[آل عمران : 18] شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(شهد الله) بين لخلقه بالدلائل والآيات (أنه لا إله) أي لا معبود في الوجود بحق (إلا هو و) شهد بذلك (الملائكة) بالإقرار (وأولوا العلم) من الأنبياء والمؤمنين بالإعتقاد واللفظ (قائما) بتدبير مصنوعاته ونصبه على الحال والعامل فيها معنى أي تفرد (بالقسط) بالعدل (لا إله إلا هو) كرره تأكيدا (العزيز) في ملكه (الحكيم) في صنعه
قال أبو جعفر يعني بذلك جل ثناؤه: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة وأولو العلم .
فـ "الملائكة" معطوف بهم على اسم "الله"، و"أنه" مفتوحة بـ "شهد".
قال أبو جعفر: وكان بعض البصريين يتأول قوله : "شهد الله"، قضى الله ، ويرفع "الملائكة"، بمعنى : والملائكة شهود وأولو العلم.
وهكذا قرأت قرأة أهل الإسلام بفتح الألف من "أنه"، على ما ذكرت من إعمال "شهد" في "أنه" الأولى ، وكسر الألف من "إن" الثانية وابتدائها . سوى أن بعض المتأخرين من أهل العربية ، كان يقرأ ذلك جميعاً بفتح ألفيهما، بمعنى : شهد الله أنه لا إله إلا هو، وأن الدين عند الله الإسلام -فعطف ب أن الدين على"أنه" الأولى ، ثم حذف واو العطف ، وهي مرادة في الكلام . واحتج في ذلك بأن ابن عباس قرأ ذلك : شهد الله إنه لا إله إلا هو الآية. ثم قال : أن الدين، بكسر إن الأولى ، وفتح أن الثانية بإعمال "شهد" فيها، وجعل أن الأولى اعتراضاً في الكلام غير عامل فيها "شهد" وأن ابن مسعود قرأة "شهد الله أنه لا إله إلا هو" بفتح أن وكسر إن من : "إن الدين عند الله الإسلام"- على معنى إعمال الشهادة في أن الأولى ، و أن الثانية مبتدأة . فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بالفتح ، جمع قراءة ابن عباس وابن مسعود. فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك على ما وصفت ، جميع قرأة أهل الإسلام المتقدمين منهم والمتأخرين ، بدعوى تأويل على ابن عباس وابن مسعود، زعم أنهما قالاه وقرءا به. وغير معلوم ما ادعى عليهما برواية صحيحة ولا سقيمة. وكفى شاهداً على خطأ قراءته ، خروجها من قراءة أهل الإسلام .
قال أبو جعفر: فالصواب إذ كان الأمر على ما وصفنا من قراءة ذلك - فتح الألف من "أنه" الأولى، وكسر الألف من "إن" الثانية، أعني من قوله : "إن الدين عند الله الإسلام"، ابتداءً.
وقد روي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدال على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية، في فتح أن من قوله: "إن الدين"، وهو ما :
حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة" إلى "لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، قال : الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس : أن الدين عند الله الإسلام .
فهذا التأويل يدل على أن الشهادة إنما هي عاملة في أن الثانية التي في قوله : أن الدين عند الله الإسلام . فعلى هذا التأويل جائز في أن الأولى وجهان من التأويل:
أحدهما: أن تكون منصوبة على وجه الشرط، بمعنى : شهد الله بأنه واحد -فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم - والشهادة عاملة في أن الثانية، كأنك قلت : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، لأنه واحد. ثم تقدم لأنه واحد، فتفتحها على ذلك التأويل .
والوجه الثاني : أن تكون إن الأولى مكسورة بمعنى الابتداء ، لأنها معترض بها، والشهادة واقعة على أن الثانية. فيكون معنى الكلام : شهد الله - فإنه لا إله إلا هو-والملائكة، أن الدين عند الله الإسلام ، كقول القائل : أشهد - فإني محق - أنك مما تعاب به بريء ، ف إن الأولى مكسورة، لأنها معترضة ، والشهادة واقعة على أن الثانية. قال أبو جعفر: وأما قوله : "قائما بالقسط"، فإنه بمعنى : أنه الذي يلي العدل بين خلقه .
والقسط، هو العدل من قولهم : هو مقسط وقد أقسط، إذا عدل .
ونصب "قائما" على القطع .
وكان بعض نحويي أهل البصرة يزعم أنه حال من "هو" التي في "لا إله إلا هو". وكان بعض نحويي الكوفة يزعم أنه حال من اسم الله الذي مع قوله : "شهد الله"، فكان معناه : شهد الله القائم بالقسط أنه لا إله إلا هو. وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود كذلك : وأولو العلم القائم بالقسط، ثم حذفت الألف واللام من القائم، فصار نكرة وهو نعت لمعرفة ، فنصب .
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي ، قول من جعله قطعاً، على أنه من نعت الله جل ثناؤه ، لأن الملائكة وأولي العلم ، معطوفون عليه . فكذلك الصحيح أن يكون قوله : "قائما" حالا منه .
وأما تأويل قوله : "لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، فإنه نفي أن يكون شيء يستحق العبودة غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه .
ويعني بـ "العزيز"، الذي لا يمتنع عليه شيء أراده ، ولا ينتصر منه أحد عاقبه أو انتقم منه ، "الحكيم" في تدبيره ، فلا يدخله خلل .
قال أبو جعفر: وإنما عنى جل ثناؤه بهذه الآية نفي ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من البنوة، وما نسب إليه سائر أهل الشرك من أن له شريكاً، واتخاذهم دونه أرباباً . فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالق كل ما سواه ، وأنه رب كل ما اتخذه كل كافر وكل مشرك رباً دونه ، وأن ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهل العلم به من خلقه . فبدأ جل ثناؤه بنفسه ، تعظيماً لنفسه وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به - ما نسبوا إليها، كما سن لعباده أن يبدأوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره ، مؤدباً خلقه بذلك .
والمراد من الكلام ، الخبر عن شهادة من ارتضاهم من خلقه فقدسوه : من ملائكته وعلماء عباده . فأعلمهم أن ملائكته - التي يعظمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدها الكثير منهم - وأهل العلم منهم ، منكرون ما هم عليه مقيمون من كفرهم وقولهم في عيسى، وقول من اتخذ رباً غيره من سائر الخلق، فقال: شهدت الملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو، وأن كل من اتخذ رباً دون الله فهو كاذب، احتجاجاً منه لنبيه عليه السلام على الذين حاجوه من وفد نجران في عيسى.
واعترض بذكر الله وصفته، على ما بينت، كما قال جل ثناؤه: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه" [الأنفال : 41]، افتتاحاً باسمه الكلام ، فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادة بما وصفناه: من نفي الألوهة عن غيره، وتكذيب أهل الشرك به.
فأما ما قال الذي وصفنا قوله: من أنه عنى بقوله: "شهد"، قضى -فمما لا يعرف في لغة العرب ولا العجم ، لأن الشهادة، معنى، والقضاء غيرها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن بعض المتقدمين القول في ذلك .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم"، بخلاف ما قالوا - يعني: بخلاف ما قال وفد نجران من النصارى، "قائما بالقسط"، أي بالعدل.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبوحذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: بالقسط، بالعدل.
فيه أربع مسائل : الأولى : قال سعيد بن جبير : كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فلما نزلت هذه الآية خررن سجدا . وقال الكلبي :
لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام ، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان . فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت ، فقالا له ك أنت محمد ؟ قال نعم قالا : وأنت أحمد ؟ قال : نعم قالا : نسألك عن شهادة ، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك . فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلاني فقالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط "‌ فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد قيل : إن المراد بأولي العلم الأنبياء عليهم السلام . وقال ابن كيسان : المهاجرون والأنصار . مقاتل : مؤمنو أهل الكتاب . السدي والكلبي : المؤمنون كلهم : المؤمنون كلهم ح وهو الأظهر لأنه عام .
الثانية : في هذا الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم ، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه وسم ملائكته كما قرن اسم العلماء وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم " وقل رب زدني علما " فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم . وقال صلى الله عليه وسلم " إن العلماء ورثة الأنبياء " وقال :
العلماء أمناء الله على خلقه . وهذا شرف للعلماء عظيم ، ومحل لهم في الدين خطير . وخرج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث بركة بن نشيط وهو عنكل بن حكارك وتفسيره بركة بن نشيط وكان حافظا حدثنا عمر بن المؤمل حدثنا محمد بن أبي الخصيب حدثنا عنكل حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " العلماء ورثة الأنبياء يحبهم أهل السماء ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة " . وفي هذا الباب حديث عن أبي الدرداء خرجه أبو داود .
الثالثة : روى غالب القطان قال : أتيت الكوفى في تجارة ونزلت قريبا من الأعمش وكنت أختلف إليه . فلما كان ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة فقام فتهجد من الليل فقرأ بهذه الآية " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام " ، قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي عند الله وديعة ، وإن الدين عند الله الإسلام قالها مرارا فغدوت إليه وودعته ثم قلت : إني سمعتك تقرأ هذه الآية فما بلغك فيها ؟ أنا عندك منذ سنة لم تحدثني به . قال : والله لا حدثتك به سنة . قال : فأقمت وكتبت على بابه ذلك اليوم ، فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد مضت السنة . قال حدثني أبو وائل . عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى : عبدي عهد إلى وأنا أحق من وفي أدخلوا عبدي الجنة " قال أبوا الفرج الجوزي : غالب القطان وهو غالب بن خطاف القطان ، يروي عن الأعمش حديث شهد الله وهو حديث معضل . قال ابن عدي الضعف على حديثه بين . وقال أحمد بن حنبل : غالب من خطاف القطان ثقة ثقة . وقال ابن معين : ثقة . وقال ابن حاتم : صدوق صالح .
قلت : يكفيك من عدالته وثقته أن خرج له البخاري ومسلم في كتابيهما وحسبك . وروى من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من قرأ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم عند منامه خلق الله له سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة " . ويقال من أقر بهذه الشهادة عن عقد من قلبه فقد قام بالعدل . وروى عن سعيد بن جبير أنه قال : كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما لكل حي من أحياء العرب صنم أو صنمان . فلما نزلت هذه الآية أصبحت الأصنام قد خرت ساجدة لله .
الرابع : قوله تعالى " شهد الله " أي بين وأعلم كما يقال : شهد فلان عند القاضي إذ بين وأعلم لمن الحق ، أو على من هو . قال الزجاج : الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه ، فقد دلنا الله تعالى على وحدانيته بما خلق وبين . وقال أبو عبيدة : " شهد الله " بمعنى قضى الله ، أي أعلم . وقال ابن عطية : وهذا مردود من جهات . وقرأ الكسائي بفتح أن في قوله " أنه لا إله إلا هو " وقوله أن الدين . قال المبرد : التقدير : أن الدين عند الله الإسلام بأنه لا إله إلا هو ، ثم حذفت الباء كما قال : أمرتك الخير . أي بالخير . قال الكسائي أنصبهما جميعا ، بمعنى شهد الله انه كذا ، وأن الدين عند الله . قال بن كيسان : أن الثانية بدل من الأولى ، لأن الإسلام تفسير المعنى الذي هو التوحيد .
وقرأ ابن عباس فيما حكى الكسائي شهد الله إنه بالكسر أن الدين بالفتح . والتقدير : شهد الله أن الدين الإسلام ، ثم ابتدأ فقال :" أنه لا إله إلا هو" . وقرأ أبو المهلب وكان قارئا شهداء الله بالنصب على الحال ، وعنه شهداء الله . وروى شعبة عن عاصم عن زر عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ أن الدين عند الله الحنيفية لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية قال أبو بكر الأنباري : وزلا يخفى على ذي تمييز أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التفسير ، أدخله بعض من نقل الحديث في القرآن . و قائما نصب على الحال المؤكدة من اسمه تعالى في قوله شهد الله أو من قوله إلا هو . وقال الفراء : هو نصب على القطع ، كان أصله القائم ، فلما قطعت الألف واللام نصب كقوله . وله الدين واصبا وفي قراءة عبدالله القائم بالقسط على النعت ، القسط العدل . لا إله إلا هو العزيز الحكيم كرر لأن الأولى حلت محل الدعوى ، والشهادة الثانية حلت محل الحكم . وقال جعفر الصادق : الأولى وصف وتوحيد ، والثانية رسم وتعليم ، يعني قولوا لا إله إلا الله العزيز الحكيم .
شهد تعالى وكفى به شهيداً وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم, وأصدق القائلين "أنه لا إله إلا هو" أي المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق, وأن الجميع عبيده وخلقه وفقراء إليه, وهوالغني عما سواه, كما قال تعالى: "لكن الله يشهد بما أنزل إليك" الاية, ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته, فقال " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم " وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام "قائماً بالقسط" منصوب على الحال وهو في جميع الأحوال كذلك "لا إله إلا هو" تأكيد لما سبق, "العزيز الحكيم" العزيز الذي لا يرام جنابه عظمةً وكبرياءً, الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره, وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه , حدثنا بقية بن الوليد حدثني جبير بن عمرو القرشي , حدثنا أبو سعيد الأنصاري عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام , عن الزبير بن العوام قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الاية " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم " وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب " , وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا علي بن حسين , حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني , حدثنا عمر بن حفص بن ثابت أبو سعيد الأنصاري , حدثنا عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده عن الزبير , قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الاية "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة" قال: وأنا أشهد أي رب" وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا عبدان بن أحمد وعلي بن سعيد الرازي , قالا: حدثنا عمار بن عمر بن المختار , حدثني أبي , حدثني غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة, فنزلت قريباً من الأعمش , فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر قام فتهجد من الليل فمر بهذه الاية " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام " ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به, وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة "إن الدين عند الله الإسلام" قالها مراراً, قلت: لقد سمع فيها شيئاً فغدوت إليه فودعته ثم قلت: يا أبا محمد, إني سمعتك تردد هذه الاية, قال: أوما بلغك ما فيها ؟ قلت: أنا عندك منذ شهر لم تحدثني. قال: والله لا أحدثك بها إلى سنة, فأقمت سنة, فكنت على بابه, فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد, قد مضت السنة قال: حدثني أبو وائل عن عبد الله , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء بصاحبها يوم القيامة, فيقول الله عز وجل: عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفى بالعهد, أدخلوا عبدي الجنة", وقوله تعالى "إن الدين عند الله الإسلام" إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام, وهواتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم, فمن لقي الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل, كما قال تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه" الاية, وقال في هذه الاية مخبراً بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام "إن الدين عند الله الإسلام", وذكر ابن جرير أن ابن عباس قرأ " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام ", بكسر إنه, وفتح أن الدين عند الله الإسلام, أي شهد هو والملائكة وأولوا العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام, والجمهور قرؤوها بالكسر على الخبر, وكلا المعنيين صحيح, ولكن هذا على قول الجمهور أظهر, والله أعلم, ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول, إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم, فقال: "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم" أي بغى بعضهم على بعض فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم, فحمل بعضهم بغض البعض الاخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقاً, ثم قال تعالى: "ومن يكفر بآيات الله" أي من جحد ما أنزل الله في كتابه "فإن الله سريع الحساب" أي فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه على تكذيبه, ويعاقبه على مخالفته كتابه.
ثم قال تعالى "فإن حاجوك" أي جادلوك في التوحيد "فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن" أي فقل: أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له ولا ند له, ولا ولد له, ولا صاحبة له, "ومن اتبعن" أي على ديني يقول كمقالتي, كما قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" الاية, ثم قال تعالى آمراً لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به, الكتابيين من الملتين والأميين من المشركين, فقال تعالى: " وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ " أي والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم, وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وله الحكمة البالغة, والحجة الدامغة ولهذا قال تعالى: "والله بصير بالعباد" أي هوعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة, وهو الذي "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" وما ذلك إلا لحكمته ورحمته وهذه الاية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة, وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث, فمن ذلك قوله تعالى: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" وقال تعالى: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً" وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الافاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم امتثالاً لأمر الله له بذلك, وقد روى عبد الرزاق عن معمر , عن همام , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "والذي نفسي بيده, لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار" رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم "بعثت إلى الأحمر والأسود", وقال "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة".
وقال الإمام أحمد : حدثنا مؤمل , حدثنا حماد , حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه: أن غلاماً يهودياً كان يضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه, ويناوله نعليه, فمرض, فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " يا فلان قل لا إله إلا الله فنظر إلى أبيه فسكت أبوه, فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم, فنظر إلى أبيه, فقال أبوه: أطع أبا القاسم, فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله, فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذي أخرجه بي من النار" رواه البخاري في الصحيح , إلى غير ذلك من الايات والأحاديث.
قوله 18- "شهد الله" أي بين وأعلم. قال الزجاج: الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه، فقد دلنا على وحدانيته بما خلق وبين، وقال أبو عبيدة: شهد الله بمعنى قضى: أي أعلم. قال ابن عطية: وهذا مردود من جهات، وقيل إنها شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله ووحيه بشهادة الشاهد في كونها مبنية. وقوله أنه بفتح الهمزة. قال المبرد: أي بأنه ثم حذفت الباء كما في أمرتك الخير: أي بالخير. وقرأ ابن عباس إنه بكسر الهمزة بتضمين شهد معنى قال. وقرأ أبو المهلب شهداء لله بالنصب على أنه حال من الصابرين وما بعده، أو على المدح "والملائكة" عطف على الاسم الشريف، وشهادتهم إقرارهم بأنه لا إله إلا الله. وقوله " وأولو العلم " معطوف أيضاً على ما قبله وشهادتهم بمعنى الإيمان منهم وما يقع من البيان للناس على ألسنتهم، وعلى هذا لا بد من حمل الشهادة على معنى يشمل شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم. وقد اختلف في أولي العلم هؤلاء من هم؟ فقيل هم الأنبياء، وقيل المهاجرون والأنصار، قاله ابن كيسان، وقيل مؤمنو أهل الكتاب، قاله مقاتل، وقيل المؤمنون كلهم، قاله السدي والكلبي، وهو الحق إذ لا وجه للتخصيص. وفي ذلك فضيلة لأهل العلم جليلة، ومنقبة نبيلة لقربهم باسمه واسم ملائكته، والمراد بأولي العلم هنا علماء الكتاب والسنة وما يتوصل به إلى معرفتهما، إذ لا اعتداد بعلم لا مدخل له في العلم الذي اشتمل عليه الكتاب العزيز والسنة المطهرة. وقوله "قائماً بالقسط" أي العدل: أي قائماً بالعدل في جميع أموره أو مقيماً له، وانتصاب قائماً على الحال من الاسم الشريف. قال في الكشاف: إنها حال مؤكدة كقوله: "وهو الحق مصدقاً" وجاز إفراده سبحانه بذلك دون ما هو معطوف عليه من الملائكة وأولي العلم لعدم اللبس، وقيل: إنه منصوب على المدح، وقيل: إنه صفة لقوله: "إله" أي لا إله قائماً بالقسط إلا هو أو هو حال من قوله "إلا هو" والعامل فيه معنى الجملة. وقال الفراء: هو منصوب على القطع لأن أصله الألف واللام، فلما قطعت نصب كقوله "لا إله إلا هو" تكرير لقصد التأكيد، وقيل إن قوله "أنه لا إله إلا هو" كالدعوى، والأخيرة كالحكم. وقال جعفر الصادق الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم. وقوله "العزيز الحكيم" مرتفعان على البدلية من الضمير أو الوصفية لفاعل شهد لتقرير معنى الوحدانية.
قوله تعالى:"شهد الله أنه لا إله إلا هو "قيل: هذه الآية في نصارى نجران. وقالالكلبي : "قدم حبران من أحبار الشام على النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرا المدينة قال :أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان؟ فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة ، فقالا له : أنت محمد، قال : نعم، قالا له : وأنت أحمد ؟ قال :أنا محمد وأحمد قالا له : فإنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك ، فقال ،:اسألا فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله تعالى هذه الآية" ، فأسلم الرجلان.
قوله "شهد الله" أي بين الله لأن الشهادة تبين ، وقال مجاهد : حكم الله ( وقيل : علم الله) وقيل: أعلم الله انه لا إله إلا هو.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، فشهد بنفسه لنفسه قبل أن خلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا بر ولا بحر فقال:"شهد الله أنه لا إله إلا هو".
وقوله:"والملائكة" أي وشهدت الملائكة ، قيل: معنى شهادة الله الإخبار ولإعلام ، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار. قوله تعالى" وأولو العلم " يعني الأنبياء عليهم السلام .
وقال ابن كيسان يعني: المهاجرين والأنصار ، وقال مقاتل: علماء مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام واصحابه . قال السدي والكلبي : يعني جميع علماء المؤمنين."قائماً بالقسط" أي بالعدل .ونظم هذه الآية شهد الله قائماً بالقسط ، نصب على الحال، وقيل: نصب على القطع، ومعنى قوله " قائماً بالقسط" أي قائماً بتدبير الخلق كما يقال: فلان قائم بامر فلان، أي مدبر له ومتعهد لأسبابه وقائم بحق فلان أي مجاز له فالله جل جلاله مدبر رازق مجاز بالأعمال.
"لا إله إلا هو العزيز الحكيم ".
18 "شهد الله أنه لا إله إلا هو" بين وحدانيته بنصب الدلائل الدالة عليها وإنزال الآيات الناطقة بها. "والملائكة" بالإقرار. " وأولو العلم " بالإيمان بها والإحتجاج عليها، شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد. "قائماً بالقسط" مقيما للعدل في قسمه وحكمه وإنتصابه على الحال من الله، وإنما جاز إفراده بها ولم يجز جاء زيد وعمر راكباً لعدم اللبس كقوله تعالى: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ". أو من هو والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد قائماً، أو أحقه لأنه حال مؤكدة، أو على المدح، أو الصفة للمنفي وفيه ضعف للفصل وهو مندرج في المشهود به إذا جعلته صفة، أو حالاً من الضمير. وقريء القائم بالقسط على البدل عن هو الخبر المحذوف. "لا إله إلا هو" كرره للتأكيد ومزيد الإعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة وليبني عليه قوله: "العزيز الحكيم" فيعلم أنه الموصوف بهما، وقدم العزيز لتقديم العلم بقدرته على العلم بحكمته، ورفعهما على البدل من الضمير أو الصفة لفاعل شهد.
وقد روي في فضلهما أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى : إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة" . وهي دليل على فصل علم أصول الدين وشرف أهله.
18. Allah (Himself) is witness that there is no God save Him. And the angels and the men of learning (too are witness). Maintaining His creation in justice, there is no God save Him, the Almighty, the Wise.
18 - There is no God but he: that is the witness of God, his angels, and those endued with knowledge, standing firm on justice. there is no God but he, the exalted in power, the wise.