[العنكبوت : 46] وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
46 - (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي) أي المجادلة التي (هي أحسن) كالدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه (إلا الذين ظلموا منهم) بأن حاربوا وأبوا أن يقروا بالجزية فجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية (وقولوا) لمن قبل الاقرار بالجزية إذا أخبروكم بشيء مما في كتبهم (آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم في ذلك (وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) مطيعون
يقول تعالى ذكره: " ولا تجادلوا " أيها المؤمنون بالله وبرسوله اليهود والنصارى، وهم " أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " يقول: إلا بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حججه.
وقوله " إلا الذين ظلموا منهم " اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: إلا الذين أبوا أن يقروا لكم بإعطاء الجزية، ونصبوا دون ذلك لكم حرباً، فإنهم ظلمة، فأولئك جادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن سهل، قال: ثنا يزيد، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد، في قوله " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم " قال: من قاتل ولم يعط الجزية.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد، بنحوه. إلا أنه قال: من قاتلك ولم يعطك الجزية.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " قال: إن قالوا شراً، فقولوا خيراً، " إلا الذين ظلموا منهم " فانتصروا منهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد " إلا الذين ظلموا منهم " قال: قالوا مع الله إله، أو له ولد، أو له شريك، أو يد الله مغلولة، أو الله فقير، أو آذوا محمداً صلى الله عليه وسلم، قال: هم أهل الكتاب.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سالم، عن سعيد " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم " قال: أهل الحرب، من لا عهد له، جادله بالسيف.
وقال آخرون: معنى ذلك: " ولا تجادلوا أهل الكتاب " الذين قد آمنوا به، واتبعوا رسوله فيما أخبروكم عنه مما في كتبهم " إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم "، فأقاموا على كفرهم. وقالوا: هذه الآية محكمة، وليست بمنسوخة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " قال: ليست بمنسوخة، لا ينبغي أن تجادل من آمن منهم، لعلهم يحسنون شيئاً في كتاب الله، لا تعلمه أنت، فلا تجادله، ولا ينبغي أن تجادل إلا الذين ظلموا، المقيم منهم على دينه. فقال: هو الذي يجادل، ويقال له بالسيف. قال: وهؤلاء يهود. قال: ولم يكن بدار الهجرة من النصارى أحد، إنما كانوا يهوداً هم الذين كلموا وحالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغدرت النضير يوم أحد، وغدرت قريظة يوم الأحزاب.
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية قبل أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال، وقالوا: هي منسوخة نسخها قوله ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ( التوبة: 29).
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " ثم نسخ بعد ذلك، فأمر بقتالهم في سورة براءة، ولا مجادلة أشد من السيف أن يقاتلوا حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقروا بالخراج.
وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: عني بقوله " إلا الذين ظلموا منهم " إلا الذين امتنعوا من أداء الجزية، ونصبوا دونها الحرب.
فإن قال قائل: أو غير ظالم من أهل الكتاب، إلا من لم يؤد الجزية؟ قيل: إن جميعهم وإن كانوا لأنفسهم بكفرهم بالله، وتكذيبهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ظلمة، فإنه لم يعن بقوله " إلا الذين ظلموا منهم " ظلم أنفسهم. وإنما عنى به: إلا الذين ظلموا منهم أهل الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن أولئك جادلوهم بالقتال.
وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب، لأن الله تعالى ذكره أذن للمؤمنين بجدال ظلمة أهل الكتاب بغير الذي هو أحسن، بقوله " إلا الذين ظلموا منهم " فمعلوم إذ كان قد أذن لهم في جدالهم، أن الذين لم يؤذن لهم في جدالهم إلا بالتي هي أحسن، غير الذين أذن لهم بذلك فيهم، وأنهم غير المؤمن، لأن المؤمن منهم غير جائز جداله إلا في غير الحق، لأنه إذا جاء بغير الحق، فقد صار فيسمعنى الظلمة في الذي خالف فيه الحق. فإذ كان ذلك كذلك، تبين أن لا معنى لقول من قال: عنى بقوله " ولا تجادلوا أهل الكتاب " أهل الإيمان منهم، وكذلك لا معنى لقول من قال: نزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال، وزعم أنها منسوخة، لأنه لا خبر بذلك يقطع العذر، ولا دلالة على صحته من فطرة عقل.
وقد بينا في غير موضع من كتابنا، أنه لا يجوز أن يحكم على حكم الله في كتابه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل.
وقوله " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون " يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله، الذين نهاهم أن يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن: إذا حدثكم أهل الكتاب أيها القوم عن كتبهم، وأخبروكم عنها بما يمكن ويجوز أن يكونوا فيه صادقين، وأن يكونوا فيه كاذبين، ولم تعلموا أمرهم وحالهم في ذلك فقولوا لهم " آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم " مما في التوراة والإنجيل " وإلهنا وإلهكم واحد " يقول: ومعبودنا ومعبودكم واحد " ونحن له مسلمون " يقول: ونحن له خاضعون متذللون بالطاعة فيما أمرنا ونهانا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر الرواية بذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أخبرنا علي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، فيفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون " ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عطاء بن يسار، قال: كان ناس من اليهود يحدثون ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " لا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم " ".
قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن سليمان، عن عمارة بن عمير، عن حريث بن ظهير، عن عبد الله، قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال.
وكان مجاهد يقول في ذلك ما:
حدثني به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله " إلا الذين ظلموا منهم " قال: قالوا مع الله إله، أو له ولد، أو له شريك، أو يد الله مغلولة، أو الله فقير، أو آذوا محمداً، " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم " لمن لم يقل هذا من أهل الكتاب.
فيه مسألتان :
الأولى : اختلف العلماء في قوله تعالى : " ولا تجادلوا أهل الكتاب " فقال مجاهد : هي محكمة فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل ، والتنبيه على حججه وآياته ، رجاء إجابتهم إلى الإيمان ، لا على طريق الإغلاط والمخاشنة . وقوله على هذا : " إلا الذين ظلموا منهم " معناه ظلموكم ، وإلا فكلهم ظلمة على الإطلاق . وقيل : المعنى لا تجادلوا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب المؤمنين كعبد الله بن سلا م ومن آمن معه . " إلا بالتي هي أحسن" أي بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أوئلهم وغير ذلك . وقوله على هذا التأويل : " إلا الذين ظلموا " يريد به من بقي على كفره منهم ، كمن كفر وغدر من قريظة والنضير وغيرهم . والآية على هذا أيضاً محكمة . وقيل : هذه الآية منسوخة بآية القتال . وقوله تعالى :" قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" [ التوبة : 29] قال قتادة ( إلا الذين ظلموا ) أي جعلوا لله ولداً ، وقالوا : " يد الله مغلولة " [ المائدة : 64] و" إن الله فقير " [آل عمران : 181] فهؤلاء المشركون الذين نصبوا الحرب ولم يؤدوا الجزية فانتصروا منهم . قال النحاس وغيره : من قال هي منسوخة احتج بأن الآية مكية ، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ، ولا طلب جزية ، ولا غير ذبلك . وقول مجاهد حسن ، لأن أحكامن الله عز وجل لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر ، أو حجة من معقول . وأختار هذا القول ابن العربي . وقال للمؤمنين الحرب فجدالهم بالسيف حتى يؤمنوا ، أو يعطوا الجزية .
الثانية : قوله تعالى : " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم " "روى البخاري عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرؤون بالعبرانية ويفسرونها بالعربية ، لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم " . وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق وإما أن تصدقوا بباطل " وفي البخاري : " عن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش بالمدينة ، وذكر كعب الأحبار فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب ".
قال قتادة وغير واحد: هذه الاية منسوخة بآية السيف, ولم يبق معهم مجادلة, وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف. وقال آخرون: بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين, فيجادل بالتي هي أحسن ليكون أنجع فيه, كما قال تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" الاية, وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى" وهذا القول اختاره ابن جرير , وحكاه عن ابن زيد .
وقوله تعالى: "إلا الذين ظلموا منهم" أي حادوا عن وجه الحق, وعموا عن واضح المحجة, وعاندوا وكابروا, فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم, قال الله عز وجل: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز " قال جابر : أمرنا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف, قال مجاهد "إلا الذين ظلموا منهم" يعني أهل الحرب, ومن امتنع منهم من أداء الجزية. وقوله تعالى: "وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم" يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صدقه ولا كذبه, فهذا لا نقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقاً, ولا تصديقه فلعله أن يكون باطلاً, ولكن نؤمن به إيماناً مجملاً معلقاً على شرط وهو أن يكون منزلاً لا مبدلاً ولا مؤولاً.
قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار , حدثنا عثمان بن عمر , أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم, وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم, وإلهنا وإلهكم واحد, ونحن له مسلمون" وهذا الحديث تفرد به البخاري . وقال الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن عمرو , أخبرنا يونس عن الزهري , أخبرني ابن أبي نملة أن أبا نملة الأنصاري " أخبره أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود, فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أعلم قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم, وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله, فإن كان حقاً لم تكذبوهم, وإن كان باطلاً لم تصدقوهم" (قلت) وأبو نملة هذا هو عمارة . وقيل عمار , وقيل عمرو بن معاذ بن زرارة الأنصاري رضي الله عنه, ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان, لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل, وما أقل الصدق فيه, ثم ما أقل فائدة كثير منه لو كان صحيحاً.
قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار , حدثنا أبو عاصم , أخبرنا سفيان عن سليمان بن عامر عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير عن عبيد الله ـ هو ابن مسعود ـ قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا, إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل, فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال. وقال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل , حدثنا إبراهيم بن سعد , أخبرنا ابن شهاب عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرءونه محضاً لم يشب, وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً, ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم.
وقال البخاري : وقال أبو اليمان : أخبرنا شعيب عن الزهري , أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش بالمدينة, وذكر كعب الأحبار , فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب, وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. (قلت) معناه أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد, لأنه يحدث عن صحف يحسن بها الظن, وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة, لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة, ومع ذلك وقرب العهد, وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة لا يعلمها إلا الله عز وجل, ومن منحه الله تعالى علماً بذلك كل بحسبه, و لله الحمد والمنة.
46- "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" أي إلا بالخصلة التي هي أحسن، وذلك على سبيل الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه لهم على حججه وبراهينه رجاء إجابتهم إلى الإسلام، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة "إلا الذين ظلموا منهم" بأن أفرطوا في المجادلة ولم يتأدبوا مع المسلمين فلا بأس بالإغلاظ عليهم والتخشين في مجادلتهم، هكذا فسر الآية أكثر المفسرين بأن المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى. وقيل معنى الآية: لا تجادلوا من آمن بمحمد من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وسائر من آمن منهم إلا بالتي هي أحسن: يعني بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أهل الكتاب، ويكون المراد بالذين ظلموا على هذا القول هم الباقون على كفرهم. وقيل هذه الآية منسوخة بآيات القتال، وبذلك قال قتادة ومقاتل. قال النحاس: من قال هي منسوخة احتج بأن الآية مكية ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ولا طلب جزية ولا غير ذلك. قال سعيد بن جبير ومجاهد: إن المراد بالذين ظلموا منهم الذين نصبوا القتال للمسلمين فجدالهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية "وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا" من القرآن "وأنزل إليكم" من التوراة والإنجيل: أي آمنا بأنهما منزلان من عند الله وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإسلامية والبعثة المحمدية، ولا يدخل في ذلك ما حرفوه وبدلوه "وإلهنا وإلهكم واحد" لا شريك له ولا ضد ولا ند "ونحن له مسلمون" أي ونحن معاشر أمة محمد مطيعون له خاصة، لم نقل عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله، ولا اخذنا أحبارنا ورهباننا أرباباً من دون الله، ويحتمل أن يراد ونحن جميعاً منقادون له، ولا يقدح في هذا الوجه كون انقياد المسلمين أتم من انقياد أهل الكتاب وطاعتهم أبلغ من طاعتهم.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء" الآية قال: ذاك مثل ضربه الله لمن عبد غيره أن مثله كمثل بيت العنكبوت. وأخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العنكبوت شيطان مسخها الله فمن وجدها فليقتلها". وأخرج ابن أبي حاتم عن مزيد بن ميسرة قال: العنكبوت شيطان. وأخرج الخطيب عن علي قالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن". وروى القرطبي في تفسيره عن علي أيضاً أنه قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيت يورث الفقر. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني قال: نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود، والثانية على النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" قال: في الصلاة منتهى ومزدجر عن المعاصي. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عمران بن حصين قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" فقال: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له". وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعداً". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في الشعب عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له". وفي لفظ "لم يزد بها من الله إلا بعداً". وأخرج الخطيب عن ابن عمر مرفوعاً نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً نحوه. قال السيوطي: وسنده ضعيف. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الشعب عنه نحوه موقوفاً. قال ابن كثير في تفسيره: والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ولذكر الله أكبر" يقول: ولذكر الله لعباده إذا ذكروه أكبر من ذكرهم إياه. وأخرج الفريابي وسعد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن ربيعة قال: سألني ابن عباس عن قول الله "ولذكر الله أكبر" فقلت: ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير قال: لذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه، ثم قال: اذكروني أذكركم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير عن ابن مسعود "ولذكر الله أكبر" قال: ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله. وأخرج ابن السني وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: لها وجهان: ذكر الله أكبر مما سواه. وفي لفظ: ذكر الله عند ما حرمه وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه. وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال: ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى يتقطع، لأن الله يقول في كتابه العزيز "ولذكر الله أكبر". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم في الكنى والبيهقي في الشعب عن عنترة قال: قلت لابن عباس أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" قال: بلا إله إلا الله. وأخرج البخاري والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل ألينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون". وأخرج البيهقي في الشعب والديلمي وأبو نصر السجزي في الإبانة عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تصدقوا بباطل، أو تكذبوا بحق، والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن ابن مسعود قال: لا تسألوا أهل الكتاب، وذكر نحو حديث جابر، ثم قال: فإن كنتم سائليهم لا محالة فانظروا ما وطأ كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه.
قوله تعالى: 46- "ولا تجادلوا أهل الكتاب"، لا تخاصموهم، "إلا بالتي هي أحسن"، أي: بالقرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه، وأراد من قبل الجزية منهم، "إلا الذين ظلموا منهم"، أي: أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب، فجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، ومجاز الآية: إلا الذين ظلموكم، لأن جميعهم ظالم بالكفر. وقال سعيد بن جبير: هم أهل الحرب ومن لا عهد له. قال قتادة ومقاتل: صارت منسوخة بقوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" (التوبة-29).
"وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم"، يريد إذا أخبركم واحد منهم من قبل الجزية بشيء مما في كتبهم فلا تجادلوه عليه، ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم.
"وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون"، أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن بشار، أخبرنا عثمان بن عمر، أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم".
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر بن الزهري، أخبرنا ابن أبي نملة الأنصاري أن أباه أبا نملة الأنصاري أخبره: "أنه بينا هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود ومر بجنازة، فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أعلم، فقال اليهودي: إنها تتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوه وإن كان حقاً لم تكذبوه".
46ـ " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " إلا بالخصلة التي هي أحسن كمعارضة الخشونة باللين والغضب بالكظم والمشاغبة بالنصح ، وقيل هو منسوخ بآية السيف إذ لا مجادلة أشد منه وجوابه أنه آخر الدواء ، وقيل المراد به ذو العهد منهم . " إلا الذين ظلموا منهم " بالإفراط في الاعتداء والعناد أو بإثبات الولد وقولهم " يد الله مغلولة " أو بنبذ العهد ومنع الجزية . " وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم " هو من المجادلة بالتي هي أحسن . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وبكتبه ورسله فإن قالوا باطلاً لم تصدقوهم وإن قالوا حقاً لم تكذبوهم " . " وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون " مطيعون له خاصة وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله .
46. And argue not with the People of the Scripture unless it be in (a way) that is better, save with such of them as do wrong; and say: We believe in that which hath been revealed unto us and revealed unto you; our God and your God is One, and unto Him we surrender.
46 - And dispute ye not with the people of the Book, except with means better (Than mere disputation), unless it be with those of them who inflict wrong (and injury): but say, We believe in the Revelation which has come down to us and in that which came down to you; our God and your God is One; and it is to Him We bow (in Islam).