[آل عمران : 59] إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
(إن مثل عيسى) شأنه الغريب (عند الله كمثل آدم) كشأنه في خلقه من غير أم ولا أب وهو من تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأوقع في النفس (خلقه من تراب ثم قال له كن) بشراً (فيكون) أي فكان وكذلك عيسى قال له كن من غير أب فكان
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه : إن شبه عيسى في خلقي إياه من غير فحل - فأخبر به ، يا محمد، الوفد من نصارى نجران - عندي ، كشبه آدم الذي خلقته من تراب ثم قلت له : "كن"، فكان من غير فحل ولا ذكر ولا أنثى. يقول : فليس خلقي عيسى من أمه من غير فحل ، بأعجب من خلقي آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وأمري إذ أمرته أن يكون فكان لحماً . يقول : فكذلك خلقي عيسى : أمرته أن يكون فكان.
وذكر أهل التأويل أن الله عز وجل أنزل هذه الآية احتجاجاً لنبيه صلى الله عليه وسلم على الوفد من نصارى نجران الذين حاجوه في عيسى.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر قال : كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى في عيسى قولاً، فكانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية في سورة آل عمران : "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، إلى قوله : "فنجعل لعنة الله على الكاذبين".
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، وذلك أن رهطاً من أهل نجران قدموا على محمد صلى الله عليه وسلم وكان فيهم السيد والعاقب - فقالوا لمحمد: ما شانك تذكر صاحبنا؟ فقال : - من هو؟ قالوا : عيسى ، تزعم أنه عبد الله! فقال محمد : أجل ، إنه عبد الله. قالوا له : فهل رأيت مثل عيسى، أو أنبئت به ؟ ثم خرجوا من عنده ، فجاءه جبريل صلى الله عليه وسلم بأمر ربنا السميع العليم فقال : قل لهم إذا أتوك : "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم"، إلى آخر الآية.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، ذكر لنا أن سيدي أهل نجران وأسقفيهم : السيد والعاقب ، لقيا نبي الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن عيسى فقالا: كل آدمي له أب ، فما شأن عيسى لا أب له ؟ فأنزل الله عبد الرزاق وجل فيه هذه الآية : "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون".
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب"، لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع به أهل نجران ، أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم. منهم : العاقب والسيد، وماسرجس ، وماريحز. فسألوه ما يقول في عيسى، فقال : هو عبد الله وروحه وكلمته . قالوا هم: لا! ولكنه هو الله ، نزل من ملكه فدخل في جوف مريم ، ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمره! فهل رأيت قط إنسانا خلق من غير اب؟ فأنزل الله عبد الرزاق وجل : "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون".
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، قال : نزلت في العاقب والسيد من أهل نجران ، وهما نصرانيان. قال ابن جريج : بلغنا أن نصارى أهل نجران قدم وفدهم على النبي صلى الله عليه وسلم فيهم السيد والعاقب ، وهما يومئذ سيدا أهل نجران ، فقالوا: يا محمد، فيم تشتم صاحبنا؟ قال : من صاحبكما! قالا: عيسى ابن مريم ، تزعم أنه عبد! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أجل ، إنه عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . فغضبوا وقالوا : إن كنت صادقاً فأرنا عبداً يحيي الموتى، ويبرىء الأكمه ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه ، الآية، لكنه الله. فسكت حتى أتاه جبريل فقال : يا محمد : "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم" [المائدة : 17 ، 72] الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل ، إنهم سألوني أن أخبرهم بمثل عيسى. قال جبريل : مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له : كن فيكون. فلما أصبحوا عادوا، فقرأ عليهم الآيات.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "إن مثل عيسى عند الله"، فاسمع ، "كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين"، فإن قالوا: خلق عيسى من غير ذكر، فقد خلقت آدم من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر، فكان كما كان عيسى لحماً ودماً وشعراً وبشراً، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله عز وجل: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب "، قال : أتى نجرانيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا له : هل علمت أن أحداً ولد من غير ذكر، فيكون عيسى كذلك ؟ قال : فأنزل الله عبد الرزاق وجل : "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، أكان لآدم أب أو أم !! كما خلقت هذا في بطن هذه؟ قال أبو جعفر: فإن قال قائل : فكيف قال : كمثل آدم خلقه، وآدم معرفة، والمعارف لا توصل ؟ قيل: إن قوله : "خلقه من تراب"، غير صلة لآدم ، وإنما هو بيان عن أمره على وجه التفسير عن المثل الذي ضربه ، وكيف كان.
وأما قوله : "ثم قال له كن فيكون"، فإنما قال : "فيكون"، وقد ابتدأ الخبر عن خلق آدم ، وذلك خبر عن أمر قد تقضى، وقد أخرج الخبر عنه مخرج الخبر عما قد مضى فقال جل ثناؤه : "خلقه من تراب ثم قال له كن"، لأنه بمعنى الإعلام من الله نبيه أن تكوينه الأشياء بقوله : "كن"، ثم قال : "فيكون"، خبرا مبتدأ، وقد تناهى الخبر عن أمر آدم عند قوله : "كن".
فتأويل الكلام إذا : "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن"، واعلم ، يا محمد، أن ما قال له ربك "كن"، فهو كائن.
فلما كان في قوله : "كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن"، دلالة على أن الكلام يراد به إعلام نبي الله صلى الله عليه وسلم وسائر خلقه أنه كائن ما كونه ابتداء من غير أصل ولا أول ولا عنصر، استغنى بدلالة الكلام على المعنى، وقيل : "فيكون"، فعطف بالمستقبل على الماضي على ذلك المعنى.
وقد قال بعض أهل العربية : "فيكون"، رفع على الابتداء، ومعناه : كن فكان ، فكأنه قال : فإذا هو كائن.
قوله تعالى : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " دليل على صحة القياس . والتشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب كآدم ، لا على انه خلق من تراب . والشيء قد يشبه بالشيء وإن كان بينهما فرق كبير بعد أن يجتمعا في وصف واحد ، فإن آدم قد خلق من تراب ولم يخلق عيسى من تراب فكان بينهما فرق من هذه الجهة ، ولكن شبه ما بينهما انهما خلقا من غير أب ، ولأن أصل خلقهما كان من تراب لأن آدم لم يخلق من نفس التراب ، ولكنه جعل التراب طينا ثم جعله صلصالا ثم خلقه منه ، فكذلك عيسى حوله من حال إلى حال ، ثم جعله بشرا من غير أب . ونزلت هذه الآية بسبب وفد نجران حين أنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم
قوله : " إن عيسى عبد الله وكلمته فقالوا : أرنا عبدا خلق من غير أب ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم آدم من كان أبوه أعجبتم من عيسى ليس له أب ؟ فآدم عليه السلام ليس له أب ولا أم " . فذلك قوله تعالى : " ولا يأتونك بمثل " أي في عيسى إلا جئناك بالحق في آدم وأحسن تفسيرا . وروى أنه عليه السلام لما دعاهم إلى الإسلام قالوا : قد كنا مسلمين قبلك . وقال : كذبتم يمنعكم من الإسلام ثلاث : قولكم اتخذ الله ولدا ، وأكلكم الخنزير ، وسجودكم للصليب . فقالوا : من أبو عيسى ؟ فأنزل الله تعالى : " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " إلى قوله : " فنجعل لعنة الله على الكاذبين " . فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم لبعض : إن فعلتم اضطرم الوادي عليكم نارا . فقالوا : أما تعرض علينا سوى هذا ؟ فقال : الإسلام أو الجزية أو الحرب فأقروا بالجزية على ما يأتي . وتم الكلام عند قوله آدم . ثم قال : " خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " أي فكان والمستقبل يكون في موضع الماضي إذا عرف المعنى .
يقول جل وعلا: "إن مثل عيسى عند الله" في قدرة الله حيث خلقه من غير أب "كمثل آدم" حيث خلقه من غير أب ولا أم بل "خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" فالذي خلق آدم من غير أب, قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى, وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب, فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى, ومعلوم بالإتفاق أن ذلك باطل, فدعواها في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً, ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى, وخلق حواء من ذكر بلا أنثى, وخلق عيسى من أثنى بلا ذكر, كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى, ولهذا قال تعالى في سورة مريم "ولنجعله آية للناس" وقال ههنا: "الحق من ربك فلا تكن من الممترين" أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه, وماذا بعد الحق إلا الضلال. ثم قال تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم, أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم " أي نحضرهم في حال المباهلة "ثم نبتهل" أي نلتعن "فنجعل لعنة الله على الكاذبين" أي منا أو منكم.
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران, أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية, فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم, قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ستون راكباً, فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم وهم: العاقب واسمه عبد المسيح, والسيد وهو الأيهم, و أبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل , وأويس بن الحارث, وزيد, وقيس, ويزيد ونبيه, وخويلد, وعمرو, وخالد, وعبد الله, ويحنس , وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم وهم العاقب, وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم, والذي لا يصدرون إلا عن رأيه, والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم, و أبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم, وكان رجلاً من العرب من بني بكر بن وائل, ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها وشرفوه, وبنوا له الكنائس وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم, وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدمة, ولكن حمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها, قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير , قال: قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر, عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب , قال: يقول من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم: وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم فصلوا إلى المشرق, قال: فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة , و العاقب عبد المسيح , و السيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون: هو الله, ويقولون: هو ولد الله, ويقولون: هو ثالث ثلاثة, تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وكذلك قول النصرانية, فهم يحتجون في قولهم هو الله, بأنه كان يحيى الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص والأسقام, ويخبر بالغيوب, ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً, وذلك كله بأمر الله. وليجعله الله آية للناس, ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله يقولون: لم يكن له أب يعلم, وقد تكلم في المهد بشيء لم يسمعه أحد من بني آدم قبله, ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى: فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت, ولكنه هو وعيسى ومريم ـ تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً ـ وفي كل ذلك من قولهم: قد نزل القرآن, فلما كلمه الحبران, قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلما قالا: قد أسلمنا, قال: إنكما لم تسلما فأسلما . قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير. قالا: فمن أبوه يا محمد ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما, فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها, ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك, فقالوا: يا أبا القاسم, دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه, ثم انصرفوا عنه, ثم خلوا بالعاقب, وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل, ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم, ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط, فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم, وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم, فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم, فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم, قد رأينا ألا نلاعنك ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا, فإنكم عندنا رضا, قال محمد بن جعفر : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ, رجاء أن أكون صاحبها, فرحت إلى الظهر مهجراً, فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر, سلم ثم نظر عن يمينه وشماله, فجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه, فقال :اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه " . قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه. وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق , عن عاصم بن عمر بن قتادة , عن محمود بن لبيد , عن رافع بن خديج : أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فذكر نحوه, إلا أنه قال في الأشراف: كانوا اثني عشر, وذكر بقيته بأطول من هذا السياق, وزيادات أخر .
وقال البخاري : حدثنا عباس بن الحسين , حدثنا يحيى بن آدم , عن إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن صلة بن زفر , عن حذيفة رضي الله عنه, قال: " جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه, قال: فقال: أحدهما لصاحبه: لا تفعل فو الله لئن كان نبياً فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا, قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً, فقال : لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال قم يا أبا عبيدة بن الجراح فلما قام, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أمين هذه الأمة" رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة, عن حذيفة , بنحوه وقد رواه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق , عن صلة , عن ابن مسعود بنحوه وقال البخاري : حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن خالد , عن أبي قلابة , عن أنس , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, " قال لكل أمة أمين, وأمين هذه الأمة أبوعبيدة بن الجراح " وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد , حدثنا فرات عن عبد الكريم بن مالك الجزري , عن عكرمة , عن ابن عباس , قال: قال أبو جهل قبحه الله, إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لاتينه حتى أطأ على رقبته, قال: فقال لو فعل لأخذته الملائكة عياناً, ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار, ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً , وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق , عن معمر , عن عبد الكريم به, وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصة وفد نجران مطولة جداً, ولنذكره فإن فيه فوائد كثيرة, وفيه غرابة, وفيه مناسبة لهذا المقام, قال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل , قالا: حدثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب , حدثنا أحمد بن عبد الجبار , حدثنا يونس بن بكير , عن سلمة بن عبد يسوع , عن أبيه , عن جده , قال يونس ـ وكان نصرانياً فأسلم ـ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان "باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب, من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران أسلم أنتم, فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد, وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد, فإن أبيتم فالجزية, فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب, والسلام". فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه فظع به, وذعره ذعراً شديداً, وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة , وكان من همدان, ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأيهم ولا السيد ولا العاقب, فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل فقرأه, فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة, فما يؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل, ليس لي في أمر النبوة رأي, ولو كان في أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي واجتهدت لك, فقال الأسقف: تنح فاجلس, فتنحى شرحبيل فجلس ناحية, فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل , وهو من ذي أصبح من حمير, فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل , فقال له الأسقف: تنح فاجلس, فتنحى عبد الله فجلس ناحية, فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس, فأقرأه الكتاب, وسأله عن الرأي فيه ؟ فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله, فأمره الأسقف, فتنحى فجلس ناحية, فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعاً, أمر الأسقف بالناقوس فضرب به, ورفعت النيران والمسوح في الصوامع, وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار, وإذا كان فزعهم ليلاً ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع, فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح, أهل الوادي أعلاه وأسفله. وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع, وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل, فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسألهم عن الرأي فيه, فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي وجبار بن فيض الحارثي , فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدنية وضعوا ثياب السفر عنهم, ولبسوا حللاً لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب, ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه, فلم يرد عليهم, وتصدوا لكلامه نهاراً طويلاً, فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب, فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف , وكانا معرفة لهم, فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس, فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن , إن نبيكم كتب إلينا كتاباً فأقبلنا مجيبين له, فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا, وتصدينا لكلامه نهاراً طويلاً, فأعيانا أن يكلمنا, فما الرأي منكما, أترون أن نرجع ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم, ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودون إليه, ففعلوا فسلموا عليه فرد سلامهم, ثم قال "والذي بعثني بالحق, لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم . ثم سألهم سألوة, فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى, فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى, يسرنا إن كنت نبياً أن نسمع ما تقول فيه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عندي فيه شيء يومي هذا, فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى فأصبح الغد وقد أنزل الله هذه الاية " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " فأبوا أن يقروا بذلك, فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر, أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميل له, وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة, وله يومئذ عدة نسوة, فقال شرحبيل لصاحبيه: لقد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي, وإني والله أرى أمراً ثقيلاً, والله لئن كان هذا الرجل ملكاً مبعوثاً فكنا أول العرب طعناً في عينيه ورداً عليه أمره, لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة, وإنا لأدنى العرب منهم جواراً, ولئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه, لا يبقى منا على وجه الأرض شعر ولا ظفر إلا هلك, فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم ؟ فقال: أرى أن أحكمه, فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً, فقالا: له: أنت وذاك, قال: فلقي شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك. فقال: وما هو ؟ فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح, فمهما حكمت فينا فهو جائز, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل وراءك أحداً يثرب عليك ؟ فقال شرحبيل: سل صاحبي, فسألهما فقالا: ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد أتوه, فكتب لهم هذا الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبي محمد رسول الله لنجران ـ إن كان عليهم حكمه ـ في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل عليهم, وترك ذلك كله لهم على ألفي حلة, في كل رجب ألف حلة, وفي كل صفر ألف حلة" وذكر تمام الشروط وبقية السياق.
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع, لأن الزهري قال: كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح, وهي قوله تعالى " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " الاية, وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن داود المكي , حدثنا بشر بن مهران حدثنا محمد بن دينار , عن داود بن أبي هند , عن الشعبي , عن جابر , قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب, فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة, قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين, ثم أرسل إليهما, فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي بعثني بالحق لو قالا: لا, لأمطر عليهم الوادي ناراً" قال جابر , وفيهم نزلت "ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم" قال جابر "أنفسنا وأنفسكم" رسول الله صلى الله عليه وسلم و علي بن أبي طالب " أبناءنا " الحسن والحسين "ونساءنا" فاطمة . وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن علي بن عيسى , عن أحمد بن محمد الأزهري , عن علي بن حجر , عن علي بن مسهر , عن داود بن أبي هند به بمعناه, ثم قال: صحيح على شرط مسلم , ولم يخرجاه هكذا قال وقد رواه أبو داود الطيالسي , عن شعبة , عن المغيرة عن الشعبي مرسلاً, وهذا أصح, وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك, ثم قال الله تعالى: "إن هذا لهو القصص الحق" أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد " وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا " أي عن هذا إلى غيره "فإن الله عليم بالمفسدين" أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به, وسيجزيه على ذلك شر الجزاء وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمته.
تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقاً من غير أب كآدم، ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على زيادة وهو كونه لا أم له: كما أنه لا أب له، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد بالتشبيه وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه وأعظم عجباً وأغرب أسلوباً. وقوله "خلقه من تراب" جملة مفسرة لما أبهم في المثل: أي أن آدم لم يكن له أب ولا أم، بل خلقه الله من تراب. وفي ذلك دفع لإنكار من أنكر خلق عيسى من غير أب مع اعترافه بأن آدم خلق من غير أب وأم. قوله "ثم قال له كن فيكون" أي كن بشراً فكان بشراً. وقوله "فيكون" حكاية حال ماضية، وقد تقدم تفسير هذا.
59-قوله تعالى:"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم " "الآية نزلت في وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك تشتم صاحبنا ؟ قال : وما أقول ، قالوا : تقول إنه عبد الله قال : أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها الى مريم العذراء البتول فغضبوا وقالوا هل رأيت إنساناً قط من غير أب؟ فأنزل الله تعالى "إن مثل عيسى عند الله" "في كونه خلقاً من غير أب وأم "خلقه من تراب ثم قال له " يعني لعيسى عليه السلام " كن فيكون" يعني فكان، فإن قيل مامعنى قوله (خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) ولا تكوين بعد الخلق؟قيل معناه خلقه ثم اخبركم اني قلت له : كن فكان من غير ترتيب في الخلق كما يكون في الولادة وهو مثل قول الرجل: أعطيتك اليوم درهماً ثم أعطيتك امس درهماً ، أي ثم اخبرك أني اعطيتك امس درهماً . وفيما سبق من التمثيل دليل على جواز القياس ، لأن القياس هو رد فرع الى اصل بنوع شبه ، وقد رد الله تعالى خلق عيسى الى آدم عليهم السلام بنوع شبه .
59"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم" إن شأنه الغريب كشأن آدم عليه الصلاة والسلام. "خلقه من تراب" جملة مفسرة للتمثيل مبينة لما به الشبه، وهو أنه خلق بلا أب كما خلق آدم من التراب بلا أب وأم، شبه حاله بما هو أغرب منه إفحاماً للخصم وقطعاً لمواد الشبهة والمعنى خلق قالبه من التراب. "ثم قال له كن" أي أنشأه بشراً كقوله تعالى: "ثم أنشأناه خلقاً آخر" أو قدر تكوينه من التراب ثم كونه، ويجوز أن يكون ثم لتراخي الخبر لا المخبر. "فيكون" حكاية حال ماضية.
59. Lo! the likeness of Jesus with Allah is as the likeness of Adam. He created him of dust, then He said unto him: Be! and he is.
59 - The similitude of Jesus before God is as that of Adam; he created him from dust, then said to him: Be: and he was.