[الروم : 26] وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ
26 - (وله من في السماوات والأرض) ملكا وخلقا وعبيدا (كل له قانتون) مطيعون
يقول تعالى ذكره: ولله من في السماوات والأرض من ملك وجن وإنس عبيد وملك " كل له قانتون " يقول: كل له مطيعون. فيقول قائل: وكيف قيل " كل له قانتون " وقد علم أن أكثر الإنس والجن له عاصون؟ فنقول: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فنذكر اختلافهم، ثم نبين الصواب عندنا في ذلك من القول، فقال بعضهم: ذلك كلام مخرجه مخرج العموم، والمراد به الخصوص، ومعناه: كل له قانتون في الحياة والبقاء والموت، والفناء والبعث والنشور، لا يمتنع عليه شيء من ذلك، وإن عصاه بعضهم في غير ذلك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله " ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره " ... إلى " كل له قانتون " يقول: مطيعون، يعني الحياة والنشور والموت، وهم عاصون له فيما سوى ذلك من العبادة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كل له قانتون بإقرارهم بأنه ربهم وخالقهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " كل له قانتون ": أي مطيع مقر بأن الله ربه وخالقه.
وقال آخرون: هو على الخصوص، والمعنى: وله من في السماوات والأرض من ملك وعبد مؤمن لله مطيع دون غيرهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " كل له قانتون " قال: كل له مطيعون، المطيع: القانت، قال: وليس شيء إلا وهو مطيع، إلا ابن آدم، وكان أحقهم أن يكون أطوعهم لله. وفي قوله ( وقوموا لله قانتين) ( البقرة: 238) قال: هذا في الصلاة، لا تتكلموا في الصلاة كما يتكلم أهل الكتاب في الصلاة، قال: وأهل الكتاب يمشي بعضهم إلى بعض في الصلاة، قال: ويتقابلون في الصلاة، فإذا قيل لهم في ذلك، قالوا: لكي تذهب الشحناء من قلوبنا تسلم قلوب بعضنا لبعض، فقال الله: وقوموا لله قانتين لا تزولوا كما يزولون، قانتين لا تتكلموا كما يتكلمون. قال: فأما ما سوى هذا كله في القرآن من القنوت فهو الطاعة إلا هذه الواحدة.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن عباس، وهو أن كل من في السماوت والأرض من خلق لله مطيع في تصرفه فيما أراد تعالى ذكره من حياة وموت، وما أشبه ذلك، وإن عصاه فيما يكسبه بقوله، وفيما له السبيل إلى اختياره وإيثاره على خلافه.
وإنما قلت: ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك، لأن العصاة من خلقه فيما لهم السبيل إلى اكتسابه كثير عددهم، وقد أخبر تعالى ذكره عن جميعهم أنهم له قانتون، فغير جائز أن يخبر عمن هو عاصم أنه له قانت فيما هو له عاص، وإذا كان ذلك كذلك، فالذي فيه عاص هو ما وصفت، والذي هو له قانت ما بينت.
قوله تعالى: "ومن آياته أن خلقكم من تراب" أي من علامات ربوبيته ووحدانيته أن خلقكم من تراب، أي خلق أباكم منه والفرع كالأصل، وقد مضى بيان هذا في الأنعام. وأن موضع رفع بالابتداء وكذا "أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا".
"ثم إذا أنتم بشر تنتشرون" ثم أنتم عقلاء ناطقون تتصرفون فيما هو قوام معايشكم، فلم يكن ليخلقكم عبثاً، ومن قدر على هذا فهو أهل للعبادة والتسبيح. ومعنى: "خلق لكم من أنفسكم أزواجا" أي نساء تسكنون إليها. "من أنفسكم" أي من نطف الرجال ومن جنسكم. وقيل: المراد حواء، خلقها من ضلع آدم، قاله قتادة.
"وجعل بينكم مودة ورحمة" قال ابن عباس ومجاهد: المودة الجماع، والرحمة الولد، وقاله الحسن. وقيل: المودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض. وقال السدي: المودة: المحبة، والرحمة: الشفعة، وروي معناه عن ابن عباس قال: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء. ويقال: إن الرجل أصله من الأرض وفيه قوة الأرض، وفيه الفرج الذي منه بدئ خلقه فيحتاج إلى سكن، وخلقت المرأة سكناً للرجل، قال الله تعالى: "ومن آياته أن خلقكم من تراب" الآية. وقال: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها" فأول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة، وذلك أن الفرج إذا تحمل فيه هيج ماء الصلب إليه، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج، وللرجال خلق البضع منهن، قاله الله تعالى: "وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم" الشعراء: 166 فأعلم الله عز وجل الرجال أن ذلك الموضع خلق منهن للرجال، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج، فإن منعته فهي ظالمة وفي حرج عظيم، ويكفيك من ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها" . وفي لفظ آخر: "إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح". "ومن آياته خلق السماوات والأرض" تقدم في البقرة وكانوا يعترفون بأن الله تعالى هو الخالق. "واختلاف ألسنتكم وألوانكم" اللسان الفم، وفيه اختلاف اللغات: من العربية إلى العجمية والتركية والرومية. واختلف الألوان في الصور: من البياض والسواد والحمرة، فلا تكاد ترى أحداً إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر. وليس هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين، فلا بد من فاعل، فعلم أن الفاعل هو الله تعالى، فهذا من أدل دليل على المدبر البارئ. "إن في ذلك لآيات للعالمين" أي للبر والفاجر. وقرأ حفص: للعالمين بكسر اللام جمع عالم. "ومن آياته منامكم بالليل والنهار" قيل: في هذه الآية تقديم وتأخير، والمعنى: ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار، فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل وعطفه عليه، والواو تقوم مقام حرف الجر إذا اتصلت بالمعطوف عليه في الاسم الظاهر خاصة، فجعل النوم بالليل دليل على الموت، والتصرف بالنهار دليلاً على البعث. "إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون" يريد سماع تفهم وتدبر. وقيل: يسمعون الحق فيتبعونه. وقيل: يسمعون الوعظ فيخافونه وقيل: يسمعون القرآن فيصدقونه، والمعنى متقارب. وقيل: كان منهم من إذا تلي القرآن وهو حاضر سد أذنيه حتى لا يسمع، فبين الله عز وجل هذه الدلائل عليه.
"ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا" قيل: المعنى أن يريكم، فحذف أن لدلالة الكلام عليه، قال طرفة:
ألا أيهذا اللائمي أخضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وقيل: هو على التقديم والتأخير، أي ويريكم البرق من أياته. وقيل: أي ومن آياته آية يريكم بها البرق، كما قال الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أتبغي العيش أكدح
وقيل: أي من آياته أنه يريكم البرق خوفاً وطمعاً من آياته، قاله الزجاج، فيكون عطف جملة على جملة.خوفاً أي للمسافر. وطمعاً للمقيم، قاله قتادة. الضحاك: خوفاً من الصواعق، وطمعاً في الغيث. يحيى بن سلام: خوفاً من البرد أن يهلك الزرع، وطمعاً في المطر أن يحي الزرع. ابن بحر: خوفاً أن يكون البرق برقاً خلباً لا يمطر وطمعاً أن يكون ممطراً، وأنشد قول الشاعر:
لا يكن برقـك برقـاً خلبا إن خير البرق مـا الغيث معه
وقال آخر:
فقـد أرد الميـاه بغــير زاد سوى عـدى لها برق الغمام
والبرق الحلب: الذي لا غيث فيه كأنه خادع، ومنه قيل لمن يعد ولا ينجز: إنما أنت كبرق خلب. والخلب أيضاً: السحاب الذي لا مطر فيه. ويقال: برق خلب، بالإضافة. "وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" تقدم.
"ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره" أن في محل رفع كما تقدم، أي قيامها واستمساكها بقدرته بلا عمد. وقيل: بتدبيره وحكمته، أي يمسكها بغير عمد لمنافع الخلق. وقيل: بأمره بإذنه، والمعنى واحد. "ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون" أي الذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يبعثكم من قبوركم، والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث، كما يجيب الداعي المطاع مدعوه، كما قال القاتل:
دعوت كليباً باسمه فكأنما دعوت برأس الطود أو هو أسرع
يريد برأس الطود: الصدى أو الحجر إذا تدهده. وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بـ ثم لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر، كما قال تعالى: "ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" الزمر:68 . وإذا الأولى في قوله تعالى: "إذا دعاكم" للشرط، والثانية في قوله تعالى: "إذا أنتم" للمفاجأة، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط. وأجمع القراء على فتح التاء هنا في تحرجون. واختلفوا في التي في الأعراف فقرأ أهل المدينة. "ومنها تخرجون" الأعراف:25 بضم التاء، وقرأ أهل العراق: بالفتح، وإليه يميل أبو عبيد. والمعنيان متقاربان، إلا أن أهل المدينة فرقوا بينهما لنسق الكلام، فنسق الكلام في التي في الأعراف بالضم أشبه، إذ كان الموت ليس من فعلهم، وكذا الإخراج. والفتح في سورة الروم أشبه بنسق الكلام، أي إذا دعاكم خرجتم أي أطعتم، فالفعل بهم أشبه. وهذا الخروج إنما هو عند نفخة إسرافيل الآخرة، على ما تقدم ويأتي. وقرئ: تخرجون بضم التاء وفتحها، ذكره الزمخشري ولم يزد على هذا شيئاً، ولم يذكر ما ذكرناه من الفرق، والله أعلم
"وله من في السماوات والأرض" خلقاً وملكاً وعبداً. "كل له قانتون"روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كل قنوت في القرآن فهو طاعة". قال النحاس: مطيعون طاعة انقياد. وقيل: قانتون مقرون بالعبودية، وإما قالة وإما دلالة، قاله عكرمة وأبو مالك والسدي وقال ابن عباس. قانتون مصلون. الربيع بن أنس: كل له قانتون أي قائم يوم القيامة، كما قال: "يوم يقوم الناس لرب العالمين" المطفقين:6 أي للحساب. الحسن: كل له قائم بالشهادة أنه عبد له. سعيد بن جبير: قانتون مخلصون.
يقول تعالى: "وله من في السموات والأرض" أي ملكه وعبيده "كل له قانتون" أي خاضعون خاشعون طوعاً وكرهاً. وفي حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعاً "كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة" وقوله "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه" قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني أيسر عليه, وقال مجاهد : الإعادة أهون عليه من البداءة, والبداءة عليه هينة, وكذا قال عكرمة وغيره وروى البخاري : حدثنا أبو اليمان : أخبرنا شعيب , أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "قال الله كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك, وشتمني ولم يكن له ذلك, فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته, وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً, وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" انفرد بإخراجه البخاري , كما انفرد بروايته أيضاً من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة به. وقد رواه الإمام أحمد منفرداً به عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة : حدثنا أبو يونس سليم بن جبير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه أو مثله.
وقال آخرون: كلاهما بالنسبة إلى القدرة على السواء. وقال العوفي عن ابن عباس : كل عليه هين, وكذا قاله الربيع بن خثيم , ومال إليه ابن جرير وذكر عليه شواهد كثيرة, قال: ويحتمل أن يعود الضمير في قوله "وهو أهون عليه" إلى الخلق, أي وهو أهون على الخلق. وقوله "وله المثل الأعلى في السموات والأرض" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كقوله تعالى: "ليس كمثله شيء" وقال قتادة : مثله أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره, وقال مثل هذا ابن جرير , وقد أنشد بعض المفسرين عند ذكر هذه الاية لبعض أهل المعارف:
إذا سكن الغدير على صفاء وجنب أن يحركه النسيم
ترى فيه السماء بلا امتراء كذاك الشمس تبدو والنجوم
كذاك قلوب أرباب التجلي يرى في صفوها الله العظيم
وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع بل قد غلب كل شيء, وقهر كل شيء بقدرته وسلطانه, الحكيم في أقواله وأفعاله شرعاً وقدراً, وعن مالك في تفسيره المروي عنه عن محمد بن المنكدر في قوله تعالى: "وله المثل الأعلى" قال: لا إله إلا الله.
26- "وله من في السموات والأرض" من جميع المخلوقات ملكاً وتصرفاً وخلقاً، ليس لغيره في ذلك شيء "كل له قانتون" أي مطيعون طاعة انقياد، وقيل مقرون بالعبودية، وقيل مصلون، وقيل قائمون يوم القيامة كقوله: "يوم يقوم الناس لرب العالمين": أي للحساب، وقيل بالشهادة أنهم عباده، وقيل مخلصون.
26- "وله من في السموات والأرض كل له قانتون"، مطيعون، قال الكلبي: هذا خاص لمن كان منهم مطيعاً. وعن ابن عباس: كل له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة.
26 -" وله من في السماوات والأرض كل له قانتون " منقادون لفعله فيهم لا يمتنعون عنه .
26. Unto Him belongeth whosoever is in the heavens and in the earth. All are obedient unto Him.
26 - To Him belongs every being that is in the heavens and on earth: all are devoutly obedient to Him.