[الأحزاب : 40] مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا
40 - (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) فليس أبا زيد أي والده فلا يحرم عليه التزوج بزوجته زينب (ولكن) كان (رسول الله وخاتم النبيين) فلا يكون له ابن رجل بعده يكون نبيا وفي قراءة بفتح التاء كآلة الختم أي به ختموا (وكان الله بكل شيء عليما) منه بأن لا نبي بعده وإذا نزل السيد عيسى يحكم بشريعته
وأخرج الترمذي عن عائشة قالت لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب قالوا تزوج حليلة ابنه فأنزل الله ما كان محمد أبا أحد من رجالكم الآية
يقول تعالى ذكره: ما كان أيها الناس محمد أبا زيد بن حارثة، ولا أبا أحد من رجالكم، الذين لم يلده محمد، فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها، ولكنه رسول الله وخاتم النبيين، الذي ختم النبوة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة، وكان الله بكل شيء من أعمالكم ومقالكم وغير ذلك ذا علم لا يخفى عليه شيء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " قال: نزلت في زيد، إنه لم يكن بابنه، ولعمري ولقد ولد له ذكور، إنه لأبو القاسم وإبراهيم والطيب والمطهر " ولكن رسول الله وخاتم النبيين ": أي آخرهم " وكان الله بكل شيء عليما ".
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثني علي بن قادم، قال: ثنا سفيان، عن نسير بن ذعلوق، عن علي بن الحسين في قوله " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " قال: نزلت في زيد بن حارثة، والنصب في رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى تكرير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرفع بمعنى الاستئناف، ولكن هو رسول الله، والقراءة النصب عندنا.
واختلفت القراء في قراءة قوله " وخاتم النبيين " فقرأ ذلك قراء الأمصار سوى الحسن وعاصم بكسر التاء من خاتم النبيين، بمعنى أنه ختم النبيين. ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله ( ولكن نبيا ختم النبيين) فذلك دليل على صحة قراءة من قرأة بكسر التاء، بمعنى أنه الذي ختم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعليهم، وقرأ ذلك فيما يذكر الحسن وعاصم " خاتم النبيين " بفتح التاء، بمعنى أنه آخر النبيين، كما قرأ ( مختوم خاتمة مسك) بمعنى: آخره مسك من قرأ ذلك كذلك.
قوله تعالى: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما ".
فيه ثلاث مسائل: الأولى: لما تزوج زينب قال الناس: تزوج امرأة ابنه فنزلت الاية أي ليس هو بابنه حتى تحرم عليه حليلته، ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم، وأن نساءه عليهم حرام. فأذهب الله بهذه الاية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم، وأعلم أن محمدًا لم يكن أبا أحد من الرجال المعاصرين له في الحقيقة. ولم يقصد بهذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد، فقد ولد له ذكور: إبراهيم، والقاسم، والطيب، والمطهر ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلاً. وأما الحسن والحسين فكانا طفلين، ولم يكونا رجلين معاصرين له.
الثانية: قوله تعالى: " ولكن رسول الله" قال الأخفش والفراء: أي ولكن كان رسول الله. وأجازا ولكن رسول الله وخاتم بالرفع. وكذلك قرأ ابن أبي عبلة وبعض الناس ولكن رسول الله بالرفع على معنى هو رسول الله وخاتم النبيين. وقرأت فرقة ولكن بتشديد النون، ونصب رسول الله على أنه اسم لكن والخبر محذوف. وخاتم قرأ عاصم وحده بفتح التاء، بمعنى أنهم به ختموا فهو كالخاتم والطابع لهم. وقرأ الجمهور بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم؟ أي جاء آخرهم. وقيل: الخاتم والخاتم لغتان مثل طابع وطابع، ودانق ودانق، وطابق من اللحم وطابق.
الثالثة: قال ابن عطية: هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفًا وسلفًا متلقاة على العموم التام مقتضيه نصًا أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم . وما ذكره القاضي أبو الطمب في كتابه المسمى بالهداية: من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف. وما ذكره الغزالي في هذه الآية، وهذا المعنى في كتابه الذي سماه بالاقتصاد،إلحاد عندي، وتطرق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوة فالحذر منه والله الهادي برحمته.
قلت: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نبوة بعدي إلا ما شاء الله ". قال أبو عمر: يعني الرؤيا والله أعلم التي هي جزء منها كما قال عليه السلام: "ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة ". وقرأ ابن مسعود من رجالكم ولكن نبيًا ختم النبيين . قال الرماني: ختم به عليه الصلاة والسلام الاستصلاح، فمن لم يصلح به فميؤوس من صلاحه.
قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ". وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دار فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون لولا موضع اللبنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء ". ونحوه عن أبي هريرة، غير أنه قال: "فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ".
يمدح تبارك وتعالى "الذين يبلغون رسالات الله" أي إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها "ويخشونه" أي يخافونه ولا يخافون أحداً سواه, فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله تعالى "وكفى بالله حسيباً" أي وكفى بالله ناصراً ومعيناً, وسيد الناس في هذا المقام بل وفي كل مقام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب إلى جميع أنواع بني آدم, وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع, فإنه قد كان النبي قبله إنما يبعث إلى قومه خاصة, وأما هو صلى الله عليه وسلم فإنه بعث إلى جميع الخلق عربهم وعجمهم " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده, فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي الله عنهم, بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله, في ليله ونهاره, وحضره وسفره, وسره وعلانيته, فرضي الله عنهم وأرضاهم ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا, فبنورهم يقتدي المهتدون, وعلى منهجهم يسلك الموفقون, فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم.
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير , أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقوله, فيقول الله ما يمنعك أن تقول فيه ؟ فيقول رب خشيت الناس, فيقول: فأنا أحق أن يخشى" ورواه أيضاً عن عبد الرزاق عن الثوري عن زبيد عن عمرو بن مرة . ورواه ابن ماجه عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية كلاهما عن الأعمش به.
وقوله تعالى: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم" نهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد, أي لم يكن أباه وإن كان قد تبناه, فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم فإنه صلى الله عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها, فماتوا صغاراً وولد له صلى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية, فمات أيضاً رضيعاً, وكان له صلى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين, فمات في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث, وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى أصيبت به صلى الله عليه وسلم, ثم ماتت بعده لستة أشهر.
وقوله تعالى: "ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً" كقوله عز وجل: "الله أعلم حيث يجعل رسالته" فهذه الاية نص في أنه لانبي بعده, وإذا كان لانبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى, لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة, فإن كل رسول نبي ولا ينعكس, وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر الأزدي , حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل , عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها, وترك فيها موضع لبنة لم يضعها, فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنه, فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة" ورواه الترمذي عن بندار عن أبي عامر العقدي به, وقال حسن صحيح.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا عفان , حدثنا عبد الواحد بن زياد , حدثنا المختار بن فلفل , حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعد ولا نبي قال: فشق ذلك على الناس, فقال: ولكن المبشرات قالوا: يارسول الله وما المبشرات ؟ قال: رؤيا الرجل المسلم, وهي جزء من أجزاء النبوة" وهكذا رواه الترمذي عن الحسن بن محمد الزعفراني عن عفان بن مسلم به, وقال: صحيح غريب من حديث المختار بن فلفل .
(حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سليم بن حيان عن سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة, فكان من دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة, فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" ورواه البخاري ومسلم والترمذي من طرق عن سليم بن حيان به, وقال الترمذي : صحيح غريب من هذا الوجه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً فأتمها إلا لبنة واحدة, فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة" انفرد به مسلم من رواية الأعمش به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد , حدثنا حماد بن زيد , حدثنا عثمان بن عبيد الراسبي قال: سمعت أبا الطفيل رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لانبوة بعدي إلا المبشرات قيل: وما المبشرات يارسول الله ؟ قال : الرؤيا الحسنة ـ أو قال ـ الرؤيا الصالحة".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق , أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأكملها وأحسنها وأجملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها, فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون: ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بنيانك ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فكنت أنا اللبنة" أخرجاه من حديث عبد الرزاق .
(حديث آخر) عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال الإمام مسلم : حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قالوا حدثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم, ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, وأرسلت إلى الخلق كافة, وختم بي النبيون" ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث إسماعيل بن جعفر , وقال الترمذي : حسن صحيح.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأتمها إلا موضع لبنة واحدة, فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة" ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب كلاهما عن أبي معاوية به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي , حدثنا معاوية بن صالح , حدثنا سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي , عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم النبيين, وإن آدم لمنجدل في طينته".
(حديث آخر) قال الزهري : أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لي أسماء أنا محمد, وأنا أحمد, وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر, وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي, وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي" أخرجاه في الصحيحين .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ابن إسحاق , حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله ابن هبيرة عن عبد الرحمن بن جبير قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودع فقال: "أنا محمد النبي الأمي ـ ثلاثاً ـ ولانبي بعدي, أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه, وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش, وتجوز بي , وعوفيت وعوفيت أمتي, فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم, فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله تعالى أحلوا حلاله, وحرموا حرامه" تفرد به الإمام أحمد .
ورواه الإمام أحمد أيضاً عن يحيى بن إسحاق عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة لهيعة عن عبد الله بن سريج الخولاني عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص , عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, فذكر مثله سواء, والأحاديث في هذا كثيرة, فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم, ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به وإكمال الدين الحنيف له, وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده, ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب وأفاك دجال ضال مضل, لو تحرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات فكلها محال وضلال عند أولي الألباب كما أجرى الله سبحانه وتعالى على يد الأسود العنسي باليمن ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله, وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال, فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها, وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه, فإنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف ولاينهون عن منكر إلا على سبيل الاتفاق أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم, كما قال تعالى: " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم " الاية, وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, فإنهم في غاية البر والصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه, مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات والأدلة الواضحات والبراهين الباهرات, فصلوات الله وسلامه عليهم دائماً مستمراً ما دامت الأرض والسموات.
فأنزل الله 40- "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم" أي ليس بأب لزيد بن حارثة على الحقيقة حتى تحرم عليه زوجته، ولا هو أب لأحد لم يلده. قال الواحدي: قال المفسرون: لم يكن أبا أحد لم يلده، وقد ولد له من الذكور إبراهيم والقاسم والطيب والمطهر. قال القرطبي: ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلاً: قال: وأما الحسن والحسين فكانا طفلين ولم يكونا رجلين معاصرين له "ولكن رسول الله" قال الأخفش والفراء: ولكن كان رسول الله وأجازا الرفع. وكذا قرأ ابن أبي عبلة بالرفع في رسول وفي خاتم على معنى: ولكن هو رسول الله وخاتم النبيين وقرأ الجمهور بتخفيف لكن، ونصب رسول و خاتم، ووجه النصب على خبرية كان المقدرة كما تقدم، ويجوز أن يكون بالعطف على أبا أحد. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بتشديد لكن ونصب رسول على أنه اسمها وخبرها محذوف: أي ولكن رسول الله هو. وقرأ الجمهور "خاتم" بكسر التاء. وقرأ عاصم بفتحها. ومعنى القراءة الأولى: أنه ختمهم: أي جاء آخرهم. ومعنى القراءة الثانية: أنه صار كالخاتم لهم الذي يتختمون به ويتزينون بكونه منهم. وقيل كسر التاء وفتحها لغتان. قال أبو عبيد: الوجه الكسر لأن التأويل أنه ختمهم فهو خاتمهم، وأنه قال:
"أنا خاتم النبيين" وخاتم الشيء آخره ومنه قولهم: خاتمه المسك. وقال الحسن: الخاتم هو الذي ختم به "وكان الله بكل شيء عليماً" قد أحاط علمه بكل شيء، ومن جملة معلوماته هذه الأحكام المذكورة هنا.
وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن أنس قال: "جاء زيد بن حارثة يشكو زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك، فنزلت "وتخفي في نفسك ما الله مبديه"". قال أنس: فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه الآية، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة "فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها" فكانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات. وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال: " لما انقضت عدة زينب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: اذهب فاذكرها علي، فانطلق، قال: فلما أيتها عظمت في صدري، فقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله يذكرك، قالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
واتبعته، فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقولون: يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر، فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به "لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم" الآية". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عائشة قالت لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه" يعني بالإسلام "وأنعمت عليه" يعني بالعتق "أمسك عليك زوجك" إلى قوله: "وكان أمر الله مفعولاً" وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلاً يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله" يعني أعدل عند الله. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي في قوله: "سنة الله في الذين خلوا من قبل" قال: يعني يتزوج من النساء ما شاء هذا فريضة، وكان من قبل من الأنبياء هذا سنتهم، قد كان لسليمان بن داود ألف امرأة، وكان لداود مائة امرأة. وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن جريج في قوله: "سنة الله في الذين خلوا من قبل" قال داود: والمرأة اليت نكح وزوجها اسمها اليسية، فذلك سنة في محمد وزينب "وكان أمر الله قدراً مقدوراً" كذلك في سنته في داود والمرأة والنبي وزينب. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم" قال: نزلت في زيد بن حارثة. وأخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً، فانتهى إلا لبنة واحدة، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال ما أحسنها إلا موضع اللبنة، فأنا موضع اللبنة حتى ختم بي الأنبياء". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه. وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي بن كعب نحوه أيضاً.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب قال الناس: إن محمداً تزوج امرأة ابنه فأنزل الله عز وجل:
40- "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم"، يعني: زيد بن حارثة، أي: ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلدهم فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها.
فإن قيل: أليس أنه كان له أبناء: القاسم، والطيب، والطاهر، وإبراهيم، وكذلك: الحسن والحسين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن: إن ابني هذا سيد؟
قيل: هؤلاء كانوا صغاراً لم يكونوا رجالاً.
والصحيح ما قلنا: إنه أراد أبا أحد من رجالكم.
"ولكن رسول الله وخاتم النبيين"، ختم الله به النبوة، وقرأ عاصم: خاتم بفتح التاء على الإسم، أي: آخرهم، وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل، لأنه ختم به النبيين فهو خاتمهم.
قال ابن عباس: يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون بعده نبياً.
وروي عن عطاء عن ابن عباس: أن الله تعالى لما حكم أن لا نبي بعده لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً، "وكان الله بكل شيء عليماً".
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد الخذاشاهي، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم، حدثنا أبكر الجوربذي، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس بن زيد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة قال: كان أبو هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه، ترك منه موضع لبنة فطاف به النطار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون سواها فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل".
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا علي بن أحمد الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب الشاشي، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، أخبرنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، وغير واحد قالوا، أخبرنا سفيان عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي".
40 -" ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " على الحقيقة فيثبت بينه وبينه ما بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها ، ولا ينتقض عمومه بكونه أباً للطاهر والقاسم وإبراهيم لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال ولو بلغوا كانوا رجاله لا رجالهم . " ولكن رسول الله " وكل رسول أبو أمته لا مطلقاً بل من حيث إنه شفيق ناصح لهم ، واجب التوقير والطاعة عليهم وزيد منهم ليس بينه وبينه ولادة . وقرئ " رسول الله " بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ولكن بالتشديد على حذف الخبر أي " ولكن رسول الله " من عرفتم أنه لم يعش له ولد ذكر . " وخاتم النبيين " و آخرهم الذي ختمهم أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح ، ولو كان له ابن بالغ لاق بمنصبه أن يكون نبياً كما " قال عليه الصلاة والسلام في إبراهيم حين توفى : لو عاش لكان نبياً " ، ولا يقدح في نزول عيسى بعده لأنه إذا نزل كان على دينه ، مع أن المراد منه أنه آخر من نبئ . " وكان الله بكل شيء عليماً " فيعلم من يليق بأن يختم به النبوة وكيف ينبغي شأنه .
40. Muhammad is not the father of any man among you, but he is the messenger of Allah and the Seal of the Prophets; and Allah is Aware of all things.
40 - Muhammad is not the father of any of your men, but (he is) the Apostle of God, and the Seal of the Prophet: and God has full knowledge of all things.