[آل عمران : 153] إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
اذكروا (إذ تصعدون) تبعدون في الأرض هاربين (ولا تلوون) تعرجون (على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم) أي من ورائكم يقول: إليَّ عباد الله (فأثابكم) فجازاكم (غمَّا) بالهزيمة (بغمٍّ) بسبب غمكم للرسول بالمخالفة وقيل الباء بمعنى على ، أي مضاعفا على غم فوت الغنيمة (لكيلا) متعلق بعفا أو بأثابكم (تحزنوا على ما فاتكم) من الغنيمة (ولا ما أصابكم) من القتل والهزيمة (والله خبير بما تعملون)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولقد عفا عنكم، أيها المؤمنون، إذ لم يستأصلكم إهلاكاً منه جمعكم بذنوبكم وهربكم، "إذ تصعدون ولا تلوون على أحد".
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة قرأة الحجاز والعراق والشام، سوى الحسن البصري: "إذ تصعدون" بضم التاء وكسر العين. وبه القراءة عندنا، لإجماع الحجة من القرأة على القراءة به، واستنكارهم ما خالفه.
وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأه: إذ تصعدون ، بفتح التاء و العين.
حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج ، عن هرون، عن يونس بن عبيد، عن الحسن.
فأما الذين قرأوا "تصعدون" بضم التاء وكسر العين، فإنهم وجهوا معنى ذلك إلى أن القوم حين انهزموا عن عدوهم، أخذوا في الوادي هاربين.
وذكروا أن ذلك في قراءة أبي إذ تصعدون في الوادي.
حدثنا [بذلك] أحمد بن يوسف قال ، حدثنا أبو عبيد قال ، حدثنا حجاج، عن هرون.
قالوا: فالهرب في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب: إصعاد، لا صعود. قالوا: وإنما يكون الصعود على الجبال والسلاليم والدرج. لأن معنى الصعود، الارتقاء والارتفاع على الشيء علواً.
قالوا: فأما الأخذ في مستوى الأرض والهبوط، فإنما هو إصعاد، كما يقال: أصعدنا من مكة، إذا ابتدأت في السفر منها والخروج، وأصعدنا من الكوفة إلى خراسان، بمعنى : خرجنا منها سفراً إليها، وابتدأنا منها الخروج إليها.
قالوا: وإنما جاء تأويل أكثر أهل التأويل، بأن القوم أخذوا عند انهزامهم عن عدوهم في بطن الوادي.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ولا تلوون على أحد"، ذاكم يوم أحد، أصعدوا في الوادي فراراً، ونبي الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم في آخراهم: إلي عباد الله، إلي عباد الله!
قال أبو جعفر: وأما الحسن ، فإني أراه ذهب في قراءته : إذ تصعدون بفتح التاء و العين ، إلى أن القوم حين انهزموا عن المشركين صعدوا الجبل . وقد قال ذلك عدد من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : "لما شذ المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : إلي عباد الله ، إلي عباد الله فذكر الله صعودهم على الجبل ، ثم ذكر دعاء نبي الله صلى الله عليه وسلم إياهم فقال : "إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم"".
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : انحازوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يصدون في الجبل ، والرسول يدعوهم في آخراهم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس قوله : "إذ تصعدون ولا تلوون على أحد"، قال صعدوا في أحد فراراً.
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا أن أولى القراءتين بالصواب ، قراءة من قرأ: "إذ تصعدون"، بضم (التاء) وكسرالعين ، ، بمعنى : السبق والهرب في مستوى الأرض أو في المهابط ، لإجماع الحجة على أن ذلك هو القراءة الصحيحة. ففي إجماعها على ذلك ، الدليل الواضح على أن أولى التأويلين بالآية، تأويل من قال: (أصعدوا في الوادي ومضوا فيه، دون قول من قال : صدوا على الجبل.
قال أبو جعفر: وأما قوله : "ولا تلوون على أحد"، فإنه يعني : ولا تعطفون على أحد منكم ، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض ، هرباً من عدوكم مصعدين في الوادي.
ويعني بقوله : "والرسول يدعوكم في أخراكم"، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكم أيها المؤمنون به من أصحابه ، "في أخراكم"، يعني : أنه يناديكم من خلفكم : إلي عباد الله ، إلي عباد الله! كما:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : "والرسول يدعوكم في أخراكم"، إلي عباد الله ارجعوا ، إلي عباد الله ارجعوا!
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : "والرسول يدعوكم في أخراكم"، رأوا نبي الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم : إلي عباد الله!
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي مثله.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال : أنبهم الله بالفرار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وهو يدعوهم ، لا يعطفون عليه لدعائه إياهم ، فقال : "إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم".
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "والرسول يدعوكم في أخراكم"، هذا يوم أحد حين انكشف الناس عنه.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : "فأثابكم غما بغم"، يعني : فجازاكم بفراركم عن نبيكم ، وفشلكم عن عدوكم ، ومعصيتكم ربكم ، "غما بغم"، يقول : غماً على غم.
وسمى العقوبة التي عاقبهم بها، من تسليط عدوهم عليهم حتى نال منهم ، ما نال ثواباً، إذ كان عوضاً من عملهم الذي سخطه ولم يرضه منهم ، فدل بذلك جل ثناؤه أن كل عوض كان لمعوض من شيء من العمل ، خيراً كان أو شراً، أو العوض الذي بذله رجل لرجل ، أو يد سلفت له إليه ، فإنه مستحق اسم ثواب، كان ذلك العوض تكرمةً أو عقوبة، ونظير ذلك قول الشاعر
أخاف زياداً أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجةً سمرا
فجعل العطاء القيود. وذلك كقول القائل لآخر سلف إليه منه مكروه: لأجازينك على فعلك ، ولأثيبنك ثوابك.
وأما قوله : "غما بغم"، فإنه قيل : "غما بغم"، معناه : غماً على غم ، كما قيل : "ولأصلبنكم في جذوع النخل" [طه : 71]، بمعنى : ولأصلبنكم على جذوع النخل. وإنما جاز ذلك ، لأن معنى قول القائل : أثابك الله غماً على غم ، جزاك الله غماً بعد غم تقدمه ، فكان كذلك معنى: فأثابكم غماً بغم، لأن معناه : فجزاكم الله غما بعقب غم تقدمه ، وهو نظير قول القائل : نزلت ببني فلان ، ونزلت على بني فلان ، وضربته بالسيف وعلى السيف.
واختلف أهل التأويل في الغم الذي أثيب القوم على الغم ، وما كان غمهم الأول والثاني؟
فقال بعضهم : أما الغم الأول ، فكان ما تحدث به القوم أن نبيهم صلى الله عليه وسلم قد قتل. وأما النم الآخر، فإنه كان ما نالهم من القتل والجراح.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : "فأثابكم غما بغم"، كانوا تحدثوا يومئذ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أصيب ، وكان الغم الآخر قتل أصحابهم والجراحات التي أصابتهم. قال : وذكر لنا أنه قتل يومئذ سبعون رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ستة وستون رجلاً من الأنصار، وأربعة من المهاجرين ، وقوله : "لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، يقول : ما فاتكم من غنيمة القوم، "ولا ما أصابكم"، في أنفسكم من القتل والجراحات.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله: "فأثابكم غما بغم"، قال : فرة بعد فرة: الأولى حين سمعوا الصوت أن محمداً قد قتل ، والثانية حين رجع الكفار، فضربوهم مدبرين ، حتى قتلوا منهم سبعين رجلاً، ثم انحازوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يصعدون في الجبل ، والرسول يدعوهم في آخراهم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه. وقال آخرون : بل غمهم الأول كان قتل من قتل منهم وجرح من جرح منهم. والغم الثاني كان من سماعهم صوت القائل : قتل محمد، لنهشه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "غما بغم"، قال : الغم الأول الجراح والقتل ، والغم الثاني حين سمعوا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد قتل. فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل ، وما كانوا يرجون من الغنيمة، وذلك حين يقول: "لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم".
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع: "فأثابكم غما بغم"، قال : الغم الأول الجراح والقتل ، والغم الآخر حين سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل. فأنساهم الغم الآخر ما أصابهم من الجراح والقتل ، وما كانوا يرجون من الغنيمة، وذلك حين يقول الله : "لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم".
وقال آخرون : بل الغم الأول ما كان فاتهم من الفتح والغنيمة، والثاني إشراف أبي سفيان عليهم في الشعب . وذلك أن أبا سفيان - فيما زعم بعض أهل السير- لما أصاب من المسلمين ما أصاب ، وهرب المسلمون ، جاء حتى أشرف عليهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أحد، الذي كانوا ولوا إليه عند الهزيمة، فخافوا أن يصطلمهم أبو سفيان وأصحابه.
ذكر الخبر بذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة. فلما رأوه ، وضع رجل سهماً في قوسه ، فأراد أن يرميه ، فقال : أنا رسول الله!، ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً، وفرح رسول الله حين رأى أن في أصحابه من يمتنع. فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب عنهم الحزن ،فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ،ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا. ا فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم ، فلما نظروا إليه ، نسوا ذلك الذي كانوا عليه ، وهمهم أبوسفيان ، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد! ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم"، فقال أبو سفيان يومئذ: اعل هبل! حنظلة بحنظلة، ويوم بيوم بدر! وقتلوا يومئذ حنظلة بن الراهب ، وكان جنباً فغسلته الملائكة، وكان حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر، وقال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: قل : الله مولانا ولا مولى لكم ! فقال أبو سفيان : فيكم محمد؟ قالوا: نعم ! قال : أما إنها قد كانت فيكم مثلة، ما أمرت بها ولا نهيت عنها، ولا سرتني ولا ساءتني ! فذكر الله إشراف أبي سفيان عليهم فقال : "فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، الغم الأول : ما فاتهم من الغنيمة والفتح ، والغم الثاني : إشراف العدو عليهم ، "لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، من الغنيمة، "ولا ما أصابكم"، من القتل حين تذكرون. فشغلهم أبو سفيان.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال ، حدثني ابن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، فيما ذكروا من حديث أحد، قالوا؟ كان المسلمون في ذلك اليوم - لما أصابهم فيه من شدة البلاء- أثلاثاً: ثلث قتيل ، وثلث جريح ، وثلث منهزم ، وقد بلغته الحرب حتى ما يدري ما يصنع ، وحتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدث بالحجارة حتى وقع لشقه ، وأصيبت رباعيته ، وشج في وجهه ، وكلمت شفته ، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص ، وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه لواؤه حتى قتل ، وكان الذي أصابه ابن قميئة الليثي ، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش فقال : قتلت محمدا.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال : فكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق قال ، حدثني ابن شهاب الزهري - كعب بن مالك أخو بني سلمة قال : عرفت عينيه تزهران تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين : أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلي رسول الله أن أنصت. فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ، ونهض نحو الشعب ، معه علي بن أبي طالب ، وأبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، والحارث بن الصمة، في رهط من المسلمين.
قال فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه ، إذ علت عالية من قريش الجبل ، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا"! فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم عن الجبل. ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدن ، فظاهر بين درعين ، فلما ذهب لينهض فلم يستطع ، جلس تحته طلحة بن عبيدالله ، فنهض حتى استوى عليها.
ثم إن أبا سفيان حين أراد الانصراف ، أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته : أنعمت فعال ! إن الحرب سجال ، يوم بيوم بدر، اعل هبل ، أي : أظهر دينك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: قم فأجبه ، فقل : الله أعلى وأجل ! لا سواء! قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! فلما أجاب عمر رضي الله عنه أبا سفيان ، قال له أبو سفيان : هلم إلي يا عمر،! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائته فانظر ما شأنه ؟ فجاءه ، فقال له أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً؟ فقال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع. كلامك الآن ! فقال : أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر - أخول ابن قميئة لهم : إني قتلت محمداً- ثم نادى أبو سفيان فقال : إنه قد كان في قتلاكم مثلة، والله ما رضيت ولا سخطت ، ولا نهيت ولا أمرت .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحاق : "فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، أي : كرباً بعد كرب ، قتل من قتل من إخوانكم ، وعلو عدوكم عليكم ، وما وقع في أنفسكم من قول من قال : قتل نبيكم ، فكان ذلك مما تتابع عليكم غماً بغم ، "لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، من ظهوركم على عدوكم بعد أن رأيتموه بأعينكم ، "ولا ما أصابكم" من قتل إخوانكم ، حتى فرجت بذلك الكرب عنكم ، "والله خبير بما تعملون"، وكان الذي فرج به عنهم ما كانوا فيه من الكرب والغم الذي أصابهم ، أن الله عز وجل رد عنهم كذبة الشيطان بقتل نبيهم . فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً بين أظهرهم ، هان عليهم ما فاتهم من القوم بعد الظهور عليهم ، والمصيبة التي أصابتهم في إخوانهم ، حين صرف الله القتل عن نبيهم صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "فأثابكم غماً بغم"، قال ابن جريج ، قال مجاهد : أصاب الناس حزن وغم على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا، فلما تولجوا في الشعب وهم مصابون ، وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب ، فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضاً، فأصابهم حزن في ذلك أيضاً أنساهم حزنهم في أصحابهم ، فذلك قوله : "فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، قال ابن جريج ، قوله : "على ما فاتكم"، يقول : على ما فاتكم من غنائم القوم ، "ولا ما أصابكم"، في أنفسكم .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج عن ابن جريج قال ، أخبرني عبد الله بن كثير، عن عبيد بن عمير قال : جاء أبو سفيان بن حرب ومن معه حتى وقف بالشعب ، ثم نادى : أفي القوم ابن أبي كبشة؟ فسكتوا، فقال أبو سفيان : قتل ورب الكعبة! ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فسكتوا، فقال : قتل ورب الكعبة! ثم قال : أفي القوم عمر بن الخطاب ؟ فسكتوا، فقال : قتل ورب الكعبة! ثم قال أبو سفيان : اعل هبل ، يوم بيوم بدر، وحنظلة بحنظلة، وأنتم واجدون في القوم مثلاً، لم يكن عن رأي سراتنا وخيارنا، ولم نكرهه حين رأيناه ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب : قم فناد فقل : الله أعلى وأجل ! نعم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا! لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار!
وقال آخرون في ذلك ، بما :
حدثني به محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم"، فرجعوا فقالوا : والله لنأتينهم ثم لنقتلنهم ! قد جرحوا منا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مهلاً، فإنما أصابكم الذي أصابكم من أجل أنكم عصيتموني! فبينما هم كذلك إذ أتاهم القوم قد ائتشبوا وقد اخترطوا سيوفهم ، فكان غم الهزيمة، وغمهم حين أتوهم ، "لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، من القتل ، "ولا ما أصابكم"، من الجراحة، "فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا"، الآية ، وهو يوم أحد.
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقاويل بتأويل الآية ، قول من قال : معنى قوله : "فأثابكم غما بغم"، أيها المؤمنون ، بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم والنصر عليهم ، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ- بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون - بمعصيتكم ربكم وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم ، غم ظنكم أن نبيكم تد قتل ، وميل العدو عليكم بعد فلولكم منهم.
والذي يدل على أن ذلك أولى بتأويل الآية مما خالفه ، قوله : "لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، والفائت ، لا شك أنه هو ما كانوا رجوا الوصول إليه من غيرهم ، إما من ظهور عليهم بغلبهم ، وإما من غنيمة يحتازونها، وأن قوله : "ولا ما أصابكم"، هو ما أصابهم : إما في أبدانهم ، وإما في إخوانهم .
فإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الغم ، الثاني هو معنى غير هذين . لأن الله عز وجل أخبر عباده المؤمنين به من أصحاب رسرل الله صلى الله عليه وسلم ، أنه أثابهم غماً بغم لئلا يحزنهم ما نالهم من الغم الناشىء عما فاتهم من غيرهم ، ولا ما أصابهم قبل ذلك في أنفسهم ، وهو الغم الأول ، على ما قد بيناه قبل .
وأما قوله : "لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، فإن تأويله على ما قد بينت ، من أنه : "لكيلا تحزنوا على ما فاتكم"، فلم تدركوه مما كنتم ترجون إدراكه من عدوكم بالظفر عليهم والظهور، وحيازة غنائمهم ، "ولا ما أصابكم"، في أنفسكم ، من جرح من جرح وقتل من قتل من إخوانكم .
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه قبل على السبيل التي اختلفوا فيه ، كما:
حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"، قال : على ما فاتكم من الغنيمة التي كنتم ترجون ، ولا تحزنوا على ما أصابكم، من الهزيمة.
وأما قوله : "والله خبير بما تعملون"، فإنه يعني جل ثناؤه : والله بالذي تعملون ، أيها المؤمنون - من إصعادكم في الوادي هرباً من عدوكم ، وانهزامكم منهم ، وترككم نبيكم وهو يدعوكم في أخراكم ، وحزنكم على ما فاتكم من عدوكم وما أصابكم في أنفسكم - ذو خبرة وعلم ، وهو محص ذلك كله عليكم ، حتى يجازيكم به : المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، أو يعفو عنه.
قوله تعالى : " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون "
( إذ ) متعلق بقوله " ولقد عفا عنكم " وقراءة العامة ( تصعدون ) بضم التاء وكسر العين ، وقرأ أبو رجاء العطاردي و أبو عبد الرحمن السلمي و الحسن و قتادة بفتح التاء والعين ، يعني تصعدون الجبل ، وقرأ ابن محيصن و شبل ( إذ يصعدون ولا يلوون ) بالياء فيهما ، وقرأ الحسن ( تلون ) بواو واحدة وروى أبو بكر بن عياش عن عصام ( ولا تلوون ) بضم التاء ، وهي لغة شاذة ذكرها النحاس ، وقال أبو حاتم : أصعدت إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره ، فالإصعاد : السير في مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب والصعود : الارتفاع على الجبال والسطوح والسلاليم والدرج ، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي ، فيصح المعنى على قراءة ( تصعدون ) و ( تصعدون ) قال قتادة و الربيع : أصعدوا يوم أحد في الوادي ، وقراءة أبي ( إذ تصعدون في الوادي ) قال ابن عباس : صعدوا في أحد فراراً ، فكلتا القراءتين صواب : كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد ، والله أعلم ، قال القتبي و المبرد : أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه ، فكأن الإصعاد إبعاد في الأرض كإبعاد الارتفاع ، قال الشاعر :
ألا أيهذا السائلي أين أصعدت فإن لها من بطن يثرب موعداً
وقال الفراء : الإصعاد الابتداء في السفر ، والانحدار الرجوع منه ، يقال : أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر ، وانحدرنا إذا رجعنا ، وأنشد أبو عبيدة :
قد كنت تبكين على الإصعاد فاليوم سرحت وصاح الحادي
وقال المفضل : صعد وأصعد وصعد بمعنى واحد ، ومعنى ( تلوون ) تعرجون وتقيمون ، أي لا يلتفت بعضكم إلى بعض هرباً ، فإن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته " على أحد " يريد محمداً صلى الله عليه وسلم ، قاله الكلبي " والرسول يدعوكم في أخراكم " أي في آخراكم ، يقال : جاء فلان في آخر الناس وأخرة الناس وأخرى الناس وأخريات الناس ، وفي البخاري ( أخراكم ) تأنيث آخركم : حدثنا عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال سمعت البراء بن عازب قال : جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبد الله بن جبير وأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم ، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً ، قال ابن عباس وغيره : " كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : أي عباد الله ارجعوا " ، وكان دعاءه تغييراً للمنكر ، ومحال أن يرى عليه السلام المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه .
قلت : هذا على أن يكون الانهزام معصية وليس كذلك ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : " فأثابكم غما بغم " الغم في اللغة : التغطية ، غممت الشيء غطيته ، ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين ، ومنه غم الهلال إذا لم ير ، وغمني الأمر يغمني ، قال مجاهد و قتادة وغيرهما : الغم الأول القتل والجراح ، والغم الثاني الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم : إذ صاح به الشيطان ، وقيل : الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة ، والثاني ما أصابهم من القتل والهزيمة ، وقيل : الغم الأول الهزيمة ، والثاني إشراف أبي سفيان وخالد عليهم في الجبل ، فلما نظر إليهم المسلمون غمهم ذلك ، وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم ، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم لا يعلن علينا ، كما تقدم ، والباء في ( بغم ) على هذا بمعنى على ، وقيل : هي على بابها ، والمعنى أنهم غموا النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم إياه ، فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم ، وقال الحسن : " فأثابكم غما " يوم أحد ( بغم ) يوم بدر للمشركين ، وسمى الغم ثواباً كما سمى جزاء الذنب ذنباً ، وقيل : وقفهم الله على ذنبهم فشغلوا بذلك عما أصابهم .
قوله : "لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون " اللام متعلقة بقوله : " ولقد عفا عنكم " وقيل : هي متعلقة بقوله : " فأثابكم غما بغم " أي كان هذا الغم لكيلا تحونوا على ما فات من الغنيمة ، ولا ما أصابكم من الهزيمة ، والأول أحسن ، و ( ما ) في قوله " ما أصابكم " في موضع خفض ، وقيل : ( لا ) صلة أي لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم على مخالفتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مثل قوله" ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " [ الأعراف : 12 ] ، أي أن تسجد ، وقوله " لئلا يعلم أهل الكتاب " [ الحديد : 29 ] ، أي ليعلم ، وهذا قول المفضل ، وقيل : أراد بقوله : " فأثابكم غما بغم " أي توالت عليكم الغموم ، لكيلا تشتغلوا بعد هذا بالغنائم ، " والله خبير بما تعملون " فيه معنى التحذير والوعيد .
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين, فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والاخرة, ولهذا قال تعالى: "إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين" ثم أمرهم بطاعته وموالاته والإستعانة به والتوكل عليه, فقال تعالى: "بل الله مولاكم وهو خير الناصرين" ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم, مع ما ادخره لهم في الدار الاخرة من العذاب والنكال, فقال "سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين" وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, وأحلت لي الغنائم, وأعطيت الشفاعة, وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي عن سليمان التيمي عن سيار عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "فضلني ربي على الأنبياء ـ أو قال على الأمم ـ بأربع: قال: أرسلت إلى الناس كافة, وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره, ونصرت بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي, وأحلت لي الغنائم". ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي عن سيار القرشي الأموي مولاهم الدمشقي سكن البصرة, عن أبي أمامة صدي بن عجلان رضي الله عنه به, وقال: حسن صحيح. وقال سعيد بن منصور : أنبأنا ابن وهب , أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: "نصرت بالرعب على العدو", ورواه مسلم من حديث ابن وهب . وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد , حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق , عن أبي بردة , عن أبيه أبي موسى , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً: بعثت إلى الأحمر والأسود, وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً, وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي, ونصرت بالرعب شهراً, وأعطيت الشفاعة, وليس من نبي إلا وقد سأل شفاعته وإني اختبأت شفاعتي ثم جعلتها لمن مات لا يشرك بالله شيئاً" تفرد به أحمد . وروى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: "سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب" قال: قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً, وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب" رواه ابن أبي حاتم . وقوله تعالى: "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه" قال ابن عباس : وعدهم الله النصر, وقد يستدل بهذه الاية على أحد القولين المتقدمين في قوله تعالى: " إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " أن ذلك كان يوم أحد, لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل, فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام, فلما حصل ما حصل من عصيان الرماة وفشل بعض المقاتلة, تأخر الوعد الذي كان مشروطاً بالثبات والطاعة, ولهذا قال "ولقد صدقكم الله وعده" أي أول النهار "إذ تحسونهم" أي تقتلونهم "بإذنه" أي بتسليطه إياكم عليهم "حتى إذا فشلتم" وقال ابن جريج : قال ابن عباس : الفشل الجبن "وتنازعتم في الأمر وعصيتم" كما وقع للرماة "من بعد ما أراكم ما تحبون" وهو الظفر منهم "منكم من يريد الدنيا" وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة " ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم " ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم "ولقد عفا عنكم" أي غفر لكم ذلك الصنيع, وذلك, والله أعلم, لكثرة عدد العدو وعددهم وقلة عدد المسلمين وعددهم, قال ابن جريج : قوله "ولقد عفا عنكم" قال: لم يستأصلكم, وكذا قال محمد بن إسحاق : رواهما ابن جرير "والله ذو فضل على المؤمنين" وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود , حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه, عن عبيد الله عن ابن عباس أنه قال: ما نصر الله في موطن كما نصر يوم أحد, قال: فأنكرنا ذلك, فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله, إن الله يقول في يوم أحد "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه" يقول ابن عباس والحسن : القتل " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " الاية, وإنما عنى بهذا الرماة, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: "احموا ظهورنا, فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا, وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا" فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم, وأباحوا عسكر المشركين, أكب الرماة جميعاً دخلوا في العسكر ينهبون, ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم هكذا ـ وشبك بين يديه ـ وانتشبوا, فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها, دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فضرب بعضهم بعضاً, والتبسوا وقتل من المسلمين, ناس كثير, وقد كان النصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة, وجال المسلمون جولة نحو الجبل, ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار, إنما كانوا تحت المهراس, وصاح الشيطان: قتل محمد, فلم يشكوا به أنه حق, فلا زلنا كذلك ما نشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين نعرفه بتلفته إذا مشى, قال: ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا, قال: فرقى نحونا وهو يقول: "اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله" ويقول مرة أخرى: "اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا حتى انتهى إلينا فمكث ساعة, فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل اعل هبل ـ مرتين يعني إلهه ـ أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ألا أجيبه ؟ قال بلى. فلما قال: اعل هبل. قال عمر : الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: قد أنعمت عينها فعاد. عنها أو فعال. فقال أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر , هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا أبو بكر, وها أنا ذا عمر. قال: فقال أبو سفيان, يوم بيوم بدر, الأيام دول, وإن الحرب سجال, قال: فقال: عمر : لا سواء قتلانا في الجنة, وقتلاكم في النار. قال: إنكم تزعمون ذلك, فقد خبنا وخسرنا إذن, فقال أبو سفيان: إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا. قال: ثم أدركته حمية الجاهلية, فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه " , هذا حديث غريب وسياق عجيب, وهو من مرسلات ابن عباس , فإنه لم يشهد أحداً ولا أبوه, وقد أخرجها الحاكم في مستدركه عن أبي النضر الفقيه , عن عثمان بن سعيد , عن سلمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس به, وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة من حديث سليمان بن داود الهاشمي به. ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها فقال الإمام أحمد : حدثنا عفان , حدثنا حماد عن عطاء بن السائب , عن الشعبي , عن ابن مسعود , قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين, فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر أنه ليس منا أحد يريد الدنيا, حتى أنزل الله " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم " فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعصوا ما أمروا به, أفرد النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة: سبعة من الأنصار, ورجلين من قريش, وهو عاشرهم صلى الله عليه وسلم, فلما رهقوه قال: "رحم الله رجلاً ردهم عنا قال: فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل, فلما رهقوه أيضاً قال: رحم الله رجلاً ردهم عنا فلم يزل يقول ذلك حتى قتل السبعة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا فجاء أبو سفيان فقال: اعل هبل: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله أعلى وأجل, فقالوا: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان, لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله مولانا والكافرون لا مولى لهم فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر. فيوم علينا ويوم لنا, يوم نساء ويوم نسر, حنظلة بحنظلة وفلان بفلان وفلان بفلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا سواء: أما قتلانا فأحياء يرزقون, وأما قتلاكم ففي النار يعذبون فقال أبو سفيان, لقد كان في القوم مثلة, وإن كان لعن غير ملأ منا, ما أمرت ولا نهيت, ولا أحببت ولا كرهت, ولا ساءني ولا سرني, قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه, وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلت شيئاً ؟ قالوا: لا. قال: ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم: حمزة فصلى عليه, وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه, فرفع الأنصاري وترك حمزة حتى جيء بآخر فوضع إلى جنب حمزة فصلى عليه, ثم رفع وترك حمزة, حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة " , تفرد به أحمد أيضاً. وقال البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن البراء , قال: لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير , وقال "لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا, وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن, قد بدت خلاخلهن, فأخذوا يقولون الغنيمة الغنيمة" . فقال عبد الله بن جبير : " عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا فأبوا, فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلاً, فأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد ؟ فقال لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ قال لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال: إن هؤلاء قد قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال له: كذبت يا عدو الله قد أبقى الله لك ما يحزنك, قال أبو سفيان: اعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه قالوا: ما نقول قال: قولوا: الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجيبوه قالوا: ما نقول ؟ قال قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر, والحرب سجال, وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني " , تفرد به البخاري من هذا الوجه, ثم رواه عن عمرو بن خالد عن زهير بن معاوية , عن أبي إسحاق , عن البراء بنحوه, وسيأتي بأبسط من هذا وقال البخاري أيضاً: حدثنا عبيد الله بن سعيد , حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون, فصرخ إبليس: أي عباد الله أخراكم, فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم, فبصر حذيفة , فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي أبي. قال: قالت: فو الله ما احتجزوا حتى قتلوه, فقال حذيفة : يغفر الله لكم. قال عروة : فو الله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله عز وجل. وقال محمد بن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده أن الزبير بن العوام قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون أخذهن كثير ولا قليل, ومالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب, وخلوا ظهورنا للخيل, فأتتنا من أدبارنا, وصرخ صارخ: ألا إن محمداً قد قتل, فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم. قال محمد بن إسحاق : فلم يزل لواء المشركين صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فدفعته لقريش فلاثوا به. وقال السدي , عن عبد خير قال: قال عبد الله بن مسعود : ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أحد " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود , وكذا روي عن عبد الرحمن بن عوف وأبي طلحة , رواهن ابن مردويه في تفسيره, وقوله تعالى: "ثم صرفكم عنهم ليبتليكم" قال ابن إسحاق : حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أحد بني عدي بن النجار , قال: انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم, فقال: ما يخليكم ؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه, ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وقال البخاري : حدثنا حسان بن حسان , حدثنا محمد بن طلحة , حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن عمه يعني أنس بن النضر , غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم لئن أشهدني الله مع رسول الله ليرين الله ما أجد, فلقي يوم أحد فهزم الناس, فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني المسلمين ـ وأبرأ إليك مما جاء به المشركون, فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ , فقال: أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد, فمضى فقتل, فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه بشامة, وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم, هذا لفظ البخاري , وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس بنحوه وقال البخاري أيضاً: حدثنا عبدان , حدثنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب , قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوماً جلوساً, فقال: من هؤلاء القعود ؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: من الشيخ ؟ قالوا: ابن عمر , فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء فحدثني, قال: سل, قال: أنشدك بحرمة هذا البيت, أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال: نعم. قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال: نعم. فكبر, فقال ابن عمر : تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه, أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه, وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه" وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث عثمان, فكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: "هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال: هذه يد عثمان اذهب بها الان معك" ثم رواه البخاري من وجه آخر على أبي عوانة , عن عثمان بن عبد الله بن موهب .
وقوله تعالى: "إذ تصعدون ولا تلوون على أحد" أي صرفكم عنهم إذ تصعدون أي في الجبل هاربين من أعدائكم. وقرأ الحسن وقتادة " إذ تصعدون " أي في الجبل "ولا تلوون على أحد" أي وأنتم لا تلوون على أحد من الدهش والخوف والرعب "والرسول يدعوكم في أخراكم" أي وهو قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء, وإلى الرجعة والعودة والكرة. قال السدي : لما شد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة, وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها. فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم " يدعو الناس إلي عباد الله, إلي عباد الله" فذكر الله صعودهم إلى الجبل, ثم ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم, فقال "إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم" وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد . وقال عبد الله بن الزبعري : يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته وهو مشرك بعد لم يسلم التي يقول في أولها:
يا غراب البين أسمعت فقل إنما تنطق شيئاً قد فعل
إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل
إلى أن قال:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها واستحر القتل في عبد الأشل
ثم خفوا عند ذاكم رقصاً رقص الحفان يعلو في الجبل
فقتلنا الضعف من أشرافهم وعدلنا ميل بدر فاعتدل
الحفان: صغار النعم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد في اثني عشر رجلاً من أصحابه كما قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى , حدثنا زهير , حدثنا أبو إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنه, قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد ـ وكانوا خمسين رجلاً ـ عبد الله بن جبير قال: ووضعهم موضعاً, وقال " إن رأيتمونا تخطفنا الطير, فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم, قال فهزموهم قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن, فقال: أصحاب عبد الله الغنيمة, أي قوم الغنيمة, ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ قال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قاله لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: إنا والله لنأتين الناس, فلنصيبن من الغنيمة. فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين, فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم, فلم يبق مع رسول الله إلا اثنا عشر رجلاً, فأصابوا منا سبعين, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين, سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً. قال أبو سفيان: أفي القوم محمد, أفي القوم محمد ؟ ـ ثلاثاً ـ قال. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه, ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم, فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله يا عدو الله, إن الذين عددت لأحياء كلهم, وقد بقي لك ما يسوؤك, فقال: يوم بيوم بدر, والحرب سجال. وإنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها, ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز يقول: اعل هبل اعل هبل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه ؟ قالوا: يا رسول الله, وما نقول ؟ قال قولوا الله أعلى وأجل قال: لنا العزى ولا عزى لكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه ؟ قالوا: يا رسول الله, وما نقول ؟ قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم " وقد رواه البخاري من حديث زهير بن معاوية مختصراً, ورواه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق بأبسط من هذا كما تقدم, والله أعلم ـ وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة بن غزية , عن أبي الزبير , عن جابر , قال: " انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد, وبقي معه أحد عشر رجلاً من الأنصار, وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد الجبل, فلقيهم المشركون, فقال ألا أحد لهؤلاء فقال طلحة : أنا يا رسول الله, فقال كما أنت يا طلحة فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله, فقاتل عنه, وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه, ثم قتل الأنصاري فلحقوه, فقال ألا رجل لهؤلاء فقال طلحة , مثل قوله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله, فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله, فقاتل عنه وأصحابه يصعدون, ثم قتل فلحقوه, فلم يزل يقول مثل قوله الأول, فيقول طلحة: فأنا يا رسول الله, فيحبسه فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال, فيأذن له, فيقاتل مثل من كان قبله, حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما, فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم من لهؤلاء فقال طلحة: أنا, فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله, وأصيبت أنامله, فقال حس, فقال رسول الله لو قلت باسم الله وذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون ". وقد روى البخاري عن أبي بكر بن أبي شيبة , عن وكيع , عن إسماعيل , عن قيس بن أبي حازم , قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم, يعني يوم أحد ـ وفي الصحيحين من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه , عن أبي عثمان النهدي , قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, في بعض الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم, إلا طلحة بن عبيد الله وسعد عن حديثهما. وقال الحسن بن عرفة : حدثنا مروان بن معاوية , عن هاشم بن هاشم الزهري , قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: " نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال ارم فداك أبي وأمي", وأخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد , عن مروان بن معاوية , وقال محمد بن إسحاق : حدثني صالح بن كيسان عن بعض آل سعد , عن سعد بن أبي وقاص , أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال سعد: " فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول ارم فداك أبي وأمي حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به " ـ وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد , عن أبيه, عن جده, عن سعد بن أبي وقاص قال: " رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم, وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده, يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام " ـ وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار, واثنين من قريش, فلما أرهقوه قال من يردهم عنا وله الجنة ـ أو وهو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار, فقاتل حتى قتل, ثم أرهقوه أيضاً, فقال من يردهم عنا وله الجنة فتقدم رجل من الأنصار, فقاتل حتى قتل, فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه ما أنصفنا أصحابنا" رواه مسلم عن هدبة بن خالد , عن حماد بن سلمة به نحو, وقال أبو الأسود عن عروة بن الزبير , قال: كان أبي بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما بلغت رسول الله حلفته, قال "بل أنا أقتله إن شاء الله" فلما كان يوم أحد, أقبل أبي في الحديد مقنعاً وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد, فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله, فاستقبله مصعب بن عمير , أخو بني عبد الدار , يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه, فقتل مصعب بن عمير , " وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف, من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة وطعنه فيها بحربته, فوقع إلى الأرض عن فرسه, ولم يخرج من طعنته دم, فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور, فقالوا له: ما أجزعك إنما هو خدش ؟ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنا أقتل أبياً" ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي, بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين, فمات إلى النار "فسحقاً لأصحاب السعير" وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه, عن الزهري , عن سعيد بن المسيب بنحوه ـ وذكر محمد بن إسحاق , قال: " لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب, أدركه أبي بن خلف وهو يقول: لا نجوت إن نجوت, فقال القوم: يا رسول الله يعطف عليه رجل منا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من " الحارث بن الصمة " , فقال بعض القوم ـ ما ذكر لي ـ فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض, ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً " ـ وذكر الواقدي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق , عن عاصم بن عمرو بن قتادة , عن عبد الله بن كعب بن مالك , عن أبيه , نحو ذلك. قال الواقدي : وكان ابن عمر يقول مات أبي بن خلف ببطن رابغ, فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل, إذا أنا بنار تأجج فهبتها, فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش, وإذا رجل يقول: لا تسقه, فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا أبي بن خلف ـ وثبت في الصحيحين من رواية عبد الرزاق عن معمر , عن همام بن منبه عن أبي هريرة , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو حينئذ يشير إلى رباعيته ـ واشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله" وأخرجه البخاري أيضاً من حديث ابن جريج عن عمرو بن دينار , عن عكرمة , عن ابن عباس , قال: " اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في سبيل الله, واشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم " ـ قال ابن إسحاق : " أصيبت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشج في وجنته, وكلمت شفته " , وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص, فحدثني صالح بن كيسان , عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص قال: ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص إن كان ما علمته لسيء الخلق مبغضاً في قومه, ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم" ـ وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الزهري , عن عثمان الجزري , عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودمى وجهه, فقال اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً" فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار ـ وذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة , عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة , عن أبي الحويرث , عن نافع بن جبير , قال: سمعت رجلاً من المهاجرين يقول: شهدت أحداً فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها, كل ذلك يصرف عنه, ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ, دلوني على محمد لا نجوت إن نجا, ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه أحد, ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان, فقال والله ما رأيته أحلف بالله إنه منا ممنوع! خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك, قال الواقدي : والذي ثبت عندنا, أن الذي رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قميئة, والذي دمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص, وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا ابن المبارك عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله , أخبرني عيسى بن طلحة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد, قال: ذاك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدث, قال: كنت أول من فاء يوم أحد, فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه وأراه قال حمية , فقال: فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني, فقلت: يكون رجلاً من قومي أحب إلي وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه, وهو يخطف المشي خطفاً لا أحفظه, فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح , فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه, وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليكما صاحبكما يريد طلحة" وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله, قال: وذهبت لأن أنزع ذلك من وجهه, فقال أبو عبيدة : أقسمت عليك بحقي لما تركتني فتركته, فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأزم عليه بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين, ووقعت ثنيته مع الحلقة, وذهبت لأصنع ما صنع, فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني, قال ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى, فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة, فكان أبوعبيدة أحسن الناس هتماً, فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار, فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورمية وضربة, وإذا قد قطعت أصبعه, فأصلحنا من شأنه, ورواه الهيثم بن كليب والطبراني من حديث إسحاق بن يحيى به. وعند الهيثم فقال أبو عبيدة : أنشدك الله يا أبا بكر إلا تركتني ؟ فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه, فجعل ينضنضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استل السهم بفيه فبدرت ثنية أبو عبيدة , وذكر تمامه , واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه, وقد ضعف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان وأحمد ويحيى بن معين والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي وغيرهم وقال ابن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه أن مالكاً أبا أبي سعيد الخدري لما جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مص الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل له: مجه, فقال: لا والله لا أمجه أبداً, ثم أدبر يقاتل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فاستشهد " . وقد ثبت في الصحيحين من طريق عبد العزيز بن أبي حازم , عن أبيه , عن سهل بن سعد , أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه صلى الله عليه وسلم, فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن, فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رماداً ألصقته بالجرح فاستمسك الدم, وقوله تعالى: "فأثابكم غماً بغم" أي فجزاكم غماً على غم, كما تقول العرب: نزلت ببني فلان, ونزلت على بني فلان. وقال ابن جرير : وكذا قوله "ولأصلبنكم في جذوع النخل" أي على جذوع النخل, قال ابن عباس : الغم الأول بسبب الهزيمة, وحين قيل قتل محمد صلى الله عليه وسلم, والثاني حين علاهم المشركون فوق الجبل, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم ليس لهم أن يعلونا" وعن عبد الرحمن بن عوف : الغم الأول بسبب الهزيمة, والثاني حين قيل قتل محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة, رواهما ابن مردويه , وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك, وذكر ابن أبي حاتم , عن قتادة نحو ذلك أيضاً وقال السدي : الغم الأول بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح, والثاني يإشراف العدو عليهم, وقال محمد بن إسحاق "فأثابكم غماً بغم" أي كرباً بعد كرب قتل من قتل من إخوانكم, وعلو عدوكم عليكم, وما وقع في أنفسكم من قول من قال: قتل نبيكم, فكان ذلك متتابعاً عليكم غماً بغم, وقال مجاهد وقتادة : الغم الأول سماعهم قتل محمد, والثاني ما أصابهم من القتل والجراح, وعن قتادة والربيع بن أنس عكسه. وعن السدي : الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة, والثاني إشراف العدو عليهم, وقد تقدم هذا القول عن السدي . قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال "فأثابكم غماً بغم" فأثابكم بغمكم أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم والنصر عليهم, وما أصابكم من القتل والجراح, يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم أمر ربكم, وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم غم ظنكم أن نبيكم قد قتل وميل العدو عليكم بعد فلولكم منهم. وقوله تعالى: "لكيلا تحزنوا على ما فاتكم" أي على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم "ولا ما أصابكم" من الجراح والقتل, قاله ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف والحسن وقتادة والسدي , "والله خبير بما تعملون" سبحانه وبحمده لا إله إلا هو جل وعلا.)
قوله 153- "إذ تصعدون" متعلق بقوله "صرفكم" أو بقوله "ولقد عفا عنكم" أو بقوله "ليبتليكم" وقرأه الجمهور بضم التاء وكسر العين، وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة بفتح التاء والعين. وقرأ ابن محيصن وقنبل " تصعدون " بالتحتية. قال أبو حاتم: أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل، فالإصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية، والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدرج، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي، فيصح المعنى على القراءتين. وقال القتيبي: أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه، ومنه قول الشاعر:
ألا أيها السائلي أين إصعدت فإن لها من بطن يثرب موعداً
وقال الفراء: الإصعاد الابتداء في السفر، والانحدار الرجوع منه، يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك: إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر، وانحدرنا إذا رجعنا. وقال المفضل: صعد وأصعد بمعنى واحد. ومعنى "تلوون" تعرجون وتقيمون: أي: لا يلتفت بعضكم إلى بعض هرباً، فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته "على أحد" أي: على أحد ممن معكم، وقيل: على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرأ الحسن تلون بواو واحدة، وقرأ عاصم في رواية عنه بضم التاء وهي لغة. قوله "والرسول يدعوكم في أخراكم" أي: في الطائفة المتأخرة منكم، يقال: جاء فلان في آخر الناس، وآخرة الناس، وأخرى الناس، وأخريات الناس. وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "أي عباد الله ارجعوا". قوله "فأثابكم" عطف على صرفكم: أي: فجازاكم الله غماً حين صرفكم عنه بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم، أو غماً موصولاً بغم بسبب ذلك الإرجاف والجرح والقتل وظفر المشركين، والغم في الأصل التغطية، غميت الشيء غطيته، ويوم غم، وليلة غمة: إذا كانا مظلمين: ومنه غم الهلال، وقيل: الغم الأول الهزيمة، والثاني إشراف أبي هريرة وخالد بن الوليد عليهم في الجبل. قوله: "لكيلا تحزنوا" اللام متعلقة بقوله "فأثابكم" أي: هذا الغم بعد الغم لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة ولا ما أصابكم من الهزيمة، تمريناً لكم على المصائب وتدريباً لاحتمال الشدائد. وقال المفضل: معنى "لكيلا تحزنوا" لكي تحزنوا، ولا زائدة كقوله تعالى " ما منعك أن لا تسجد " أي: أن تسجد، وقوله "لئلا يعلم أهل الكتاب" أي ليعلم.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: "يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا" قال: لا تنصحوا اليهود والنصارى على دينكم ولا تصدقوهم بشيء في دينكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي يقول: إن تطيعوا أبا سفيان بن حرب يردكم كفاراً. وأخرج ابن جرير عنه في قوله "سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب" نحو ما قدمناه في سبب نزول الآية. وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة في قوله "ولقد صدقكم الله وعده" قال: كان الله وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وكان قد فعل فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا مصافهم وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم، وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد لملائكة. وقصة أحد مستوفاة في السير والتواريخ فلا حاجة إلى إطالة الشرح هنا وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عبد الرحمن بن عوف في قوله "إذ تحسونهم" قال: الحس القتل. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه. قال: الفشل الجبن. وأخرج ابن المنذر عن البراء بن عازب في قوله "من بعد ما أراكم ما تحبون" قال: الغنائم وهزيمة القوم. وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله "ولقد عفا عنكم" قال: يقول الله قد عفوت عنكم أن لا أكون استأصلتكم. وأخرج أيضاً عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس "إذ تصعدون" قال: أصعدوا في أحد فراراً والرسول يدعوهم في أخراهم: "إلي عباد الله ارجعوا إلي عباد الله ارجعوا". وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف "فأثابكم غماً بغم" قال: الغم الأول بسبب الهزيمة، والثاني: حين قيل قتل محمد، وكان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله "غما بغم" قال: فرة بعد الفرة الأولى حين سمعوا الصوت أن محمداً قد قتل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال: الغم الأول الجراح والقتل، والغم الآخر حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله.
153-"إذ تصعدون"، يعني: ولقد عفا عنكم إذ تصعدون هاربين ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن وقتادة "تصعدون" بفتح التاء والعين ، والقراءة المعروفة بضم التاء وكسر العين.
والإصعاد: السير في مستوى الأرض، والصعود : الإرتفاع على الجبال والسطوح ، قال أبو حاتم : يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره ، وقال المبرد: أصعد إذا أبعد في الذهاب ، وكلتا القراءتين صواب فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد، وقال المفضل: صعد وأصعد وصعد بمعنى واحد.
"ولا تلوون على أحد" أي: لا تعرجون ولا تقيمون على أحد ، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض، "والرسول يدعوكم في أخراكم"أي: في آخركم ومن ورائكم إلي عباد الله فأنا رسول الله من يكر فله الجنة ، "فأثابكم"، فجازاكم ، جعل الإثابة بمعنى العقاب ، وأصلها في الحسنات لأنه وضعها موضع الثواب ، كقوله تعالى: "فبشرهم بعذاب أليم" جعل البشارة في العذاب ، ومعناه: جعل مكان الثواب الذي كنتم ترجون "غماً بغم" وقيل: الباء بمعنى على ، أي: غماً على غم ، وقيل: غماً متصلاً بغم، فالغم الأول : ما فاتهم من الظفر والغنيمة ، والغم الثاني: ما نالهم من القتل والهزيمة .
وقيل: الغم الأول : إشراف خالد بن الوليد عليهم بخيل المشركين، والغم الثاني: حين أشرف عليهم أبو سفيان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه وأراد أن يرميه ، فقال أنا رسول الله ، ففرحوا حين وجدوا/ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفرح النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا فأقبل أبو سفيان وأصحابه ، حتى وقفوا بباب الشعب، فلما نظر المسلمون إليهم أهمهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لهم أن يعلونا اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض ، ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم.
وقيل: إنهم غموا الرسول بمخالفة أمره ، فجازاهم الله بذلك الغم غم القتل والهزيمة.
قوله تعالى:"لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " ، من الفتح والغنيمة،"ولا ما أصابكم" أي: ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة ،"والله خبير بما تعملون".
153"إذ تصعدون" متعلق بصرفكم، أو ليبتليكم أو بمقدر كاذكروا. والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض يقال: أصعدنا في مكة والمدينة. "ولا تلوون على أحد" لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره. " والرسول يدعوكم " كان يقول إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة. " في أخراكم" في ساقتكم أو في جماعتكم الأخرى " فأثابكم غما بغم " عطف على صرفكم، والمعنى فجازاكم الله عن فشلكم وعصيانكم غماً متصلاً بغم، من الإغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، أو فجازاكم غماً بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له. "لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم" لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا ضر لاحق. وقيل "لا" مزيدة والمعنى لتأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجرح والهزيمة عقوبة لكم. وقيل الضمير في أثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم أي فآساكم في الاغتمام فاغتم بما نزل عليكم، كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثر بكم على عصيانكم تسلية لكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا على ما أصابكم من الهزيمة "والله خبير بما تعملون" عليم بأعمالكم وبم قصدتم بها.
153. When ye climbed (the hill) and paid no heed to anyone, while the messenger, in your rear, was calling you (to fight). Therefor He rewarded you grief for (his) grief, that (He might teach) you not to sorrow either for that which ye missed or for that which befell you. Allah is Informed of what ye do.
153 - Behold ye were climbing up the high ground, without even casting a side glance at any one, and the apostle in your rear was calling you back. there did God give you one distress after another by way of requital, to teach you not to grieve for (the booty) that had escaped you and for (the ill) that had befallen you. for God is well aware of all that ye do.