[الفرقان : 67] وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا
67 - (والذين إذا أنفقوا) على عيالهم (لم يسرفوا ولم يقتروا) بفتح أوله وضمه أي يضيقوا (وكان) إنفاقهم (بين ذلك) الإسراف والإقتار (قواما) وسطا
يقول تعالى ذكره : والذين إذا أنفقوا أموالهم . لم يسرفوا في إنفاقها .
ثم اختلف أهل التأويل في النفقة التي عناها الله في هذا الموضع ، وما الإسراف فيها والإقتار ، فقال تعضهم : الإسراف : ما كان من نفقة في معصية الله وإن قتب . قال وإياها عنى الله ، و سماها إسرافا . قالوا : والإقتار : المنع من حق الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا وكان بين ذلك قواما " قال : هم المؤمنون لا يسرفون فينفقون في معصية الله ، ولا يقترون فيمنعون حقوق الله تعالى .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله ما كان مسرفا ، ولو أنفقت صاعا في معصية الله كان سرفا .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال قوله " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " قال : في النفقة فيما نهاهم وإن كان درهما واحدا ، ولم يقتروا ولم يقصروا عن النفقة في الحق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " قال : لم يسرفوا فينفقوا في معاصي الله ، كل ما أنفق في معصية الله و إن قل فهو إسراف ، ولم يقتروا فيمسكوا عن طاعة الله ، قال : و ما أمسك عن طاعة الله و إن كثر فهو أقتار .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني إبراهيم بن نشيط ، عن عمر مولى غفرة أنه سئل عن الإسراف ما هو ؟ قال : كل شيء أنفقه في غير طاعة الله سرف .
وقال آخرون : السرف : المجاوزة في النفقة الحد ، والإقتار : التقصير عن الذي لا بد منه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عبد السلام بن حرب ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قوله " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " قال : لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف .
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن يزيد بن خنيس أبو عبد الله المخزومي المكي ، قال : سمعت وهيب بن الورد أبي الورد مولى بن مخزوم ، قال : لقي عالم عالما هو فوقه في العلم ، فقال : يرحمك الله أخبرني عن هذا البناء الذي لا إسراف فيه ما هو ؟ قال : هو ما سترك من الشمس ، و أكنك من المطر ، قال : يرحمك الله ،فأخبرني عن هذا الطعام الذي نصيبه لا إسراف فيه ما هو ؟ قال : ما سد الجوع ودون الشبع ، قال : يرحمك الله ، فأخبرني عن هذا اللباس الذي لا إسراف فيه ما هو ؟ قال : ما سترك عورتك ، وأدفأك من البرد .
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن شريح ، عن يزيد بن أبي حبيب ، في هذه الآية " والذين إذا أنفقوا " ... الآية ، قال : كانوا لا يلبسون ثوبا للجمال ، ولا يأكلون طعاما للذة ، ولكن كانوا يريدون من اللباس ما يسترون به عورتهم ، و يكتنون به من الحر والقر ويريدون من الطعام ما سد عنهم الجوع ، وقواهم على عبادة ربهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : ثنا كعب بن فروخ ، قال : ثنا قتادة ، عن مطرف بن عبد الله ، قال : خير هذه الأمور و أوسطها ، و الحسنة بين السيئتين ، فقلت لقتادة : ما الحسنة بين السيئتين ؟ فقال " الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " ... الآية .
وقال آخرون : الإسراف : هو أن تأكل مال غيرك بغير حق .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا سالم بن سعيد ، عن أبي معدان ، قال : كنت عند عون بن عبد الله بن عتبة ، فقال : ليس المسرف من يأكل ماله ، إنما المسرف من يأكل مال غيره .
قال : أبو جعفر ، والصواب من القول في ذلك ، قول من قال: الإسراف في النفقة الذي عناه الله في هذا الموضع : ما جاوز الحد الذي أباحة الله لعباده إلى ما فوقه ، و الإقتار في النفقة مرخصا فيهما ما كانا مذمومين ، ولا كان المسرف ولا المقتر مذموما ، لأن ما أذن الله في فعله فغير مستحق فاعله الذم .
فإن قال قائل : فهل لذلك من حد معروف تبينه لنا ؟ قيل : نعم ، ذلك مفهوم في كل شيء من المطاعم والمشارب و الملابس و الصدقة و أعمال البر و غير ذلك ، نكره تطويل الكتاب بذكر كل نوع من ذلك مفصلا ، غير أن جملة ذلك هة ما بينا ، و ذلك نحو أكل آكل من الطعام فوق الشبع ما يضعف بدنه ، و ينهك قواه ، و يشغله عن طاعة ربه ، و أداء فرائضه ، فذلك من السرف ،و أن يترك الأكل وله إليه سبيل حتى يضعف ذلك جسمه ، و ينهك قواه ، و يضعفه عن أداء فرائض ربه ، فذلك من الإقتار ، و بين ذلك القوام على هذا النحو ، كل ما جانس ما ذكرنا . فأما اتخاذ الثوب للجمال ، يلبسه عند اجتماعه من الناس ، و حضوره المحافل و الجمع و الأعياد ، دون ثوب مهنته ، أو أكله من الطعام ما قواه على عبادة ربه ، مما ارتفع عما قد يسد الجوع ، مما هو دونه من الأغذية ، غير أنه لا يعين البدن على القيام لله بالواجب معونته ، فذلك خارج عن معنى الإسراف ، بل ذلك من القوام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ببعض ذلك ،و حض على بعضه ، كقوله ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين : ثوبا لمهنته ، وثوبا لجمعته و عيده و كقوله إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن يرى أثره عليه ، و ما أشبه ذلك من الأخبار التي قد بيناها في مواضعها .
و أما قوله " وكان بين ذلك قواما " فإنه النفقة بالعدل والمعروف ، على ما قد بينا .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي سليمان ، عن وهب بن منبه ، في قوله " وكان بين ذلك قواما " قال : الشطر من أموالهم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله " وكان بين ذلك قواما " النفقة بالحق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " وكان بين ذلك قواما " قال : القوام : أن ينفقوا في طاعة الله ، و يمسكوا عن محارم الله .
قال : أخبرني إبراهيم بن نشيط ، عن عمر ، مولى غفرة ، قال : قلت له : ما القوام ؟ قال : القوام : أن لا ينفق في غير حق ، ولا تمسك عن حق هو عليك . والقوام في كلام العرب ، بفتح القاف ، و هو الشيء بين الشيئين ، تقول للمرأة المعتدلة الخلق : إنها لحسنة القوام في اعتدالها ، كما قال الحطيئة :
طافت أمامة بالركبان آونة يا حسنة من قوام ما ومنتقبا
فأما إذا كسرت القاف فقلت : إنه قوام أهله ، فإنه يعني به : أن به يقوم أمرهم و شأنهم . وفيه لغات أخر ، يقال منه : هو قيام أهله و قيمهم في معنى قوامهم . فمعنى قوامهم . فمعنى الكلام : وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواما معتدلا ، ولا مجاوزة عن حد الله ، ولا تقصيرا عما فرضه الله ، ولكن عدلا بين ذلك على ما أباحة جل ثناؤه ، وأذن فيه و رخص .
و اختلف القراء في قراءة قوله " ولم يقتروا " فقرأته عامة قراء المدينة ولم يقتروا بضم الياء و كسر التاء من أقتر يقتر . و قرأته عامة قراء الكوفيين " ولم يقتروا " بفتح الياء وضم التاء من قتر يقتر . و قرأته عامة قراء البصرة ولم يقتروا بفتح الياء وكسر التاء من قتر يقتر .
والصواب من القول في ذلك ، أن كل هذه القراءات على اختلاف ألفاظها لغات مشهورات في العرب ، و قراءات مستفيضات في قراء الأمصار بمعنى واحد ، فبأيتها قرأ القارئ فمصيب .
وقد بينا معنى الإسراف و الإقتار بشواهدهما فيما مضى في كتابنا في كلام العرب ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . و في نصب القوام وجهان : أحدهما ما ذكرت ، هو أن يجعل في كان اسم الإنفاق بمعنى : و كان إنفاقهم ما أنفقوا بين ذلك قواما : أي عدلا ، و الآخر أن يجعل بين هو الاسم ، فتكون و إن كانت في اللفظة نصبا في معنى رفع ، كما دون هذا لك كافيا ، يعني به : أقل من هذا كان لك كافيا ، فكذلك يكون في قوله " وكان بين ذلك قواما " لأن معناه : و كان الوسط من ذلك قواما .
قوله تعالى : " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا " اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية . فقال النحاس : ومن أحسن ما قيل في معناه أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف ومن أمسك عن طاعة الله عز وجل فهو الإقتار ، ومن أنفق في طاعة الله تعالى فهو القوام . قال ابن عباس : من أنفق مائة ألف في حق فليس بسرف ، ومن أنفق درهماً في غير حقه فهو سرف ، ومن منع من حق عليه فقد قتر . وقاله مجاهد و ابن زيد وغيرهما . وقال عون بن عبد الله : الإسراف أن تنفق مالك غيرك . قال ابن عطية : وهذا ونحوه غير مرتبط بالآية ، والوجه أن يقال : إن النفقة في معصية أمر حظرت الشريعة قليلة وكثيره وكذلك التعدي على مال الغير ، وهؤلاء الموصوفون منزهون عن ذلك ، وإنما التأديب في هذه الآية هو في نفقة الطاعات في المباحات ، فأدب الشرع فيها ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقاً آخر أو عيالاً ونحو هذا ، وألا يضيق أيضاً ويقتر حتى يجيع العيال ويفرط في الشح ، و الحسن في ذلك هو القوام ، أي العدل ، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله ، وخفة ظهره وصبره وجلده على الكسب ، أو ضد هذه الخصال ، وخير الأمور أوساطها ، ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أن يتصدق بجميع ماله ، لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين ، ومنع غيره من ذلك ونعم ما قال إبراهيم النخعي : هو الذي لا يجيع ولا يعرى ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف . وقال يزيد بن أبي حبيب : هم الذين لا يلبسون الثياب لجمال ، ولا يأكلون طعاماً للذة . وقال يزيد أيضاً في هذه الآية : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثياباً للجمال ، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم ، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والبرد . وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة : ما نفقتك ؟ فقال له عمر : الحسنة بين سيئتين ، ثم تلا هذه الآية . وقال عمر بن الخطاب : كعى بالمرء سرفاً ألا يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله . وفي سنن ابن ماجه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت " وقال أبو عبيدة : لم يزيدوا علي المعروف ولم يبخلوا . كقوله تعالى : " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " [ الإسراء : 29 ] وقال الشاعر :
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر :
إذا المرء أعطى كل ما اشتهت ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي دعنه من حلاوة عاجل
وقال عمر لابنه عاصم : يا بني ، كل في نصف بطنك ، ولا تطرح ثوباً حتى تستخلقه ، ولا تكن من قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم . ولحاتم طي :
إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
" ولم يقتروا " قرأ حمزة و الكسائي و الأعمش و عاصم و يحيى بن وثاب على اختلاف عنهما " يقتروا " بفتح الياء وضم التاء ، وهي قراءة حسنة ، من قبر يقتر . وهذا القياس في اللازم ، مثل قعد يقعد . وقرأ أبو عمرو بن العلاء و ابن كثير بفتح الياء وكسر التاء . قال الثعلبي : كلها لغات صحيحة . النحاس : وتعجب أبو حاتم من قراءة أهل المدينة هذه ، لأن أهل المدينة عنده لا يقع في قراءتهم الشاذ ، وإنما يقال : أقتر يقتر إذا افتقر ، كما قال عز وجل : " وعلى المقتر قدره " [ البقرة : 236] وتأول ابو حاتم لهم أن المسرف يفتقر سريعاً . وهذا تأويل بعيد ، ويكن التأويل لهم أن أبا عمر الجرمي حكى عن الأصمعي أنه يقال للإنسان إذا ضيق : فتر يقتر ويقتر ، وأقتر يقتر . فعلى هذا تصح القراءة ، وإن كان فتح الياء وأصح وأقرب متناولاً ، وأشهر وأعرف . وقرأ أبو عمرو والناس " قواماً " بفتح القاف ، ويعني عدلاً . وقرأ حسان بن عبد الرحمن : " قواما " بكسر القاف ، أي مبلغاً وسداداً وملاك حال . والقوام بكسر القاف : ما يدوم عليه الأمر ويستقر . قيل : هما لغتان بمعنى . " قواما " خبر كان ، واسمها مقدر فيها ، أي كان إنفاق بين الإسراف والقتر قواماً ، قاله الفراء . وله قول آخر يجعل "بين " اسم كان وينصبها ، لان هذه الألفاظ كثير استعمالها فتركت على حالها في موضع الرفع . قال النحاس : ما أدري ما وجه هذا ، لأن " بينا " إذا كان في موضع رفع رفعت ، كما يقال : بين عينيه أحمر .
هذه صفات عباد الله المؤمنين "الذين يمشون على الأرض هوناً" أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار, كقوله تعالى: "ولا تمش في الأرض مرحاً" الاية, فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح, ولا أشر ولا بطر, وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياء, فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب, وكأنما الأرض تطوى له, وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع, حتى روي عن عمر أنه رأى شاباً يمشي رويداً, فقال: ما بالك أأنت مريض ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين, فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة, وإنما المراد بالهون هنا السكينة والوقار, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون, وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا, وما فاتكم فأتموا".
وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن البصري في قوله "وعباد الرحمن" الاية, قال: إن المؤمنين قوم ذلل, ذلت منهم ـ والله ـ الأسماع والأبصار والجوارح, حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض, وإنهم والله أصحاء, ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم, ومنعهم من الدنيا علمهم بالاخرة, فقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن, أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس, ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة, ولكن أبكاهم الخوف من النار, إنه من لم يتعز بعزاء الله, تقطع نفسه على الدنيا حسرات, ومن لم ير لله نعمةً إلا في مطعم أو مشرب, فقد قل علمه وحضر عذابه.
وقوله تعالى: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء لم يقابلوهم عليه بمثله, بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيراً, كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلماً, وكما قال تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه" الاية. وروى الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر , حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي خالد الوالبي , عن النعمان بن مقرن المزني قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسب رجل رجلاً عنده, فجعل قال: المسبوب يقول: عليك السلام, الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إن ملكاً بينكما يذب عنك, كلما شتمك هذا قال له: بل أنت وأنت أحق به, وإذا قلت له وعليك السلام, قال: لا بل عليك وأنت أحق به". إسناده حسن, ولم يخرجوه.
وقال مجاهد "قالوا سلاماً" يعني قالوا سداداً. وقال سعيد بن جبير : ردوا معروفاً من القول. وقال الحسن البصري : "قالوا سلاماً" حلماء لا يجهلون إن جهل عليهم حلموا, يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون, ثم ذكر أن ليلهم خير ليل, فقال تعالى: "والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً" أي في طاعته وعبادته, كما قال تعالى: " كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون " وقوله "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" الاية, وقال تعالى: " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " الاية, ولهذا قال تعالى: "والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً" أي ملازماً دائماً, كما قال الشاعر:
إن يعذب يكن غراماً, وإن يعط جزيلاً, فإنه لا يبالي
ولهذا قال الحسن في قوله "إن عذابها كان غراماً" كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه, فليس بغرام, وإنما الغرام الملازم ما دامت السموات والأرض, وكذا قال سليمان التيمي . وقال محمد بن كعب "إن عذابها كان غراماً" يعني ما نعموا في الدنيا, إن الله تعالى سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه, فأغرمهم فأدخلهم النار "إنها ساءت مستقراً ومقاماً" أي بئس المنزل منظراً, وبئس المقيل مقاماً, وقال ابن أبي حاتم عند قوله "إنها ساءت مستقراً ومقاماً" حدثنا أبي , حدثنا الحسن بن الربيع , حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: إذا طرح الرجل في النار هوى فيها, فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل له: مكانك حتى تتحف, قال: فيسقى كأساً من سم الأساود والعقارب, قال: فيميز الجلد على حدة, والشعر على حدة, والعصب على حدة, والعروق على حدة. وقال أيضاً: حدثنا أبي , حدثنا الحسن بن الربيع , حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مجاهد , عن عبيد بن عمير قال: إن في النار لجباباً فيها حيات أمثال البخت, وعقارب أمثال البغال الدلم, فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها, فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم, فكشطت لحومهم إلى أقدامهم, فإذا وجدت حر النار رجعت.
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى , حدثنا سلام يعني ابن مسكين , عن أبي ظلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن عبداً في جهنم لينادي ألف سنة: يا حنان يا منان, فيقول الله عز وجل لجبريل: اذهب فأتني بعبدي هذا, فينطلق جبريل فيجد أهل النار مكبين يبكون, فيرجع إلى ربه عز وجل فيخبره, فيقول الله عز وجل, ائتني به, فإنه في مكان كذا وكذا, فيجيء به فيوقفه على ربه عز وجل, فيقول له: يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك ؟ فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل, فيقول الله عز وجل, ردوا عبدي, فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها, فيقول الله عز وجل, دعوا عبدي".
وقوله تعالى: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا" الاية, أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم, فيصرفون فوق الحاجة, ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم, بل عدلاً خياراً, وخير الأمور أوسطها, لا هذا ولا هذا, "وكان بين ذلك قواماً" كما قال تعالى "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" الاية, وقال الإمام أحمد : حدثنا عصام بن خالد , حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني , عن ضمرة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من فقه الرجل رفقه في معيشته". ولم يخرجوه. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو عبيدة الحداد , حدثنا مسكين بن عبد العزيز العبدي , حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص , عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما عال من اقتصد" لم يخرجوه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن يحيى , حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون , حدثنا سعيد بن حكيم عن مسلم بن حبيب عن بلال ـ يعني العبسي ـ عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أحسن القصد في الغنى, وأحسن القصد في الفقر, وأحسن القصد في العبادة" ثم قال: لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه. وقال الحسن البصري : ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله تعالى, فهو سرف. وقال غيره: السرف النفقة في معصية الله عز وجل.
فقال: 67- "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا" قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب "يقتروا" بفتح التحتية وضم الفوقية، من قتر يقتر كقعد يقعد، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح التحتية وكسر التاء الفوقية، وهي لغة معروفة حسنة، وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية وكسر الفوقية. قال أبو عبيدة: يقال قتر الرجل على عياله يقتر ويقتر قتراً، وأقتر يقتر إقتاراً، معنى الجميع: التضييق في الإنفاق. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معنى الآية: إن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام. وقال إبراهيم النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يعري، ولا ينفق نفقة، يقول الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب: أولئك أصحاب محمد كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة الله، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويقيهم الحر والبرد. وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف، ولم يبخلوا كقوله: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" قرأ حسان بن عبد الرحمن "وكان بين ذلك قواماً" بكسر القاف، وقرأ الباقون بفتحها، فقيل هما بمعنى، وقيل القوام بالكسر: ما يدوم عليه الشيء ويستقر، وبالفتح: العدل والاستقامة، قاله ثعلب. وقيل بالفتح: العدل بين الشيئين، وبالكسر: ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص. وقيل بالكسر: السداد والمبلغ، واسم كان مقدر فيها: أي كان إنفاقهم بين ذلك وتبنى بين على الفتح لأنها من الظروف المفتوحة. وقال النحاس: ما أدري ما وجه هذا، لأن بين إذا كانت في موضع رفع رفعت.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " وكان الكافر على ربه ظهيرا " يعني أبا الحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل بن هشام. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: "قل ما أسألكم عليه من أجر" قال: قل لهم يا محمد: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من أجر، يقول عرض من عرض الدنيا. وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عنه أيضاً في قوله: "تبارك الذي جعل في السماء بروجاً" قال: هي هذه الإثنا عشر برجاً: أولها: الحمل، ثم الثور، ثم الجوزاء، ثم السرطان، ثم الأسد، ثم السنبلة، ثم الميزان، ثم العقرب، ثم القوس، ثم الجدي، ثم الدلو، ثم الحوت. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة" قال: أبيض وأسود. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً يقول: ما فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار: ومن النهار أدركه بالليل. وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم عن الحسن أن عمر أطال صلاة الضحى، فقيل له صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، فقال: إنه بقي علي من وردي شيء فأحببت أن أتمه، أو قال أقضيه، وتلا هذه الآية "وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة" الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وعباد الرحمن" قال: هم المؤمنون "الذين يمشون على الأرض هوناً" قال: بالطاعة والعفاف والتواضع. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال "هوناً" علماً وحلماً. وأخرج عبد بن حميد عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن عذابها كان غراماً" قال: الدائم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا" قال: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقوا في معصية الله، ولا يقترون فيمنعوا حقوق الله.
67- "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا"، قرأ ابن كثير وأهل البصرة يقتروا بفتح الياء وكسر التاء، وقرأ أهل المدينة وابن عامر بضم الياء وكسر التاء، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم التاء، وكلها لغات صحيحة. يقال: أقتر وقتر بالتشديد، وقتر يقتر.
واختلفوا في معنى الإسراف والإقتار، فقال بعضهم: الإسراف: النفقة في معصية الله وإن قلت: والإقتار: منع حق الله تعالى. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج. وقال الحسن في هذه الآية لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عن فرائض الله.
وقال قوم: الإسراف: مجاوزة الحد في الإنفاق، حتى يدخل في حد التبذير، والإقتار: التقصير عما لا بد منه، وهذا معنى قول إبراهيم: لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف.
"وكان بين ذلك قواماً"، قصداً وسطاً بين الإسراف والإقتار، حسنة بين السيئتين.
قال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوباً للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم، ومن الثياب ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والقر.
قال عمر بن الخطاب: كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله.
67ـ " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا " لم يجاوزوا حد الكرم . " ولم يقتروا " ولم يضيقوا تضييق الشحيح . وقيل الإسراف هو الإنفاق في المحارم والتقتير منع الواجب ، وقرأ ابن كثير و أبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء و نافع و ابن عامر والكوفيون بضم الياء وكسر التاء من أقتر ، وقرئ بالتشديد والكل . " وكان بين ذلك قواماً " وسطاً عدلاً سمي به لاستقامة الطرفين كما سمي سواء لاستوائهما ، وقرئ بالكسر وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص وهو خبر ثان أو حال مؤكدة ، ويجوز أن يكون الخبر بين ذلك لغواً ، وقيل إنه اسم " كان " لكنه مبني لإضافته إلى غير متمكن وهو ضعيف لأنه بمعنى القوام فيكون كالإخبار بالشيء عن نفسه .
67. And those who, when they spend, are neither prodigal nor grudging; and there is ever a firm station between the two;
67 - Those who, when they spend, are not extravagant and not niggardly, but hold a just (balance) between those (extremes);