[النمل : 66] بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ
66 - (بل) بمعنى هل (ادارك) وزن أكرم وفي قراءة أخرى ادارك بتشديد الدال وأصله تدارك أبدلت التاء دالا وأدغمت في الدال واجتلبت همزة الوصل أي بلغ ولحق أو تتابع وتلاحق (علمهم في الآخرة) بها حتى سألوا عن وقت مجيئها ليس الأمر كذلك (بل هم في شك منها بل هم منها عمون) من عمى القلب وهو أبلغ مما قبله والأصل عميون استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الميم بعد حذف كسرتها
وقوله " بل ادارك علمهم في الآخرة " اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة سوى أبي جعفر وعامة قراء أهل الكوفة " بل ادارك " بكسر اللام من بل وتشديد الدال من أدارك، بمعنى: بل تدارك علمهم أي تتابع علمهم بالآخرة هل هي كائنة أم لا، ثم أدغمت التاس في الدال كما قيل: ( أثاقلتم إلى الأرض) ( التوبة: 38) وقد بينا ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية من إعادته.
وقرأته عامة قراء أهل مكة ( بل أدرك علمهم في الآخرة) بسكون الدال وفتح الألف، بمعنى هل أدرك علمهم علم الآخرة. وكان أبو عمرو بن العلاء ينكر فيما ذكر عنه قراءة من قرأ ( بل أدرك) ويقول: إن بل إيجاب والاستفهام في هذا الموضع إنكار. ومعنى الكلام: إذا قرىء كذلك ( بل أدرك) لم يكن ذلك لم يدرك علمهم في الآخرة، وبالاستفهام قرأ ذلك ابن محيصن على الوجه الذي ذكرت أن أبا عمرو أنكره.
وبنحو الذي ذكرت عن المكيين أنهم قرؤوه ذكر عن مجاهد أنه قرأه، غير أنه كان يقرأ في موضع بل: أم.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: ثنا عثمان بن الأسود، عن مجاهد، أنه قرأ ( أم أدرك علمهم) وكان ابن عباس فيما ذكر عنه يقرأ بإثبات ياء في بل، ثم يبتديء ادارك بفتح ألفها على وجه الاستفهام وتشديد الدال.
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا شعبة، عن أبي حمزة، قال: سمعت ابن عباس يقرأ ( بلى ادارك علمهم في الآخرة) إنما هو استفهام أنه لم يدرك. وكأن ابن عباس وجه ذلك إلى أن مخرجه الاستهزاء بالمكذبين بالبعث.
والصواب من القراءات عندنا في ذلك القراءتان اللتان ذكرت إحداهما عن قرأة أهل مكة والبصرة، وهي ( بل أدرك علمهم) بسكون لام بل وفتح ألف أدرك وتخفيف دالها، والأخرة منهما عن قرأة الكوفة، وهي " بل ادارك " بكسر اللام وتشديد الدال من ادارك، لأنهما القراءتان المعروفتان في قراء الأمصار، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب عندنا، فأما القراءة التي ذكرت عن ابن عباس، فإنها وإن كانت صحيحة المعنى والإعراب، فخلاف لما عليه مصاحف المسلمين، وذلك أن في بلى زيادة ياء في قراءاته ليست في المصاحف، وهي مع ذلك قراءة لا نعلمها قرأ بها أحد من قراء الأمصار. وأما القراءة التي ذكرت عن ابن محيصن، فإن الذي قال فيها أبو عمرو قول صحيح، لأن العرب تحقق ببل ما بعدها لا تنفيه، والاستفهام في هذا الموضع إنكار لا إثبات، وذلك أن الله قد أخبر عن المشركين أنهم من الساعة في شك، فقال " بل هم في شك منها بل هم منها عمون ".
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: بل أدرك علمهم في الآخرة فأيقنوها إذ عاينوها حين لم ينفعهم يقينهم بها، إذ كانوا بها في الدنيا مكذبين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عطاء الخراساني، عن ابن عباس ( بل أدرك علمهم) قال: بصرهم في الآخرة حين لم ينفعهم العلم والبصر.
وقال آخرون: بل معناه: بل غاب علمهم في الآخرة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله ( بل أدرك علمهم في الآخرة) يقول غاب علمهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله " بل ادارك علمهم في الآخرة " قال: يقول: ضل علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم، " هم منها عمون ".
وقال آخرون: معنى ذلك: لم يبلغ لهم فيها علم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثني أبي، عن جدي، قال: ثنا الحسين، عن قتادة في قوله " بل ادارك علمهم في الآخرة " قال: كان يقرؤها ( بل أدرك علمهم في الآخرة) قال: لم يبلغ لهم فيها علم، ولا يصل إليها منهم رغبة.
وقال آخرون: معنى ذلك: بل أدرك: أم أدرك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( بل أدرك علمهم) قال: أم أدرك.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عثمان، عن مجاهد ( بل أدرك علمهم) قال: أم أدرك علمهم من أين يدرك علمهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب على قراءة من قرأ ( بل أدرك) القول الذي ذكرناه عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، وهو أن معناه: إذا قرىء كذلك " وما يشعرون أيان يبعثون " بل أدرك علمهم نفس وقت ذلك في الآخرة حين يبعثون، فلا ينفعهم علمهم به حينئذ، فأما في الدنيا فإنهم منها في شك، بل هم منها عمون.
وإنما قلت: هذا القول أولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب على القراءة التي ذكرت، لأن ذلك أظهر معانيه. وإذ كان ذلك معناه كان في الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ظهر منه عنه. وذلك أن معنى الكلام: وما يشعرون أيان يبعثون، بل يشعرون ذلك في الآخرة، فالكلام إذا كان ذلك معناه، وما يشعرون أيان يبعثون، بل أدرك علمهم بذلك في الآخرة، بل هم في الدنيا في شك منها. وأما على قراءة من قرأه " بل ادارك " بكسر اللام وتشديد الدال، فالقول الذي ذكرنا عن مجاهد، وهو أن يكون معنى بل: أم، والعرب تضع أم موضع بل، وموضع بل: أم، إذا كان في أول الكلام استفهام، كما قال الشاعر:
فوالله ما أدري أسلمى تغولت أم النوم أم كل إلي حبيب
يعني بذلك بل كل إلى حبيب، فيكون تأويل الكلام: وما يشعرون أيان يبعثون، بل تدارك علمهم في الآخرة: يعني تتابع علمهم في الآخرة: أي بعلم الآخرة: أي لم يتتابع بذلك ولم يعلموه، بل غاب علمهم عنه، وضل فلم يبلغوه ولم يدركوه.
وقوله " بل هم في شك منها " يقول: بل هؤلاء المشركون الذي يسألونك عن الساعة في شك من قيامها لا يوقنون بها ولا يصدقون بأنهم مبعوثون من بعد الموت، " بل هم منها عمون " يقول: بل هم من العلم بقيامها عمون.
هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم و شيبة و نافع و يحيى بن وثابت و الأعمش و حمزة و الكسائي . وقرأ أبو جعفر و ابن كثير و أبو عمرو و حميد : ( بل أدرك ) من الإدراك . وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان ين يسار و الأعمش : ( بل أدرك ) وغير مهمموز مشدداً . وقرأ ابن محيصن : ( بل أدرك ) على الاستفهام . وقرأ ابن عباس : ( بلى ) بإثبات الياء ( أدارك ) بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها ، قال النحاس : وإسناده إسناد صحيح ، هو من حديث شعبة يرفعه إلى ابن عباس . وزعم هارون القارئ أن قراءة أبي ( بل تدارك علمهم ) وحكى الثعلبي أنها في حرف أبي أم تدارك . والعرب تضع بل موضع ( أم ) و( أم ) موضع بل إذا كان في أول الكلام استفهام ، كقول الشاعر :
فوالله لاأدري أسلمى تقولت أم القول أم كل إلى حبيب
أي بل كل . وقال النحاس : القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد، لأن أصل ( أدارك ) تدارك ، أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل ،وفي معناه قولان : أحدهما أن المعنى بل تكامل علمهم في الآخرة ، لأأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به. والقول الآخر أن المعنى : بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة ، فقالوا تكون وقالوا لا تكون . القراءة الثانية فيها أيضاً قولان : أحدهما : أن معناه كمل في الآخرة ، وهو مثل الأول ، قال مجاهد : معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم ، لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين . والقول الآخر : أنه على معنى الإنكار ، وهو مذهب أبي إسحاق ، واستدل على صحة هذا القول بأن بعده ( بل هم منها عمون ) أي لم يدرك علمهم علم الآخرة . وقيل: بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم . والقراءة الثالثة: ( بل ادرك ) فهي بمعنى ( بل ادارك ) وقد يجيء افتعل وتفاعل بمعنى ، ولذلك صحح ازدوجوا بمعنى تزاوجوا . القراءة الرابعة : ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار ،كما يقول : أأ نا قاتلتك ؟! فيكون المعنى لم يدركت، وعليه ترجع قراءة ابن عباس : ( بلى أدارك علمهم في الآخرة ) أي لم يدرك . قال الفراء : وهو قول حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث ، كقولك لرجل تكذبه : بلى لعمري قد أدركت السلف فأنت تروي ما أروي ! وأنت تكذبه . وقراءة سابعة : ( بل ادرك ) بفتح اللام ، عدل إلى الفتحة لخفتها . وقد حكى نحو ذلك عن قطرب في ( قم الليل ) فإنه عدل إلى الفتح .وكذلك و( بع الثوب ) ونحوه . وذكر الزمخشري في الكتاب : وقرئ ( بل أأدرك ) بهمزتين ( بل أأدرك ) بألف بينهما ( بلى أأدرك ) ( أم تدارك ) ( أم أدرك ) فهذه ثنتا عشرة قراءة ، ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال : فإن قلت فما وجه قراءة ( بل أأدرك ) على الاستفهام ؟قلت : هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم ، وكذلك من قرأ : ( أم أدرك) و( أم تدارك ) لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة ، وأما من قرأ: ( بلى أأدرك ) على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها ، لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن . ( في الآخرة ) في شأن الآخرة ومعناها . " بل هم في شك منها " أي الدنيا . " بل هم منها عمون " أي بقلوبهم واحدهم عمو . وقيل : عم ، وأصله عميون حذفت الياء لالتاء الساكنين ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها .
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول معلماً لجميع الخلق أنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله. وقوله تعالى: "إلا الله" استثناء منقطع أي لا يعلم أحد ذلك إلا الله عز وجل فإنه المنفرد بذلك وحده لا شريك له كما قال تعالى: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو" الاية, وقال تعالى: "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث" إلى آخر السورة, والايات في هذا كثيرة. وقوله تعالى: "وما يشعرون أيان يبعثون" أي وما يشعر الخلائق الساكنون في السموات والأرض بوقت الساعة كما قال تعالى: "ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة" أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا علي بن الجعد , حدثنا أبو جعفر الرازي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها, قالت: من زعم أنه يعلم ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ ما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية لأن الله تعالى يقول: "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله" وقال قتادة : إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء وجعلها يهتدى بها وجعلها رجوماً للشياطين, فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه وأضاع نصيبه, وتكلف ما لا علم له به. وإن أناساً جهلة بأمر الله قد أحدثوا من هذه النجوم كهانة, من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا, ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا, ومن ولد بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا, ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والقصير والطويل والحسن والدميم, وما علم هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب, وقضى الله تعالى أنه لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون. رواه ابن أبي حاتم بحروفه وهو كلام جليل متين صحيح.
وقوله: " بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها " أي انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها, وقرأ آخرون " بل ادارك علمهم " أي تساوى علمهم في ذلك كما في الصحيح لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل وقد سأله عن وقت الساعة: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" أي تساوى في العجز عن درك ذلك علم المسؤول والسائل, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " بل ادارك علمهم في الآخرة " أي غاب, وقال قتادة " بل ادارك علمهم في الآخرة " يعني بجهلهم بربهم, يقول لم ينفذ لهم علم في الاخرة, هذا قول, وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني , عن ابن عباس " بل ادارك علمهم في الآخرة " حين لم ينفع العلم, وبه قال عطاء الخراساني والسدي أن علمهم إنما يدرك ويكمل يوم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك, كما قال تعالى: "أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين" وقال سفيان عن عمرو بن عبيد عن الحسن , أنه كان يقرأ " بل ادارك علمهم " قال: اضمحل علمهم في الدنيا حين عاينوا الاخرة.
وقوله تعالى: "بل هم في شك منها" عائد على الجنس, والمراد الكافرون, كما قال تعالى: " وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا " أي الكافرون منكم. وهكذا قال ههنا: "بل هم في شك منها" أي شاكون في وجودها ووقوعها "بل هم منها عمون" أي في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها.
66- "بل ادارك علمهم في الآخرة". قرأ الجمهور "ادارك" وأصل ادارك تدارك أدغمت التاء في الدال وجيء بهمزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن. وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد " بل ادارك " من الإدراك. وقرأ عطاء بن يسار وسليمان بن يسار والأعمش بل ادرك بفتح لام بل وتشديد الدال. وقرأ ابن محيصن بل أدراك على الاستفهام. وقرأ ابن عباس وأبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج بلى أدارك بإثبات الياء في بل وبهمزة قطع وتشديد الدال. وقرأ أبي بل تدارك ومعنى الآية: بل تكامل علمهم في الآخرة لأنهم رأوا كل ما وعدوا به وعاينوه. وقيل معناه: تتابع علمهم في الآخرة والقراءة الثانية معناها كل علمهم في الآخرة مع المعاينة وذلك حين لا ينفعهم العلم لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين. وقال الزجاج: إنه على معنى الإنكار، واستدل على ذلك بقوله فيما بعد "بل هم منها عمون" أي لم يدرك علمهم علم الآخرة، وقيل المعنى: بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم علم ومعنى القراءة الثالثة كمعنى القراءة الأولى فافتعل وتفاعل قد يجيئان لمعنى، والقراءة الرابعة هي بمعنى الإنكار. قال الفراء: وهو وجه حسن كأنه وجهه إلى المكذبين على طريق الاستهزاء بهم، وفي الآية قراءات أخر لا ينبغي الاشتغال بذكرها وتوجيهها "بل هم في شك منها" أي بل هم اليوم في الدنيا في شك من الآخرة، ثم أضرب عن ذلك إلى ما هو أشد منه فقال: "بل هم منها عمون" فلا يدركون شيئاً من دلائلها لاختلال بصائرهم التي يكون بها الإدراك، وعمون جمع عم: وهو من كان أعمى القلب، والمراد بيان جهلهم بها على وجه لا يهتدون إلى شيء مما يوصل إلى العلم بها، فمن قال: أن معنى الآية الأولى أعني بل ادارك علمهم في الآخرة أنه كمل علمهم وتم مع المعاينة فلا بد من حمل قوله بل هم في شك إلخ على ما كانوا عليه في الدنيا، ومن قال: إن معنى الآية الأولى الاستهزاء بهم والتبكيت لهم لم يحتج إلى تقييد قوله بل هم في شك إلخ بما كانوا عليه في الدنيا. وبهذا يتضح معنى هذه الآيات ويظهر ظهوراً بيناً.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وسلام على عباده الذين اصطفى". قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله لنبيه، وروي مثله عن سفيان الثوري. والأولى ما قدمناه من التعميم فيدخل في ذلك أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني " عن رجل من بلجهم قال قلت يا رسول الله إلى ما تدعو؟ قال: أدعوا الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشفه عنك" هذا طرف من حديث طويل. وقد رواه أحمد من وجه آخر فبين اسم الصحابي فقال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا يونس، حدثنا عبيد بن عبيدة الهجيمي عن أبيه عن أبي تميمة الهجيمي عن جابر بن سليم الهجيمي. ولهذا الحديث طرق عند أبي داود والنسائي. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة قالت ثلاثة من تكلم بواحدة منهم فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: "قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس "بل ادارك علمهم في الآخرة" قال: حين لا ينفع العلم. وأخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قرأ " بل ادارك علمهم في الآخرة " قال: لم يدرك علمهم. قال أبو عبيد: يعني أنه قرأها بالاستفهام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً "بل ادارك علمهم في الآخرة" يقول: غاب علمهم.
66- "بل ادارك علمهم"، قرأ أبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمر:أدرك على وزن أفعل أي: بلغ ولحق، كما يقال: أدركه علمي إذا لحقه وبلغه، يريد: ما جهلوا في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة. قال مجاهد: يدرك علمهم، "في الآخرة"، ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم. قال مقاتل: بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكوا وعموا عنه في الدنيا وهو قوله: "بل هم في شك منها"، يعني: هم اليوم في شك من الساعة، وقرأ الآخرون: بل أدراك موصولاً مشدداً مع ألف بعد الدال المشددة، أي: تدارك وتتابع علمهم في الآخرة وتلاحق.
وقيل: معناه اجتمع علمهم في الآخرة أنها كائنة، وهم في شك في وقتهم، فيكون بمعنى الأول.
وقيل: هو على طريق الاستفهام، معناه: هل تدارك وتتابع علمهم بذلك في الآخرة؟ أي: لم يتتابع وضل وغاب علمهم به فلم يبلغوه ولم يدركوه، لأن في الاستفهام ضرباً من الجحد يدل عليه.
قراءة ابن عباس بلى بإثبات الياء، أدراك بفتح الألف على الاستفهام، أي: لم يدرك، وفي حرف أبي أم تدارك علمهم، والعرب تضع بل موضع أم وأم موضع بل.
وجملة القول فيه: أن الله أخبر أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يستوي علمهم في الآخرة وما وعدوا فيها من الثواب والعقاب، وإن كانت علومهم مختلفة في الدنيا.
وذكر علي بن عيسى أن معنى بل هاهنا: لو ومعناه: لو أدركوا في الدنيا ما أدركوا في الآخرة/ لم يسكوا.
قوله عز وجل: "بل هم في شك منها"، بل هم اليوم في الدنيا في شك من الساعة. "بل هم منها عمون"، جمع عم، وهو الأعمى القلب. قال الكلبي: يقول هم جهلة بها.
66 -" بل ادارك علمهم في الآخرة " لما نفى عنهم علم الغيب وأكد ذلك بنفي شعورهم بما هو مآلهم لا محالة بالغة فيه ، بأن أضرب عنه وبين أن ما انتهى وتكامل فيه أسباب علمهم من الحجج والآيات وهو أن القيامة كائنة لا محالة لا يعلمونه كما ينبغي . " بل هم في شك منها " كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلاً . " بل هم منها عمون " لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم ، وهذا وإن اختص بالمشركين ممن في السموات والأرض نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل ، والإضرابات الثلاث تنزيل لأحوالهم ، وقيل الأول إضراب عن نفي الشعور بوقت القيامة عنهم إلى وصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكماً بهم ، وقيل أدرك بمعنى انتهى واضمحل من قولهم أدركت الثمرة لأن تلك غايتها التي عندها تعدم . وقرأ نافع و ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص (( بل ادراك )) بمعنى تتابع حتى استحكم ، أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك ، و أبو بكر (( أدرك )) وأصلهما تفاعل وافتعل ، وقرئ (( أأدرك )) بهمزتين (( وآأدرك )) بألف بينهما (( بل أدرك )) و (( بل تدارك )) و (( بلى أأدرك )) و (( أم أدرك )) أو (( تدارك )) ، وما فيه استفهام صريح
أو مضمن من ذلك فإنكار وما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له الإدراك على التهكم ، وما بعده إضراب عن التفسير مبالغة في نفيه ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها " بل " إنهم " منها عمون " أو رد وإنكار لشعورهم .
66. Nay, but doth their knowledge reach to the Hereafter? Nay, for they are in doubt concerning it. Nay, for they cannot see It.
66 - Still less can their knowledge comprehend the Hereafter: nay, they are in doubt and uncertainty thereanent; nay, they are blind thereunto!