[النمل : 44] قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
44 - (قيل لها) أيضا (ادخلي الصرح) هو سطح من زجاج أبيض شفاف تحته ماء عذب جار فيه سمك اصطنعه سليمان لما قيل له إن ساقيها وقدميها كقدمي الحمار (فلما رأته حسبته لجة) من الماء (وكشفت عن ساقيها) لتخوضه وكان سليمان على سريره في صدر الصرح فرأى ساقيها وقدميها حسانا (قال) لها (إنه صرح ممرد) مملس (من قوارير) من زجاج ودعاها إلى الإسلام (قالت رب إني ظلمت نفسي) بعبادة غيرك (وأسلمت) كائنة (مع سليمان لله رب العالمين) وأراد تزوجها فكره شعر ساقيها فعملت له الشياطين النورة فأزالته بها فتزوجها وأحبها وأقرها على ملكها وكان يزورها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان روي أنه ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة فسبحان من لا انقضاء لدوام ملكه
ذكر أن سليمان لما أقبلت صاحبة سبأ تريده ، أمر الشياطين فبنوا له صرحا ، وهو كهيئة السطح من قوارير ، وأجرى من تحته الماء ليختبر عقلها بذلك وفهمها على نحو الذي كانت تفعل هي من توجيهها إليه الوصائف والوصفاء ليميز بن الذكور منهم والإناث معاتبة بذلك كذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : أمر سليمان بالصرح ، وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضا ، ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، ثم قال : " ادخلي الصرح " ليريها ملكا هو أعز من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها " فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها " لا تشك أنه ماء تخوضه ، قيل لها : ادخلي إنه صرح ممرد من قوارير ، فلما وقفتعلى سليمان دعاها إلى عبادة الله ، وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله ، فقالت بقول الزنادقة ، فوقع سليمان ساجدا إعظاما لما قالت وسجد معه الناس ، وسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع ،فلما رفع سليمان رأسه قال : ويحك ماذا قلت : قال : وأنسيت ما قالت ، فقالت " رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين " واسلمت ، فحسن إسلامها .
وقيل : إن سليمان إنما أمر ببناء الصرح على ما وصفه الله ، لأن الجن خافت من سليمان أن يتزوجها ، فأرادوا أن يزهدوه فيها ، فقالوا : إن رجلها رجل حمار ، وإن أمها كانت من الجن ، فأراد سليمان أن يعلم حقيقة ما أخبرته الجن من ذلك .
ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قالت الجن لسليمان تزهده في بلقيس : إن رجلها رجل حمار ، وإن أمها كانت من الجن ، فأمر سليمان بالصرح ، فعمل فسجن فيه دواب البحر : الحيتان ، والضفادع ، فلما بصرت بالصرح قالت : ما وجد ابن داود عذابا يقتلني به إلا الغرق ؟ " حسبته لجة وكشفت عن ساقيها " قال : فإذا أحس الناس ساقا وقدما قال : فضن سليمان بساقها عن الموسى ، قال ك فاتخذت النورة بذلك السبب.
وجائز عندي أن يكون سليمان أمر باتخاذ الصرح للأمرين الذي قاله وهب والذي قاله محمد بن كعب القرظي ، ليختبر عقلها ، وينظر إلى ساقها وقدمها ، ليعرف صحة ما قيل له فيها .
وكان مجاهد يقول فيما ذكر عنه في معنى الصرح ما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن ابي نجيح ، عن مجاهد ، قوله " الصرح "قال : بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير ألبسها . قال : وكانت بلقيس هلباء شعراء قدمها كحافر الحمار ، وكانت أمها جنية .
حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : ثنا هشام بن عمار ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان أحد أبوي صاحبة سبأ جنيا " .
قال : ثنا صفوان بن صالح ، قال : ثني الوليد ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لوم يذكر النضر بن أنس .
وقوله : " فلما رأته حسبته لجة " يقول: فلما رات المرأة الصرح حسبته لبياضه واضطراب دواب الماء تحته لجة بحر كشفت عن ساقيها لتخوضه إلى سليمان .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال: ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة " قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة " قال : وكان من قوارير ، وكان الماء من خلفه فحسبته لجة .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : " حسبته لجة " قال : بحرا .
حدثنا عمرو بن علي قال: ثنا ابن سوار ، قال : ثنا روح بن القاسم ، عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، في قوله : " وكشفت عن ساقيها " فإذا هما شعراوان ، فقال : ألا شيء يذهب هذا ؟ قالوا : الموسى ، قال : لا ، الموسى له اثر ، فأمر بالنورة فصنعت .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا حفص ، عن عمران بن سليمان ، عن عكرمة و أبي صالح قالا : لما تزوج سليمان بلقيس قالت له : لم تمسني حديدة قط ، قال سليمان للشياطين : انظروا ما يذهب الشعر ، قالوا : النورة ، فكان أول من صنع النورة .
وقوله : " إنه صرح ممرد من قوارير " يقول جل ثناؤه : قال سليمان لها : إن هذا ليس ببحر ، إنه صرح ممرد من قوارير ، يقول : إنما هو بناء مبني مشيد من قوارير .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، " ممرد " قال : مشيد .
وقوله : " قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان " ...الآية ، يقول تعالى ذكره قالت المرأة صاحبة سبأ : رب إني ظلمت نفسي في عبادتي الشمس ، وسجودي لما دونك " وأسلمت مع سليمان لله " تقول : وأنقدت مع سليمان مذعنة لله بالتوحيد ، مفردة له بالألوهية والربوبية دون كل من سواه .
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في " حسبته لجة " قال : " إنه صرح ممرد من قوارير " فعرفت أنها قد غلبت " قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين " .
قوله تعالى : " قيل لها ادخلي الصرح " التقدير عن سيبوية : ادخلي إلى الصرح فحذف إلى وعدي الفعل . و أبو العباس يغلط في هذا ، قال : لأن دخل يدل على مدخول . وكان الصرح صحناً من زجاج تحته ماء وفيه الحيتان ، عمله ليريها ملكاً أعظتم من ملكها ، قاله مجاهد . وقال مجاهد : كان من قوارير خلفه ماء ( حسبته لجة ) أي ماء . وقيل : الصرح القصر ، عن أبي عبيدة . كما قال :
تحسب أعلامهن الصروحا
وقيل : الصرح الصحن ، كما يقال : هذه صرحة الدار وقاعتها ، بمعنى . وحكى أبو عبيدة في الغريب المصنف أن الصرح كل بناء عال مرتفع من الأرض ، وأن الممرد الطويل . النحاس : أصل هذا أنه يقال لكل بناء عمل عملاً واحداً صرح ، من قولهم : لبن صريح إذا لم يشبه ماء ومن قولهم : صرح بالأمر ، ومنه : عربي صريح . وقيل : عمله ليختبر قول الجن فيها إن أمها من الجن ، ورجلها رجل حمار ، قاله وهب بن منبة . فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق : وتعجبت من كوهن كرسيه على الماء ، ورأت ما هالها ، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر . " وكشفت عن ساقيها " فإذا هي أحسن الناس ساقاً ، سليمة مما قالت لالجن ، وغير أنهلا كانت كثيرة الشعر ، فلما بلغت هذا الحد ، قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها : " إنه صرح ممرد من قوارير " والممرد لامحكوك المملس ، ومنه الأمرد . وتمرد الرجل إذ أبطأ خروج لحيته بعد إدراكه ، قاله الفراء . ومنه الشجرة المرداء التي لا ورق عليها . ورملة مرداء إذا كانت لا تنبت . والممرد أيضاً المطول ،ومنه قيل للحصن مارد . أبو صالح : طويل على هيئة النخلة . و ابن شجرة : واسع في طوله وعرضه . قال :
غدوت صباحاً باكراً فوجدتهم قبيل الضحا في السابري الممرد
أي الدروع الواسعة . وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم ، على ما يأتي . ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها قال لناصحه من الشياطين : كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة بالجسد ؟ فدله على عمل النورة ، فكانت النورة والحمامات من يومئذ . فيروى أن سليمان تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام ، قاله الضحاك . وقال سعيد بن عبد العزيز في كتاب النقاش : تزوجها وردها إ لى ملكها باليمين ، وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة ، فولدت له غلاماً سماه داود مات في زمانه . وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كانت بلقيس من أحسن النساء العالمين ساقين وهي من أزواج سليمان عليه السلام في الجنة " فقالت عائشة : هي أحسن ساقين مني ؟ فقال عليه السلام : " أنت أحسن ساقين منها في الجنة " ذكره القشيري . وذكر الثعلبي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أول من اتخذ الحمامات سليمان بن داود فلما ألصق ظهره إلى الجدار فمسه حرها قال أواه من عذاب الله " ثم أحبها حباً شديداً وأقرها على ملكها باليمين ، وأمر الجن فبنوا لها ثلاثة حصون لم يرالناس مثلها ارتفاعاً : سلحون وبينون وعمدان ، ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة ، ويقيم عندها ثلاثة أيام .وحكى الشعبي أن ناساً من حمير حفروا مقبرة الملوك ، فوجدوا فيها قبراً معقوداً فيه امرأة عليها حلل منسوجة بالذهب ، وعند رأسها لوح رخام فيه مكتوب :
يا أيها الأقوام عوجوا معاً وأربعوا في مقبرى العيسا
لتعلموا أني تلك التي قد كنت أدعى الدهر بلقيسا
شيدت قصر الملك في حمير قومي وقدماً كان مأنوسا
وكنت في ملكي وتدبيره أرغم في الله المعاطيسا
بعلي سليمان النبي الذي قد كان للتوراة دريسا
وسخر الريح له مركبا تهب أحياناً رواميسا
مع ابن داود النبي الذي قدسه الرحمن تقديسا
وقال محمد بن إسحاق و وهب بن منبه : لم يتزوجها سليمان ، وإنما قال لها : اختاري زوجاً ، فقالت : مثلي لا ينكح وقد كان لي من الملك ما كان . فقال : لا بد في الإسلام من ذلك . فاختارت ذا تتبع ملك همدان ، فزوجه إياها وردها إلى اليمن ، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه ، فبنى له المصانع ، ولم يزل أميراً حتى مات سليمان . وقال قوم : لم يرد فيه خبر صحيح لا في أنه تزوجها ولافي أنه زوجها . وهي بلقيس بنت السرح بن الهداهد بن شراحيل بن أدد بن حدر بن السرح بن الحرس بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخششذ بن سام بن نوح . وكان حدها الهداهد ملكاً عظيم الشأن قد ولد له أربعونه ولداً كلهم ملوك ، وكان ملك أرض اليمن كلها ، وكان أبوها السرح يقول لملوك الأضراف : ليس أحد من كم كفؤا لي ، ، وأبى أن يبزوج منهم ، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن ، فولدت له بلقمة وهي بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها . وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كان أحد أبوي بلقيس جنياً " فمات أبوها ، واختلف عليها قومها فرقتين ، وملكوا أمرهم رجلاً فساءت سيرته ، حتى فجر بنساء رعيته ، فأدركت بلقيس الغيرة ، فعرضت عليه نفسها فتزوجها ، فسقته الخمر حتى حزت رأسهه ، ونصبته على باب دارها فملكوها . وقال أبو بكرة : ذكرت بلقيس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " ويقال : إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيراً لملك عات يغتصب نساء الرعية ، وكان الوزير غيوراً فلم يتزوج ، فصحب مرة في الطريق رجلاً لا يفرفه ، فقال هل لك من زوجة ؟ فقال : لا أتزوج أبداً ، فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن ، فقال لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبداً . قال : بل يغتصبها . قال إنا قوم من الجن لا يقدر علينا ، فتزوج ابنته فولدت له بلقيس ، ثم ماتت الأم وابتنت بلقيس قصراً في الصحراء ، فتحدث أبوها بحديثها غلطاً ، فنمى للملك خبرها فقال له : يا فلان تكون عندك هذه البنت الجميلة وأنت لا تأتيني بها ، وأنت تعلم حبي للنساء ! ثم أمر بحبسه ، فأرسلت بلقيسس إليه إني بين يديك ، فتجهز للمسير إلى قصرها ، فلما هم بالدخول بمن معه أخرجت إليه الجواري من بنات الجن مثل صورة الشمس ، وقلن له ألا تستحي ؟! تقول لك سيدتنا أتدخل بهؤلاء الرجال معك على أهلك ؟ فأذن لهم بالانصراف ودخل وح
ده ، وأغلقت عليه بالباب وقتلته بالنعال ، وقطعت رأسه ورمت به إلى عسكره ، فأمروها عليهم ، فلم تزل كذلك إلى أن بلغ الهدهد خبرها سليمان عليه السلام . وذلك أن سليمان لما نزل في بعض منازله قال الهدهد : إن سليمان قد اشتغل بالنزول ، فارتفع نحو السماء فأبصر طول الدنيا وعرضها ، فأبصر الدنيا يميناً وشمالاً ، فرأى بستاناً لبلقيس فيه هدهد ، وكان اسم ذلك الهدهد عفير ، فقال عفير اليمن ليعفور سليمان : من أين أقبلت ؟ وأين تريد ؟ قال : أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان : من أين أقبلت ؟ قال : ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوجش والريح وكل ما بين السماء والأرض . فمن أين أنت ؟ قال : من هذه البلاد ، ملكها امرأة يقال لها بلقيس ، نحت يديها اثنا عشر ألف قيل، تحت يد كل قيل مائة ألف مقاتل من سوى النساء والذراري ، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها ، ورجع إلى سليمان وقت العصر ، وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة فلم يجده ، وكانوا على غير ماء . قال ابن عباس في رواءة : وقعت عليه نفحة من الشمس . فقال لوزير الطير : هذا موضع من ؟ قال : يا نبي الله هذا موضع الهدهد . قال : وأين ذهب ؟ قال : لا أدري أصلح الله الملك . فغضب سليمان وقال : " لأعذبنه عذابا شديدا " الآية . ثم دعا بالعقاب سيد الطير وأصرمها وأشدها بأساً فقال : ما تريد يا نبي الله ؟ قال : علي بالهدهد الساعة . فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى لزق بالهواء ، فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ، فإذا هو بالهدهد مقبلاً من نحو اليمين ، فانقض نحوه وأنشب فيه مخلبه . فقال له الهدهد : أسألك بالله الذي أقدرك وقوالك علي إلا رحمتني . فقال له : الويل لك ، وثكلتك أملك ! إن نبي الله سليمان حلف أن يعذبك أو يذبحك . ثم أتى به فاستقبلته النسور وسائر عساكر الطير . وقالوا الويل لك ، لقد توعدك نبي الله فقال : وما قدري وما أنا ! أما استثنى ؟ قالوا : بلى ! إنه قال : " أو ليأتيني بسلطان مبين " ثم دخل على سلمان فرفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه تواضعاً لسليمان عليه السلام . فقال له سليمان : أين كنت عن خدمتك ومكانك ؟ لأعذبنك عذاباً شديداً أو لأذبحنك . فقال له الهدهد : يا نبي الله ! اذكر وقوفك بين يدي الله بمنزلة وقوفي بين يديك . فاقشعر جلد سليمان وارتعد وعفا عنه . وقال عكرمة : إنما صرف الله سليمان عن ذبح الهدهد أنه كان باراً بوالديه ، ينقل الطعام إليهما فيزقهما . ثم قال له سليمان : ما الذي أبطأ بك ؟ فقال الهدهد ما أخبر الله عن بلقيس وعرشها وقومها حسبما تقدم بيانه . قال الماوردي : والقول بأن أم بلقيس جنية مستنكر من العقول لتباين الجنسين ، واختلاف الطبعين ، وتفارق الجسمين ، لأن الآدمي جسماني والجن روحاني ، وخلق الله الآ دمي من صلصال كالفخار ، وخلق الجان من مارج من نار ، ويمنع الامتزاج مع هذا التباين ، ويسستحيل التناسل مع هذا الا ختلاف .
قلت : قد مضى القول ، والعقل لا يحيله مع ما جاء من الخبر في ذلك ، وإذا نظر في أصل الخلق فأصله الماء على ما تقدم بيانه ، ولا بعد في ذلك ، والله أعلم . وف6ي التنزيل " وشاركهم في الأموال والأولاد " [ الإسراء : 64] وقد تقدم . وقال تعالى : " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان "[ الرحمن : 56] على ما يأتي في ( الرحمن ) .
قوله تعالى : " قالت رب إني ظلمت نفسي " أي بالشرك الذي كانت عليه ، قاله ابن شجرة وقال سفيان : أي بالظن الذي توهمته في سليمان ، لأنها لما أمرت بدخول الصرح حسبته لجة ، وأن سليمان يريد تغريقها فيه . فلما بان لها أنه صرح ممرد من قوارير علمت أنها ظلمت نفسها بذلك الظن . وكسرت ( إن ) لأنها مبتدأة بعد القول . ومن العرب من يفتحها فيعمل فيها القول . " وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين " إذا سكنت ( مع ) فهي حرف جاء لمعنى بلا اختلاف بين النحويين . وإذا فتحها ففيها قولا، : أحدهما : أنه بمعنى الظرف اسم . والآخر : أنه حرف خافض مبني على الفتح ، قاله النحاس .
لما جيء سليمان عليه السلام بعرش بلقيس قبل قدومها أمر به أن يغير بعض صفاته ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته هل تقدم على أنه عرشها أو أنه ليس بعرشها فقال "نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون" قال ابن عباس نزع منه فصوصه ومرافقه, وقال مجاهد أمر به فغير ما كان فيه أحمر جعل أصفر, وما كان أصفر جعل أحمر, وما كان أخضر جعل أحمر غير كل شيء عن حاله. وقال عكرمة زادوا فيه ونقصوا وقال قتادة جعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره وزادوا فيه ونقصوا "فلما جاءت قيل أهكذا عرشك" أي عرض عليها عرشها وقد غير ونكر وزيد فيه ونقص منه فكان فيها ثبات وعقل, ولها لب ودهاء وحزم, فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته وإن غير وبدل ونكر فقالت "كأنه هو" أي يشبهه ويقاربه. وهذا غاية في الذكاء والحزم.
وقوله: "وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين" قال مجاهد يقوله سليمان, وقوله تعالى: "وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين" هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام في قول مجاهد وسعيد بن جبير رحمهما الله أي قال سليمان "وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين" وهي كانت قد صدها أي منعها من عبادة الله وحده "ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين" وهذا الذي قاله مجاهد وسعيد : حسن وقاله ابن جرير أيضاً, ثم قال ابن جرير ويحتمل أن يكون في قوله "وصدها" ضمير يعود إلى سليمان أو إلى الله عز وجل تقديره ومنعها "ما كانت تعبد من دون الله" أي صدها عن عبادة غير الله "إنها كانت من قوم كافرين" (قلت): ويؤيد قول مجاهد أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح كما سيأتي.
وقوله: "قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها" وذلك أن سليمان عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصراً عظيماً من قوارير أي من زجاج وأجري تحته الماء فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه. واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان عليه السلام إلى اتخاذه فقيل: إنه لما عزم على تزوجها واصطفائها لنفسه, ذكر له جمالها وحسنها لكن في ساقيها هلب عظيم ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة. فساءه ذلك فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا ؟ هكذا قول محمد بن كعب القرظي وغيره. فلما دخلت وكشفت عن ساقيها رأى أحسن الناس ساقاً وأحسنهم قدماً ولكن رأى على رجليها شعراً لأنها ملكة وليس لها زوج فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها الموسى فقالت لا أستطيع ذلك. وكره سليمان ذلك وقال للجن: اصنعوا شيئاً غير الموسى يذهب بهذا الشعر فصنعوا له النورة. وكان أول من اتخذت له النورة, قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والسدي وابن جريج وغيرهم.
وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان ثم قال لها: ادخلي الصرح ليريها ملكاً هو أعز من ملكها وسلطاناً هو أعظم من سلطانها فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها لا تشك أنه ماء تخوضه فقيل لها إنه صرح ممرد من قوارير, فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وحده وعاتبها في عبادة الشمس من دون الله, وقال الحسن البصري : لما رأت العلجة الصرح عرفت والله أن قد رأت ملكاً أعظم من ملكها, وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه قال: أمر سليمان بالصرح وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضاً ثم أرسل الماء تحته ثم وضع له فيه سريره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس ثم قال لها ادخلي الصرح ليريها ملكاً هو أعز من ملكها وسلطاناً هو أعظم من سلطانها "فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها" لا تشك أنه ماء تخوضه, قيل لها "إنه صرح ممرد من قوارير".
فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله عز وجل وحده وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله فقالت بقول الزنادقة فوقع سليمان ساجداً إعظاماً لما قالت وسجد معه الناس فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع فلما رفع سليمان رأسه قال ويحك ماذا قلت ؟ قالت أنسيت ما قلت ؟ فقالت "رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين" فأسلمت وحسن إسلامها. وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثراً غريباً عن ابن عباس فقال: حدثنا الحسين بن علي عن زائدة حدثني عطاء بن السائب حدثنا مجاهد ونحن في الأزد قال حدثنا ابن عباس قال: كان سليمان عليه السلام يجلس على سريره ثم توضع كراسي حوله فيجلس عليها الإنس ثم يجلس الجن ثم الشياطين ثم تأتي الريح فترفعهم ثم تظلهم الطير ثم يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهراً ورواحها شهر, قال فبينما هو ذات يوم في مسير له إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال "ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين" قال: وكان عذابه إياه أن ينتفه ثم يلقيه في الأرض فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض.
قال عطاء وذكر سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد " فمكث غير بعيد " فقرأ حتى انتهى إلى قوله " سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابي هذا " وكتب بسم الله الرحمن الرحيم, إلى بلقيس " أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين " فلما ألقى الهدهد الكتاب إليها ألقي في روعها أنه كتاب كريم وأنه من سليمان وأن لا تعلوا علي وائتوني مسلمين قالوا نحن أولوا قوة قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون, فلما جاءت الهدية سليمان قال: أتمدونني بمال ارجع إليهم فلما نظر إلى الغبار أخبرنا ابن عباس قال وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومن معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة, قال عطاء ومجاهد حينئذ في الأزد.
قال سليمان أيكم يأتيني بعرشها ؟ قال وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين "قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك" قال: وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس كما يجلس الأمراء ثم يقوم. فقال: "أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك" قال سليمان أريد أعجل من ذلك, فقال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب ربي ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك قال فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره فنبع عرشها من تحت قدم سليمان من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله ثم يصعد إلى السرير, قال فلما رأى سليمان عرشها قال "هذا من فضل ربي" الاية "قال نكروا لها عرشها" فلما جاءت قيل أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو قال فسألته حين جاءته عن أمرين قالت لسليمان أريد ماء ليس من أرض ولا سماء. وكان سليمان إذا سئل عن شيء سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين قال: فقالت الشياطين هذا هين أجر الخيل ثم خذ عرقها ثم املأ منه الانية. قال فأمر بالخيل فأجريت ثم أخذ عرقها فملأ منه الانية, قال وسألت عن لون الله عز وجل, قال فوثب سليمان عن سريره فخر ساجداً فقال: يا رب لقد سألتني عن أمر إنه ليتعاظم في قلبي أن أذكره لك, فقال: ارجع فقد كفيتكهم قال فرجع إلى سريره قال ما سألت عنه ؟ قالت ما سألتك إلا عن الماء فقال لجنوده ما سألت عنه ؟ فقالوا ما سألتك إلا عن الماء, قال ونسوه كلهم. قال وقالت الشياطين إن سليمان يريد أن يتخذها لنفسه فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد لم ننفك من عبوديته, قال فجعلوا صرحاً ممرداً من قوارير فيه السمك قال فقيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها فإذا هي شعراء. فقال سليمان هذا قبيح فما يذهبه ؟ قالوا يذهبه الموسى فقال أثر الموسى قبيح قال فجعلت الشياطين النورة. قال فهو أول من جعلت له النورة, ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة ما أحسنه من حديث (قلت): بل هو منكر غريب جداً ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس , والله أعلم.
والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان وما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ. وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ولله الحمد والمنة. أصل الصرح في كلام العرب هو القصر وكل بناء مرتفع, قال الله سبحانه وتعالى إخباراً عن فرعون لعنه الله أنه قال لوزيره هامان "ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب" الاية. والصرح قصر في اليمن عالي البناء, والممرد المبني بناء محكماً أملس "من قوارير" أي زجاج, وتمريد البناء تمليسه, ومارد: حصن بدومة الجندل, والغرض أن سليمان عليه السلام اتخذ قصراً عظيماً منيفاً من زجاج لهذه الملكة ليريها عظمة سلطانه وتمكنه, فلما رأت ما آتاه الله وجلالة ما هو فيه وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبي كريم, وملك عظيم, وأسلمت لله عز وجل وقالت "رب إني ظلمت نفسي" أي بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها للشمس من دون الله "وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين" أي متابعة لدين سليمان في عبادته لله وحده لا شريك له الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً.
44- "قيل لها ادخلي الصرح". قال أبو عبيدة: الصرح القصر. وقال الزجاج: الصرح الحصن. يقال هذه صرحة الار وقاعتها. قال ابن قتيبة: الصرح بلاط اتخذ لها من قوارير وجعل تحته ماء وسمك. وحكى أبو عبيد في الغريب أن الصرج كل بناء عال مرتفع، وأن الممرد الطويل "فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها" أي فلما رأت الصرح بين يديها حسبت أنه لجة، واللجة معظم الماء، فلذلك كشفت عن ساقيها لتخوض الماء، فلما فعلت ذلك "قال" سليمان " إنه صرح ممرد من قوارير " الممرد المحكوك المملس، ومنه الأمرد، وتمرد الرجل إذا لم تخرج لحيته، قاله الفراء. ومنه الشجرة المرداء التي لا ورق لها. والممرد أيضاً المطول، ومنه قيل للحصن مارد، ومنه قول الشاعر:
غدوت صباحاً باكراً فوجدتهم قبيل الضحى في السابري الممرد
أي الدروع الواسعة الواسعة الطويلة، فلما سمعت بلقيس ذلك أذعنت واستسلمت، و "قالت رب إني ظلمت نفسي" أي بما كنت عليه من عبادة غيرك، وقيل بالظن الذي توهمته في سليمان، لأنها توهمت أنه أراد تغريقها في اللجة، والأول أولى "وأسلمت مع سليمان" متابعة له داخلة في دينه "لله رب العالمين" التفتت من الخطاب إلى الغيبة، قيل لإظهار معرفتها بالله، والأولى أنها التفتت لما في هذا الاسم الشريف من الدلالة على جميع الأسماء ولكونه علماً للذات.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "نكروا لها عرشها" قال: زيد فيه ونقص لـ "ننظر أتهتدي" قال: لننظر إلى عقلها فوجدت ثابتة العقل. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وأوتينا العلم من قبلها" قال: من قول سليمان. وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد نحوه. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "فلما رأته حسبته لجة" قال: بحراً. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في أثر طويل أن سليمان تزوجها بعد ذلك. قال أبو بكر بن أبي شيبة: ما أحسنه من حديث. قال ابن كثير في تفسيره بعد حكايته لقول أبي بكر بن أبي شيبة: بل هو منكر جداً، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس، والله أعلم.
والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب بما يوجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله فيما نقلا إلى هذه الأمة من بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ انتهى، وكلامه هذا هو شعبة مما قد كررناه في هذا التفسير ونبهنا عليه في عدة مواضع، وكنت أظن أنه لم ينبه على ذلك غيري. فالحمد لله على الموافقة لمثل هذا الحافظ المنصف. وأخرج البخاري في تاريخه والعقيلي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أول من صنعت له الحمامات سليمان" وروي عنه مرفوعاً من طريق أخرى رواها الطبراني وابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب بلفظ "أول من دخل الحمام سليمان فلما وجد حره قال أوه من عذاب الله".
قوله عز وجل: 44- "قيل لها ادخلي الصرح" الآية، وذلك أن سليمان أراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها من غير أن يسألها كشفها، لما قالت الشياطين: إن رجليها كحافر الحمار، وهي شعراء الساقين، أمر الشياطين فبنوا له صرحاً أي: قصراً من زجاج، وقيل بيتاً من زجاج كأنه الماء بياضاً، وقيل: الصرح صحن الدار، وأجرى تحته الماء، وألقى فيه كل شيء من دواب البحر السمك والضفادع وغيرهما، ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس. وقيل: اتخذ صحناً من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع، فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء.
وقيل: إنما بنى الصرح ليختبر فهمها كما فعلت هي بالوصفاء والوصائف فلما جلس على السرير دعا بلقيس، فلما جاءت قيل لها ادخلي الصرح.
"فلما رأته حسبته لجة"، وهي معظم الماء، "وكشفت عن ساقيها"، لتخوضه إلى سليمان، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس قدماً وساقاً إلا أنها كانت شعراء الساقين، فلما رأى سليمان ذلك صرف بصره عنه وناداها، "قال إنه صرح ممرد"، مملس مستو، "من قوارير"، وليس بماء، ثم إن سليمان دعاها إلى الإسلام، وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت، و"قالت رب إني ظلمت نفسي"، بالكفر. وقال مقاتل: لما رأت السرير والصرح علمت أن ملك سليمان من الله فقالت: رب إني ظلمت نفسي بعبادة غيرك، "وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين"، أي: أخلصت له التوحيد.
وقيل: إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة، قالت في نفسها: إن سليمان يريد أن يغرقني، وكان القتل علي أهون من هذا، فقولها: ظلمت نفسي تعني بذلك الظن.
واختلفوا في أمرها بعد إسلامها، قال عون بن عبد الله: سأل رجل عبد الله بن عتبة: هل تزوجها سليمان؟ قال: انتهى أمرها إلى قولها: أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، يعني: لا علم لنا وراء ذلك.
وقال بعضهم: تزوجها، ولما أراد أن يتزوجها كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها، فسأل الإنس: ما يذهب هذا؟ قالوا: الموسى، فقالت المرأة: لم تمسني حديدة قط، فكره سليمان الموسى، وقال: إنها تقطع ساقيها، فسأل الجن فقالوا: لا ندري، ثم سأل الشياطين فقالوا: إنا نحتال لك حيلة حتى تكون كالفضة البيضاء، فاتخذوا النورة والحمام، فكانت النورة والحمامات من يومئذ، فلما تزوجها سليمان أحبها حباً شديداً، وأقرها على ملكها، وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعاً وحسناً، وهي: سلحين، وبينون، وعمدان. ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة بعد أن ردها إلى ملكها ويقيم عندها ثلاثة أيام، يبتكر من الشام إلى اليمن، ومن اليمن إلى الشام، وولدت له فيما ذكر وروي عن وهب قال: زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان: اختاري رجلاً من قومك أزوجكه، قالت: ومثلي يا نبي الله تنكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان؟ قال: نعم، إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك، ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله لك، فقالت: زوجني إن كان ولا بد من ذلك ذا تبع ملك همذان فزوجه إياها، ثم ردها إلى اليمن، وسلط زوجها ذا تبع على اليمن، ودعا زوبعة أمير جن اليمن، فقال: اعمل لذي تبع ما استعملك فيه، فلم يزل بها ملكاً يعمل له فيها ما أراد حتى مات سليمان، فلما أن حال الحول، وتبينت الجن موت سليمان أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته: يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات، فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا، وانقضى ملك ذي تبع، وملك بلقيس مع ملك سليمان.
وقيل: إن الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.
44 -" قيل لها ادخلي الصرح " القصر وقيل عرصة الدار . " فلما رأته حسبته لجةً وكشفت عن ساقيها " روي أنه أمر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره في صدره فجلس عليه ، فلما أبصرته ظنته ماء راكداً فكشفت عن ساقيها . وقرأ ابن كثير برواية قنبل (( سأقيها )) بالهمز حملاً على جمعه سؤوق وأسؤق . " قال إنه " إن ما تظنينه ماء . " صرح ممرد " مملس . " من قوارير " من الزجاج . " قالت رب إني ظلمت نفسي " بعبادتي الشمس ، وقيل بظني بسليمان فإنها حسبت أنه يغرقها في اللجة . " وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين " فيما أمر به عباده وقد اختلف في أنه تزوجها أو زوجها من ذي تبع ملك همدان .
44. It was said unto her: Enter the hall. And when she saw it she deemed it a pool and bared her legs. (Solomon) said: Lo! it is a hall, made smooth, of glass. She said: My Lord! Lo! I have wronged myself, and I surrender with Solomon unto Allah, the Lord of the Worlds.
44 - She was asked to enter the lofty Palace: but when she saw it, she thought it was a lake of water, and she (tucked up her skirts), uncovering her legs. He said: This is but a palace paved smooth with slabs of glass. She said: O my Lord! I have indeed wronged my soul: I do (now) submit (in Islam), with Solomon, to the Lord of the Worlds.