[آل عمران : 94] فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
(فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك) أي ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب لا على عهد إبراهيم (فأولئك هم الظالمون) المتجاوزون الحق إلى الباطل
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فمن كذب على الله منا ومنكم، من بعد مجيئكم بالتوراة وتلاوتكم إياها، وعدمكم ما ادعيتم من تحريم الله العروق ولحوم الإبل وألبانها فيها. "فأولئك هم الظالمون" يعني: فمن فعل ذلك منهم ، "فأولئك"، يعني: فهؤلاء الذين يفعلون ذلك ، "هم الظالمون" ، يعني : فهم الكافرون ، القائلون على الله الباطل، كما:
حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن زكريا، عن الشعبي: "فأولئك هم الظالمون"، قال : نزلت في اليهود.
فقال عز و جل : " فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون " .
قال الزجاج : في هذه الآية أعظم دلالة لنبوة محمد نبينا صلى الله عليه و سلم ، أخبرهم أننه ليس في كتابهم ، و أمرهم أن يأتوا بالتوراة فأبوا ، يعني عرفوا أنه قال ذلك بالوحي . و قال عطية العوفي : إنما كان ذلك حراما عليهم بتحريم يعقوب ذلك عليهم . و ذلك أن إسرائيل قال حين أصابه عرق النسا : و الله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولك ، و لم يكن ذلك محرما عليهم . و قال الكلبي : لم يحرمه الله عز و جل في التوراة عليهم و إنما حرمه بعد التوراة بظلمهم و كفرهم ، و كانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله تعالى عليهم طعاما طيبا ، أو صب عليهم رجزا و هو الموت ~، فذلك قوله تعالى : فبكلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم . الآية . و قوله : و على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر . الآية - إلى قوله : ذلك جزيناهم ببغيهم و إنا لصادقون .
الرابعة : ترجم ابن ماجه في سننه دواء عرق النسا حدثنا هشام بن عمار و راشد بن سعيد الرملي قالا حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا هشام بن حسان حدثنا أنس بن سيرين أنه سمع أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
شفاء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء . و أخرجه الثعلبي في تفسيره أيضا من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في عرق النسا : تؤنخذ ألية كبش عربي لا صغير ولا كبير فتقطع صغارا فتخرج إهالته فتقسم ثلاثة أقسام في كل يوم على ريق النفس ثلثا قال أنس : فوصفته لأكثر من مائة فبرأ بإذن الله تعالى . شعبة : حدثني شيخ في زمن الحجاج بن يوسف في عرق النسا : أقسم لك بالله الأعلى لئن لم تنتنه لأكوينك بنار أو لأحلقنك بموسى . قال شعبة : قد جربته ، تقوله ، و تمسح على ذلك الموضع .
قال الإمام أحمد : حدثنا هشام بن القاسم , حدثنا عبد الحميد , حدثنا شهر , قال: قال ابن عباس " حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي, قال: سلوني عما شئتم, ولكن اجعلوا لي ذمة الله, وما أخذ يعقوب على بنيه, لئن أنا حدثتكم شيئاً فعرفتموه لتتابعني على الإسلام قالوا: فذلك لك, قال: فسلوني عما شئتم. قالوا: اخبرنا عن أربع خلال: أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه ؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل ؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى ؟ وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم, ومن وليه من الملائكة ؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه, فقال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى, هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً وطال سقمه, فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه, وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل, وأحب الشراب إليه ألبانها ؟ فقالوا: اللهم نعم: قال: اللهم اشهد عليهم. وقال أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو, الذي أنزل التوراة على موسى, هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ, وماء المرأة أصفر رقيق, فأيهما علا كان له الولد, والشبه بإذن الله إن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكراً بإذن الله, وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله ؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد عليهم. وقال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى, هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه, ولا ينام قلبه ؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد قالوا: وأنت الان فحدثنا من وليك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك ونفارقك قال: إن وليي جبريل ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه, قالوا: فعندها نفارقك, لو كان وليك غيره لتابعناك " , فعند ذلك قال الله تعالى: "قل من كان عدواً لجبريل" الاية, ورواه أحمد أيضاً عن حسين بن محمد عن عبد الحميد به,
(طريق أخرى) قال أحمد : حدثنا أبو أحمد الزبيري , حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي , عن بكير بن شهاب , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال: أ" قبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا يا أبا القاسم, إنا نسألك عن خمسة أشياء, فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك, فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال "والله على ما نقول وكيل" قال هاتوا قالوا: أخبرنا عن علامة النبي قال: تنام عيناه ولا ينام قلبه, قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة, وكيف تذكر ؟ قال: يلتقي الماءان, فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة, أذكرت, وإذا علا ماء المرأة أنثت قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه ؟ قال: كان يشتكي عرق النسا, فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا وكذا ـ قال أحمد : قال بعضهم: يعني الإبل ـ فحرم لحومها قالوا: صدقت, قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد ؟ قال: ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيده ـ أو في يديه ـ مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله عز وجل قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع ؟ قال صوته. قالوا صدقت, إنما بقيت واحدة, وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها, إنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك ؟ قال: جبريل عليه السلام, قالوا: جبريل ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا, لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر, لكان " , فأنزل الله تعالى: "قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين" والاية بعدها, وقد رواه الترمذي والنسائي , من حديث عبد الله بن الوليد العجلي به نحوه, وقال الترمذي : حس غريب, وقال ابن جريج والعوفي عن ابن عباس : كان إسرائيل عليه السلام ـ وهو يعقوب ـ يعتريه عرق النسا بالليل, وكان يقلقه ويزعجه عن النوم, ويقلع الوجع عنه بالنهار, فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عرقاً ولا يأكل ولد ما له عرق, وهكذا قال الضحاك والسدي , كذا رواه وحكاه ابن جرير في تفسيره, قال: فاتبعه بنوه في تحريم ذلك استناناً به واقتداء بطريقه, قال: وقوله "من قبل أن تنزل التوراة" أي حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة, قلت: ولهذا السياق بعدما تقدم مناسبتان "إحداهما" أن إسرائيل عليه السلام حرم أحب الأشياء إليه وتركها لله, وكان هذا سائغاً في شريعتهم فله مناسبة بعد قوله "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" فهذا هو المشروع عندنا,وهو الإنفاق في طاعة الله مما يحبه العبد ويشتهيه, كما قال تعالى: "وآتى المال على حبه" وقال تعالى: "ويطعمون الطعام على حبه" الاية.
(المناسبة الثانية) لما تقدم بيان الرد على النصارى, واعتقادهم الباطل في المسيح وتبيين زيف ما ذهبوا إليه وظهور الحق واليقين في أمر عيسى وأمه, كيف خلقه الله بقدرته ومشيئته وبعثه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه تبارك وتعالى, شرع في الرد على اليهود قبحهم الله تعالى وبيان أن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع, فإن الله تعالى قد نص في كتابهم التوراة أن نوحاً عليه السلام لما خرج من السفينة, أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها, ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحمان الإبل وألبانها فاتبعه بنوه في ذلك, وجاءت التوراة بتحريم ذلك, وأشياء أخرى زيادة على ذلك, وكان الله عز وجل قد أذن لادم في تزويج بناته من بنيه, وقد حرم ذلك بعد ذلك , وكان التسري على الزوجة مباحاً في شريعة إبراهيم عليه السلام, وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة, وقد حرم مثل هذا في التوراة عليهم, وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغاً, وقد فعله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين, ثم حرم عليهم ذلك في التوراة, وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم, وهذا هو النسخ بعينه, فكذلك فليكن ما شرعه الله للمسيح عليه السلام, في إحلاله بعض ما حرم في التوراة, فما بالهم لم يتبعوه ؟ بل كذبوه وخالفوه ؟ وكذلك ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من الدين القويم, والصراط المستقيم, وملة أبيه إبراهيم, فما بالهم لا يؤمنون ؟ ولهذا قال تعالى: "كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة" أي كان حلاً لهم, جميع الأطعمة قبل نزول التوراة إلا ما حرمه إسرائيل, ثم قال تعالى: " قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " فإنها ناطقة بما قلناه "فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون" أي فمن كذب على الله وادعى أنه شرع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائماً, وأنه لم يبعث نبياً آخر يدعو إلى الله بالبراهين والحجج بعد هذا الذي بيناه من وقوع النسخ وظهور ما ذكرناه "فأولئك هم الظالمون" ثم قال تعالى: "قل صدق الله" أي قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن, "فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين" أي اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مرية, وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم, كما قال تعالى: " قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " وقال تعالى: "ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين".
ثم قال 94- "فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك" أي: من بعد إحضار التوراة وتلاوتها "فأولئك هم الظالمون" أي: المفرطون في الظلم المتبالغون فيه فإنه لا أظلم ممن حوكم إلى كتابه وما يعتقده شرعاً صحيحاً.
:94- " فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ".
94" فمن افترى على الله الكذب " ابتدعه على الله تعالى بزعمه أنه حرم ذلك قبل نزول التوراة على بني إسرائيل ومن قبلهم. " من بعد ذلك " من بعد ما لزمتهم الحجة. " فأولئك هم الظالمون " الذين لا ينصفون من أنفسهم ويكابرون الحق بعدما وضح لهم.
94. And whoever shall invent a falsehood after that concerning Allah, such will be wrong doers.
94 - If any, after this, invent a lie and attribute it to God, they are indeed unjust wrong doers.