[القصص : 28] قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
28 - (قال) موسى (ذلك) الذي قلته (بيني وبينك أيما الأجلين) الثمان أو العشر وما زائدة أي رعيه (قضيت) أي فرغت منه (فلا عدوان علي) بطلب الزيادة عليه (والله على ما نقول) أنا وأنت (وكيل) حفيظ أو شهيد فتم العقد بذلك وأمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه وكانت عصا الأنبياء عنده فوقع في يدها عصا آدم من آس الجنة فأخذها موسى بعلم شعيب
يقول تعالى ذكره: " قال " موسى لأبي المرأتين " ذلك بيني وبينك " أي هذا الذي قلت من أنك تزوجني إحدى ابنتيك على أن آجرك ثماني حجج، واجب بيني وبينك، على كل واحد منا الوفاء لصاحبه بما أوجب له على نفسه.
وقوله " أيما الأجلين قضيت " يقول: أي الأجلين من الثماني الحجج والعشر الحجج قضيت، يقول فرغت منها فوفيتكها رعي غنمك وماشيتك " فلا عدوان علي " يقول: فليس لك أن تعتدي علي، فتطالبني بأكثر منه، و ( ما) في قوله " أيما الأجلين " صلة يوصل بها أي على الدوام، وزعم أهل العربية أن هذا أكثر في كلام العرب من أي وأنشد قول الشاعر:
‌‌ وأيهما ما أتبعن فإنني حريص على أثر الذي أنا تابع
وقال عباس بن مرداس:
فأيي ما وأيك كان شراً فقيد إلى المقامة لا يراها
وقوله " والله على ما نقول وكيل " كان ابن إسحاق يرى هذا القول من أبي المرأتين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قال موسى " ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي " قال: نعم. " والله على ما نقول وكيل " فزوجه، وأقام معه يكفيه، ويعمل له في رعاية غنمه، ما يحتاج إليه منه. وزوجة موسى صفورا أو أختها: شرفا أو ليا.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي ، قال: قال ابن عباس: الجارية الي دعته هي التي تزوج.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال له " إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني " ... إلى آخر الآية، قال: وأيتهما تريد أن تنكحني؟ قال: التي دعتك، قال: لا، ألا وهي بريئة مما دخل نفسك عليها، فقال: هي عندك كذلك، فزوجه.
وبنحو الذي قلنا في قوله " أيما الأجلين قضيت " قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي " قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت " إما ثمانياً، وإما عشراً.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، وسأله رجل قال " أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي " قال: فقال القاسم: ما أبالي أي ذلك كان، إنما هو موعد وقضاء.
وقوله " والله على ما نقول وكيل " يقول: والله على ما أوجب كل واحد منا لصاحبه على نفسه بهذا القول، شهيد وحفيظ.
كالذي حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد " والله على ما نقول وكيل " قال: شهيد على قول موسى وختنه. وذكر أن موسى وصاحبه لما تعاقدا بينهما هذا العقد، أمر إحدى ابنتيه أن تعطي موسى عصاً من العصي التي تكون مع الرعاة، فأعطته إياه، فذكر بعضهم أنها العصا التي جعلها الله له آية. وقال بعضهم: تلك عصا أعطاه إياها جبريل عليه السلام.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي ، قال: أمر يعني أبا المرأتين إحدى ابنتيه أن تأتيه، يعني أن تأتي موسى بعصاً، فأتته بعصاً، وكانت تلك العصا عصاً استودعها إياه ملك في صورة رجل، فدفعها إليه، فدخلت الجارية، فأخذت العصا، فأتته بها، فلما رآها الشيخ قال: لا، ائتيه بغيرها، فألقتها تريد أن تأخذ غيرها، فلا يقع في يدها إلا هي، وجعل يرددها، وكل ذلك لا يخرج في يدها غيرها، فلما رأى ذلك عمد إليها، فأخرجها معه، فرعى بها، ثم إن الشيخ ندم وقال: كانت وديعة، فخرج يتلقى موسى، فلما لقيه قال: أعطني العصا، فقال موسى: هي عصاي، فأبى أن يعطيه، فاختصمان فرضيا أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما، فأتاهما ملك يمشي، فقال: ضعوها في الأرض، فمن حملها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها، وأخذ موسى بيده فرفعها، فتركها له الشيخ، فرعى له عشر سنين. قال عبد الله بن عباس، كان موسى أحق بالوفاء.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قال يعني أبا الجارية لما زوجها موسى لموسى: ادخل ذلك البيت فخذ العصا، فتوكا عليها، فدخل. فلما وقف على باب البيت، طارت إليه تلك العصا، فأخذها، فقال: ارددها وخذ أخرى مكانها، قال: فردها، ثم ذهب ليأخذ أخرى، فطارت إليه كما هي، فقال: لا أردها، فعل ذلك ثلاثاً، فقال: ارددها، فقال: لا أجد غيرها اليوم، فالتفت إلى ابنته، فقال لابنته: إن زوجك لنبي.
ذكر من قال التي كانت آيةً عصاً أعطاها موسى جبرائيل عليه السلام.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، قال: سألت عكرمة قال: أما عصا موسى، فإنها خرج بها آدم من الجنة، ثم قبضها بعد ذلك جبرائيل عليه السلام، فلقي موسى بها ليلاً، فدفعها إليه.
التاسعة : استدل أصحاب الشافعي بقوله : " إني أريد أن أنكحك " على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح . وبه قال ربيعة و أبو ثور وأبو عبيد وداود و مالك على اختلاف عنه . وقال علماؤنا في المششهور : ينعقد النكاح بل فلفظ . وقال أبو حنيفة ينعقد بل لفظ يقتضي التمليلك على التأبيد ، أما الشافعية فلا حجة لهم في الآة لأنه شرع من قبلنا وهم لا يرونه حجة في شيء في المشهور عندهم . وأما أبو حنيفة وأصحابه و الثوري و الحسن بن حي فقالوا : ينعقد النكاح بلفظ الهبة وغيره إذا كان قد أشهد عليه ، لأن الططلاق يقع بالصريح والكناية ، قالوا : فكذلك النكاح . قالوا : والذي خص به النبي صلى الله عليه وسلم تعرى البضع من العوض لا النكاح بلفظ الهبة ، وتابعهم ابن القاسم فقال : إن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظ عن مالك فيه شيئاً ، وهو عندي جائز كالبيع . قال أبو عمر : الصحيح أنه لا ينعقد نكاح بلفظ الهبة ، كما لا ينعقد بلفظ النكاح هبة شيء من الأموال . وأيضاً فإن النكاح مفتقر إلى التصريح لتقع الشعادة عليه ، وهو ضد الطلاق فكيف يقاس عليه ! وقد أجمعوا أن النكاح لا ينعقدبقوله : أبحت لك وأحلت لك فكذلك الهبة وقال صلى الله عليه وسلم : " استحللتم فروجهن بكلمة الله " يعني القرآن ، وليس في القرآن ، وليس في القرآن عقد النكاح بلفظ الهبة ، وإنما فيه التزويج والنكاح ، وفي إجازة النكاح بلفظ الهبة إبطال بعض خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم .
العاشرة : قوله تعالى : " إحدى ابنتي هاتين " يدل علىأنه عرض لا عقد ، لأنه لو كان عقداً نعين المعقود عليها له ، لأن العلماء وإن كانوا قد اختلفوا في جواز البييع إذا قال : بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا ، فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح ، لأنه خيار وشيء من الخيار لا يلصق بالنكاح .
الحادي عشرة : قال مكي : في هذه الآية خصائص في النكاح ، منها أنه لم يعين الزوجة ولا حد أول الأمد ، وجعل المهر إجارة ، ودخل ينقد شيئاً . قلت : فهذه أبربع مسائل تضمنتها المسألة الحادية عشرة .
الأولى : من الأربع مسائل التعيين ، قال علماؤنا : أما التعيين فيشبه أنه كان في ثاني حال المراوضة ، وإنما عرض الأمر مجملاً ، وعين بعد ذلك . وقد قيل : إنه زوجه صفوريا وهي الصغرى . يروى عن أبي ذر قال : قال لي رسول اله صلى الله عليه وسلم " إن سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأوفاهما وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى وهي التي جاءت نخلفه وهي التي قالت : يا أبت استأجره إن خير من أستأجرت القوي الأمين " .قيل : إن الحكمة في تزويجه الصغرى منه قبل الكبرى وإن كانت الكبرى أحوج إلى الرجال أنه توقع أن يميل إليها ، لأنه رآها في رسالته ، وماشاها في إقباله إلى أبيها معها ، ولو عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار وهو يضمر غيره . وقيل غير هذا ، والله أعلم . وفي بعض الأخبار أنه تزوج بالكبرى ، حكاه القشيري .
الثانية : وأما ذكرأول المدة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه بل هو مسكوت عنه ، فإما رسماه ،وإلا فهو من أول وقت العقد .
الثالثة : وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية ، وهو أمر قد رقرره شرعنا ، وجرى في حديث الذي لم يكن عنده إلا شيء من القرآن ، رواه الأئمة ، وفي بعض طرقه : " فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تحفط من القرآن فقال : سورة البقرة والتي تليها ، قال : فعلمها عشرين آية وهي امرأتك " . واختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال : فكرهه مالك ، ومنعه ابن القاسم ، وأجازه ابن حبيب ، وهو قول الشافعي وأسحابه ، قالوا : يجوزأن يكون منفعة الحر صداقاً كالخياطة والبناء وتعليم القرآن . وقال أبو حنيفة : لا يصح وجوز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة ، وأو يسكنها داره سنة ، لأن العبد والدار مال ، وليس خدمتها بنفسه مالاً . وقال أبو الحسن الكرخي : إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز ، لقوه تعالى : " فآتوهن أجورهن " [ النساء : 24] وقال أبو بكر الرازي : لايصح لأن الإجارة عقد مؤقت ، وعقد النكاح مؤبد ، فهما متنافيان . وقال ابن القاسم : ينفسخ قبل النباء ويقبت بعده . وقال أصبغ : إن نقد معه شيئاً ففيه اختلاف ، وإن لم ينعقد فهو أشد ، فإن ترك مضى على كل حال بدليل قصة شعيب ، قاله مالك و ابن المواز و أشهب . عول على هذه الآية جمعاة من المتأخرين والمتقدمين في هذه النازلة ، قال ابن خويز منداد . تضمنت هذه الآية النكاح على الإجارة والعقد صحيح ، ويكره أن تجعل الإجارة مهراً ، وينبغي أن يكون المهر مالاً كما قال عز وجل : " أن تبتغوا بأموالكم محصنين " [ النساء : 24] هذا قول أصحابنا جميعاً .
الرابعة : وأما قوله : ودخل ولم ينقد فقد اختلف الناس في هذا ، هل دخل حين عقد أم حين سافر ؟ فإن كان حين عقد فماذا نقد ؟ وقد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار ، قاله ابن القاسم . فإن دخل قبل أن ينقد مضى ، لأن المتأخرين من أصحابنا قالوا : تعجيل الصداق أو شيء منه مستحب . على أنه إنه كان الصداق رعية الغنم فقد نقد الشروع في الخدمة ، وإن دخل حين سافر فطول الانتظار في النكاح جائز وإن كان مدى العمر بغير شررط . وأما إن كان بشرط فلا يجوز إلا أن يكون الغرض صحيحاً مثل التأهب للبناء أو انتظار صلاحية الزوجة للدخول إن كانت صغيرة ، نص عليه علماؤنا .
الثانية عشر : في هذه الآية اجتماع إجازى ونكاح ، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال : الأول : قال في ثمانية أبي زيد : يكره ابتداء فإن وقع مضى . الثاني : قال مالك و ابن القاسم في المشهور : لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده ، لاختلاف مقصدهما كسائر العقود المتباينة . والثالث : أجازه أشهب و أصبغ . قال ابن العربي : وهذا هو الصحيح وعليه تدل الآية ، وقد قال مالك النكاح أشبه شيء بالبيوع ، فأي فرق بين إجارة وبيع أو بين بيع ونكاح .
فرع : وإن أصدقها تعليم شعر مباح صح ، قال المزني : وذلك مثل قول الشاعر .
يقول العبد فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا
وإن أصدقها تعليم شعر فيه هجو أو فحش كان كما لو أحدقها خمراً أو خنزيراً .
والثالثة عشرة : قوله تعالى : " على أن تأجرني ثماني حجج " جرى ذكر الخدمة مطلقاً وقال مالك إنه جائز ويحمل على العرف ، فلا يحتاج في التسمية إلى الخدمة ، وهو ظاهر قصة موسى ، فإنه ذكر إجارة مطلقة . وقال أبو حنيفة و الشافعي : لا يجوز حتى يسمى لأنه مجهول وقد ترجم البخاري : باب من استأجر أجيراً فبين له الأجل ولم يببين له العمل لقوله تعالى : " على أن تأجرني ثماني حجج " قال المهلب : ليس كما ترجم ، لأن العمل عندهم كانو معلوماً من سقي وحرث ورعي وما شاكل أعمال البادية في مهنة أهلها ، فهذا متعارف وإن لم يبين له أشخاص الأعمال ولا مقاديرها ، مثل أن يقول له : إنك تحرث كذا من السنة ، وترعى كذا من السنة ، فهذا إنما هو على المعهود من خدمة البادية ، وإنما الذي لا يجوز عند الحجميع أ، تكون المدة مجهونلة ، والعمل مجهول غيير معهود لا يجوز حتى يعلم . قال ابن العربي : وقد ذكر أهل التفسير أنه عين له رعية الغنم ، ولم يرو من طريق صحيحة , ولكن قالوا : إن صالح مدين لم يكن له عمل إلا رعية الغنم ، فكان ما علم من حاله قائماً مقام التعيين للخدمة فيه .
الرابعة عشرة : أجمع العلماء على أنه جائز أن يستأجر الراعي شهوراً معلومة ،بأجرة معلومة ، لرعاية غنم معدودة ، فإن كانت معدودة معينة ، ففيها تفصيل لعلمائنا ، قال ابن القاسم : لا يجوز حتى يشترط الخلف إن مات ، وهي رواية ضعيفة جداً ، وقد استأحر صالح مدين موسى على غنمه ، وقد رآها ولم يشترط خلفاً ، وإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت عند علمائنا . وقال أبو حنيفة و الشافعي : لابجوز لجهالتها ، وعول علماؤنا على العرف حسبما ذكرناه آنفاً ، وأنه يعطى بقدر ما تحتمل قوته . وزاتد بعض علمائنا أنه لا يجوز حت ى بعلم المستأجر قدر قوته ، وهو صحيح فإن صالح مدين علم قدر قوة موسى برفع الحجر .
الخامسة عشرة : قال مالك : وليس على الراعي ضمان وهو مصدق فيما هلك أو سرق ، لأنه أمين كالوكيل . وقد ترجم البخاري : (( باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئاً يفسد فأصلح ما يخاف الفساد )) وساق حديث ابن كعب بن مالك عن أبيه : أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع ، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتاً فكسرت حجراً فذبحتها به ، فقال لهم : لا تأكلوا حتى أسأل النبي _ أو أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله _ وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم _ أو أرسل إليه _ فأمر بأكلها قال عبيد الله : فيعجبني أنه أمة وأنها ذبحت . وقال المهلب : فيه من الفقه تصديق الراعي والوكيل فيما ائتمنا عليه حتى يظهر عليهما دليل الخيانة والكذب ، وهذا هول مالك وجماعة . وقال ابن القاسم : إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن ويصدق إذا جاء بها مذبوحة .وقال غيره : يضمن حتى يبين ما قال .
السادسة عشرة : واختلف ابن قاسم و أشهب إذا أنزى الراعي على إناث الماشية بغير إذن أربابها فهلكت فقال ابن القاسم : لا ضمان عليه ، لأن الإنماء من إصلاح المال ونمائه . وقال أشهب : عليه الضمان ،وقول ابن القاسم أشبه بدليل حديث كثعب ، وأنه لا ضمان عليه فيما تلف عليه باجتهاده ، إن كان من أهل الصلاح ، وممن يعلم إشفاقه على المال ، وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل ، لأنه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتاً لما عرف من فسقه .
السابعة عشرة : لم ينقل ما كانت أجرة موسى عليه السلام ، ولكن روى يحيى بن سلام أن صالح مدين جعل لموسى كل سخلة توضع خلاف لون أمها ، فأوحى الله إلى موسى أن ألق عصاك بينهن يلدن خلاف شبههن كلهن . وقال غير يحيى بل جعل له كل بلقاء تولد له ، فولدن له كلهن بلقاً . وذكر القشيري أن شعيباً لما استأجر موسى قال له : ادخل بيت كذا وخد عصا من العصى التبي في البيت ، فأخرج موسى عصا ، وكان أخرجها آدم من الجنة ، وتوارثها الأنبياء حتى صالت إلىششعيب ، فأمره شعيب أن يلقيها في البيت ويأخذ عصا أخرى ، فدخل وأخرج تلك العصا ، وكذلك سبع مرات كل ذلك لا تقع بيده غير تلك فعلم شعيب أن له شأناً ، فلما أصبح قال له : سق الأغنام إلى مفرق الطريق ، فخذ عن يمينك وليس بها عشب كثير ، ولا تأخذ عن يسارك فإن بها عشباً كثيراً وتنيناً كبيراً لا يقبل المواشي ، فساق المواشي إلى مفرق الطريق ، فأخذت نحو اليسار ولم يقدر على ضبطها ، فنام موسى وخرج التنين ، فقامت العصا وصارت شعبتاها حديداً وحاربت التنين حتى قتلته ، وعادت إلى موسى عليه السلام ، فلما انتبه موسى رأى العصا مخضوبة بالدم ، والتنين مقتولاً ، فعاد إلى شعيب عشاء ، وكان شعيب ضريراً فمس الأغنام ، فإذا ، أثر الخصب باد عليها ، فسأله عن القصة فأخبره بها ، ففرح شعيب وقال : كل ماتلد هذه المواشي هذه السنة قالب لون _ أي ذات لونين _ فهو لك ، فجاءت جميع السخال تلك السنة ذات لونين ، فعلم شعيب أن لموسى عند الله مكانة . وروى عيينة بن حين أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قال " أجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفة فرجه " فقال له شعيب لك منها _ يعني من نتاج غنمه _ ما جاءت به قالب لون ليس فيها عزوز ولا فشوش ولا كموش ولا ضبوب ولا ثعول . وقال الهروي : شالعزوز البكيئة ، مأخوذ من العزاز وهي الأرض الصلبة ، وقد تعززت الشاة . والفشوش التي ينفش لببنها من غير حلب وذلك لسعة الإحليل ، ومثله الفتوح والثرور . ومن أمثالهم : (( لأفشنك فش الوطب )) أي الأخرجن عضبك وكبرك من رأسك . ويقال : فش السقاء إذا أخرج منه الريح . ومنه الحديث : " إن الشيطان يفش يبن أليتي أحدكم حتى يخيل إليه أنه أحدث " أي ينفخ نفخاً ضعيفاً . والكموش : الصغيرة الضرلع ، وهي الكميشة أيضاً ، سميت بذلك لانكماش ضرعها وهو تقلصه ، ومنه يقال : رجل كميش الإزار . والكشود مثل الكموش . والضبوب الضيقة ثقب الإحليل . والضب الحلب بشدة العصر . والثعول الشاة الي لها زيادة حلمة وهي الثعل . والثعل زيادة السن ، وتلك الزيادة هي الراءول . ورجل أثعل . والثعل ضيق مخرج اللبن .قال الهروي تفسير قالب لون في الحديث أنها جاءت على غير ألوان أمهاتها .
الثامنة عشرة : الإجارة بالعوض المجهول لا تجوز ، فإن ولادة الغنم غير معلومة ، وإن من البلاد الخصبة ما يعلم ولاد الغنم فيها قطعاً 9عدتها وسلامة سخالها كديار مصر وغيرها ، بيد أن ذلك لا يجوز في شرعنا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر ، ونهى عن المضامن والملاقيح . المضامين ما في بطون الإناث ، والملاقيح ما في أصلاب الفحول وعلى خلاف ذلك قال الشاعر :
ملقوحة في بطن ناب حامل
وقد مضى في سورة ( الحجر ) بيانه . على أن راشد بن معمر أجاز الإجارة على الغنم بالثلث والربع . وقال ابن سرين و عطاء : ينسج الثوب بنصيب منه ، وبه قال أحمد .
التاسعة عشرة : الكفاءة في النكاح معتبرة ، واختلف العلماء هل في الدين والمال والحسب ، أو في بعض ذلك . والصحيح جواز نكاح الموالي للعربيات والقرشيات ، لقوله تعالى : " أكرمكم عند الله أتقاكم " [ الحجرات : 13] وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريباً طريداً خائفاً وحيداً جائعاً عرياناً فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه ورآى من حاله وأعرض عما سوى ذيلك . وقد تقدمت هذه المسألة مستوعبة والحمد لله .
الموفية عشرين : قال بعضهم : هذا الذي حرى من شعيب لم يكن ذكراً لصداق المرأة ، وإنما كان اشتراطاً لنفسه على ما يفعله الأعراب ، فإنها تشترط صداق بناتها ، وتقول : لي كذا في خاصة نفسي ، وترك المهر مفوضاً ، ونكاح التفويض جائز . قال ابن العربي : هذا الذي تفعله الأعراب هو حلوان وزيادة على المهر ، وهو حرام لا يليق بالأنبياء ، فأما إذا اشترط الولي شيئاً لنفسه ، فقد اختلف العلماء فيما يخررجه الزوج من يده ولا يدخل في يد المرأة على القولين : أحدهما : أنه جائز والآخر : لا يجوز . والذي يصح عندي التقسيم ، فإن المرأة لا تخلوا أن تكون بكراً أو ثيباً ، فإن كان ثيباً جاز ، لأن نكاحها بيدها ، وإنما يكون للولي مباشرة العقد ، ولا يمتنع أخذ العوض عليه كما يأخذه الوكيل وذلك باطل ، فإن وقع فسخ قبل البناء ، وثبت بعده على مشهور الرواية . والحمد لله .
الحادية والعشرون : لما ذكر الشرط وأعقبه بالطوع في العشر خرج كل واحد منهما على حكمه ، ولم يلحق الآخر بالأول ، ولا اشترك الفرض والطوع ، ولذلك يكتب في العقود الشروط المتفق عليها ، قم يقال وتطوع بكذا ، فيجري الشرط على سبيله ، والطوع على حكمه ، وانفصل الواجب من التطوع . وقيل : ومن لفظ سعيب حين في لفظ العقود فثي النكاح أنكحه إياها أولى من أنكحها إياه على ما يأتي بيانه في ( الأحزاب ) . وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطاً ، ووكل العاشرة إلى المروءة .
الثانية والعشرون : قوله تعالى : " قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي "لما فرغ كلام شعيب قرره موسى عليه السلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج . و(( أيما )) استفهام منصوب بـ(( قضيت )) و(( الأجلين )) مخفوض بإضافة (( أي )) إليهما و((ما )) صلة للتأكيد وفه معنى الشررط وجوابه (( فلا عدوان )) وأن (( عدوان )) منصوب بـ(( لا )) . وقال ابن كيسان : (( ما )) في موضع خفض بإضافة (( أي )) إليها وهي نكرة و(( الأجلين )) بدل منها . وكذلك في قوله : " فبما رحمة من الله " [ آل عمران : 159] أي رحمة بدل من ما ، قال مكي : وكان يتلطف في ألا يجعل شيئاً زائداً في القرآن ، ويخرج له وجهاً يخرجه من الزيادة .وقرأ الحسن : (( أيما )) بكون الياء . وقرأ ابن مسعود : (( أي الأجلين ما قضيت )) . وقرأ الجمهور : (( عدوان بضم العين . و أبو حيوة بكسرها ، والمعنى : لاتبعة علي ولا طلب في الزيادة عليه .والعدوان التجاوز في غير الواجب ، والحجج السنون . وقال الشاعر :
لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن دهر
والواحدة حجة بكسر الحاء . " والله على ما نقول وكيل " قيل : هو من قول موسى . وقيل : هو من قول والد المرأة . فاكتفى الصالحان صلوات الله عليهما في الإشهاد عليهما بالله ولم يشهدا أحداً مهن الخلق وقد اختلف العلماء في وجوب الإشعاد في النكاح ، وهي :
الثالثة والعشرون : على قولين : أحدهما أنه لا ينعقد إلا بشاهدين . وبه قال أبو حنيفة و الشافعي . وقال مالك إنه ينعقد دون شهود ، لأنه عقد معاوضة فلا يشترط فيه الإشهاد ، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح ، وفرق مابين النكاح والسفاح الدف وقد مضت هذه المسألة في ( البقرة ) مستوفاة . وفي البخاري عن أبي هريرة [ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ] . " أن رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ائتني بالشهداء أشهدهم ، فقال كفى بالله شهيداً ، فقال ايتني بكفيل ، فقال كفى بالله كفيلا . قال صدقت فدفعها إليه" ، ذكر الحديث .
لما رجعت المرأتان سريعاً بالغنم إلى أبيهما, أنكر حالهما بسبب مجيئهما سريعاً, فسألهما عن خبرهما, فقصتا عليه ما فعل موسى عليه السلام, فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها, قال الله تعالى: "فجاءته إحداهما تمشي على استحياء" أي مشي الحرائر, كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: كانت مستترة بكم درعها. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم , حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر رضي الله عنه: جاءت تمشي على استحياء قائلة بثوبها على وجهها, ليست بسلفع من النساء دلاجة ولاجة خراجة. هذذا إسناد صحيح. قال الجوهري : السلفع من الرجال الجسور, ومن النساء الجارية السليطة, ومن النوق الشديدة. "قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا" وهذا تأدب في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة, بل قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا, يعني ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا "فلما جاءه وقص عليه القصص" أي ذكر له ما كان من أمره وما جرى له من السبب الذي خرج من أجله من بلده "قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين" يقول: طب نفساً وقر عيناً, فقد خرجت من مملكتهم, فلا حكم لهم في بلادنا, ولهذا قال: "نجوت من القوم الظالمين".
وقد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو ؟ على أقوال أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين, وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء, وقد قاله الحسن البصري وغير واحد, ورواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبد العزيز الأوسي , حدثنا مالك بن أنس أنه بلغه أن شعيباً هو الذي قص عليه موسى القصص, قال "لا تخف نجوت من القوم الظالمين". وقد روى الطبراني عن سلمة بن سعد الغزي أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له "مرحباً بقوم شعيب وأختان موسى هديت" وقال آخرون: بل كان ابن أخي شعيب. وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب. وقال آخرون. كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة لأنه قال لقومه "وما قوم لوط منكم ببعيد" وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن, وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة, كما ذكره غير واحد. وما قيل إن شعيباً عاش مدة طويلة, إنما هو ـ والله أعلم ـ احتراز من هذا الإشكال, ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن ههنا, وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده, كما سنذكره قريباً إن شاء الله, ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه ثيرون, والله أعلم. قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : ثيرون هو ابن أخي شعيب عليه السلام, وعن أبي حمزة عن ابن عباس قال: الذي استأجر موسى يثرى صاحب مدين, رواه ابن جرير به, ثم قال: الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر, ولا خبر تجب به الحجة في ذلك.
وقوله تعالى: "قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين" أي قالت إحدى ابنتي هذا الرجل, قيل هي التي ذهبت وراء موسى عليه السلام, قالت لأبيها "يا أبت استأجره" أي لرعية هذه الغنم. قال عمر وابن عباس وشريح القاضي وأبو مالك وقتادة ومحمد بن إسحاق وغير واحد: لما قالت "إن خير من استأجرت القوي الأمين" قال لها أبوها: وما علمك بذلك ؟ قالت له: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال, وإني لما جئت معه تقدمت أمامه فقال لي: كوني من ورائي, فإذا اختلفت علي الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه. وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله هو ابن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين تفرس في عمر, وصاحب يوسف حين قال أكرمي مثواه, وصاحبة موسى حين قالت " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " قال "إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين" أي طلب إليه هذا الرجل الشيخ الكبير أن يرعى غنمه ويزوجه إحدى ابنتيه هاتين, قال شعيب الجبائي : وهما صفوريا وليا. وقال محمد بن إسحاق : صفوريا وشرفا, ويقال ليا, وقد استدل أصحاب أبي حنيفة بهذه الاية على صحة البيع فيما إذا قال بعتك أحد هذين العبدين بمائة, فقال: اشتريت, أنه يصح, والله أعلم.
وقوله: "على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك" أي على أن ترعى غنمي ثماني سنين, فإن تبرعت بزيادة سنتين فهو إليك, وإلا ففي الثمان كفاية "وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين" أي لا أشاقك ولا أؤذيك ولا أماريك, وقد استدلوا بهذه الاية الكريمة لمذهب الأوزاعي فيما إذا قال: بعتك هذا بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة أنه يصح, ويختار المشتري بأيهما أخذه صح, وحمل الحديث المروي في سنن أبي داود "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" على هذا المذهب, وفي الاستدلال بهذه الاية وهذا الحديث على هذا المذهب نظر ليس هذا موضع بسطه لطوله, والله أعلم.
ثم قد استدل أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم في صحة استئجار الأجير بالطعمة والكسوة, بهذه الاية, واستأنسوا في ذلك بما رواه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في كتابه السنن حيث قال: باب استئجار الأجير على طعام بطنه, حدثنا محمد بن الحمصي , حدثنا بقية بن الوليد عن مسلمة بن علي عن سعيد بن أبي أيوب عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح قال: سمعت عتبة بن المنذر السلمي يقول: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال: "إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه" وهذا الحديث من هذا الوجه ضعيف, لأن مسلمة بن علي وهو الخشني الدمشقي البلاطي ضعيف الرواية عند الأئمة, ولكن قد روي من وجه آخر, وفيه نظر أيضاً.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا صفوان , حدثنا الوليد , حدثنا عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن الندر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن موسى عليه السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه" وقوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام " قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل " يقول: إن موسى قال لصهره: الأمر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين, فإن أتممت عشراً فمن عندي فأنا متى فعلت أقلهما فقد برئت من العهد وخرجت من الشرط, ولهذا قال "أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي" أي فلا حرج علي, مع أن الكامل وإن كان مباحاً لكنه فاضل من جهة أخرى بدليل من خارج, كما قال تعالى: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه, وكان كثير الصيام, وسأله عن الصوم في السفر, فقال: "إن شئت فصم, وإن شئت فأفطر" مع أن فعل الصيام راجح من دليل آخر, هذا وقد دل الدليل على أن موسى عليه السلام إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما.
وقال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الرحيم , حدثنا سعيد بن سليمان , حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى ؟ فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله, فقدمت على ابن عباس رضي الله عنه فسألته, فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل, هكذا رواه البخاري وهكذا رواه حكيم بن جبير وغيره عن سعيد بن جبير , ووقع في حديث الفتون من رواية القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير : أن الذي سأله رجل من أهل النصرانية والأول أشبه, والله أعلم, وقد روي من حديث ابن عباس مرفوعاً, قال ابن جرير : حدثنا أحمد بن محمد الطوسي , حدثنا الحميدي , حدثنا سفيان , حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب عن الحكم بن أبان , عن عكرمة , عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت جبريل: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: أتمهما وأكملهما" ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن الحميدي عن سفيان وهو ابن عيينة : حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب وكان من أسناني أو أصغر مني فذكره. وفي إسناده قلب, و إبراهيم هذا ليس بمعروف. ورواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن أعين عن الحكم بن أبان عن عكرمة , عن ابن عباس عن النبي فذكره, ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً عن ابن عباس إلا من هذا الوجه.
ثم قال ابن أبي حاتم : قرىء على يونس بن عبد الأعلى , أنبأنا ابن وهب , أنبأنا عمرو بن الحارث عن يحيى بن ميمون الحضرمي عن يوسف بن تيرح " أن رسول الله سئل: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: لا علم لي فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل, فقال جبريل: لا علم لي, فسأل جبريل ملكاً فوقه, فقال: لا علم لي, فسأل ذلك الملك ربه عز وجل عما سأله عنه جبريل, عما سأله عنه محمد صلى الله عليه وسلم فقال الرب عز وجل: قضى أبرهما وأبقاهما, أو قال أزكاهما " , وهذا مرسل, وقد جاء مرسلاً من وجه آخر, وقال سنيد حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: قال مجاهد : " إن النبي صلى الله عليه وسلم, سأل جبريل, أي الأجلين قضى موسى ؟ فقال: سوف أسأل إسرافيل فسأله, فقال: سوف أسأل الرب عز وجل, فسأله فقال: أبرهما وأوفاهما " .
(طريق أخرى مرسلة أيضاً) قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع , حدثنا أبي حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: "أوفاهما وأتمهما" فهذه طرق متعاضدة, ثم قد روي هذا مرفوعاً من رواية أبي ذر رضي الله عنه. قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن , حدثنا إسحاق بن إدريس , حدثنا عويذ بن أبي عمران الجوني عن أبيه عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأجلين قضى موسى ؟ ـ قال ـ "أوفاهما وأبرهما ـ قال ـ وإن سئلت: أي المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما" ثم قال البزار : لا نعلم يروى عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد. وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عوبذ بن أبي عمران , وهو ضعيف.
ثم قد روي أيضاً نحوه من حديث عتبة بن الندر بزيادة غريبة جداً, فقال أبو بكر البزار : حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني , حدثنا يحيى بن بكير , حدثنا ابن لهيعة , حدثنا الحارث بن يزيد عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن الندر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: "أبرهما وأوفاهما" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن موسى عليه السلام لما أراد فراق شعيب عليه السلام, أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به, فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالب لون, قال: فما مرت شاة إلا ضرب موسى جنبها بعصاه, فولدت قوالب ألوان كلها, وولدت ثنتين وثلاثا كل شاة ليس فيها فشوش ولا ضبوب ولا كميشة تفوت الكف ولا ثغول" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فتحتم الشام فإنكم ستجدون بقايا منها وهي السامرية" هكذا أورده البزار .
وقد رواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا فقال: حدثنا أبو زرعة , حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير , حدثني عبد الله بن لهيعة (ح) وحدثنا أبو زرعة , حدثنا صفوان , أنبأنا الوليد , أنبأنا عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن الندر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن موسى عليه السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه, فلما وفى الأجل قيل: يا رسول الله أي الأجلين ؟ ـ قال: أبرهما وأوفاهما, فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به, فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام, وكانت غنمه سوداء حسناء, فانطلق موسى عليه السلام, إلى عصاه, فسماها من طرفها ثم وضعها في أدنى الحوض, ثم أوردها فسقاها, ووقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاة إلا وضرب جنبها شاة شاة, قال: فأتأمت وألبنت ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش ", قال يحيى : ولا ضبون, وقال صفوان : ولا ضبوب , قال أبو زرعة : الصواب طنوب ولا عزوز ولا ثعول ولا كميشة تفوت الكف, قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية".
وحدثنا أبو زرعة , أنبأنا صفوان قال: سمعت الوليد قال: سألت ابن لهيعة ما الفشوش ؟ قال: التي تفش بلبنها واسعة الشخب, قلت: فما الضبوب ؟ قال: الطويلة الضرع تجره, قلت: فما العزوز ؟ قال: ضيقة الشخب. قلت: فما الثعول ؟ قال: التي ليس لها ضرع إلا كهيئة حلمتين, قلت: فما الكميشة ؟ قال: التي تفوت الكف كميشة الضرع صغير لا يدركه الكف. مدار هذا الحديث على عبد الله بن لهيعة المصري , وفي حفظه سوء, وأخشى أن يكون رفعه خطأ, والله أعلم. وينبغي أن يروى ليس فيها فشوش ولا عزوز ولا ضبوب ولا ثعول ولا كميشة, لتذكر كل صفة ناقصة مع ما يقابلها من الصفات الناقصة, وقد روى ابن جرير من كلام أنس بن مالك موقوفاً عليه ما يقارب بعضه بإسناد جيد, فقال: حدثنا محمد بن المثنى , حدثنا معاذ بن هشام , حدثنا أبي , حدثنا قتادة , حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: لما دعا نبي الله موسى عليه السلام صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما, قال له صاحبه: كل شاة ولدت على غير لونها, فلك ولدها, فعمد موسى فرفع حبالاً على الماء, فلما رأت الخيال فزعت, فجالت جولة, فولدن كلهن بلقاً إلا شاة واحدة, فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام.
ثم لما فرغ شعيب من كلامه قرر موسى فـ 28- "قال ذلك بيني وبينك" واسم الإشارة مبتدأ وخبره ما عبده، والإشارة إلى ما تعاقدا عليه، وجملة "أيما الأجلين قضيت" شرطية جوابها "فلا عدوان علي" والمراد بالأجلين الثمانية الأعوام والعشرة الأعوام، ومعنى قضيت وفيت به وأتممته، والأجلين مخفوض بإضافة أي إليه، وما زائدة. وقال ابن كيسان: ما في موضع خفض بإضافة أي إليها، و الأجلين بدل منها، وقرأ الحسن "أيما" بسكون الياء، وقرأ ابن مسعود " أيما الأجلين قضيت " ومعنى "فلا عدوان علي" فلا ظلم علي بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين: أي كما لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام لا أطاب بالنقصان على العشرة. وقيل المعنى: أي كما لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام لا أطاب بالزيادة على الثمانية الأعوام، وهذا أظهر. وأصل العدوان تجاوز الحد في غير ما يجب. قال المبرد: وقد علم موسى أنه لا عدوان عليه إذا أتمهما، ولكنه جمعهما ليجعل الأول كالأتم في الوفاء. قرأ الجمهور "عدوان" بضم العين. وقرأ أبو حيوة بكسرها "والله على ما نقول وكيل" أي على ما نقول من هذه الشروط الجارية بيننا شاهد وحفيظ، فلا سبيل لأحدنا إلى الخروج عن شيء من ذلك. قيل هو من قول موسى، وقيل من قول شعيب، والأول أولى لوقوعه في جملة كلام موسى.
28- "قال"، موسى، "ذلك بيني وبينك"، يعني: هذا الشرط بيني وبينك، فما شرطت علي فلك وما شرطت من تزويج إحداهما فلي، والأمر بيننا، تم الكلام، ثم قال:
"أيما الأجلين قضيت"، يعني: أي الأجلين، وما صلة، قضيت: أتممت وفرغت منه، الثمان أو العشر، "فلا عدوان علي" لا ظلم علي بأن أطالب بأكثر منهما، "والله على ما نقول وكيل"، قال ابن عباس ومقاتل: شهيد فيما بيني وبينك. وقيل: حفيظ.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا سعيد بن سليمان، أخبرنا مروان بن شجاع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على خير العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس قال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل.
وروي عن أبي ذر مرفوعاً: "إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى؟ فقل: خيرهما وأبرهما، وإذا سئلت: فأي المرأتين تزوج؟ فقل: الصغرى منهما، وهي التي جاءت، فقالت يا أبت استأجره، فتزوج أصغرها وقضى أوفاهما".
وقال وهب: أنكحه الكبرى.
وروي عن شداد بن أوس مرفوعاً: "بكى شعيب النبي صلى الله عليه وسلم من حب الله عز وجل حتى عمي فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره، فقال الله: ما هذا البكاء؟ أشوقاً إلى الجنة أم خوفاً من النار؟ قال: لا يارب، ولكن شوقاً إلى لقائك، فأوحى الله إليه/ إن يكن ذلك فهنيئاً لك لقائي يا شعيب، لذلك أخدمتك موسى كليمي".
ولما تعاقدا هذا العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصاً يدفع بها السباع عن غنمه، واختلفوا في تلك العصا، قال عكرمة: خرج آدم بها من الجنة فأخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلاً فدفعها إليه.
وقال آخرون: كانت من آس الجنة، حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء، وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته، فصارت من آدم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب، فكانت عصا الأنبياء عنده فأعطاها موسى.
وقال السدي: كانت تلك العصا استودعها إياه ملك في صورة رجل، فأمر ابنته أن تأتيه بعصا فدخلت فأخذت العصا فأتته بها، فلما رآها شعيب قال لها: ردي هذه العصا، وآتيه بغيرها، فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلا يقع في يدها إلا هي، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات فأعطاها موسى فأخرجها موسى معه، ثم إن الشيخ ندم وقال: كانت وديعة، فذهب في أثره، وطلب أن يرد العصا فأبى موسى أن يعطيه. وقال: هي عصاي، فرضيا أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما، فلقيهما ملك في صورة رجل فحكم أن يطرح العصا فمن حملها فهي له، فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ ليأخذها فلم يطقها، فأخذها موسى بيده فرفعها فتركها له الشيخ.
ثم إن موسى لما أتم الأجل وسلم شعيب ابنته إليه، قال موسى للمرأة: اطلبي من أبيك أن يجعل لنا بعض الغنم، فطلبت من أبيها، فقال شعيب: لكما كل ما ولدت هذا العام على غير شيتها.
وقيل: أراد شعيب أن يجازي موسى على حسن رعايته إكراماً له وصلةً لابنته، فقال له إني قد وهبت لك من الجدايا التي تضعها أغنامي هذه السنة كل أبلق وبلقاء، فأوحى الله إلى موسى في المنام أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستقى الأغنام قال: فضرب موسى بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله عز وجل إلى موسى وامرأته فوفى له شرطه وسلم الأغنام إليه.
28 -" قال ذلك بيني وبينك " أي ذلك الذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه . " أيما الأجلين " أطولهما أو أقصرهما . " قضيت " وفيتك إياه . " فلا عدوان علي " لا تعتدي علي بطلب الزيادة فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان ، أو فلا أكون متعدياً بترك الزيادة عليه كقولك لا إثم علي ، وهو أبلغ في إثبات الخيرة وتساوي الأجلين في القضاء من أن يقال إن قضيت الأقصر فلا عدوان علي . وقرئ " أيما " كقوله :
تنظرت نضراً والسماكين أيما علي من الغيث استهلت مواطره
وأي الأجلين ما قضيت فتكون ما مزيدة لتأكيد الفعل أي : أي الأجلين جردت عزمي لقضائه ، وعدوان بالكسر . " والله على ما نقول " من المشارطة . " وكيل " شاهد حفيظ .
28. He said: That (is settled) between thee and me. Whichever of the two terms I fulfil, there will be no injustice to me, and Allah is Surety over what we say.
28 - He said: Be that (the agreement) between me and thee: whichever of the two terms I fulfil, let there be no ill will to me. Be God a witness to what we say.