[الأحزاب : 37] وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا
37 - (وإذ) منصوب باذكر (تقول للذي أنعم الله عليه) بالإسلام (وأنعمت عليه) بالاعتاق وهو زيد بن حارثة كان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وأعتقه وتبناه (أمسك عليك زوجك واتق الله) في أمر طلاقها (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) مظهره من محبتها وأن لو فارقها زيد تزوجتها (وتخشى الناس) أن يقولوا تزوج زوجة ابنه (والله أحق أن تخشاه) في كل شيء وتزوجها ولا عليك من قول الناس ثم طلقها زيد وانقضت عدتها قال تعالى (فلما قضى زيد منها وطرا) حاجة (زوجناكها) فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم بغير إذن وأشبع المسلمين خبزا ولحما (لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر) مقضيه (الله)
قوله تعالى وإذ تقول الآيات أخرج البخاري عن أنس أن هذه الآية وتخفي في نفسك ما الله مبديه نزلت في بنت جحش وزيد بن حارثة
وأخرج الحاكم عن أنس قال جاء زيد بن حارثة يشكو إلى رسول صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عليك أهلك فنزلت وتخفي في نفسك ما الله مبديه
وأخرج مسلم واحمد والنسائي قال لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد اذهب فاذكرها علي فانطلق فأخبرها فقالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته فجعل يتبع حجر نسائه ثم أخبر أن القوم قد خرجوا فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقي الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به ولا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم الآية
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عتاباً من الله له " و " اذكر يا محمد " إذ تقول للذي أنعم الله عليه " بالهداية " وأنعمت عليه " بالعتق، يعني زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمسك عليك زوجك واتق الله " ( وذلك أن زينب بنت جحش فيما ذكر رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبته، وهي في حبال مولاه، فألقي في نفس زيد كراهتها لما علم الله مما وقع في نفس نبيه ما وقع، فأراد فراقها، فذكر ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمسك عليك زوجك " وهو صلى الله عليه وسلم يحب أن تكون قد بانت منه لينكحها " واتق الله " وخف الله في الواجب له عليك في زوجتك " وتخفي في نفسك ما الله مبديه " يقول: وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها لتتزوجها إن هو فارقها، والله مبد ما تخفي في نفسك من ذلك " وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه " يقول تعالى ذكره: وتخاف أن يقول الناس: أمر رجلاً بطلاق امرأته ونكحها حين طلقها، والله أحق أن تخشاه من الناس).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " وهو زيد أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه: أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه " قال: وكان يخفي في نفسه ود أنه طلقها، قال الحسن: ما أنزلت عليه آية كانت أشد عليه منها قوله " وتخفي في نفسك ما الله مبديه " ولو كان نبي الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتمها " وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه " قال: خشي نبي الله صلى الله عليه وسلم مقالة الناس.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ابن زيد: " كان النبي صلى الله عليه وسلم قد زوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش، ابنة عمته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يريده وعلى الباب ستر من شعر، فرفعت الريح الستر فانكشف، وهي في حجرتها حاسرة، فوقع إعجابها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وقع ذلك كرهت إلى الآخر، فجاء فقال: يا رسول الله إني أريد أن أفارق صاحبتي، قال: ما لك، أرابك منها شيء؟ قال: لا، والله ما رابني منها شيء يا رسول الله، ولا رأيت إلا خيراً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك زوجك واتق الله، فذلك قول الله تعالى " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه " تخفي في نفسك إن فارقها تزوجتها ".
حدثني محمد بن موسى الجرشي، قال: ثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أبي حمزة، قال: نزلت هذه الآية " وتخفي في نفسك ما الله مبديه " في زينب بنت جحش.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن علي بن حسين، قال: كان الله تبارك وتعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه، فلما أتاه زيد يشكوها قال: اتق الله وأمسك عليك زوجك، قال الله " وتخفي في نفسك ما الله مبديه ".
حدثني إسحاق بن شاهين، قال: ثنا داود، عن عامر، عن عائشة، قالت: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحى إليه من كتاب الله لكتم " وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ".
وقوله " فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها " يقول تعالى ذكره: فلما قضى زيد بن حارثة من زينب حاجته، وهي الوطر، ومنه قول الشاعر:
ودعني قبل أن أودعه لما قضى من شبابنا وطرا
" زوجناكها " يقول: زوجناك زينب بعد ما طلقها زيد وبانت منه " لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم " يعني: في نكاح نساء من تبنوا وليسوا ببنيهم ولا أولادهم على صحة إذا هم طلقوهن وبن منهم " إذا قضوا منهن وطرا " يقول: إذا قضوا منهن حاجتهم وآرابهم وفارقوهن وحللن لغيرهم، ولم يكن ذلك نزولاً منهم لهم عنهن " وكان أمر الله مفعولا " يقول: وكان ما قضى الله من قضاء مفعولاً: أي كائناً كان لا محالة. وإنما يعني بذلك أن قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ماضياً مفعولاً كائناً.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله " لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا " يقول: إذا طلقوهن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنى زيد بن حارثة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " فلما قضى زيد منها وطرا " ... إلى قوله " وكان أمر الله مفعولا " إذا كان ذلك منه غير نازل لك، فذلك قول الله ( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) ( النساء: 23).
حدثني محمد بن عثمان الواسطي، قال: ثنا جعفر بن عون، عن المعلى بن عرفان، عن محمد بن عبد الله بن جحش، قال: تفاخرت عائشة وزينب، قال: فقالت زينب: أنا الذي نزل تزويجي.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: كانت زينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن: إن جدي وجدك واحد، وإني أنكحينك الله من السماء، وإن السفير لجبرائيل عليه السلام.
" وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا"
فيه تسع مسائل: الأولى: روى الترمذي قال: حدثنا علي بن حجر قال: حدثنا داود بن الزبرقان عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:"لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه "الآية: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " يعنى بالإسلام "وأنعمت عليه " بالعتق فأعتقته. " أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه " إلى قوله،" وكان أمر الله مفعولا " وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله تعالى: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلاً يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله تبارك وتعالى " ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم " فلان مولى فلان، وفلان أخو فلان، هو أقسط عند الله يعني أعدل. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب قد روي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها. قالت:"لو كان النبي صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئاً من الوحي لكتم هذه "الآية:
" وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه " هذا الحرف لم يرو بطوله.
قلت: هذا القدر الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وهو الذي صححه الترمذي في جامعه. وفي البخاري عن أنس بن مالك:أن هذه الآية: " وتخفي في نفسك ما الله مبديه " نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة وقال عمر وابن مسعود وعائشة والحسن: ما أنزل الله على رسوله آية أشد عليه من هذه الآية. وقال الحسن وعائشة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه. وروي في الخبر أنه: أمسى زيد فأوى إلى فراشه، قالت زينب: ولم يستطعني زيد، وما أمتنع منه غير ما منعه الله مني، فلا يقدر علي. هذه رواية أبي عصمة نوح بن أبي مريم ، رفع الحديث إلى زينب انها قالت ذلك. وفي بعض الروايات: أن زيدًا تورم ذلك منه حين أراد أن يقربها فهذا قريب من ذلك. وجاء زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن زينب تؤذيني بلسانها وتفعل وتفعل وإني أريد أن أطلقها، فقال له: "أمسك عليك زوجك واتق الله " الآية. فطلقها زيد فنزلت: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه " الآية. واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين، منهم الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عصمة زيد، وكان حريصًا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو؟ ثم إن زيدًا لما أخبره بأنه يريد فراقها، ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر، وأذى باللسان وتعظما بالشرف، قال له: اتق الله أي فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها. وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف. وقال مقاتل : زوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من زيد فمكثت عنده حينا، ثم إنه عليه السلام أتى زيدًا يومًا يطلبه، فأبصر زينب قائمة، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش، فهويها وقال: سبحان الله مقلب القلوب فسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطن زيد فقال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبرًا، تعظم علي وتؤذيني بلسانها، فقال عليه السلام: أمسك عليك زوجك واتق الله . وقيل : إن الله بعث ريحًا فرفعت الستر وزينب متفضلة في منزلها، فرأى زينب فوقعت في نفسه، ووقع في نفس زينب أنها وقعت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما جاء يطلب زيدًا، فجاء زيد فأخبرته بذلك، فوقع في نفس زيد أن يطلقها. وقال ابن عباس: " وتخفي في نفسك " الحب لها. "وتخشى الناس " أي تستحييهم. وقيل: تخاف وتكره لائمة المسلمين لو قلت طفقها، ويقولون أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها. "والله أحق أن تخشاه " في كل الأحوال. وقيل: والله أحق أن تستحي منه، ولا تأمر زيدًا بإمساك زوجته بعد أن أعلمك الله أنها ستكون زوجتك، فعاتبه الله على جميع هذا. وروي عن علي بن الحسين :" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدًا يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوجها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم أنه سيتزوجها، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في شيء قد أباحه الله له بأن قال: أمسك مع علمه بأنه يطلق". وأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين كالزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم. والمراد بقوله تعالى: "وتخشى الناس " إنما هو إرجاف المنافقين بأنه نهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج بزوجة ابنه. فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوي زينب امرأة زيد وربما أطلق بعض المجان لفظ عشق فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخف بحرمته. قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول، وأسند إلى علي بن الحسين قوله، فعلي بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهرا من الجواهر، ودرًا من الدرر، أنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجك، فكيف قال بعد ذلك لزيد: أمسك عليك زوجك وأخذتك خشية الناس أن يقولوا: تزوج امرأة ابنه والله أحق أن تخشاه. وقال النحاس: قال بعض العلماء: ليس هذا من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه. وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه، وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتتن الناس.
الثانية: قال ابن العربي: فإن قيل لأي معنى قال له: أمسك عليك زوجك وقد أخبره الله أنها زوجه. قلنا: أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله من رغبته فيها أو رغبته عنها فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها. فإن قيل: كيف يأمره بالتمسك بها وقد علم أن الفراق لا بد منه؟ وهذا تناقض. قلنا: بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة، لإقامة الحجة ومعرفة العاقبة، ألا ترى أن الله تعالى يأمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يؤمن، فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما. وهذا من نفيس العلم فتيقنوه وتقبلوه وقوله: واتق الله أي في طلاقها، فلا تطلقها. وأراد نهي تنزيه لا نهي تحريم، لأن الأولى ألا يطلق. وقيل: اتق الله فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج. " وتخفي في نفسك " قيل تعلق قلبه. وقيل: مفارقة زيد إياها. وقيل: علمه بأن زيدًا سيطلقها لأن الله قد أعلمه بذلك.
الثالثة: روي" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لزيد: ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب علي قال: فذهبت ووليتها ظهري توقيرًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وخطبتها ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها"
قلت: معنى هذا الحديث ثابت في الصحيح. وترجم له النسائي (صلاة المرأة إذا خطبت واستخارتها ربها) روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أنس قال:"لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: فاذكرها علي قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن. قال: فقال ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار..." الحديث. في رواية حتى تركوه. وفي رواية عن أنس أيضا قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب فإنه ذبح شاة ". قال علماؤنا: فقوله عليه السلام لزيد: فاذكرها علي أي اخطبها كما بينه الحديث الأول. وهذا امتحان لزيد واختبار له، حتى يظهر صبره وانقياده وطوعه.
قلت: وقد يستنبط من هذا أن يقول الإنسان لصاحبه: اخطب علي فلانة، لزوجة المطلقة منه، ولا حرج في ذلك. والله أعلم.
الرابعة: لما وكلت أمرها إلى الله وصح تفويضها إليه تولى الله إنكاحها ولذلك قال: " فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها". وروى الإمام جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم وطرًا زوجناكها . ولما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن، ولا تجديد عقد ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطاً في حقوقنا ومشروعا لنا. وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع من المسلمين. ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن اباؤكن وزوجني الله تعالى. أخرجه النسائي عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول: إن الله عز وجل أنكحني من السماء. وفيها نزلت آية الحجاب وسيأتي.
الخامسة: المنعم عليه في هذه الآية هو زيد بن حارثة، كما بيناه وقد تقدم خبره في أول السورة. وروي أن" عمه لقيه يومًا وكان قد ورد مكة في شغل له، فقال: ما اسمك يا غلام؟ قال: زيد؟ قال: ابن من؟ قال: ابن حارثة. قال ابن من؟ قال: ابن شراحيل الكلبي. قال: فما اسم أمك؟ قال: سعدى، وكنت في أخوالي طي فضمه إلى صدره. وأرسل إلى أخيه وقومه فحضروا، وأرادوا منه أن يقيم معهم؟ فقالوا: لمن أنت؟ قال: لمحمد بن عبد الله؟ فأتوه وقالوا: هذا ابننا فرده علينا. فقال: أعرض عليه فإن اختاركم فخذوا بيده فبعث إلى زيد وقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم هذا أبي، وهذا أخي، وهذا عمي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فأي صاحب كنت لك؟ فبكى وقال: لم سألتني عن ذلك؟ قال: أخيرك فإن أحببت أن تلحق بهم فالحق وإن أردت أن تقيم فأنا من قد عرفت فقال: ما أختار عليك أحدًا. فجذبه عمه وقال: يا زيد، اخترت العبودية على أبيك وعمك فقال: أي والله العبودية عند محمد أحب إلي من أن أكون عندكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا أني وارث وموروث . فلم يزل يقال: زيد بن محمد "إلى أن نزل قوله تعالى: "ادعوهم لآبائهم " ونزل " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ".
السادسة: قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي رضي الله عنه: كان يقال زيد بن محمد حتى نزل: " ادعوهم لآبائهم " فقال: أنا زيد بن حارثة. وحرم عليه أن يقول: أنا زيد بن محمد. فلما نزع عنه هذا الشرف وهذا الفخر، وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أنه سماه في القرآن فقال تعالى: "فلما قضى زيد منها وطرا" يعني من زينب. ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآنا يتلى في المحاريب، نوه به غاية التنويه فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم له. ألا ترى إلى قول أبي بن كعب حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا فبكى وقال: أوذكرت هنالك؟ وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أن الله تعالى ذكره فكيف بمن صار اسمه قرآنا يتلى مخلدًا لا يبيد، يتلوه أهل الدنيا إذا قرؤوا القرآن، وأهل الجنة كذلك أبدًا، لا يزال على ألسنة المؤمنين، كما لم يزل مذكورًا على الخصوص عند رب العالمين؟ إذ القرآن كلام الله القديم، وهو باق لا يبيد فاسم زيد هذا في الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة، تذكره في التلاوة السفرة الكرام البررة". وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبي من الأنبياء، ولزيد بن حارثة تعويضًا من الله تعالى له مما نزع عنه. وزاد في الآية أن قال: " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " أي بالإيمان فدل على أنه من أهل الجنة، علم ذلك قبل أن يموت، وهذه فضيلة أخرى.
السابعة: قوله تعالى: "وطرا" الوطر كل حاجة للمرء له فيها همة والجمع الأوطار. قال ابن عباس: أي بلغ ما أراد من حاجته يعني الجماع. وفيه إضمار أي لما قضى وطره منها وطلقها زوجناكها وقراءة أهل البيت زوجتكها. وقيل: الوطر عبارة عن الطلاق؟ قاله قتادة.
الثامنة: ذهب بعض الناس من هذه الآية، ومن قول شعيب: "إني أريد أن أنكحك" (القصص: 27) إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون: أنكحه إياها فتقدم ضمير الزوج كما في الآيتين. وكذلك قوله عليه السلام لصاحب الرداء:"اذهب فقد انكحتكها بما معك من القرأن ". قال ابن عطية: وهذا غيرلازم؟ لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه، وفي المهور الزوجان سواء، فقدم من شئت، ولم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال، وأنهم القوامون.
التاسعة: قوله تعالى: "زوجناكها" دليل على ثبوت الولي في النكاح؟ وقد تقدم الخلاف في ذلك . روي أن عائشة وزينب تفاخرتا، فقالت عائشة: أنا التي جاء بي الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة من حرير فيقول:هذه امرأتك خرجه الصحيح. وقالت زينب: أنا التي زوجني الله من فوق سبع سموات، وقال الشعبي: كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأدل عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهن إن جدي وجدك واحد، وإن الله أنكحك إياي من السماء، وإن السفير في ذلك جبريل. وروي عن زينب أنها قالت: لما وقعت في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستطعني زيد، وما أمتنع منه غير ما يمنعه الله تعالى مني فلا يقدر علي.
يقول تعالى مخبراً عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو الذي أنعم الله عليه أي بالإسلام ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم "وأنعمت عليه" أي بالعتق من الرق, وكان سيداً كبير الشأن جليل القدر حبيباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له الحب, ويقال لابنه أسامة الحب بن الحب , قالت عائشة رضي الله عنها: ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلا أمره عليهم, ولو عاش بعده لاستخلفه, رواه الإمام أحمد عن سعيد بن محمد الوراق ومحمد بن عبيد عن وائل بن داوود عن عبد الله البهي عنها.
وقال البزار : حدثنا خالد بن يوسف , حدثنا أبو عوانة , وحدثنا محمد بن معمر , حدثنا أبو داود حدثنا أبو عوانة , أخبرني عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كنت في المسجد فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: فقالا: ياأسامة استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقلت: علي والعباس يستأذنان, فقال صلى الله عليه وسلم: "أتدري ما حاجتهما ؟ قلت: لا يارسول الله, قال صلى الله عليه وسلم: لكني أدري قال: فأذن لهما, قالا: يارسول الله جئناك لتخبرنا أي أهلك أحب إليك ؟ قال صلى الله عليه وسلم أحب أهلي إلي فاطمة بنت محمد قالا: يارسول الله ما نسألك عن فاطمة, قال صلى الله عليه وسلم فأسامة بن زيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها, وأمها أميمة بنت عبد المطلب, وأصدقها عشرة دنانير وستين درهما, وخماراً وملحفة ودرعاً, وخمسين مداً من طعام وعشرة أمداد من تمر, قاله مقاتل بن حيان , فمكث عنده قريباً من سنة أو فوقها, ثم وقع بينهما, فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: "أمسك عليك زوجك واتق الله" قال الله تعالى: "وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم, أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها.
وقد روى الإمام أحمد ههنا أيضاً حديثاً من رواية حماد بن زيد عن ثابت , عن أنس رضي الله عنه فيه غرابة تركنا سياقه أيضاً. وقد روى البخاري أيضاً بعضه مختصراً فقال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم , حدثنا معلى بن منصور عن حماد بن زيد , حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن هذه الاية "وتخفي في نفسك ما الله مبديه" نزلت في زيد , حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه. قال: إن هذه الاية "وتخفي في نفسك ما الله مبديه" نزلت في شأن زينب بنت حجش وزيد بن حارثة رضي الله عنهما. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا علي بن هاشم مرزوق , حدثنا ابن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال: سألني علي بن الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تعالى: "وتخفي في نفسك ما الله مبديه" فذكرت له, فقال: " لا ولكن الله تعالى أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها, فلما أتاه زيد رضي الله عنه ليشكوها إليه قال: اتق الله وأمسك عليك زوجك فقال: قد أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما الله مبديه " . وهكذا روي عن السدي أنه قال نحو ذلك.
وقال ابن جرير : حدثنا إسحاق بن شاهين , حدثني خالد عن داود عن عامر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم "وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" وقوله تعالى: "فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها" الوطر هو الحاجة والأرب, أي لما فرغ منها وفارقها زوجناكها, وكان الذي ولي تزويجها منه هو الله عز وجل بمعنى أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولامهر ولا شهود من البشر.
قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم يعني ابن القاسم , أخبرنا النضر , حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة اذهب فاذكرها علي فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها, قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها, فوليتها ظهري ونكصت على عقبي, وقلت: يازينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك, قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل, فقامت إلى مسجدها, ونزل القرآن, وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن, ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمنا عليها الخبز واللحم, فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته, فجعل صلى الله عليه وسلم يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن: يارسول الله كيف وجدت أهلك ؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر, فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه, فألقى الستر بيني وبينه " , ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به "لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم" الاية كلها, ورواه مسلم والنسائي من طرق عن سليمان بن المغيرة به.
وقد روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي فتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات, وقد قدمنا في سورة النور عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما, فقالت زينب رضي الله عنها: أنا الذي نزل تزويجي من السماء, وقالت عائشة رضي الله عنها: أنا التي نزل عذري من السماء, فاعترفت لها زينب رضي الله عنها. وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن المغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدلي عليك بثلاث, وما من نسائك امرأة تدلي بهن: إن جدي وجدك واحد, وإني أنكحنيك الله عز وجل من السماء, وإن السفير جبريل عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: " لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا " أي إنما أبحنا لك تزويجها, وفعلنا ذلك لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة رضي الله عنه, فكان يقول له زيد بن محمد, فلما قطع الله تعالى هذه النسبة بقوله تعالى: " وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله " ثم زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها, لما طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه, ولهذا قال تعالى في آية التحريم "وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم" ليحترز من الابن الدعي, فإن ذلك كان كثيراً فيهم. وقوله تعالى: "وكان أمر الله مفعولاً" أي وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحتمه وهو كائن لامحالة, كانت زينب رضي الله عنها في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
لما زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة بزينب بنت جحش كما مر في تفسير الآية التي قبل هذه أنزل الله سبحانه 37- "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه" أي واذكر إذ تقول للذي أنعم الله عليه وهو زيد بن حارثة، أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أعتقه من الرق، وكان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وأعتقه وتبناه، وسيأتي في بيان سبب نزول الآية في آخر البحث ما يوضح المراد منها. قال القرطبي: وقد اختلف في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم ابن جرير الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو، ثم إن زيداً لما أخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظماً بالشرف قال له: اتق الله فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها، وهذا الذي كان يخفي في نفسه ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف انتهى "أمسك عليك زوجك" يعني زينب "واتق الله" في أمرها ولا تعجل بطلاقها "وتخفي في نفسك ما الله مبديه" وهو نكاحها إن طلقها زيد، وقيل حبها "وتخشى الناس" أي تستحييهم، أو تخاف من تعييرهم بأن يقولوا أمر مولاه بطلاق امرأته ثم تزوجها "والله أحق أن تخشاه" في كل حال وتخاف منه وتستحييه والواو للحال: أي تخفي في نفسك ذلك الأمر مخافة من الناس "فلما قضى زيد منها وطراً" قضاء الوطر في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفسمن الشيء، يقال قضى وطراً منه: إذا بلغ ما أراد من حاجته فيه، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
أيها الرائح المجد ابتكارا قد قضى من تهامة الأوطارا
أي فرغ من أعمال الحج وبلغ ما أراد منه، والمراد هنا أنه قضى وطره منها بنكاحه والدخول بها بحيث لم يبق له فيها حاجة، وقيل المراد به الطلاق، وأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة وقال المبرد: الوطر الشهوة والمحبة وأنشد:
وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما قضى وطراً منها جميل بن معمر
وقال أبو عبيدة: الوطر: الأرب والحاجة، وأنشد قول الفزاري:
ودعنا قبل أن نودعه لما قضى من شبابنا وطرا
قرأ الجمهور "زوجناكها" وقرأ علي وابناه الحسن والحسين زوجتكها فلما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن ولا عقد ولا تقدير صداق ولا شيء مما هو معتبر في النكاح في حق أمته. وقيل المراد به الأمر له بأن يتزوجها. والأول أولى، وبه جاءت الأخبار الصحيحة. ثم علل سبحانه ذلك بقوله: " لكي لا يكون على المؤمنين حرج " أي ضيق ومشقة "في أزواج أدعيائهم" أي في التزوج بأزواج من يجعلونه ابناً كما كانت تفعله العرب فإنهم كانوا يتبنون من يريدون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة، فكان يقال زيد بن محمد حتى نزل قوله سبحانه: "ادعوهم لآبائهم" وكانت العرب تعتقد أنه يحرم عليه نساء من تبنوه كما تحرم عليه نساء أبنائهم حقيقة. والأدعياء حلال لهم "إذا قضوا منهن وطراً" بخلاف ابن الصلب فإن امرأته تحرم عليه أبيه بنفس العقد عليها "وكان أمر الله مفعولاً" أي كان قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاءً ماضياً مفعولاً لا محالة.
قوله تعالى: 37- "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك"، الآية، نزلت في زينب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوج زينب من زيد مكثت عنده حيناً، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى زيداً ذات يوم لحاجة، فأبصر زينب قائمة في درع وخمار، وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش، فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها، فقال: سبحان الله مقلب القلوب وانصرف، فلما جاء زيد ذكرت ذلك له، ففطن زيد، فألقي في نفس زيد كراهيتها في الوقت، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي، قال: ما لك أرابك منها شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيراً، ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عليك زوجتك، يعني: زينب بنت جحش، "واتق الله"، في أمرها ثم طلقها زيد، فذكل قوله عز وجل:
"وإذ تقول للذي أنعم الله عليه"، بالإسلام، "وأنعمت عليه"، بالإعتاق، وهو زيد بن حارثة: " أمسك عليك زوجك واتق الله " فيها ولا تفارقها، "وتخفي في نفسك ما الله مبديه" أي: تسر في نفسك ما الله مظهره، أي: كان في قلبه لو فارقها فتزوجها.
وقال ابن عباس: حبها. وقال قتادة: ود أنه طلقها.
"وتخشى الناس"، قال ابن عباس والحسن: تستحييهم.
وقيل: تخاف لائمة الناس أن يقولوا: أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها.
"والله أحق أن تخشاه"، قال عمر، وابن مسعود، وعائشة، ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية.
وروي عن مسروق قال: قالت عائشة: لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية: "وتخفي في نفسك ما الله مبديه".
وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال: سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله: "وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه"؟ قلت: يقول لما جاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك، فقال: أمسك عليك زوجتك واتق الله، فقال علي بن الحسين: ليس كذلك، كان الله تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها، فلما جاء زيد وقال: إني أريد أن أطلقها قال له: أمسك عليك زوجك، فعاتبه الله وقال: لم قلت: أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك؟.
وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله علم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال: زوجناكها فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله أنها ستكون زوجة له، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد: التي تحتك وفي نكاحك ستكون امرأتي، وهذا قول حسن مرض، وإن كان القول الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه في مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم، لأن الود وميل النفس من طبع الشر.
وقوله: "أمسك عليك زوجك واتق الله" أمر بالمعروف، وهو خشية لا إثم فيه.
وقوله تعالى: "والله أحق أن تخشاه"، لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه السلام قد قال: "أنا أخشاكم لله وأتقاكم له"، ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله تعالى أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء.
قوله عز وجل: "فلما قضى زيد منها وطراً"، أي: حاجة من نكاحها، "زوجناكها"، وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنى تحل بعد الدخول بها.
قال أنس: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجكن أهاليكن زوجني الله من فوق سبع سموات.
وقال الشعبي: كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن: جدي وجدك واحد، إني أنكحنيك الله في السماء، وإن السفير لجبريل عليه السلام.
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغفار بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن الحجاج، حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، أخبرنا بهز، أخبرنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: فاذكرها علي، قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك.
قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن.
قال: ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم، حتى امتد النهار، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته فجعل يتتبع حجز نسائه يسلم عليهن، ويقلن: يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ قال: فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبرني.
قال: فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا سليمان بن حرب، أخبرنا حماد، عن ثابت، عن أنس قال:" ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة".
أخبرنا محمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا محمد بن هشام بن ملاس النمري، أخبرنا مروان الفزاري، أخبرنا حميد عن أنس قال: "أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ابتنى بزينب بنت جحش فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً".
قوله عز وجل: " لكي لا يكون على المؤمنين حرج "، إثم، "في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً"، والأدعياء: جمع الدعي، وهو المتبني، يقول: زوجناك زينب، وهي امرأة زيد الذي تبنيته، ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبنى، وإن كان قد دخل بها المتبنى بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب.
"وكان أمر الله مفعولاً"، أي: كان قضاء الله ماضياً وحكمه نافذاً وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
37 -" وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " بتوفيقه للإسلام وتوفيقك لعتقه واختصاصه . " وأنعمت عليه " بما وفقك الله فيه وهو زيد بن حارثة . " أمسك عليك زوجك " زينب . وذلك : أنه عليه الصلاة والسلام أبصرها بعد ما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال سبحان الله مقلب القلوب ، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها ، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام وقال : أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال : ما لك أرابك منها شيء ، فقال : لا والله ما رأيت منها إلا خيراً ولكنها لشرفها تتعظم علي ، فقال له : أمسك عليك زوجك . " واتق الله " في أمرها فلا تطلقها ضراراً وتعللاً بتكبرها . " وتخفي في نفسك ما الله مبديه " وهو ناكحها إن طلقها أو إرادة طلاقها . " وتخشى الناس " تعييرهم إياك به . " والله أحق أن تخشاه " إن كان فيه ما يخشى ، والواو للحال ، وليست المعاتبة على الإخفاء وحده فإنه حسن بل على الإخفاء مخافة قالة الناس وإظهار ما ينافي إضماره ، فإن الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الأمر إلى ربه . " فلما قضى زيد منها وطراً " حاجة بحيث ملها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها . " زوجناكها " وقيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق مثل لا حاجة لي فيك . وقرئ (( زوجتكها )) والمعنى أنه أمر بتزويجها منه أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد . ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى تولى إنكاحي وأنتن زوجكن أولياؤكن . وقيل كان زيد السفير في خطبتها وذلك ابتلاء عظيم وشاهد بين على قوة إيمانه . " لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا " علة للتزويج ، وهو دليل على أن حكمه وحكم الأمة واحدة إلا ما خصه الدليل " وكان أمر الله " أمره الذي يريده " مفعولاً " مكوناً لا محالة كما كان تزويج مريم .
37. And when thou saidst unto him on whom Allah hath conferred favor and thou hast conferred favor: Keep thy wife to thyself, and fear Allah. And thou didst hide in thy mind that which Allah was to bring to light, and thou didst fear mankind whereas Allah had a better right that thou shouldst fear Him. So when Zeyd had performed the necessary formality (of divorce) from her, We gave her unto thee in marriage, so that (henceforth) there may be no sin for believers in respect of wives of their adopted sons, when the latter have performed the necessary formality (of release) from them. The commandment of Allah must be fulfilled.
37 - Behold thou didst say to one who had received the grace of God and thy favour: Retain thou (in wedlock) thy wife, and fear God. But thou didst hide in thy heart that which God was about to make manifest thou didst fear the people, But it is more fitting that thou shouldst fear God. Then when Zaid had dissolved (his marriage) with her, with the necessary (formality), We joined her in marriage to thee: in order that (in future) there may be no difficulty to the Believers In (the matter of) marriage with the wives of their adopted sons, when the latter have dissolved with the necessary (formality their marriage) with them. And God's command must be fulfilled.