[الشعراء : 191] وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
191 - (وإن ربك لهو العزيز الرحيم)
القول في تأويل قوله تعالى : " وإن ربك لهو العزيز الرحيم " .
قوله تعالى : " وإن ربك لهو العزيز الرحيم " .
يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها, تشابهت قلوبهم حيث قالوا "إنما أنت من المسحرين" يعنون من المسحورين كما تقدم "وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين" أي تتعمد الكذب فيما تقوله لا أن الله أرسلك إلينا "فأسقط علينا كسفاً من السماء" قال الضحاك : جانباً من السماء. وقال قتادة : قطعاً من السماء. وقال السدي : عذاباً من السماء. وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى: "وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً" إلى أن قالوا "أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً" وقوله "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء" الاية, وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة "فأسقط علينا كسفاً من السماء" الاية, "قال ربي أعلم بما تعملون" يقول: الله أعلم بكم, فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به, وهو غير ظالم لكم, وهكذا وقع بهم جزاء كما سألوا جزاء وفاقاً, ولهذا قال تعالى: "فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم" وهذا من جنس ما سألوه من إسقاط الكسف عليهم, فإن الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام, لا يكنهم منه شيء, ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم, فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر, فلما اجتمعوا كلهم تحتها, أرسل الله تعالى عليهم منها شرراً من نار ولهباً ووهجاً عظيماً, ورجفت بهم الأرض, وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم, ولهذا قال تعالى: "إنه كان عذاب يوم عظيم".
وقد ذكر الله تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن, كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين, وذلك لأنهم قالوا "لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا" فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه فأخذتهم الرجفة, وفي سورة هود قال "فأخذتهم الصيحة" وذلك لأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم "أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد" قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء, فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم, فقال "فأخذتهم الصيحة" الاية, وههنا قالوا "فأسقط علينا كسفاً من السماء" الاية, على وجه التعنت والعناد, فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه "فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم".
قال قتادة : قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شيء, ثم إن الله تعالى أنشأ لهم سحابة, فانطلق إليها أحدهم فاستظل بها فأصاب تحتها برداً وراحة, فأعلم بذلك قومه فأتوها جميعاً فاستظلوا تحتها فأججت عليهم ناراً, وهكذا روي عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : بعث الله إليهم الظلة حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة وأحمى عليهم الشمس, فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى, وقال محمد بن كعب القرظي : إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب: أخذتهم الرجفة في دارهم حتى خرجوا منها, فلما خرجوا منها أصابهم فزع شديد, ففرقوا أن يدخلوا إلى البيوت فتسقط عليهم, فأرسل الله عليهم الظلة, فدخل تحتها رجل فقال: ما رأيت كاليوم ظلاً أطيب ولا أبرد من هذا, هلموا أيها الناس, فدخلوا جميعاً تحت الظلة, فصاح بهم صيحة واحدة, فماتوا جميعاً, ثم تلا محمد بن كعب "فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم".
وقال محمد بن جرير : حدثني الحارث , حدثني الحسن , حدثني سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد , حدثنا حاتم بن أبي صغيرة , حدثني يزيد الباهلي , سألت ابن عباس عن هذه الاية "فأخذهم عذاب يوم الظلة" الاية, قال: بعث الله عليهم رعداً وحراً شديداً, فأخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت هراباً إلى البرية, فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس, فوجدوا لها برداً ولذة, فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً. قال ابن عباس : فذلك عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم " أي العزيز في انتقامه من الكافرين, الرحيم بعباده المؤمنين.
191- "وإن ربك لهو العزيز الرحيم" في هذه السورة مستوفى فلا نعيده، وفي هذا التكرير لهذه الكلمات في آخر هذه القصص من التهديد والزجر والتقرير والتأكيد ما لا يخفى على من يفهم مواقع الكلام ويعرف أساليبه.
وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم" قال: تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال وأدبار النساء. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة نحوه. وأخرجا أيضاً عن قتادة "إلا عجوزاً في الغابرين" قال: هي امرأة لوط غبرت في عذاب الله. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد ليكة قال: هي الأيكة. وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس في قوله: "كذب أصحاب الأيكة المرسلين" قال: كانوا أصحاب غيضة من ساحل البحر إلى مدين "إذ قال لهم شعيب" ولم يقل أخوهم شعيب. لأنه لم يكنمن جنسهم "ألا تتقون" كيف لا تتقون وقد علمتم أني رسول أمين لا تعتبرون من هلاك مدين وقد أهلكوا فيما يأتون، وكان أصحاب الأيكة مع ما كانوا فيه من الشرك استنوا بسنة أصحاب مدين، فقال لهم شعيب: " إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم " على ما أدعوكم إليه "من أجر" في العاجل من أموالكم " إن أجري إلا على رب العالمين " "واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين" يعني القرون الأولين الذي أهلكوا بالمعاصي ولا تهلكوا مثلهم "قالوا إنما أنت من المسحرين" يعني من المخلوقين " وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين * فأسقط علينا كسفا من السماء " يعني قطعاً من السماء "فأخذهم عذاب يوم الظلة" أرسل الله إليهم سموماً من جهنم، فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم الحر، فحميت بيوتهم وغلت مياههم في الآبار والعيون فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين، والسموم معهم، فسلط الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم فغشيتهم حتى تقلقلت فيها جماجم، وسلط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم، ثم نشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء، فلما رأوها ابتدروا يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا جميعاً أطبقت عليهم فهلكوا ونجى الله شعيباً والذين آمنوا معه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضاً أنه سئل عنه قوله: "فأخذهم عذاب يوم الظلة" قال: بعث الله عليهم حراً شديداً فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا أجواف البيوت فدخل عليهم أجوافها فأخذ بأنفسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى الرية، فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس فوجدوا لها برداً ولذة، فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا جتمعوا تحتها أسقط الله عليهم ناراً، فذلك عذاب يوم الظلة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضاً قال: من حدثك من العلماء عذاب يوم الظلة فكذبه. أقول: فما نقول له رضي الله عنه فيما حدثنا به من ذلك مما نقلناه عنه ها هنا؟ ويمكن أن يقال إنه لما كان هو البحر الذي علمه الله تأويلكتابه بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم كان مختصاً بمعرفة هذا الحديث دون غيره من أهل العلم، فمن حدث بحديث عذاب الظلة على وجه غير هذا الوجه الذي حدثنا به فقد وصانا بتكذيبه، لأنه قد علمه ولم يعلمه غيره.
191- "وإن ربك لهو العزيز الرحيم".
191 -" وإن ربك لهو العزيز الرحيم " هذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديداً للمكذبين به ، وإطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به ، واقتراحهم له استهزاء وعدم مبالاة به يدفع أن يقال إنه كان بسبب اتصالات فلكية أو كان ابتلاء لهم لا مؤاخذة على تكذيبهم .
191. And lo! thy Lord! He is indeed the Mighty, the Merciful.
191 - And verily thy Lord is He, the Exalted in Might, Most Merciful.