[القصص : 54] أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
54 - (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) بإيمانهم بالكتابين (بما صبروا) بصبرهم على العمل بهما (ويدرؤون) يدفعون (بالحسنة السيئة) منهم (ومما رزقناهم ينفقون) يتصدقون
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفت صفتهم، يؤتون ثواب عملهم مرتين بما صبروا.
واختلف أهل التأويل في معنى الصبر الذي وعد الله ما وعد عليه، فقال بعضهم: وعدهم ما وعد جل ثناؤه، بصبرهم على الكتاب الأول، واتباعهم محمدً صلى الله عليه وسلم، وصبرهم على ذلك. وذلك قول قتادة، وقد ذكرناه قبل.
وقال آخرون: بل وعدهم بصبرهم بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، وباتباعهم إياه حين بعث.
وذلك قول الضحاك بن مزاحم ، وقد ذكرناه أيضاً قبل، وممن وافق قتادة على قوله عبد الرحمن بن زيد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " إنا كنا من قبله مسلمين " على دين عيسى، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا، فكان لهم أجرهم مرتين: بما صبروا أولى مرة، ودخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام.
وقال قوم في ذلك بما:
حدثنا به ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: إن قوماً كانوا مشركين أسلموا، فكان قومهم يؤذونهم، فنزلت " أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " وقوله " ويدرؤون بالحسنة السيئة " يقول: ويدفعون بحسنات أفعالهم التي يفعلونها سيئاتهم " ومما رزقناهم " من الأموال " ينفقون " في طاعة الله، إما في جهاد في سبيل الله، وإما في صدقة على محتاج، أو في صلة رحم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله " وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين " قال الله " أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " وأحسن الله عليهم الثناء كما تسمعون، فقال " ويدرؤون بالحسنة السيئة ".
فيه أربعة مسائل :
الأولى : قوله تعالى : " أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران وعبد مملوك أدى حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران " قال الشعبي للخراساني : خذ هذا الحديث بغير شيء ، فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة وخرجه البخاري أيضاً . قال علماؤنا : لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطباً بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم أجرين ، فالكتابي كان مخاطباً من جهة نبيه ، ثم أنه خوطب من جهة نبينا فأجابه واتبعه فله أجر الملتين ، وكذلك العبد هو مأمور من جهة الله تعالى ومن جهة سيده ، ورب الأمة لما قام بما خوطب به من تربيته أمته وأدبها فقد أحياها إحياء التربية ، ثم إنه لما أعتقها وتزوجها أحياها إحياء الحرية التي ألحقها فيه بمنصبه ، فقد قالم بما أمر فيها ، فأحر كل واحد منهما أجرين . ثم إن كل واحد من الأجحرين مضاعف في نفسه ، الحسنة بعشر أمثالها فتتضاعف الأجور . ولذلك قيل : إن العبد الذي يقولم بحق سيده وحق الله تعالى أفضل من الحر ، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر وغيره . وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للعبد لامملوك المصلح أجران " والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك . قال سعيد بن المسيب : وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت لصحبتها . وفي الصحيح أيضاً عن أبي هريررة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعما للملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده نعماً له "
الثاني : قوله تعالى : " بما صبروا " عام في صبرهم على ملتهم ، ثم على هذه وعلى الأذى الذي يلقونه من الكفار وغيره ذلك .
الثالثة : قوله تعالى : " ويدرؤون بالحسنة السيئة " أي يدفعون . درأت إذا دفعت والدرء الدفع وفي الحديث : " ادرؤوا الحدود بالشبهات " قيل : يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن الأذى . وقيل : يدفعون بالتوبة والاستغفار الذنوب ، وعلى الأول فهو وصف لمكارم الأخلاق ، أي من قال لهم سواء اً لا ينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه . فهذه آية مهادنة ، وهي من صدر الإسلام ، وهي مما نسختها آية السيف وبقي حكمها فيما دون الكفر يتعاطاه أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة . ومنه قوله عليه السلا م لمعاذ : " وأبتع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " ومن الخلق الحسن دفع المكروه والأذى ، والصبر على الجفا بالإعراض عنه ولين الحديث .
الرابعة : قوله تعالى : " ومما رزقناهم ينفقون " أثنى عليهم بأنهم ينفقون من أموالهم في الطاعات وفي رسم الشرع ، وفي ذلك حض على الصدقات . وقد يكون الإنفاق من الأبدان بالصوم والصلاة ، ثم مدحهم أيضاً على إعراضهم عن اللغو ، كما قال تعالى : " وإذا مروا باللغو مروا كراما " [ الفرقان : 72] أي إذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم أعرضوا عنه ، أي لم يشتغلوا به " وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم " أي متاركة ، مثل قوله : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " [ الفرقان : 63] أي لنا ديننا ولكم دينكم . " سلام عليكم " أي أمنا لكم منا فإنا لا نحربكم ، ولا نسابكم ، وليس من التحية في شيء . قال الزجاج وهذا قبل الأمر بالقتال .
يخبر تعالى عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن, كما قال تعالى: "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به" وقال تعالى: "وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله" وقال تعالى: " إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا " وقال تعالى: " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ". قال سعيد بن جبير : نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي, فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم " يس * والقرآن الحكيم " حتى ختمها, فجعلوا يبكون وأسلموا, ونزلت فيهم هذه الاية الأخرى "الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين" يعني من قبل هذا القرآن كنا مسلمين, أي موحدين مخلصين لله مستجيبين له. قال الله تعالى: "أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا" أي هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم الثاني, ولهذا قال: "بما صبروا" أي على اتباع الحق, فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس, وقد ورد في الصحيح من حديث عامر الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي, وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه,ورجل كانت له أمة, فأدبها فأحسن تأديبها, ثم أعتقها فتزوجها". وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني , حدثنا ابن لهيعة عن سليمان بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي أمامة قال: إني لتحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح, فقال قولاً حسناً جميلاً, وقال فيما قال: "من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين وله ما لنا وعليه وما علينا ومن أسلم من المشركين فله أجره وله ما لنا وعليه ما علينا".
وقوله تعالى: " ويدرؤون بالحسنة السيئة " أي لا يقابلون السيء بمثله, ولكن يعفون ويصفحون "ومما رزقناهم ينفقون" أي ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خلق الله في النفقات الواجبة لأهليهم وأقاربهم, والزكاة المفروضة والمستحبة من التطوعات وصدقات النفل والقربات. وقوله تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه" أي لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم, بل كما قال تعالى: "وإذا مروا باللغو مروا كراماً" "وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين" أي إذا سفه عليهم سفيه وكلمهم بما لا يليق بهم الجواب عنه, أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح, ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب, ولهذا قال عنهم إنهم قالوا "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين" أي لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها.
قال محمد بن إسحاق في السيرة : ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة, فوجدوه في المسجد, فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه, ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة, فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا, دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن, فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع, ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه, وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره, فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش, فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب, بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل, فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال: قال: ما نعلم ركباً أحمق منكم, أو كما قالوا لهم فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه, ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيراً. قال: ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران, فالله أعلم أي ذلك كان. قال: ويقال ـ والله أعلم ـ أن فيهم نزلت هذه الايات " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون " إلى قوله " لا نبتغي الجاهلين " قال: وسألت الزهري عن هذه الايات فيمن نزلت ؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم والايات اللاتي في سورة المائدة " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ".
والإشارة بقوله: 54- "أولئك يؤتون أجرهم مرتين" إلى الموصوفين بتلك الصفات، والباء في "بما صبروا" للسببية: أي بسبب صبرهم وثباتهم على الإيمان بالكتاب الأول والكتاب الآخر، وبالنبي الأول والنبي الآخر " ويدرؤون بالحسنة السيئة " الدرء الدفع: أي يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن ما يلاقونه من الأذى. وقيل يدفعون بالطاعة المعصية، وقيل بالتوبة والاستغفار من الذنوب، وقيل بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك "ومما رزقناهم ينفقون" أي ينفقون أموالهم في الطاعات وفيما أمر به الشرع.
54- "أولئك يؤتون أجرهم مرتين"، لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، "بما صبروا"، على دينهم.
قال مجاهد: نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأوذوا.
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حفص الجويني، أخبرنا أحمد بن سعيد الدارمي، أخبرنا عثمان، أخبرنا شعبة، عن صالح، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده".
قوله عز وجل: "ويدرؤون بالحسنة السيئة"، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يدفعون بشهادة أن لا إله إلآ الله الشرك، قال مقاتل: يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو، "ومما رزقناهم ينفقون"، في الطاعة.
54 -" أولئك يؤتون أجرهم مرتين " مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن . " بما صبروا " بصبرهم وثباتهم على الإيمانين . أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده ، أو على أذى المشركين ومن هاجرهم من أهل دينهم . " ويدرؤون بالحسنة السيئة " ويدفعون بالطاعة المعصية لقوله صلى الله عليه وسلم " أتبع السيئة الحسنة تمحها " . " ومما رزقناهم ينفقون " في سبيل الخير .
54. These will be given their reward twice over, because they are steadfast and repel evil with good, and spend of that wherewith We have provided them,
54 - Twice will they be given their reward, for that they have persevered, that they avert Evil with good, and that they spend (in charity) out of what We have given them.