[القصص : 25] فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
25 - (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) أي واضعة كم درعها على وجهها حياء منه (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) فأجابها منكرا في نفسه أخذ الأجرة كأنها قصدت المكافأة إن كان مما يريدها فمشت بين يديه فجعلت الريح تضرب ثوبها فتكشف ساقيها فقال لها امشي خلفي ودليني على الطريق ففعلت إلى أن جاء أباها وهو شعيب عليه السلام وعنده عشاء فقال له اجلس فتعش قال أخاف أن يكون عوضا مما سقيت لهما وإنا أهل بيت لا نطلب على عمل خير عوضا قال لا عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فأكل وأخبره بحاله قال تعالى (فلما جاءه وقص عليه القصص) مصدر بمعنى المقصوص من قتله القبطي وقصدهم قتله وخوفه من فرعون (قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين) إذ لا سلطان لفرعون على مدين
يقول تعالى ذكره: فجاءت موسى إحدى المرأتين اللتين سقى لهما تمشي على استحياء من موسى، قد سترت وجهها بثوبها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو السائب والفضل بن الصباح، قالا: ثنا ابن فضيل، عن ضرار بن عبد الله بن أبي الهذيل، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في قوله " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " قال: مستترة بكم درعها، أو بكم قميصها.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن حماد بن عمرو الأسدي، عن أبي سنان، عن ابن أبي الهذيل عن عمر رضي الله عنه، قال: واضعة يدها على وجهها مستترة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " قال: قد سترت وجهها بيديها.
قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف بنحوه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " قال: قائلة بيديها على وجهها، ووضع أبي يده على وجهه.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو ابن ميمون " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " قال: ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة واضعة ثوبها على وجهها، تقول " إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " قال: لم تكن سلفعاً من النساء خراجة ولاجة، قائلة بيدها على وجهها " إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ".
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا قرة بن خالد، قال: سمعت الحسن يقول، في قوله: " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " قال: بعيدة من البذاء.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي " تمشي على استحياء " قال: أتته تمشي على استحياء منه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " قال: واضعة يدها على جبينها.
وقوله: " قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " يقول تعالى ذكره: قالت المرأة التي جاءت موسى تمشي على استحياء: إن أبي يدعوك ليجزيك: تقول: يثيبك أجر ما سقيت لنا.
وقوله " فلما جاءه وقص عليه القصص " يقول: فمضى موسى معها إلى أبيها، فلما جاء أباها وقص عليه قصصه مع فرعون وقومه من القبط، قال له أبوها " لا تخف " فقد " نجوت من القوم الظالمين " يعني: من فرعون وقومه، لأنه لا سلطان له بأرضنا التي أتوى بها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني العباس، قال: أخبرنا يزيد، قال: ثنا الأصبغ، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: استنكر أبو الجاريتين سرعة صدورهما بغنمهما حفلاً بطاناً، فقال: إن لكما اليوم لشأناً.
قال أبو جعفر: أحسبه قال: فأخبرتاه الخبر، فلما أتاه موسى كلمه، " قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين " ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان، ولسنا في مملكته.
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي ، قال: لما رجعت الجاريتان إلى أبيهما سريعاً سألهما، فأخبرتاه خبر موسى، فأرسل إليه إحداهما، فأتته تمشي على استحياء، وهو يستحى منه " قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " فقام معها وقال لها، امضي، فمشت بين يديه، فضربتها الريح، فنظر إلى عجيزتها، فقال لها موسى، امشي خلفي، ودليني على الطريق إن أخطأت. فلما جاء الشيخ وقص عليه القصص " قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ".
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " قال: قال مطرف: أما والله لو كان عند نبي الله شيء ما تتبع مذقيهما، ولكن إنما حمله على ذلك الجهد " فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: رجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها، فأنكر شأنهما، فسألهما فأخبرتاه الخبر، فقال لإحداهما: عجلي علي به، فأتته على استحياء فجاءته، فقالت " إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " فقام معها كما ذكر لين فقال لها: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق، وأنا أمشي أمامك، فأنا لا ننظر إلى أدبار النساء، فلما جاءه اخبره الخبر، وما أخبرجه من بلاده " فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين " وقد أخبرت أباها بقوله إنا لا ننظر إلى أدبار النساء.
الرابعة : قوله تعالى : " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " في هذا الكلام اختصار يدل عليه هذا الظاهر ، قدره ابن إسحاق : فذهبتا إلى أبيهما سريعتيهن ، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي ، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما ، فأمر الكبرى من بنتيه _ وقيل الصغرى _ أن تدعوه له ، ( فجائت ) على ما في هذه الآية . قال عمروبن ميمون : ولم تكن سلفعاً من النساء ، خراجة ولاجة . وقيل : جائته ساترة وجهها بكم درعها ، قاله عمر بن الخطاب . وروي أن اسم إحداهما ليا والأخرى صفوريا ابنتا يثرون ، ويثرون هو شعيب عليه السلام . وقيل : ابن أبي شعيب ، وأن شعيباً كان قد مات . وأكثر الناس على أنهما ابنتا شعيب عليه السلام ، وهو ظاهر القرآن ، قال الله تعالى : " وإلى مدين أخاهم شعيبا " [ الأعراف : 85] كذا في سورة ( الأعراف ) وفي سورة الشعراء " كذب أصحاب الأيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب " [ الشعراء : 176_ 177] قال قتادة : بعث الله تعالى شعيباً إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين . وقد مضى في ( الأعراف ) الخلاف في اسم أبيه . وفروي أن موسى عيه السلام لما جاءته بالرسالة قالم يتبعها ، وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال ، فبت ريح فضمت قميصها فوصفت عجيزتها ، ، فتحرج موسى من النظر إليها فقال : ارجعي خلفي وأرشديني إلى الطريق بصوتك . وقيل : إن موسى قال ابتداء : كوني ورائي فإني رجل عبراني لا أنظر في أدبار النساء ، ودليني على الطريق يميناً أو يساراً ، فذلك سبب وصفها له بالأمانة ، قاله ابن عباس . وفوصل موسى إلى داعية فقص عليه أمره من أوله إلى آخره فآنسه بقوله : " لا تخف نجوت من القوم الظالمين " وكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون . وقرب إليه طعاماً فقال موسى : لا آكل ، إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً ، فقال شعيب : ليس هذا عوض السقي ، ولكن عادتي وعادة آبائي قرى الضيف ، وإطعام الطعام ، فحينئذ أكل موسى.
لما رجعت المرأتان سريعاً بالغنم إلى أبيهما, أنكر حالهما بسبب مجيئهما سريعاً, فسألهما عن خبرهما, فقصتا عليه ما فعل موسى عليه السلام, فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها, قال الله تعالى: "فجاءته إحداهما تمشي على استحياء" أي مشي الحرائر, كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: كانت مستترة بكم درعها. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم , حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر رضي الله عنه: جاءت تمشي على استحياء قائلة بثوبها على وجهها, ليست بسلفع من النساء دلاجة ولاجة خراجة. هذذا إسناد صحيح. قال الجوهري : السلفع من الرجال الجسور, ومن النساء الجارية السليطة, ومن النوق الشديدة. "قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا" وهذا تأدب في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة, بل قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا, يعني ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا "فلما جاءه وقص عليه القصص" أي ذكر له ما كان من أمره وما جرى له من السبب الذي خرج من أجله من بلده "قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين" يقول: طب نفساً وقر عيناً, فقد خرجت من مملكتهم, فلا حكم لهم في بلادنا, ولهذا قال: "نجوت من القوم الظالمين".
وقد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو ؟ على أقوال أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين, وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء, وقد قاله الحسن البصري وغير واحد, ورواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبد العزيز الأوسي , حدثنا مالك بن أنس أنه بلغه أن شعيباً هو الذي قص عليه موسى القصص, قال "لا تخف نجوت من القوم الظالمين". وقد روى الطبراني عن سلمة بن سعد الغزي أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له "مرحباً بقوم شعيب وأختان موسى هديت" وقال آخرون: بل كان ابن أخي شعيب. وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب. وقال آخرون. كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة لأنه قال لقومه "وما قوم لوط منكم ببعيد" وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن, وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة, كما ذكره غير واحد. وما قيل إن شعيباً عاش مدة طويلة, إنما هو ـ والله أعلم ـ احتراز من هذا الإشكال, ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن ههنا, وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده, كما سنذكره قريباً إن شاء الله, ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه ثيرون, والله أعلم. قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : ثيرون هو ابن أخي شعيب عليه السلام, وعن أبي حمزة عن ابن عباس قال: الذي استأجر موسى يثرى صاحب مدين, رواه ابن جرير به, ثم قال: الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر, ولا خبر تجب به الحجة في ذلك.
وقوله تعالى: "قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين" أي قالت إحدى ابنتي هذا الرجل, قيل هي التي ذهبت وراء موسى عليه السلام, قالت لأبيها "يا أبت استأجره" أي لرعية هذه الغنم. قال عمر وابن عباس وشريح القاضي وأبو مالك وقتادة ومحمد بن إسحاق وغير واحد: لما قالت "إن خير من استأجرت القوي الأمين" قال لها أبوها: وما علمك بذلك ؟ قالت له: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال, وإني لما جئت معه تقدمت أمامه فقال لي: كوني من ورائي, فإذا اختلفت علي الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه. وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله هو ابن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين تفرس في عمر, وصاحب يوسف حين قال أكرمي مثواه, وصاحبة موسى حين قالت " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " قال "إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين" أي طلب إليه هذا الرجل الشيخ الكبير أن يرعى غنمه ويزوجه إحدى ابنتيه هاتين, قال شعيب الجبائي : وهما صفوريا وليا. وقال محمد بن إسحاق : صفوريا وشرفا, ويقال ليا, وقد استدل أصحاب أبي حنيفة بهذه الاية على صحة البيع فيما إذا قال بعتك أحد هذين العبدين بمائة, فقال: اشتريت, أنه يصح, والله أعلم.
وقوله: "على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك" أي على أن ترعى غنمي ثماني سنين, فإن تبرعت بزيادة سنتين فهو إليك, وإلا ففي الثمان كفاية "وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين" أي لا أشاقك ولا أؤذيك ولا أماريك, وقد استدلوا بهذه الاية الكريمة لمذهب الأوزاعي فيما إذا قال: بعتك هذا بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة أنه يصح, ويختار المشتري بأيهما أخذه صح, وحمل الحديث المروي في سنن أبي داود "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" على هذا المذهب, وفي الاستدلال بهذه الاية وهذا الحديث على هذا المذهب نظر ليس هذا موضع بسطه لطوله, والله أعلم.
ثم قد استدل أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم في صحة استئجار الأجير بالطعمة والكسوة, بهذه الاية, واستأنسوا في ذلك بما رواه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في كتابه السنن حيث قال: باب استئجار الأجير على طعام بطنه, حدثنا محمد بن الحمصي , حدثنا بقية بن الوليد عن مسلمة بن علي عن سعيد بن أبي أيوب عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح قال: سمعت عتبة بن المنذر السلمي يقول: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال: "إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه" وهذا الحديث من هذا الوجه ضعيف, لأن مسلمة بن علي وهو الخشني الدمشقي البلاطي ضعيف الرواية عند الأئمة, ولكن قد روي من وجه آخر, وفيه نظر أيضاً.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا صفوان , حدثنا الوليد , حدثنا عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن الندر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن موسى عليه السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه" وقوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام " قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل " يقول: إن موسى قال لصهره: الأمر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين, فإن أتممت عشراً فمن عندي فأنا متى فعلت أقلهما فقد برئت من العهد وخرجت من الشرط, ولهذا قال "أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي" أي فلا حرج علي, مع أن الكامل وإن كان مباحاً لكنه فاضل من جهة أخرى بدليل من خارج, كما قال تعالى: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه, وكان كثير الصيام, وسأله عن الصوم في السفر, فقال: "إن شئت فصم, وإن شئت فأفطر" مع أن فعل الصيام راجح من دليل آخر, هذا وقد دل الدليل على أن موسى عليه السلام إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما.
وقال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الرحيم , حدثنا سعيد بن سليمان , حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى ؟ فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله, فقدمت على ابن عباس رضي الله عنه فسألته, فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل, هكذا رواه البخاري وهكذا رواه حكيم بن جبير وغيره عن سعيد بن جبير , ووقع في حديث الفتون من رواية القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير : أن الذي سأله رجل من أهل النصرانية والأول أشبه, والله أعلم, وقد روي من حديث ابن عباس مرفوعاً, قال ابن جرير : حدثنا أحمد بن محمد الطوسي , حدثنا الحميدي , حدثنا سفيان , حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب عن الحكم بن أبان , عن عكرمة , عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت جبريل: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: أتمهما وأكملهما" ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن الحميدي عن سفيان وهو ابن عيينة : حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب وكان من أسناني أو أصغر مني فذكره. وفي إسناده قلب, و إبراهيم هذا ليس بمعروف. ورواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن أعين عن الحكم بن أبان عن عكرمة , عن ابن عباس عن النبي فذكره, ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً عن ابن عباس إلا من هذا الوجه.
ثم قال ابن أبي حاتم : قرىء على يونس بن عبد الأعلى , أنبأنا ابن وهب , أنبأنا عمرو بن الحارث عن يحيى بن ميمون الحضرمي عن يوسف بن تيرح " أن رسول الله سئل: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: لا علم لي فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل, فقال جبريل: لا علم لي, فسأل جبريل ملكاً فوقه, فقال: لا علم لي, فسأل ذلك الملك ربه عز وجل عما سأله عنه جبريل, عما سأله عنه محمد صلى الله عليه وسلم فقال الرب عز وجل: قضى أبرهما وأبقاهما, أو قال أزكاهما " , وهذا مرسل, وقد جاء مرسلاً من وجه آخر, وقال سنيد حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: قال مجاهد : " إن النبي صلى الله عليه وسلم, سأل جبريل, أي الأجلين قضى موسى ؟ فقال: سوف أسأل إسرافيل فسأله, فقال: سوف أسأل الرب عز وجل, فسأله فقال: أبرهما وأوفاهما " .
(طريق أخرى مرسلة أيضاً) قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع , حدثنا أبي حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: "أوفاهما وأتمهما" فهذه طرق متعاضدة, ثم قد روي هذا مرفوعاً من رواية أبي ذر رضي الله عنه. قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن , حدثنا إسحاق بن إدريس , حدثنا عويذ بن أبي عمران الجوني عن أبيه عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأجلين قضى موسى ؟ ـ قال ـ "أوفاهما وأبرهما ـ قال ـ وإن سئلت: أي المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما" ثم قال البزار : لا نعلم يروى عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد. وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عوبذ بن أبي عمران , وهو ضعيف.
ثم قد روي أيضاً نحوه من حديث عتبة بن الندر بزيادة غريبة جداً, فقال أبو بكر البزار : حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني , حدثنا يحيى بن بكير , حدثنا ابن لهيعة , حدثنا الحارث بن يزيد عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن الندر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: "أبرهما وأوفاهما" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن موسى عليه السلام لما أراد فراق شعيب عليه السلام, أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به, فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالب لون, قال: فما مرت شاة إلا ضرب موسى جنبها بعصاه, فولدت قوالب ألوان كلها, وولدت ثنتين وثلاثا كل شاة ليس فيها فشوش ولا ضبوب ولا كميشة تفوت الكف ولا ثغول" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فتحتم الشام فإنكم ستجدون بقايا منها وهي السامرية" هكذا أورده البزار .
وقد رواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا فقال: حدثنا أبو زرعة , حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير , حدثني عبد الله بن لهيعة (ح) وحدثنا أبو زرعة , حدثنا صفوان , أنبأنا الوليد , أنبأنا عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن الندر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن موسى عليه السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه, فلما وفى الأجل قيل: يا رسول الله أي الأجلين ؟ ـ قال: أبرهما وأوفاهما, فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به, فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام, وكانت غنمه سوداء حسناء, فانطلق موسى عليه السلام, إلى عصاه, فسماها من طرفها ثم وضعها في أدنى الحوض, ثم أوردها فسقاها, ووقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاة إلا وضرب جنبها شاة شاة, قال: فأتأمت وألبنت ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش ", قال يحيى : ولا ضبون, وقال صفوان : ولا ضبوب , قال أبو زرعة : الصواب طنوب ولا عزوز ولا ثعول ولا كميشة تفوت الكف, قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية".
وحدثنا أبو زرعة , أنبأنا صفوان قال: سمعت الوليد قال: سألت ابن لهيعة ما الفشوش ؟ قال: التي تفش بلبنها واسعة الشخب, قلت: فما الضبوب ؟ قال: الطويلة الضرع تجره, قلت: فما العزوز ؟ قال: ضيقة الشخب. قلت: فما الثعول ؟ قال: التي ليس لها ضرع إلا كهيئة حلمتين, قلت: فما الكميشة ؟ قال: التي تفوت الكف كميشة الضرع صغير لا يدركه الكف. مدار هذا الحديث على عبد الله بن لهيعة المصري , وفي حفظه سوء, وأخشى أن يكون رفعه خطأ, والله أعلم. وينبغي أن يروى ليس فيها فشوش ولا عزوز ولا ضبوب ولا ثعول ولا كميشة, لتذكر كل صفة ناقصة مع ما يقابلها من الصفات الناقصة, وقد روى ابن جرير من كلام أنس بن مالك موقوفاً عليه ما يقارب بعضه بإسناد جيد, فقال: حدثنا محمد بن المثنى , حدثنا معاذ بن هشام , حدثنا أبي , حدثنا قتادة , حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: لما دعا نبي الله موسى عليه السلام صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما, قال له صاحبه: كل شاة ولدت على غير لونها, فلك ولدها, فعمد موسى فرفع حبالاً على الماء, فلما رأت الخيال فزعت, فجالت جولة, فولدن كلهن بلقاً إلا شاة واحدة, فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام.
قوله: 25- "فجاءته إحداهما تمشي على استحياء" في الكلام حذف يدل عليه السياق. قال الزجاج: تقديره فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من ابنتيه، وقيل الصغرى أن تدعوه له فجاءته. وذهب أكثر المفسرين إلى أنهما ابنتا شعيب، وقيل هما ابنتا أخي شعيب، وأن شعيباً كان قد مات: والأول أرجح. وهو ظاهر القرآن. ومحل تمشي النصب على الحال من فاعل جاءت، و على استحياء حال أخرى: أي كائنة على استحياء حالتي المشي والمجيء فقط، وجملة "قالت إن أبي يدعوك" مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل ماذا قالت له لما جاءته "ليجزيك أجر ما سقيت لنا" أي جزاء سقيك لنا "فلما جاءه وقص عليه القصص" القصص مصدر سمي به المفعول: أي المقصوص يعني أخبره بجميع ما اتفق له من عند قتله القبطي إلى عند وصوله إلى ماء مدين "قال" شعيب "لا تخف نجوت من القوم الظالمين" أي فرعون وأصحابه، لأن فرعون لا سلطان له على مدين، وللرازي في هذا موضع إشكالات باردة جداً لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عز وجل، والجواب عليها يظهر للمقصر فضلاً عن الكامل، وأشف ما جاء به أن موسى كيف أجاب الدعوة المعللة بالجزاء لما فعله من السقي. ويجاب عنه بأنه اتبع سنة الله في إجابة دعوة نبي من أنبياء الله، ولم تكن تلك الإجابة لأجل أخذ الأجر على هذا العمل، ولهذا ورد أنه لما قدم إليه الطعام قال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً.
قال الله تعالى: 25- "فجاءته إحداهما تمشي على استحياء"، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليست بسلفع من السماء خراجة ولأجة، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء، "قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا"، قال أبو حازم سلمة بن دينار: لما سمع ذلك موسى أراد أن لا يذهب، ولكن كان جائعاً فلم يجد بداً من الذهاب، فمشت المرأة ومشى موسى خلفها، فكانت الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها، فكره موسى أن يرى ذلك منها، فقال لها: امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت، ففعلت ذلك، فلما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيأ، فقال: اجلس يا شاب فتعش، فقال موسى: أعوذ بالله، فقال شعيب: ولم ذاك ألست بجائع؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما، وإنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا، فقال له شعيب: لا والله يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي، نقري الضيف، ونطعم الطعام، فجلس موسى وأكل.
"فلما جاءه وقص عليه القصص"، يعني: أمره أجمع، من قتله القبطي وقصد فرعون قتله، "قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين"، يعني: فرعون وقومه، وإنما قال هذا لأنه لم يكن لفرعون سلطان على مدين.
25 -" فجاءته إحداهما تمشي على استحياء " أي مستحيية متخفرة ، قيل كانت الصغرى منهما وقيل الكبرى واسمها صفوراء أو صفراء وهي التي تزوجها موسى عليه السلام . " قالت إن أبي يدعوك ليجزيك " ليكافئك . " أجر ما سقيت لنا " جزاء سقيك لنا ، ولعل موسى عليه الصلاة والسلام إنما أجابهما ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر بمعرفته لا طمعاً في الأجر ، بل روي أنه لما جاءه قدم إليه طعاماً فامتنع عنه وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا حتى قال له شعيب عليه الصلاة والسلام : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا . هذا وأن كل من فعل معروفاً فأهدي بشيء لم يحرم أخذه . " فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين " يريد فرعون وقومه .
25. Then there came unto him one of the two women, walking shyly. She said: Lo! my father biddeth thee, that he may reward thee with a payment for that thou didst water (the flock) for us. Then, when he came unto him and told him the (whole) story, he said: Fear not! Thou hast escaped from the wrongdoing folk.
25 - Afterwards one of the (damsels) came (back) to him, walking bashfully. She said: My father invites thee that he may reward thee for having watered (our flocks) for us. So when he came to him and narrated the story, he said: Fear thou not: (well) hast thou escaped from unjust people.