[الشعراء : 196] وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ
196 - (وإنه) ذكر القرآن المنزل على محمد (لفي زبر) كتب (الأولين) كالتوراة والانجيل
يقول تعالى ذكره : وإن هذا القرآن لفي زبر الأولين : يعني في كتب الأولين . وخرج مخرج العموم ومعناه الخصوص، وإنما هو : وإن هذا القرآن لفي بعض زبر الأولين ، يعني : أن ذكره وخبره في بعض ما نزل من الكتب على بعض رسله . وقوله " أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل " يقول تعالى ذكره : أو لم يكن لهؤلاء المعرضين عما يأتيك يا محمد من ذكر ربك ، دلالة على أنك رسول رب العالمين ، أن يعلم حقيقة ذلك وصحته علماء بني إسرائيل . وقيل : عني بعلماء بني إسرائيل في هذا الموضع : عبدالله بن سلام ومن أشبهه ممن كان قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل في عصره .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل "قال : كان عبدالله بن سلام من علماء بني إسرائيل ، وكان من خيارهم ، فآمن بكتاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم الله : أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل وخيارهم .
حدني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ،عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله " علماء بني إسرائيل " قال : عبدالله بن سلام وغيره من علمائهم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، "أو لم يكن لهم آية " قال محمد : " أن يعلمه " قال : يعرفه " علماء بني إسرائيل " .
قال ابن جريج : قال مجاهد : علماء بني إسرائيل : عبدالله بن سلام ، وغيره من علمائهم .
حدثنا الحسن ، قال أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله " أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل " قال : أو لم يكن للنبي آية ، علامة أن علماء بني إسرائيل كانوا يعلمون أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم . وقوله " ولو نزلناه على بعض الأعجمين " يقول تعالى ذكره : ولو نزلنا هذا القرآن على بعض البهائم التي لا تنطق . وإنما قيل على بعض الأعجمين ، ولم يقل على بعض الأعجميين ، لأن العرب تقول إذا نعتت الرجل بالعجمة وأنه لا يفصح بالعربية : هذا رجل أعجم ، وللمرأة : هذه امرأة عجماء ، وللجماعة : هؤلاء قوم عجم وأعجمون ، وإذا أريد هذا المعنى وصف به العربي والأعجمي ، لأنه إنما يعني أنه غير فصيح اللسان ، وقد يكون كذلك وهو من العرب ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :
من وائل لا حي يعدلهم من سوقة عرب ولا عجم
فأما إذا أريد به نسبة الرجل إلى أصله من العجم ، لا وصفه بأنه غير فصيح اللسان ، فإنه يقال : هذا رجل عجمي ، وهذان رجلان عجميان ، وهؤلاء قوم عجم ، كما يقال : عربي ، وعربيان ، وقوم عرب . وإذا قيل : هذا رجل أعجمي ، فإنما نسب إلى نفسه كما يقال للأحمر : هذا أحمري ضخم ، وكما قال العجاج :
والدهر بالإنسان دواري
ومعناه : دوار ، فنسبه إلى فعل نفسه .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا عبد الأعلى ، قال : ثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : كنت واقفا إلى جنب عبدالله بن مطيع بعرفة ، فتلا هذه الآية " ولو نزلناه على بعض الأعجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين " قال : لو نزل على بعيرى هذا فتكلم به ما آمنوا به " لقالوا لولا فصلت آياته " فصلت : 44 حتى يفقه عربي وعجمي ، لو فعلنا ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : كان عبدالله بن مطيع واقفا بعرفة ، فقرأ هذه الآية " ولو نزلناه على بعض الأعجمين " فقرأه عليهم ، قال : فقال : جملي هذا أعجم ، فلو أنزل على هذا ما كانوا به مؤمنين .
وروي عن قتادة في ذلك ما :
حدثنا الحسن، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة " ولو نزلناه على بعض الأعجمين " قال : لو نزله الله أعجميا كانوا أخسر الناس به ، لأنهم لا يعرفون بالعجمية .
وهذا الذي ذكرناه عن قتادة قول لا وجه له ، لأنه وجه الكلام أن معناه : ولو أنزلناه أعجميا ، وإنما التنزيل " ولو نزلناه على بعض الأعجمين " يعني : ولو نزلنا هذا القرآن العربي على بهيمة من العجم أو بعض ما لا يفصح ولم يقل : ولو نزلناه أعجميا ، فيكون تأويل الكلام ما قاله .
وقوله " فقرأه عليهم " يقول : فقرأ هذا القرآن على كفار قومك يا محمد الذين ختمت عليهم أن لا يؤمنوا ذلك الأعجم ما كانوا به مؤمنين : يقول : لم يكونوا ليؤمنوا به ، لما قد جرى لهم في سابق علمي من الشقاء . وهذا تسلية من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن قومه ، لئلا يشتد وجده بإدبارهم عنه ، وإعراضهم عن الاستماع لهذا القرآن ، لأنه كان صلى الله عليه وسلم شديدا حرصه على قبولهم منه ، والدخول فيما دعاهم إليه ، حتى عاتبه ربه على شدة حرصه على ذلك منهم ، فقال له : " لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين " الشعراء : 3 ثم قال مؤيسه من إيمانهم وأنهم هالكون ببعض مثلاته ، كما هلك بعض الأمم الذين قص عليهم قصصهم في هذه السورة : ولو نزلناه على بعض الأعجمين يا محمد لا عليك ، فإنك رجل منهم ، ويقولون لك : ما أنت إلا بشر مثلنا وهلا نزل به ملك ، فقرأ ذلك الأعجم عليهم هذا القرآن ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق وأنه تنزيل من عندي ، ما كانوا به مصدقين ، فخفض من حرصك على إيمانهم به . ثم وكد تعالى ذكره الخبر عما قد حتم على هؤلاء المشركين ، الذين آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من إيمانهم من الشقاء والبلاء ، فقال : كما حتمنا على هؤلاء أنهم لا يؤمنون بهذا القرآن " ولو نزلناه على بعض الأعجمين " فقرأه عليهم " كذلك سلكناه " التكذيب والكفر " في قلوب المجرمين " ويعني بقوله : سلكنا : أدخلنا ، والهاء في قوله " سلكناه " كناية من ذكر قوله " ما كانوا به مؤمنين " ،كأنه قال : كذلك أدخلنا في قلوب المجرمين ترك الإيمان بهذا القرآن .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله " كذلك سلكناه " قال : "الكفر " في قلوب المجرمين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " كذلك سلكناه في قلوب المجرمين * لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم " .
حدثني على بن سهل ، قال : ثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن سفيان ، عن حميد ، عن الحسن ، في هذه الآية " كذلك سلكناه في قلوب المجرمين " قال : خلقناه .
قال : ثنا زيد ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، قال : سألت الحسن في بيت أبي خليفة ، عن قوله " كذلك سلكناه في قلوب المجرمين " قال : الشرك سلكه في قلوبهم ، وقوله " لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم " يقول : فعلنا ذلك بهم لئلا يصدقوا بهذا القرآن ، حتى يروا العذاب الأليم في عاجل الدنيا ، كما رأت ذلك الأمم الذي قص الله قصصهم في هذه السورة . ورفع قوله " لا يؤمنون " لأن العرب من شأنها إذا وضعت في موضع مثل هذا الموضع لا ربما جزمت ما بعدها ، وربما رفعت فتقول : ربطت الفرس لا تنفلت ، وأحكمت العقد لا ينحل جزما ورفعا. وإنما تفعل ذلك لأن تأويل ذلك : إن لم أحكم العقد انحل ، فجزمه على التأويل ، ورفعه بأن الجازم غير ظاهر . ومن الشاهد على الجزم في ذلك قول الشاعر :
لو كنت إذ جئتنا حاولت رؤيتنا أو جئتنا ماشيا لا يعرف الفرس
وقول الآخر :
لطالما حلأتماها لا ترد فخلياها والسجال تبترد
قوله تعالى : " وإنه لفي زبر الأولين " أي وإن ذكر نزوله لفي كتب الأولين يعني الأنبياء . وقيل : أي إن ذكر محمد عليه السلام في كتب الأولين . كما قال تعالى : " يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " [ الأعراف : 157] والزبر الكتب الواحد زبور كرسول ورسل ، وتقدم .
يقول تعالى: وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه, كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك حتى قام آخرهم خطيباً في ملئه بالبشارة بأحمد "وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" والزبر ههنا هي الكتب, وهي جمع زبور, وكذلك الزبور وهو كتاب داود, وقال الله تعالى: "وكل شيء فعلوه في الزبر" أي مكتوب عليهم في صحف الملائكة, ثم قال تعالى: "أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل" أي أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها, والمراد العدول منهم الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته, كما أخبر بذلك من آمن منهم, كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي عمن أدركه منهم ومن شاكلهم, قال الله تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي" الاية.
ثم قال تعالى مخبراً عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن: أنه لو نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به, ولهذا قال " ولو نزلناه على بعض الأعجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين " كما أخبر عنهم في الاية الأخرى " ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا " الاية, وقال تعالى: "ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى" الاية, وقال تعالى: "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون" الاية.
196- "وإنه لفي زبر الأولين" أي إن هذا القرآن باعتبار أحكامه التي أجمعت عليها الشرائع في كتب الأولين من الأنبياء، والزبر الكتب، الواحد زبور، وقد تقدم الكلام على تفسير مثل هذا. وقيل الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد بكون القرآن في زبر الأولين أنه مذكور فيها هو نفسه، لا ما اشتمل عليه من الأحكام، والأول أولى.
196- "وإنه"، أي: ذكر إنزال القرآن، قاله أكثر المفسرين. وقال مقاتل: ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته، "لفي زبر الأولين".
196 -" وإنه لفي زبر الأولين " وإن ذكره أو معناه لفي الكتب المتقدمة .
196. And lo, it is in the Scriptures of the men of old.
196 - Without doubt it is (announced) in the mystic Books of former peoples.