[آل عمران : 51] إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
(إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا) الذي آمركم به (صراط) طريق (مستقيم) فكذبوه ولم يؤمنوا به
كما:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم"، تبرياً من الذي يقولون فيه -يعني: ما يقول فيه النصارى- واحتجاجاً لربه عليهم، "فاعبدوه هذا صراط مستقيم"، أي: هذا الذي قد حملتكم عليه وجئتكم به.
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: "إن الله ربي وربكم فاعبدوه".
فقرأ عامة قرأة الأمصار: "إن الله ربي وربكم فاعبدوه" بكسر ألف "إن" على ابتداء الخبر.
وقرأ بعضهم: أن الله ربي وربكم، بفتح ألف أن، بتأويل: "وجئتكم بآية من ربكم"، أن الله ربي وربكم، على رد أن على الآية، والإبدال منها.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا ما عليه قرأة الأمصار، وذلك كسر ألف "إن"، على الابتداء، لإجماع الحجة من القرأة على صحة ذلك. وما اجتمعت عليه فحجة، وما انفرد به المنفرد عنها فرأي، ولا يعترض بالرأي على الحجة.
وهذه الآية وإن كان ظاهرها خبراً، ففيه الحجة البالغة من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على الوفد الذين حاجوه من أهل نجران، بإخبار الله عز وجل عن أن عيسى كان بريئاً مما نسبه إليه من نسبه إلى غير الذي وصف به نفسه، من أنه لله عبد كسائر عبيده من أهل الأرض، إلا ما كان الله جل ثناؤه خصه به من النبوة والحجج التي آتاه دليلاً على صدقه -كما آتى سائر المرسلين غيره من الأعلام والأدلة على صدقهم- وحجةً على نبوته.
" إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم "
يقول تعالى مخبراً عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه السلام: أن الله يعلمه "الكتاب والحكمة", الظاهر أن المراد بالكتاب ههنا الكتابة, والحكمة تقدم تفسيرها في سورة البقرة, و"التوراة والإنجيل", فالتوراة هو الكتاب الذي أنزل على موسى بن عمران, والإنجيل الذي أنزل على عيسى ابن مريم عليهما السلام. وقد كان عيسى عليه السلام يحفظ هذا وهذا, وقوله: "ورسولاً إلى بني إسرائيل" أي يجعله رسولاً إلى بني إسرائيل, قائلاً لهم " أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله " وكذلك كان يفعل, يصور من الطين شكل طير, ثم ينفخ فيه فيطير عياناً بإذن الله عز وجل, الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله " وأبرئ الأكمه " قيل: أنه الذي يبصر نهاراً ولا يبصر ليلاً, وقيل بالعكس. وقيل: الأعشى. وقيل الأعمش. وقيل: هو الذي يولد أعمى وهو أشبه, لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي "والأبرص" معروف, "وأحيي الموتى بإذن الله" قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه, فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة, فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحار, فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام, وصاروا من عباد الله الأبرار. وأما عيسى عليه السلام, فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الايات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيداً من الذي شرع الشريعة, فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد, أو على مداواة الأكمه والأبرص, وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم, بعث في زمان الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء, فأتاهم بكتاب من الله عز وجل, لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله, أو بعشر سور من مثله, أو بسورة من مثله, لم يستطيعوا أبداً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً, وما ذاك إلا لأن كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبداً, وقوله: "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" أي أخبركم بما أكل أحدكم الان, وما هو مدخر له في بيته لغد, "إن في ذلك" أي في ذلك كله " لآية لكم " أي على صدقي فيما جئتكم به " إن كنتم مؤمنين * ومصدقا لما بين يدي من التوراة " أي مقرراً لها ومثبتاً "ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم" فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة, وهو الصحيح من القولين, ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئاً, وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ, فكشف لهم عن المغطى في ذلك, كما قال في الاية الأخرى "ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه" والله أعلم. ثم قال "وجئتكم بآية من ربكم" أي بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم " فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم فاعبدوه " أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه "هذا صراط مستقيم".
قوله "بآية من ربكم" هي قوله 51- "إن الله ربي وربكم" وإنما كان ذلك آية، لأن من قبله من الرسل كانوا يقولون ذلك، فمجيئه بما جاءت به الرسل يكون علامة على نبوته. ويحتمل أن تكون هذه الآية المتقدمة فتكون تكريراً لقوله "أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين" الآية.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "بكلمة" قال: عيسى هو الكلمة من الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: المهد: مضجع الصبي في رضاعه. وقد ثبت في الصحيح أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى. وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج كان يصلي، فجاءته أمه فدعته فقال: أجيبها أو أصلي؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعة فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى، فأتت راعياً فأمكنته من نفسها فولدت غلاماً فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا إلا من طين. وكانت امرأة من بني إسرائيل ترضع ابناً لها، فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه، ثم مر بأمة تجرجر ويلعب بها فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها فقال: اللهم اجعلني مثلها، فقالت: لم ذاك؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون لها زنيت، وتقول: حسبي الله ونعم الوكيل. ويقولون: سرقت، وتقول: حسبي الله. وأخرج أبو الشيخ والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يتكلم في المهد إلا عيسى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة فرعونً" . وأخرج عبدبن حميد وإبن جرير عن قتادة في قوله "ويكلم الناس في المهد وكهلا " قال: يكلمهم صغيراً وكبيراً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الكهل هو من في سن الكهولة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: الكهل الحليم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "ويعلمه الكتاب" قال: الخط بالقلم. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: إنما خلق عيسى طائراً واحداً وهو الخفاش. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: الأكمه الذي يولد أعمى. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الأكمه الأعمى الممسوح العينين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل. وأخرجوا عن عكرمة قالوا: الأكمه الأعمش. وأخرج أحمد في الزهد عن خالد الحذاء قال: كان عيسى ابن مريم إذا سرح رسله يحيون الموتى يقول لهم قولوا كذا، فإذا وجدتم قشعريرة ودمعة فادعوا عند ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "وأنبئكم بما تأكلون" قال: بما أكلتم البارحة من طعام وما خبأتم منه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر قال " أنبئكم بما تأكلون " من المائدة "وما تدخرون" منها، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا، فأكلوا وادخروا وخانوا، فجعلوا قردة وخنازير. وأخرج ابن جرير عن وهب أن عيسى كان على شريعة موسى، وكان يسبت ويستقبل بيت المقدس، وقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وأضع عنكم من الآصار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع في الآية: قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل والثروب، فأحلها لهم على لسان عيسى، وحرم عليهم الشحوم فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير، وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "وجئتكم بآية من ربكم" قال: ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها وما أعطاه ربه.
51-"إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم "
51" إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " أي جئتكم بآية أخرى ألهمنها ربكم وهو قوله: " إن الله ربي وربكم " فإنه دعوة الحق المجمع عليها فيما بين الرسل الفارقة بين النبي والساحر، أو جئتكم بآية على أن الله ربي وربكم وقوله: "فاتقوا الله وأطيعون" اعتراض والظاهر أنه تكرير لقوله: " قد جئتكم بآية من ربكم " أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم، والأول لتمهيد الحجة والثاني لتقريبها إلى الحكم ولذلك رتب عليه بالفاء قوله تعالى: "فاتقوا الله" أي لما جئتكم بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة فاتقوا الله في المخالفة وأطيعون فيما دعوتكم إليه، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال: " إن الله ربي وربكم " إشارة إلى استكمال القوة النظرية بالإعتقاد الحق الذي غايته التوحيد، وقال: "فاعبدوه" إشارة إلى استكمال القوة العلمية فإنه بملازمة الطاعة التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، ثم قرر ذلك بأن بين أن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام "قل آمنت بالله ثم استقم".
51. Lo! Allah is my Lord and your Lord, so worship Him. That is a straight path.
51 - It is God who is my lord and your lord; then worship him. this is a way that is straight.