[آل عمران : 179] مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
(ما كان الله ليذر) ليترك (المؤمنين على ما أنتم) أيها الناس (عليه) من اختلاط المخلص بغيره (حتى يميز) بالتخفيف والتشديد يفصل (الخبيث) المنافق (من الطيب) المؤمن بالتكاليف الشاقة المبينة لذلك ففعل ذلك يوم أحد (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز (ولكن الله يجتبي) يختار (من رسله من يشاء) فيطلعه على غيبه كما أطلع النبي صلى الله عليه وسلم على حال المنافقين (فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا) النفاق (فلكم أجر عظيم)
قال أبو جعفر: يعني بقوله : "ما كان الله ليذر المؤمنين"، ما كان الله ليدع المؤمنين ، "على ما أنتم عليه" من التباس المؤمن منكم بالمنافق ، فلا يعرف هذا من هذا، "حتى يميز الخبيث من الطيب"، يعني بذلك : "حتى يميز الخبيث" وهو المنافق المستسر للكفر، "من الطيب"، وهو المؤمن المخلص الصادق الإيمان ، بالمحن والاختبار، كما ميز بينهم يوم أحد عند لقاء العدو عند خروجهم إليهم.
واختلف أهل التأويل في "الخبيث" الذي عنى الله بهذه الآية.
فقال بعضهم فيه ، مثل قولنا.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثني أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، قال : ميز بينهم يوم أحد، المنافق من المؤمن .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، قال ابن جريج : يقول : ليبين الصادق بإيمانه من الكاذب ، قال ابن جريج ، قال مجاهد: يوم أحد، ميز بعضهم عن بعض ، المنافق عن المؤمن .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق : "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، أي : المنافقين.
وقال آخرون : معنى ذلك : حتى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه"، يعني الكفار. يقول : لم يكن الله ليدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الضلالة، "حتى يميز الخبيث من الطيب"، يميز بينهم في الجهاد والهجرة .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "حتى يميز الخبيث من الطيب"، قال : حتى يميز الفاجر من المؤمن.
حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، قالوا: إن كان محمد صادقاً، فليخبرنا بمن يؤمن بالله ومن يكفر!! فانزل الله : "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"، حتى يخرج المؤمن من الكافر.
قال أبو جعفر: والتأويل الأول أولى بتأويل الآية، لأن الآيات قبلها في ذكر المنافقين ، وهذه في سياقتها، فكونها بان تكون فيهم ، أشبه منها بأن تكون في غيرهم .
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم بما:
حدثنا به محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، وما كان الله ليطلع محمداً على الغيب ، ولكن الله اجتباه فجعله رسولاً.
وقال آخرون بما :
حدثنا به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق : "وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، أي : فيما يريد أن يبتليكم به ، لتحذروا ما يدخل عليكم فيه ، "ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء"، يعلمه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بتأويله : وما كان الله ليطلعكم على ضمائر قلوب عباده فتعرفوا المؤمنين منهم من المنافق والكافر، ولكنه يميز بينهم بالمحن والابتلاء -كما ميز بينهم بالبأساء يوم أحد - وجهاد عدوه ، وما أشبه ذلك من صنوف المحن ، حتى تعرفوا مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم ، غير أنه تعالى ذكره يجتبي من رسله من يشاء فيصطفيه ، فيطلعه على بعض ما في ضمائر بعضهم ، بوحيه ذلك إليه و رسالته ، كما:
حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء"، قال: يخلصهم لنفسه .
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بتأويل الآية، لأن ابتداءها خبر من الله تعالى ذكره أنه غير تارك عباده -يعني بغير محن - حتى يفرق بالابتلاء بين مؤمنهم وكافرهم وأهل نفاقهم ، ثم عقب ذلك بقوله : "وما كان الله ليطلعكم على الغيب"، فكان فيما افتتح به من صفة إظهار الله نفاق المنافق وكفر الكافر، دلالة واضحة على أن الذي ولي ذلك هو الخبر عن أنه لم يكن ليطلعهم على ما يخفي عنهم من باطن سرائرهم ، إلا بالذي ذكر أنه مميز به نعتهم ، إلا من استثناه من رسله الذي خصه بعلمه .
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "وإن تؤمنوا"، وإن تصدقوا من اجتبيته من رسلي بعلمي وأطلعته على المنافقين منكم ، "وتتقوا" ربكم بطاعته فيما أمركم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وفيما نهاكم عنه ، "فلكم أجر عظيم"، يقول : فلكم بذلك من إيمانكم واتقائكم ربكم ، ثواب عظيم ، كما :
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق : "فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا"، أي : ترجعوا وتتوبوا ، "فلكم أجر عظيم".
قال أبو العالية : سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق ، فأنزل الله عز وجل : " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه " ، واختلفوا من المخاطب بالآية على أقوال ، فقال ابن عباس و الضحاك و مقاتل و الكلبي وأكثر المفسرين : الخطاب للكفار والمنافقين ، أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الكلبي : إن قريشاً من أهل مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : الرجل منا تزعم أنه في النار ، وأنه إذا ترك ديننا واتبع دينك قلت هو من أهل الجنة ! فأخبرنا عن هذا من أين هو ؟ وأخبرنا من يأتيك منا ؟ ومن لم يأتك ؟ فأنزل الله عز وجل : " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه " من الكفر والنفاق ، " حتى يميز الخبيث من الطيب " وقيل : هو خطاب للمشركين ، والمراد بالمؤمنين في قوله : " ليذر المؤمنين " من في الأصلاب والأرحام ممن يؤمن ، أي ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم لهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك ، حتى يفرق بينكم وبينهم ، وعلى هذا " وما كان الله ليطلعكم " كلام مستأنف ، وهو قول ابن عباس وأكثر المفسرين ، وقيل : الخطاب للمؤمنين ، حتى يميز بينكم بالمحنة والتكليف ، فتعرفوا المنافق الخبيث ، والمؤمن الطيب ، وقد ميز يوم أحد بين الفريقين ، وهذا قول أكثر أهل المعاني ، " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " يا معشر المؤمنين ، أي ما كان الله ليعين لكم المنافقين حتى تعرفوهم ، ولكن يظهر ذلك لكم بالتكليف والمحنة ، وقد ظهر ذلك في يوم أحد ، فإن المنافقين تخلفوا وأظهروا الشماتة ، فما كنتم تعرفون هذا الغيب قبل هذا ، فالآن قد أطلع الله محمداً عليه السلام وصحبه على ذلك ، وقيل : معنى ( ليطلعكم ) أي وما كان الله ليعلمكم ما يكون منهم فقوله : " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " على هذا متصل ، وعلى القولين الأولين منقطع ، وذلك أن الكفار لما قالوا : لم لم يوح إلينا ؟ قال : " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " أي على من يستحق النبوة ، حتى يكون الوحي باختياركم " ولكن الله يجتبي " أي يختار " من رسله " لإطلاع غيبه ، " من يشاء " يقال : طلعت على كذا واطلعت عليه ، وأطلعت عليه غيري ، فهو لازم ومتعد ، وقرئ ( حتى يميز ) بالتشديد من ميز ، وكذا في الأنفال وهي قراءة حمزة ، والباقون ( يميز ) بالتخفيف من ماز يميز ، يقال : مزت الشيء بعضه من بعض أميزه ميزاً ، وميزته تمييزاً ، قال أبو معاذ : مزت الشيء أميزه ميزاً إذا فرقت بين شيئين ، فإن كانت أشياء قلت : ميزتها تمييزاً ، ومثله إذا جعلت الواحد شيئين قلت : فرقت بينهما ، مخففاً ومنه فرق الشعر ، فإن جعلته أشياء قلت : فرقته تفريقاً .
قلت : ومنه أمتاز القوم ، تميز بعضهم عن بعض ، ويكاد يتميز : يتقطع ، وبهذا فسر قوله تعالى : " تكاد تميز من الغيظ " [ الملك : 8 ] ، وفي الخبر : " من ماز أذى عن الطريق فهو له صدقة " .
قوله تعالى : " فآمنوا بالله ورسوله " يقال : إن الكفار لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم من يؤمن منهم ، فأنزل الله " فآمنوا بالله ورسوله " يعني لا تشتغلوا بما لا يعنيكم واشتغلوا بما يعنيكم وهو الإيمان " فآمنوا " أي صدقوا ، أي عليكم التصديق لا التشوف إلى اطلاع الغيب ، " وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم " أي الجنة ، ويذكر أن رجلاً كان عند الحجاج بن يوسف الثقفي منجماً ، فأخذ الحجاج حصيات بيده قد عرف عددها فقال للمنجم : كم في يدي ؟ فحسب فأصاب المنجم ، فأغفله الحجاج وأخذ حصيات لم يعدهن فقال للمنجم ، كم في يدي ؟ فحسب فأخطأ ، ثم حسب أيضاً فأخطأ ، فقال : أيها الأمير ، أظنك لا تعرف عدد ما في يدك ؟ قال لا ، قال : فما الفرق بينهما ؟ فقال : إن ذاك أحصيته فخرج عن حد الغيب ، فحسبت فاصبت ، وإن هذا لم تعرف عددها فصار غيباً ، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى ، وسيأتي هذا الباب في الأنعام إن شاء الله تعالى .
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: "ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" وذلك من شدة حرصه على الناس, كان يحزنه مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق, فقال تعالى: لا يحزنك ذلك " إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة " أي حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيباً في الاخرة "ولهم عذاب عظيم", ثم قال تعالى مخبراً عن ذلك إخباراً مقرراً: "إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان" أي استبدلوا هذا بهذا "لن يضروا الله شيئاً" أي ولكن يضرون أنفسهم "ولهم عذاب أليم", ثم قال تعالى, " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين " كقوله " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " وكقوله "فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" وكقوله "ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون" ثم قال تعالى: "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب" أي لا بد أن يعقد سبباً من المحنة, يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه, يعرف به المؤمن الصابر, والمنافق الفاجر, يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين, فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم, وهتك به ستر المنافقين. فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم, ولهذا قال تعالى: "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب" قال مجاهد : ميز بينهم يوم أحد, وقال قتادة : ميز بينهم بالجهاد والهجرة, وقال السدي : قالوا: إن كان محمد صادقاً فليخبرنا عمن يؤمن به منا ومن يكفر, فأنزل الله تعالى: "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب" أي حتى يخرج المؤمن من الكافر, روى ذلك كله ابن جرير ـ ثم قال تعالى: "وما كان الله ليطلعكم على الغيب" أي أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك. ثم قال تعالى: "ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء" كقوله تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً" ثم قال تعالى: "فآمنوا بالله ورسله" أي أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع لكم "وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم". وقوله تعالى: " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم " أي لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه بل هو مضرة عليه في دينه, وربما كان في دنياه. ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة, فقال "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة", قال البخاري : حدثنا عبد الله بن منير , سمع أبا النضر , حدثنا عبد الرحمن هو ابن عبد الله بن دينار عن أبيه , عن أبي صالح , عن أبي هريرة , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة, يأخذ بلهزمتيه ـ يعني بشدقيه ـ ثم يقول: أنا مالك, أنا كنزك " ثم تلا هذه الاية "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم" إلى آخر الاية, تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه, وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن سعد عن محمد بن عجلان , عن القعقاع بن حكيم , عن أبي صالح به .
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا حجين بن المثنى , حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن عبد الله بن دينار , عن ابن عمر , عن النبي صلى الله عليه وسلم, " قال إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل الله له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان, ثم يلزمه يطوقه يقول: أنا كنزك أنا كنزك" وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة به. ثم قال النسائي : ورواية عبد العزيز عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أثبت من رواية عبد الرحمن عن أبيه عبد الله بن دينار , عن أبي صالح عن أبي هريرة (قلت) ولا منافاة بين الروايتين, فقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين, والله أعلم, وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مردويه من غير وجه عن أبي صالح , عن أبي هريرة . ومن حديث محمد بن أبي حميد عن زياد الخطمي عن أبي هريرة به .
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن جامع , عن أبي وائل , عن عبد الله , عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه, يفر منه وهو يتبعه, فيقول: أنا كنزك" ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله "سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة", وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد , زاد الترمذي : و عبد الملك بن أعين , كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود به, وقال الترمذي : حسن صحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري , كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي , عن أبي وائل , عن ابن مسعود به, ورواه ابن جرير من غير وجه عن ابن مسعود موقوفاً.
(حديث آخر) قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أمية بن بسطام , حدثنا يزيد بن زريع , حدثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد , عن معدان بن أبي طلحة , عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال من ترك بعده كنزاً مثل له شجاعاً أقرع يوم القيامة له زبيبتان يتبعه, ويقول: من أنت ؟ ويلك, فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك, فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها, ثم يتبع سائر جسده" إسناده جيد قوي, ولم يخرجوه. وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلي , ورواه ابن جرير وابن مردويه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه, عن جده, عن النبي صلى الله عليه وسلم, " قال لا يأتي الرجل مولاه فيسأله من فضل ماله عنده فيمنعه إياه إلا دعي له يوم القيامة شجاع يتلمظ فضله الذي منع" لفظ ابن جرير , وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى , حدثنا عبد الأعلى , حدثنا داود عن أبي قزعة , عن رجل, عن النبي صلى الله عليه وسلم, " قال ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده, فيبخل به عليه, إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه" ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزعة واسمه حجير بن بيان , عن أبي مالك العبدي موقوفاً, ورواه من وجه آخر عن أبي قزعة مرسلاً. وقال العوفي عن ابن عباس : نزلت في أهل الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها, رواه ابن جرير , والصحيح الأول وإن دخل هذا في معناه, وقد يقال:إن هذا أولى بالدخول, والله سبحانه وتعالى أعلم, وقوله تعالى "ولله ميراث السموات والأرض" أي " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله عز وجل. فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم "والله بما تعملون خبير" أي بنياتكم وضمائركم.
قوله 179- "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه" كلام مستأنف، والخطاب عند جمهور المفسرين للكفار والمنافقين: أي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق "حتى يميز الخبيث من الطيب" وقيل: الخطاب للمؤمنين والمنافقين: أي ما كان الله ليترككم على الحال التي أنتم عليه من الاختلاط حتى يميز بعضكم من بعض، وقيل الخطاب للمشركين. والمراد بالمؤمنين من في الأصلاب والأرحام: أي ما كان الله ليذر أولادكم على ما أنتم عليه حتى يفرق بينكم وبينهم، وقيل الخطاب للمؤمنين: أي ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط بالمنافقين حتى يميز بينكم، وعلى هذا الوجه، والوجه الثاني يكون في الكلام التفات. وقرئ "يميز" بالتشديد للمخفف، من ماز الشيء يميزه ميزاً إذا فرق بين شيئين، فإن كانت أشياء قيل: ميزه تميزاً "وما كان الله ليطلعكم على الغيب" حتى تميزوا بين الطيب والخبيث فإنه المستأثر بعلم الغيب لا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول من رسله يجتبيه فيطلعه على شيء من غيبه فيميز بينكم كما وقع من نبينا صلى الله عليه وسلم من تعيين كثير من المنافقين، فإن ذلك كان بتعليم الله له، لا بكونه يعلم الغيب، وقيل المعنى: وما كان الله ليطلعكم على الغيب في من يستحق النبوة، حتى يكون الوحي باختياركم "ولكن الله يجتبي" أي يختار "من رسله من يشاء". قوله "فآمنوا بالله ورسله" أي: افعلوا الإيمان المطلوب منكم ودعوا الاشتغال بما ليس من شأنكم من التطلع لعلم الله سبحانه "وإن تؤمنوا" بما ذكر "وتتقوا فلكم" عوضاً عن ذلك "أجر عظيم" لا يعرف قدره ولا يبلغ كنهه.
179-قوله تعالى:" ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب "، اختلفوا فيها ، فقالالكلبي: قالت قريش: يا محمد تزعم ان من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان ، وأن من اتبعك على دينك فهو في الجنة ، والله عنه راض ، فأخبرنا بمن يؤمن بك وبمن لا يؤمن بك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال السدي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عرضت علي أمتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم ، وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر بي "، فبلغ ذلك المنافقين ، فقالوا استهزاءً: زعم محمد انه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ، ونحن معه وما يعرفنا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال: " ما بال اقوام طعنوا في علمي لا تسألوني/ عن شئ فيما بينكم وبين الساعة إلا أنباتكم به"، فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال: من أبي يا رسول الله ؟ قال: حذافة ، فقام عمر فقال: يا رسول الله رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبك نبياً فاعف عنا عفا الله عنك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"فهل أنتم منتهون" ؟ ثم نزل عن المنبر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
واختلفوا في حكم الآية ونظمها ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين : الخطاب للكفار والمنافقين ، يعني " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه" يا معشر الكفار والمنافقين من الكفر والنفاق " حتى يميز الخبيث من الطيب".
وقال قوم : الخطاب للمؤمنين الذين أخبر عنهم ، معناه : ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما انتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق، فرجع من الخبر إلى الخطاب.
"حتى يميز" قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بضم الياء والتشديد وكذلك التي في الأنفال ، وقرأ الباقون بالخفيف ، يقال: ماز الشئ يميزه ميزاً وميزه تمييزاً إذا فرقه فامتاز ، وإنما هو بنفسه ، قال أبو معاذ إذا فرقت بين شيئين ، قلت : مزت ميزاً فإذا كانت أشياء ، قلت : ميزتها تمييزاً ، وكذلك إذا جعلت الشئ الواحد شيئين قلت: فرقت بالتخفيف ، ومنه فرق الشعر ، فإن جعلته أشياء، قلت فرقته تفريقاً، ومعنى الآية حتى يميز المنافق من المخلص ، فميز الله المؤمنين من المنافقين يوم احد حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال قتادة : حتى يميز الكافر من المؤمن بالهجرة والجهاد.
وقال الضحاك :"ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه" في أصلاب الرجال وأرحام النساء يا معشر المنافقين والمشركين حتى يفرق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين ، وقيل: "حتى يميز الخبيث" وهو المذنب"من الطيب" وهو المؤمن ، حتى يحظ الأوزار عن المؤمن بما يصيبه من نكبة ومحنة ومصيبة ، " وما كان الله ليطلعكم على الغيب "، لأنه لا يعلم الغيب أحد غيره ، "ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء" فيطلعه على بعض علم الغيب ، نظيره قوله تعالى" عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول " (سورة الجن الآيتان:26،27).
وقالالسدي : معناه وما كان الله ليطلع محمداً صلى الله عليه وسلم على الغيب ولكن الله اجتباه ، " فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم".
179" ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " الخطاب لعامة المخلصين والمنافقين في عصره، والمعنى لا يترككم مختلطين لا يعرف مخلصكم من منافقكم حتى يميز المنافق من المخلص بالوحي إلى نبيه بأحوالكم، أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم، كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله، ليختبر النبي صلى الله عليه وسلم به بواطنكم ويستدل به على عقائدكم. وقرأ حمزة والكسائي " حتى يميز "، هنا وفي الأنفال بضم الياء وفتح الميم وكسر الياء وتشديدها والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء. " وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء " وما كان الله ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب من كفر وإيمان، ولكن الله يجتبي لرسالته من يشاء فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات، أو ينصب له ما يدل عليها. " فآمنوا بالله ورسله " بصفة الإخلاص، أو بأن تعلموه وحده مطلعاً على الغيب وتعلموهم عباداً مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ولا يقولون إلا ما أوحي إليهم روي "أن الكفرة قالوا: إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر" فنزلت. عن السدي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "عرضت علي أمتي وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر". فقال المنافقون إن يزعم أنه يعرف من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه فلا يعرفنا فنزلت. " وإن تؤمنوا " حق الإيمان. " وتتقوا " النفاق. " فلكم أجر عظيم " لا يقادر قدره.
179. It is not (the purpose) of Allah to leave you in your present state till He shall separate the wicked from the good. And it is not (the purpose of) Allah to let you know the unseen. But Allah chooseth of His messengers whom He will, (to receive knowledge thereof.) So believe in Allah and His messengers. If ye believe and ward off (evil), yours will be a vast reward.
179 - God will not leave the believers in the state in which ye are now, until he separates what is evil from what is good. nor will he disclose to you the secrets of the unseen. but he chooses of his apostles (for the purpose) whom he pleases. so believe in God and his apostles: and if ye believe and do right, ye have a reward without measure.