولاً. وذكر أخبارًا عن الصحابة والتابعين تقدم أكثرها. "وحملها الإنسان" أي التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه. وقال قتادة: للأمانة، جهول بقدر ما دخل فيه. وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير. وقال الحسن: جهول بربه. قال: ومعنى حملها خان فيها. وقال الزجاج: والآية في الكافر والمنافق والعصاة على قدرهم على هذا التأويل. وقال ابن عباس وأصحابه والضحاك وغيره: الإنسان آدم، تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة. وعن ابن عباس أن الله تعالى قال له: أتحمل هذه الأمانة بما فيها قال وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت. قال: أنا أحملها بما فيها بين أذني وعاتقي. فقال الله تعالى له: إني سأعينك، قد جعلت لبصرك حجابًا فأغلقه عما لا يحل لك، ولفرجك لباسًا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك. وقال قوم: الإنسان النوع كله. وهذا حسن مع عموم الأمانة كما ذكرناه أولاً. وقال السدي: الإنسان قابيل. فالله أعلم. " ليعذب الله المنافقين والمنافقات" اللام في ليعذب متعلقة بـ ـحمل أي حملها ليعذب العاصي ويثيب المطيع فهي لام التعليل لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة. وقيل بـ ـعرضنا أي عرضنا الأمانة على الجميع ثم قلدناها الإنسان ليظهر شرك المشرك ونفاق المنافق ليعذبهم الله، وايمان المؤمن ليثيبه الله. "ويتوب الله " قراءة الحسن بالرفع، يقطعه من الأول أي يتوب الله عليهم بكل حال. "وكان الله غفورا رحيما" خبر بعد خبر لـ ـكان . ويجوز أن يكون نعتًا لغفور، ويجوز أن يكون حالاً من المضمر. والله أعلم بالصواب.
قال العوفي عن ابن عباس : يعني بالأمانة الطاعة وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقنها فقال لادم: إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها فهل أنت آخذ بما فيها ؟ قال: يا رب وما فيها ؟ قال: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فأخذها آدم فتحملها فذلك قوله تعالى, "وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الأمانة الفرائض, عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم فكرهوا ذلك, وأشفقوا عليه من غير معصية, ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها وهو قوله تعالى: "وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً" يعني غراً بأمر الله.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار , حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في هذه الاية "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها" قال: عرضت على آدم, فقال: خذها بما فيها, فإن أطعت غفرت لك, وإن عصيت عذبتك, قال: قبلت فما كان إلا مقدار ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة, وقد روى الضحاك عن ابن عباس قريباً من هذا, وفيه نظر وانقطاع بين الضحاك وبينه, والله أعلم. وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والحسن البصري وغير واحد: إن الأمانة هي الفرائض, وقال آخرون: هي الطاعة, وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال أبي بن كعب : من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها. وقال قتادة : الأمانة الدين والفرائض والحدود, وقال بعضهم الغسل من الجنابة, وقال مالك عن زيد بن أسلم قال: الأمانة ثلاثة: الصلاة والصوم والاغتسال من الجنابة وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها بل متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها وهو أنه إن قام بذلك أثيب وإن تركها عوقب فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه إلا من وفق الله وبالله المستعان.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبد العزيز بن المغيرة البصري , حدثنا حماد بن واقد , يعني أبا عمر الصفار سمعت أبا معمر يعني عون بن معمر يحدث عن الحسن , يعني البصري أنه تلا هذه الاية "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال" قال عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم, وحملة العرش العظيم, فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت: وما فيها ؟ قال: قيل لها إن أحسنت جزيت, وإن أسأت عوقبت قالت: لا ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد, التي شدت بالأوتاد, وذللت بالمهاد, قال: فقيل لها هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت: وما فيها ؟ قال: قيل لها: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت, قالت: لا ثم عرضها على الجبال الشم الشوامخ الصعاب الصلاب, قال قيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت: وما فيها ؟ قال لها: إن أحسنت جزيت, وإن أسأت عوقبت قالت: لا.
وقال مقاتل بن حيان إن الله تعالى حين خلق خلقه جمع بين الإنس والجن والسموات والأرض والجبال فبدأ بالسموات فعرض عليهن الأمانة, وهي الطاعة, فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة, ولكن على الفضل والكرامة والثواب في الجنة ؟ فقلن: يا رب إنا لانستطيع هذا الأمر وليس بنا قوة ولكنا لك مطيعون, ثم عرض الأمانة على الأرضين فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة وتقبلنها مني, وأعطيكن الفضل والكرامة في الدنيا ؟ فقلن: لا صبر لنا على هذا يا رب, ولا نطيق ولكنا لك سامعون مطيعون لا نعصيك في شيء أمرتنا به. ثم قرب آدم فقال له: أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها ؟ فقال عند ذلك آدم: مالي عندك ؟ قال: يا آدم إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة, فلك عندي الكرامة والفضل, وحسن الثواب في الجنة, وإن عصيت, ولم ترعها حق رعاتها, وأسأت فإني معذبك ومعاقبك وأنزلك النار, قال: رضيت يا رب, وأتحملها, فقال الله عز وجل عند ذلك قد حملتكها فذلك قوله تعالى: "وحملها الإنسان" رواه ابن أبي حاتم . وعن مجاهد أنه قال: عرضها على السموات فقالت: يا رب حملتني الكواكب وسكان السماء وما ذكر وما أريد ثواباً ولا أحمل فريضة. قال: وعرضها على الأرض فقالت: يا رب غرست في الأشجار وأجريت في الأنهار وسكان الأرض وما ذكر وما أريد ثواباً ولا أحمل فريضة, وقالت الجبال مثل ذلك قال الله تعالى: "وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً" في عاقبة أمره, وهكذا قال ابن جريج . وعن ابن أشوع أنه قال: لما عرض الله عليهن حمل الأمانة ضججن إلى الله ثلاثة أيام ولياليهن, وقلن: ربنا لا طاقة لنا بالعمل ولا نريد الثواب.
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الموصلي , حدثنا أبي حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم في هذه الاية "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض" الاية, قال الإنسان بين أذني وعاتقي, فقال الله عز وجل: إني معينك عليها, إني معينك على عينيك بطبقتين, فإذا نازعاك إلى ما أكره فأطبق, ومعينك على لسانك بطبقتين, فإذا نازعك إلى ما أكره فأطبق, ومعينك على فرجك بلباس فلا تكشفه إلى ما أكره. ثم روي عن أبي حازم نحو هذا. وقال ابن جرير : حدثنا يونس , حدثناء ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال" الاية, قال: إن الله تعالى عرض عليهن الأمانة أن يفترض عليهن الدين ويجعل لهن ثواباً وعقاباً, ويستأمنهن على الدين, فقلن لا, نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً, قال: وعرض الله تبارك وتعالى على آدم فقال: بين أذني وعاتقي, قال ابن زيد : قال الله تعالى له: أما إذا تحملت هذا فسأعينك, أجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك, فأرخ عليه حجابه واجعل للسانك باباً وغلقاً, فإذا خشيت فأغلق, وأجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك.
وقال ابن جرير : حدثني سعيد بن عمرو السكوني , حدثنا بقية , حدثنا عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير رضي الله عنه, وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء فأرسلوا به, فمنهم رسول الله, ومنهم نبي , ومنهم نبي رسول, ونزل القرآن وهو كلام الله, وأنزلت العجمية والعربية, فعلموا أمر القرآن, وعلموا أمر السنن بألسنتهم, ولم يدع الله تعالى شيئاً من أمره مما يأتون وما يجتنبون وهي الحجج عليهم إلا بينه لهم, فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن والقبيح, ثم الأمانة أول شيء يرفع ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس, ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم وتبقى الكتب, فعالم يعمل وجاهل يعرفها وينكرها ولا يحملها, حتى وصل إلي وإلى أمتي, ولا يهلك على الله إلا هالك, ولا يغفله إلا تارك, فالحذر أيها الناس, وإياكم والوسواس الخناس, فإنما يبلوكم أيكم أحسن عملاً" هذا حديث غريب جداً, وله شواهد من وجوه أخرى.
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن خلف العسقلاني , حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي , حدثنا أبو العوام القطان , حدثنا قتادة وأبان بن أبي عياش عن خليد العصري , عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن, وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها ـ وكان يقول ـ وايم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن وأدى الأمانة". قالوا: يا أبا الدرداء وما أداء الأمانة ؟ قال رضي الله عنه: الغسل من الجنابة, فإن الله تعالى لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره, وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحمن العنبري , عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي , عن أبي العوام عمران بن داود القطان به.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا تميم بن المنتصر , أخبرنا إسحاق عن شريك عن الأعمش , عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها ـ أو قال ـ يكفر كل شيء إلا الأمانة, يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له: أد أمانتك, فيقول أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له: أد أمانتك, فيقول أنى يارب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له: أد أمانتك, فيقول أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول: اذهبوا به إلى أمه الهاوية, فيذهب به إلى الهاوية, فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هنالك كهيئتها, فيحملها فيضعها على عاتقه فيصعد بها إلى شفير جهنم, حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت قدمه فهوى في أثرها أبد الابدين" قال: والأمانة في الصلاة, والأمانة في الصوم والأمانة في الوضوء, والأمانة في الحديث, وأشد ذلك الودائع, فلقيت البراء فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك عبد الله ؟ فقال: صدق.
وقال شريك : وحدثنا عياش العامري عن زاذان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, ولم يذكر الأمانة في الصلاة وفي كل شيء, إسناده جيد, ولم يخرجوه. ومما يتعلق بالأمانة الحديث الذي رواه الإمام أحمد . حدثنا أبو معاوية , حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الاخر, حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال, ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة. ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه, فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك, تراه منتبراً وليس فيه شيء ـ قال: ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله قال ـ فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أميناً, حتى يقال للرجل ما أجلده وأظرفه وأعقله وما في قلبه حبة خردل من إيمان, ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت إن كان مسلماً ليردنه علي دينه, وإن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه علي ساعيه, فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً. وأخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن , حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا. حفظ أمانة, وصدق حديث, وحسن خليقة, وعفة طعمة" هكذا رواه الإمام أحمد في مسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما, وقد قال الطبراني في مسنده عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما, حدثنا يحيى بن أيوب العلاف المصري , حدثنا سعيد بن أبي مريم , حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن ابن حجيرة عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة, وصدق حديث, وحسن خليقة, وعفة طعمة" فزاد في الإسناد ابن حجيرة وجعله في مسند ابن عمر رضي الله عنهما.
وقد ورد النهي عن الحلف بالأمانة, قال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: حدثنا شريك عن أبي إسحاق الشيباني عن خناس بن سحيم أو قال: جبلة بن سحيم , قال: أقبلت مع زياد بن حدير من الجابية فقلت في كلامي لا والأمانة, فجعل زياد يبكي ويبكي فظننت أني أتيت أمراً عظيماً, فقلت له: أكان يكره هذا ؟ قال: نعم, كان عمر بن الخطاب ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي, وقد ورد في ذلك حديث مرفوع قال أبو داود : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس , حدثنا زهير , حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بالأمانة فليس منا" تفرد به أبو داود رحمه الله.
وقوله تعالى: "ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات" أي إنما حمل بني آدم الأمانة وهي التكاليف, ليعذب الله المنافقين منهم والمنافقات, وهم الذين يظهرون الإيمان خوفاً من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله "والمشركين والمشركات" وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة رسله "ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات" أي وليرحم المؤمنين من الخلق الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته "وكان الله غفوراً رحيماً". آخر تفسير سورة الأحزاب ولله الحمد والمنة.
ثم لما فرغ سبحانه من بيان ما لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها فقال: 72- "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها".
واختلف في تفسير هذه الأمانة المذكورة هنا، فقال الواحدي: معنى الأمانة ههنا في قوله جميع المفسرين الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب. قال القرطبي: والأمانة تعم الجميع وصائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور.
وقد اختلف في تفاصيل بعضها، فقال ابن مسعود: هي في أمانة الأموال كالودائع وغيرها، وروي عنه أنها في كل الفرائض، وأشدها أمانة المال. وقال أبي بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. وقال أبو الدرداء: غسر الجنابة أمانة، وإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها. وقال ابن عمر: أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال: هذه أمانة استودعكها فلا تلبسها إلا بحق، فإن حفظتها حفظتك. فالفرج أمانة والأذن أمانة والعين أمانة واللسان أمانة والبطن أمانة واليد أمانة والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له. وقال السدي: هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل وخيانته إياه في قتله. وما أبعد هذا القول، وليت شعري ما هو الذي سوغ للسدي تفسير هذه الآية بهذا، فإن كان ذلك لدليل دله على ذلكح فلا دليل، وليست هذه الآية حكاية عن الماضين من العباد حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد وأوهن من بيوت العنكبوت، وإن كان تفسير هذا عملاً بما تقتضيه اللغة العربية، فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا ويوجب حمل هذه الأمانة المطلقة على شيء كان في أول هذا العالم، وإن كان هذا تفسيراً منه بمحض الرأين فليس الكتاب العزيز عرضه لتلاعب آراء الرجال به، ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه، فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير واشدد يديك في تفسير كتاب الله على ما تقتضيه اللغة العربية، فهو قرآن عربي كما وصفه الله، فإن جاءك التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تلتفت إلى غيره، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وكذلك ما جاء عنه الصحابة رضي الله عنهم فإنهم من جملة العرب ومن أهل اللغة وممن جمع إلى اللغة العربية فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها، فخذ هذه كلية تنتفع بها، وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك إلى هذا. قال الحسن: إن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال فقالت: وما فيها؟ فقال لها: إن أحسنت آجرتك وإن أسأت عذبتك، فقالت لا. قال مجاهد: فلما خلق الله آدم عرضها عليه، وقيل له ذلك فقال: قد تحملتها. وروي نحو هذا عن غير حسن ومجاهد. قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقيل هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها. كذا قال بعض المتكلمين مفسراً للقرآن برأيه الزائف، فيكون على هذا معنى عرضنا أظهرنا. قال جماعة من العلماء: ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلا بد من تقدير الحياة فيها، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام. وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل: أي إن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو انت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب: أي أن التكليف أمر عظيم حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل، وهذا كقوله: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل" وقيل إن عرضنا بمعنى عارضنا: أي عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها. وقيل إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام، وأن الله أمره أن يعرض ذلك عليها، وهذا أيضاً تحريف لا تفسير، ومعنى "وحملها الإنسان" أي التزم بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه، أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبيرن أو جهول بربه كما قال الحسن. وقال الزجاج: معنى حملها خان فيها، وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة، وقيل معنى حملها: كلفها وألزمها، أو صار مستعداً لها بالفطرة، أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذر عند خروج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم.
قوله عز وجل: 72- "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال"، الآية. أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده، عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، وهذا قول ابن عباس.
وقال ابن مسعود: الأمانة: أداء الصلوات، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وصدق الحديث، وقضاء الدين، والعدل في المكيال والميزان، وأشد من هذا كله الودائع.
وقال مجاهد: الأمانة: الفرائض، وحدود الدين.
وقال أبو العالية: ما أمروا به ونهوا عنه.
وقال زيد بن أسلم: هو الصوم، والغسل من الجنابة، وما يخفى من الشرائع.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال: هذه أمانة استودعتكها، فالفرج أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
وقال بعضهم: هي أمانات الناس، والوفاء بالعهود، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمناً ولا معاهداً في شيء قليل ولا كثير، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال، هذا قول ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن، فقلن: لا يا رب، نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً، وقلن ذلك خوفاً وخشية وتعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة، وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها، والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل مطيعة ساجدة له كما قال جل ذكره للسموات والأرض: "ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين" (فصلت-11)، وقال للحجارة: "وإن منها لما يهبط من خشية الله" (البقرة-74)، وقال تعالى: "ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب" (الحج-18) الآية.
وقال بعض أهل العلم: ركب الله عز وجل فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى عقلن الخطاب وأجبن بما أجبن.
وقال بعضهم: المراد من العرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات والأرض، عرضها على من فيها من الملائكة.
وقيل: على أهلها كلها دون أعيانها، كقوله تعالى: " واسأل القرية " (يوسف-82)، أي: أهل القرية.
والأول أصح، وهو قول العلماء.
"فأبين أن يحملنها وأشفقن منها"، أي: خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فليحقهن العقاب، "وحملها الإنسان"، يعني: آدم عليه السلام، فقال الله لآدم: إني عرضت الأمانة السموات والأرض والجبال فلم تطلقها فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت جوزيت، وإن أسأت عوقبت، فتحملها آدم، وقال: بين أذني وعاتقي، قال الله تعالى: أما إذا تحملت فسأعينك، أجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن تنظر إلى مالا يحل لك فارخ عليه حجابه، وأجعل للسانك لحين غلقاً فإذا غشيت فأغلق، وأجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه على ما حرمت عليك.
قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها وبين أن خرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر.
وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال: مثلت الأمانة كصخرة ملقاة، ودعيت السموات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها، وقالوا: لا نطيق حملها، وجاء آدم من غير أن يدعى، وحرك الصخرة، وقال: لو أمرت بحملها لحملتها، فقلن له: احملها، فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها، وقال والله لو أردت أن أزداد لزدت، فقلن له: احملها فحملها إلى حقوه، ثم وضعها، وقال: والله لو أردت أن أزداد لزدت، فقلن له: احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه، فأراد أن يضعها قال الله: مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة.
"إنه كان ظلوماً جهولاً"، قال ابن عباس: ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر الله وما احتمل من الأمانة.
وقال الكلبي: ظلوماً حين عصى ربه، جهولاً لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة.
وقال مقاتل: ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة ما تحمل.
وذكر الزجاج: وغيره من أهل المعاني، في قوله وحملها الإنسان قولان، فقالوا: إن الله ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السموات والأرض والجبال على شيء، فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا في الطاعة والقيام بالفرائض، والأمانة في حق السموات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له. وقيل: قوله: "فأبين أن يحملنها"، أي: أدين الأمانة، يقال: فلان لم يتحمل الأمانة أي: لم يخن فيها وحملها الإنسان أي: خان فيها، يقال: فلان حمل الأمانة أي: أثم فيها بالخيانة. قال الله تعالى: "وليحملن أثقالهم" (العنكبوت-13)، إنه كان ظلوماً جهولاً.
حكى عن الحسن على هذا التأويل: إنه قال وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق، حملا الأمانة أي: خانا.
وقول السلف ما ذكرنا.
72 -" إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان " تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة ، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء ، والمعنى أنها لعظمة شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها وحملها الإنسان مع ضعف بنبته ورخاوة قوته لا جرم فاز الراعي لها والقائم بحقوقها بخير الدارين . " إنه كان ظلوماً " حيث لم يف بها ولم يراع حقها . " جهولاً " بكنه عاقبتها ، وهذا وصف للجنس باعتبار الأغلب . وقيل المراد بـ " الأمانة " الطاعة التي تعم الطبيعية والاختيارية ، وبعرضها استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره ، وبحملها الخيانة فهيا والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حالم الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته ، فيكون الإباء عنه إتيانا بما يمكن أن يتأتى منه والظلم والجهالة الخيانة والتقصير . وقيل إنه تعالى لما خلق هذه الأجرام خلق فيها فهماً وقال لها : إني فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني فيها ، وناراً لمن عصاني ، فقلن نحن مصرات على ما خلقتنا لا نحتمل فريضة ولا نبتغي ثوباً ولا عقاباً ، ولما خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله ، وكان ظلوماً لنفسه بتحمله ما يشق عليها جهولاً بوخامة عاقبته ، ولعل المراد بـ " الأمانة " العقل أو التكليف ، وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن ، وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد ، وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوماً جهولاً لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية ، وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمناً على القوتين حافظاً لهما عن التعدي ومجاوزة الحد ، ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما .
72. Lo! We offered the trust unto the heavens and the earth and the hills, but they shrank from bearing it and were afraid of it. And man assumed it. Lo! he hath proved a tyrant and a fool.
72 - We did indeed offer the Trust to the Heavens and the Earth and the Mountains; but they refused to undertake it, being afraid thereof: but man undertook it; he was indeed unjust and foolish;