[النور : 58] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
58 - (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) من العبيد والإماء (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) من الأحرار وعرفوا أمر النساء (ثلاث مرات) في ثلاثة أوقات (من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة) وقت الظهر (ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم) بالرفع خبر مبتدأ مقدر بعده مضاف وقام المضاف إليه مقامه هي أوقات أو بالنصب بتقدير أوقات منصوبا بدلا من محل ما قبله قام المضاف إليه مقامه وهي لإلقاء الثياب تبدو فيها العورات (ليس عليكم ولا عليهم) المماليك والصبيان (جناح) في الدخول عليكم بغير استئذان (بعدهن) بعد الأوقات الثلاثة هم (طوافون عليكم) للخدمة (بعضكم) طائف (على بعض) والجملة مؤكدة لما قبلها (كذلك) كما بين ما ذكر (يبين الله لكم الآيات) أي الأحكام (والله عليم) بأمور خلقه (حكيم) بما دبره لهم وآية الاستئذان قيل منسوخة وقيل لا ولكن تهاون الناس في ترك الاستئذان
اختلف أهل التأويل في المعني بقوله " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " فقال بعضهم : عني بذلك : الرجال دون النساء ، ونهوا عن أن يدخلوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة هؤلاء الذين سموا في هذه الآية إلا بإذن .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن ، نافع ، عن ابن عمر ، قوله : " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " قال : هي على الذكور دون الإناث .
وقال آخرون : بل عني به الرجال والنساء .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن ، في قوله " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " قال : هي في الرجال و النساء ، يستأذنون على كل حال ، بالليل و النهار .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب : قول من قال : عني به الذكور و الإناث ، لأن الله عم بقوله " الذين ملكت أيمانكم " جميع أملاك أيماننا ، ولم يخصص منهم ذكرا ولا أنثى ، فذلك على جميع من عمه ظاهر التنزيل .
فتأويل الكلام : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، ليستأذنكم في الدخول عليكم عبيدكم و إماؤكم ، فلا يدخلوا عليكم إلا بإذن منكم لهم .
" والذين لم يبلغوا الحلم منكم " يقول : والذين لم يحتلموا من أحراركم ثلاث مرات ، يعني ثلاث مرات ، في ثلاثة أوقات من ساعات ليلكم و نهاركم .
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " قال : عبيدكم المملوكون " والذين لم يبلغوا الحلم منكم " قال : لم يحتملوا من أحراركم .
قال ابن جريج ، قال : لي عطاء بن أبي رباح : فذلك على كل صغير وصغيرة أن يستأذن ، كما قال " ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء " قالوا : هي العتمة ، قلت : فإذا وضعوا ثيابهم بعد العتمة ، استأذنوا عليهم حتى يصبحوا ؟ قال نعم : قلت لعطاء : هل استئذانهم إلا عند وضع الناس ثيابهم ؟ قال لا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن صالح بن كيسان و يعقوب بن عتبة ، و إسماعيل بن محمد ، قالوا : لا استئذان على خدم الرجل عليه ، إلا في العورات الثلاث .
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " يقول : إذا خلا الرجل بأهله بعد صلاة العشاء ، فلا يدخل عليه خادم ولا صبي إلا بإذن ، حتى يصلى الغداة ، فإذا خلا بأهله عند صلاة الظهر فمثل ذلك .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني قرة بن عبد الرحمن ، عن ابن شهاب ، عن ثعلبة ، عن أبي مالك القرظي ، أنه سأل عبد الله بن سويد الحارثي ، و كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإذن في العورات الثلاث ، فقال : إذا وضعت ثيابي من الظهيرة ، لم يلج على أحد من الخدم الذي بلغ الحلم ، ولا أحد ممن لم يبلغ الحلم من الأحرار ، إلا بإذن .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن جريج ، قال : سمعت عطاء يقول : قال ابن عباس : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله ، وقال " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " الحجرات : 13 وقال الناس : أمركم أعظمكم بيتا ، ونسيت الثالثة .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا يونس ، عن الحسن ، في هذه الآية " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " قال : كان الحسن يقول : إذا أبات الرجل خادمه معه ، فهو إذنه ، وإن لم يبته معه ، استأذن في هذه الساعات .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعد ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثني موسى بن أبي عائشة ، عن الشعبي في قوله " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " قال : لم تنسخ ، قلت : إن الناس لا يعلمون به ، قال الله المستعان .
قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن الشعبي ، وسألته عن هذه الآية " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " قلت : منسوخة هي ؟ قال : لا، و الله ما نسخت قلت : إن الناس لا يعلمون بها ، قال : الله المستعان .
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : إن ناسا يقولون نسخت ، ولكنها مما يعلمون بها ، قال : الله المستعان .
قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " ... إلى آخر الآية ، قال : لا يعمل بها اليوم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثنا حنظلة ، أنه سمع القاسم بن محمد ، يسأل عن الإذن ، فقال : يستأذن عند كل عورة ، ثم هو طواف ، يعني الرجل على أمه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عثمان بن عمر ، قال : أخبرنا عبد العزيز بن أبي رواد ، قال : أخبرني رجل من أهل الطائف ، عن غيلان بن شرحبيل ، عن عبد الرحمن بن عوف ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ، قال الله " ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم " وإنما العتمة عتمة الإبل " .
وقوله " ثلاث عورات لكم " اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة و البصرة : " ثلاث عورات لكم " برفع الثلاث ، بمعنى الخبر عن هذه الأوقات التي ذكرت ، كأنه عندهم قيل : هذه الأوقات الثلاثة التي أمرناكم بأن لا يدخل عليكم فيها من ذكرنا إلا بإذن ،ثلاث عورات لكم ، لأنكم تضعون فيها ثيابكم ، و تخلون بأهليكم . و قرأ ذلك عامة قراء الكوفة ثلاث عورات بنصب الثلاث على الرد على الثلاث الأولى . وكأن معنى الكلام عندهم : ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ، والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات ، ثلاث عورات لكم .
والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، و قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
وقوله " ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم " يقول تعالى ذكره : ليس عليكم معشر أرباب البيوت والمساكن ، ولا عليهم ، يعني : ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال و النساء ، و الذين لم يبلغوا الحلم من أولادكم الصغر حرج ولا إثم بعدهن ، يعني بعد العورات الثلاث ، و الهاء والنون في قوله " بعدهن " عائدتان على الثلاث من قوله " ثلاث عورات لكم " ، وإنما يعني بذلك أنه لا حرج ولا جناح على الناس ، أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون ، و صبيانهم الصغار بغير إذن بعد هذه الأوقات الثلاث ، اللاتي ذكرهن في قوله " من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة و من بعد صلاة العشاء " .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قال : ثم رخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن ، يعني فيما بين صلاة الغداة إلى الظهر ، و بعد الظهر إلى صلاة العشاء ، أنه رخص لخادم الرجل والصبي أن يدخل عليه منزله بغير إذن ، قال : وهو قوله " ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن " فأما من بلغ الحلم ، فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال .
وقوله " طوافون عليكم " رفع الطوافون بضمير ، و ذلك هم ، يقول لهؤلاء المماليك و الصبيان الصغار هم طوافون عليكم أيها الناس ، و يعني بالطوافين : أنهم يدخلون و يخرجون على مواليهم وأقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن ، يطوفون عليهم ، بعضكم على بعض في غير الأوقات الثلاث التي أمرهم أن لا يدخلوا على ساداتهم و أقربائهم إلا بإذن " كذلك يبين الله لكم الآيات " يقول جل ثناؤه : كما بينت لكم أيها الناس أحكام الاستئذان في هذه الآية كذلك يبين الله لكم جميع أعلامه ، وأدلته و شرائع دينه " والله عليم حكيم " يقول : و الله ذو علم بما يصلح عباده ، حكيم في تدبيره إياهم ، و غير ذلك من أموره .

فيه سبع مسائل:
الأولى: قال العلماء: هذه الآية خاصة والتي قبلها عامة، لأنه قال: " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها " ثم خص هنا فقال: " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " فخص في هذه الآية بعض المستأذنين، وكذلك أيضاً يتأول القول في الأولى في جميع الأوقات عموماً. وخص في هذه الآية بعض الأوقات، فلا يدخل فيها عبد ولا أمة. وغدا كان أو ذا منظر إلا بعد الاستئذان. قال مقاتل : نزلت في أسماء بنت مرثد، دخل عليها غلام لها كبير، فاشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه الآية. وقيل: سبب نزولها دخول مدلج على عمر، وسيأتي.
الثانية: اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: " ليستأذنكم " على ستة أقوال:
الأول: أنها منسوخة، قاله ابن المسيب وابن جبير.
الثاني: أنها ندب غير واجبة، قاله أبو قلابة، قال: إنما أمروا بهذا نظراً لهم.
الثالث: عنى بها النساء، قاله أبو عبد الرحمن السلمي. وقال ابن عمر: هي في الرجال دون النساء. وهو القول الرابع.
الخامس: كان ذلك واجباً، إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب، ولو عاد الحال لعاد الوجوب، حكاه المهدوي عن ابن عباس.
السادس: أنها محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساء، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم القاسم وجابر بن زيد و الشعبي . وأضعفها قول السلمي لأن " الذين " لا يكون للنساء في كلام العرب، إنما يكون للنساء ((اللاتي واللواتي)). وقول ابن عمر يستحسنه أهل النظر، لأن " الذين " للرجال في كلام العرب، وإن كان يجوز أن يدخل معهم النساء فإنما يقع ذلك بدليل، والكلام على ظاهره غير أن في إسناده ليث بن أبي سليم. وأما قول ابن عباس فروى أبو داود عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: آية لم يؤمر بها أكثر الناس آية الاستئذان وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي. قال أبو داود : وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس يأمر به. وروى عكرمة أن نفراً من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس، كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد، قوله الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم ". قال أبو داود : قرأ القعنبي إلى " عليم حكيم " قال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب التستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم أر أحداً يعمل بذلك بعد.
قلت: هذا متن حسن، وهو يرد قول سعيد وابن جبير، فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية، ولكن على أنها كانت على حال ثم زالت، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها. وروى وكيع عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن الشعبي " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " قال: ليست بمنسوخة. قلت: إن الناس لا يعملون بها، قال: الله عز وجل المستعان.
الثالثة: قال بعض أهل العلم: إن الاستئذان ثلاثاً مأخوذ من قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات " قال يزيد: ثلاث دفعات. قال: فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجميع. قال ابن عبد البر : ما قاله من هذا وإن كان له وجه فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها، والذي عليه جمهورهم في قوله: " ثلاث مرات " أي في ثلاث أوقات. ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها " من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ".
الرابعة: أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها، يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة، وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري. فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم ووقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار. ووقت القائلة وقت التجرد أيضاً وهي الظهيرة، لأن النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه واشتد حره. وبعد صلاة العشاء وقت التعري للنوم، فالتكشف غالب في هذه الأوقات. يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماً من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرةً ليدعوه، فوجده نائماً قد أغلق عليه الباب، فدق عليه الغلام الباب فناداه ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء، فقال عمر: وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخر ساجداً شكراً لله. وهي مكية.
الخامسة: قوله تعالى: " والذين لم يبلغوا الحلم منكم " أي الذين لم يحتلموا من أحراركم، قاله مجاهد . وذكر إسماعيل بن إسحاق كان يقول: ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم، على التقديم والتأخير، وأن الآية في الإماء. وقرأ الجمهور بضم اللام، وسكنها الحسن بن أبي الحسن لثقل الضمة. وكان أبو عمرو يستحسنها. و " ثلاث مرات " نصب على الظرف، لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثاً، إنما أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن، والظرفية في " ثلاث " بينة: من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء. وقد مضى معناه. ولا يجب أن يستأذن ثلاث مرات في كل وقت. " ثلاث عورات لكم " قرأ جمهور السبعة " ثلاث عورات " برفع " ثلاث ". وقرأ حمزة و الكسائي وأبو بكر عن عاصم " ثلاث " بالنصب على البدل من الظرف في قوله: " ثلاث مرات ". قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود. وقال الفراء : الرفع أحب إلي. قال: وإنما اخترت الرفع لأن المعنى: هذه الخصال ثلاث عورات. والرفع عند الكسائي بالابتداء، والخبر عنده ما بعده، ولم يقل بالعائد، وقال نصاً بالابتداء. قال: والعورات الساعات التي تكون فيها العورة، إلا أنه قرأ بالنصب، والنصب فيه قولان: أحدهما: أنه مردود على قوله: " ثلاث مرات "، ولهذا استبعده الفراء . وقال الزجاج : المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. و " عورات " جمع عورة، وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات (بفتح العين) كجفنة وجفنات، ونحو ذلك. وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات، لأن فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك، فأما قول الشاعر:
أبو بيضات رائح متأوب رفيق بمسح المنكبين سبوح فشاذ.
السادسة: قوله تعالى: " ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن " أي في الدخول من غير أن يستأذنوا وإن كنتم متبذلين. " طوافون " بمعنى هم طوافون. قال الفراء : كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم. وأجاز الفراء نصب " طوافون " لأنه نكرة، والمضمر في " عليكم " معرفة. ولا يجيز البصريون أن يكون حالاً من المضمرين اللذين في " عليكم " وفي " بعضكم " لاختلاف العاملين. ولا يجوز مررت بزيد ونزلت على عمرو العاقلين، على النعت لهما. فمعنى " طوافون عليكم " أي يطوفون عليكم وتطوفون عليهم، ومنه الحديث في الهرة:
" إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات ". فمنع في الثلاث العورات من دخولهم علينا، لأن حقيقة العورة كل شيء لا مانع دونه، ومنه قوله: " إن بيوتنا عورة " [الأحزاب: 13] أي سهلة للمدخل، فبين العلة الموجبة للإذن، وهي الخلوة في حال العورة، فتعين امتثاله وتعذر نسخه. ثم رفع الجناح بقوله: " ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض " أي يطوف بعضكم على بعض. " كذلك يبين الله لكم الآيات " الكاف في موضع نصب، أي يبين الله لكم آياته الدالة على متعبداته بياناً مثل ما يبين لكم هذه الأشياء. " والله عليم حكيم " تقدم.
السابعة: قوله تعالى: " ومن بعد صلاة العشاء " يريد العتمة . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم إلا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل ". وفي رواية " فإنها في كتاب الله العشاء وإنها تعتم بحلاب الإبل ". وفي البخاري عن أبي برزة:
" كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء ". وقال أنس: " أخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ". وهذا يدل على العشاء الأولى. وفي الصحيح : فصلاها، يعني العصر بين العشاءين المغرب والعشاء. وفي الموطأ وغيره: " ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً ". وفي مسلم " عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات نحواً من صلاتكم، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئاً، وكان يخف الصلاة " . قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذه أخبار متعارضة، لا يعلم منها الأول من الآخر بالتاريخ، ونهيه عليه السلام عن تسمية المغرب عشاء وعن تسمية العشاء عتمة ثابت، فلا مرد له من أقوال الصحابة فضلاً عمن عداهم. وقد كان ابن عمر يقول: من قال صلى العتمة فقد أثم. وقال ابن القاسم قال مالك : " ومن بعد صلاة العشاء " فالله سماها صلاة العشاء فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن تسمى بما سماها الله تعالى به، ويعلمها الإنسان أهله وولده، ولا يقال عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم. وقد قال حسان:
وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء
فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء
وقد قيل: إن هذا النهي عن اتباع الأعراب في تسميتهم العشاء عتمة، إنما كان لئلا يعدل بهما عما سماها الله تعالى في كتابه إذ قال: " ومن بعد صلاة العشاء "، فكأنه نهي إرشاد إلى ما هو الأولى، وليس على جهة التحريم، ولا على أن تسميتها العتمة لا يجوز. ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق عليها ذلك، وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقيل: إنما نهى عن ذلك تنزيهاً لهذه العبادة الشريفة الدينية عن أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلة دنيوية، وهي الحلبة التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت ويسمونها العتمة، ويشهد لهذا قوله:
" فإنها تعتم بحلاب الإبل ".
الثامنة: روى ابن ماجه في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمارة بن غزية عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:
" من صلى في جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله له بها عتقاً من النار ". وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله ". وروى الدارقطني في سننه عن سبيع أو تبيع عن كعب قال: من توضأ فأحسن الوضوء وصلى العشاء الآخرة وصلى بعدها أربع ركعات فأتم ركوعهن وسجودهن ويعلم ما يقترىء فيهن كن له بمنزلة ليلة القدر.
هذه الايات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض, وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض, فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال (الأول) من قبل صلاة الغداة, لأن الناس إذ ذاك يكونون نياماً في فرشهم "وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة" اي في وقت القيلولة, لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله "ومن بعد صلاة العشاء" لأنه وقت النوم, فيؤمر الخدم والأطفال أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله أو نحو ذلك من الأعمال, ولهذا قال "ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن" أي إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال, فلا جناح عليكم في تمكينكم من ذلك إياهم ولا عليهم إن رأوا شيئاً في غير تلك الأحوال.لأنه قد أذن لهم في الهجوم, ولأنهم طوافون عليكم اي في الخدمة وغير ذلك. ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم, ولهذا روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم أو والطوافات". ولما كانت هذه الاية محكمة ولم تنسخ بشيء وكان عمل الناس بها قليلاً جداً, أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس.
كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير , حدثني عبد الله بن لهيعة , حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس : ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" إلى آخر الاية, والاية التي في سورة النساء "وإذا حضر القسمة أولو القربى" الاية, والاية في الحجرات "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" وروى أيضاً من حديث إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف, عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات فلم يعملوا بهن "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" إلى آخر الاية.
وروى أبو داود : حدثنا ابن الصباح وابن سفيان وابن عبدة وهذا حديثه: أخبرنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: لم يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن, وإني لامر جاريتي هذه تستأذن علي. قال أبو داود : وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس يأمر به, وقال الثوري عن موسى بن أبي عائشة : سألت الشعبي "ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" ؟ قال: لم تنسخ. قلت: فإن الناس لا يعملون بها. فقال: الله المستعان.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان , حدثنا ابن وهب , أخبرنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو , عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن, فقال ابن عباس : إن الله ستير يحب الستر. كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم, ولا حجال في بيوتهم, فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله, فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله. ثم جاء الله بعد بالستور, فبسط الله عليهم الرزق, فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال, فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس , ورواه أبو داود عن القعنبي عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو به.
وقال السدي : كان أناس من الصحابة رضي الله عنهم يحبون أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة, فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن, وقال مقاتل بن حيان : بلغنا ـ والله أعلم ـ أن رجلاً من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فجعل الناس يدخلون بغير إذن, فقالت أسماء : يا رسول الله ما أقبح هذا, إنه ليدخل على المرأة وزوجها ـ وهما في ثوب واحد ـ غلامهما بغير إذن, فأنزل الله في ذلك "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" إلى آخرها, ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ قوله " كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " ثم قال تعالى: "وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم" يعني إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث, إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال, يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته, وإن لم يكن في الأحوال الثلاث.
قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير : إذا كان الغلام رباعياً, فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه, فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال. وهكذا قال سعيد بن جبير . وقال في قوله "كما استأذن الذين من قبلهم" يعني كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه. وقوله "والقواعد من النساء" قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والضحاك وقتادة : هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد "اللاتي لا يرجون نكاحاً" أي لم يبق لهن تشوف إلى التزوج "فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة" أي ليس عليها من الحرج في التستر كما على غيرها من النساء.
قال أبو داود : حدثنا أحمد بن محمد المروزي , حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي , عن عكرمة عن ابن عباس "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن" الاية, فنسخ واستثنى من ذلك القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا الاية, قال ابن مسعود في قوله "فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن" قال: الجلباب أو الرداء وكذلك روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والزهري والأوزاعي وغيرهم. وقال أبو صالح : تضع الجلباب وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار.
وقال سعيد بن جبير وغيره في قراءة عبد الله بن مسعود " أن يضعن ثيابهن " وهو الجلباب من فوق الخمار, فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره بعد ان يكون عليها خمار صفيق, وقال سعيد بن جبير في الاية "غير متبرجات بزينة" يقول: لا يتبرجن بوضع الجلباب ليرى ما عليهن من الزينة, وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا هشام بن عبد الله , حدثنا ابن المبارك حدثني سوار بن ميمون , حدثنا طلحة بن عاصم عن أم الضياء أنها قالت: دخلت على عائشة رضي الله عنها,فقلت: يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والنفاض والصباغ والقرطين والخلخال وخاتم الذهب وثياب الرقاق ؟ فقالت: يا معشر النساء قصتكن كلها واحدة, أحل الله لكن الزينة غير متبرجات, أي لا يحل لكن ان يروا منكن محرماً.
وقال السدي : كان شريك لي يقال له مسلم , وكان مولى لامرأة حذيفة بن اليمان , فجاء يوماً إلى السوق وأثر الحناء في يده, فسألته عن ذلك فأخبرني أنه خضب رأس مولاته وهي امرأة حذيفة , فأنكرت ذلك, فقال: إن شئت ادخلتك عليها ؟ فقلت: نعم, فأدخلني عليها فإذا هي امرأة جليلة, فقلت لها: إن مسلماً حدثني أنه خضب لك رأسك ؟ فقالت: نعم يا بني إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً, وقد قال الله تعالى في ذلك ما سمعت. وقوله "وأن يستعففن خير لهن" أي وترك وضعهن لثيابهن وإن كان جائزاً خير وأفضل لهن "والله سميع عليم".
لما فرغ سبحانه من ذكر ما ذكره من دلائل التوحيد رجع إلى ما كان فيه من الاستئذان فذكره ها هنا على وجه أخص فقال: 58- "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم" والخطاب للمؤمنين وتدخل المؤمنات فيه تغليباً كما في غيره من الخطابات. قال العلماء: هذه الآية خاصة ببعض الأوقات.واختلفوا في المراد بقوله: "ليستأذنكم" على أقوال: الأول أنها منسوخة، قاله سعيد بن المسيب. وقال سعيد بن جبير: إن الأمر فيها للندب لا للوجوب. وقيل كان ذلك واجباً حيث كانوا لا أبواب لهم، ولو عاد الحال لعاد الوجوب، حكاه المهدوي عن ابن عباس. وقيل إن الأمر هاهنا للوجوب، وإن الآية محكة غير منسوخة، وأن حكمها ثابت على الرجال والنساء، قال: القرطبي: وهو قول أكثر أهل العلم. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: إنها خاصة بالنساء. وقال ابن عمر هي خاصة بالرجال دون النساء. والمراد بقوله: "ملكت أيمانكم" العبيد والإماء، والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان منكم: أي من الأحرار، ومعنى "ثلاث مرات" ثلاثة أوقات في اليوم والليلة، وعبر بالمرات عن الأوقات لأن أصل وجوب الاستئذان هو بسبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا نفس الأوقات، وانتصاب ثلاث مرات على الظرفية الزمانية: أي ثلاثة أوقات، ثم فسر تلك الأوقات بقوله: "من قبل صلاة الفجر" إلخ، أو منصوب على المصدرية: أي ثلاث استئذانات، ورجح هذا أبو حيان فقال: والظاهر من قوله: "ثلاث مرات" ثلاث استئذانات، لأنك إذا قلت ضربتك ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات. ويرد بأن الظاهر هنا متروك للقرينة المذكورة، وهو التفسير بالثلاثة الأوقات. قرأ الحسن وأبو عمرو في رواية "الحلم" بسكون اللام وقرأ الباقون بضمها. قال الأخفش: الحلم من حلم الرجل بفتح اللام، ومن الحلم حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام، ثم فسر سبحانه الثلاث المرات فقال: "من قبل صلاة الفجر" وذلك لأنه وقت القيام عن المضاجع، وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة، وربما يبيت عرياناً، أو على حال لا يحب أن يراه غيره فيها، ومحله النصب على أنه بدل من ثلاث، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هي من قبل، وقوله: "وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة" معطوف على محل "من قبل صلاة الفجر" ومن في "من الظهيرة" للبيان، أو بمعنى في، أو بمعنى اللام. والمعنى: حين تضعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار من شدة حر الظهيرة وذلك عند انتصاف النهار، فإنهم قد يتجردون عن الثياب لأجل القيلولة. ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث فقال: "ومن بعد صلاة العشاء" وذلك لأنه وقت التجرد عن الثياب والخلوة بالأهل، ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل فقال: "ثلاث عورات لكم" قرأ الجمهور: "ثلاث عورات" برفع ثلاث، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من ثلاث مرات. قال ابن عطية: إنما يصح البدل بتقدير أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف واقيم المضاف إليه مقامه، ويحتمل أنه جعل نفس ثلاث مرات نفس ثلاث عورات مبالغة، ويجوز أن يكون ثلاث عورات بدلاً من الأوقات المذكورة: أي من قبل صلاة الفجر إلخ، ويجوز أن تكون منصوبة بإضمار فعل: أي أعني ونحوه، وأما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هن ثلاث. قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود. وقال الكسائي: إن ثلاث عورات مرتفعة بالابتداء والخبر ما بعدها. قال: والعورات الساعات التي تكون فيها العورة. قال الزجاج: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وعورات جمع عورة، والعورة في الأصل الخلل، ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه ويتعين ستره: أي هي ثلاث أوقات يختل فيها الستر. وقرأ الأعمش "عورات" بفتح الواو، وهي لغة هذيل وتميم فإنهم يفتحون عين فعلات سواء كان واواً أو ياءً، ومنه:
أخو بيضات رايح متأوب رفيق بمسح المنكبين سبوح
وقوله:
أبو بيضات رايح أو مبعد عجلان ذا زاد وغير مزود
و"لكم" متعلق بمحذوف هو صفة لثلاث عورات: أي كائنة لكم، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان "ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن" أي ليس على المماليك ولا على الصبيان جناح: أي إثم في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر والاطلاع على العورات. ومعنى بعدهن: بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث، وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنتين منها، وهذه الجملة مستأنفة مقررة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة، ويجوز أن تكون في محل رفع صفة لثلاث عورات على قراءة الرفع فيها. قال أبو البقاء: "بعدهن" أي بعد استئذانهم فيهن، ثم حذف حرف الجر والمجرور فبقي بعد استئذانهم، ثم حذف المصدر وهو الاستئذان، والضمير المتصل به. ورد بأنه لا حاجة إلى هذا التقدير الذي ذكره، بل المعنى: ليس عليكم جناح ولا عليهم: أي العبيد والإماء والصبيان جناح في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة، وارتفاع "طوافون" على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هم طوافون عليكم، والجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الاستئذان. قال الفراء: هذا كقولك في الكلام هم خدمكم وطوافون عليكم، وأجاز أيضاً نصب طوافين لأنه نكرة، والمضمر في "عليكم" معرفة ولا يجيز البصريون أن تكون حالاً من المضمرين اللذين في عليكم وفي بعضكم لاختلاف العاملين. ومعنى طوافون عليكم: أي يطوفون عليكم، ومنه الحديث في الهرة "إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات" أي هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير إذن، ومعنى "بعضكم على بعض" بعضكم يطوف أو طائف على بعض، وهذه الجملة بدل مما قبلها أو مؤكدة لها. والمعنى أن كلاً منكم يطوف على صاحبه العبيد على الموالي والموالي على العبيد، ومنه قول الشاعر:
ولما قرنا النبع بالنبع بعضه ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
وقرأ ابن أبي عبلة " طوافون " بالنصب على الحال كما تقدم عن الفراء، وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات الثلاثة بغير استئذان، لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها، والإشارة بقوله: "كذلك يبين الله لكم الآيات" إلى مصدر الفعل الذي بعده، كما في سائر المواضع في الكتاب العزيز: أي مثل ذلك التبيين يبين الله لكم الآيات الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام "والله عليم حكيم" كثير العلم بالمعلومات وكثير الحكمة في أفعاله.
قوله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم"، الآية: قال ابن عباس رضي الله عنهما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فأنزل الله هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد، كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم" اللام لام الأمر.
"الذين ملكت أيمانكم" يعني: العبيد والإماء، "والذين لم يبلغوا الحلم منكم"، من الأحرار، ليس المراد منهم الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، بل الذين عرفوا أمر النساء ولكن لم يبلغوا.
"ثلاث مرات"، أي : ليستأذنوا في ثلاث أوقات، "من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة"، يريد المقيل، "ومن بعد صلاة العشاء"، وإنما خص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب، فربما يبدو من الإنسان مالا يحب أن يراه أحد، أمر العبيد والصبيان بالاستئذان في هذه الأوقات، وأما غيرهم فليستأذنوا في جميع الأوقات "ثلاث عورات لكم"، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: ثلاث بنصب الثاء بدلاً عن قوله: ثلاث مرات، وقرأ الآخرون بالرفع، أي: هذه الأوقات ثلاث عورات لكم، سميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته، "ليس عليكم"، جناح، "ولا عليهم"، يعني: على العبيد والخدم والصبيان، "جناح"، في الدخول عليكم من غير استئذان، "بعدهن"، أي بعد هذه الأوقات الثلاثة، "طوافون عليكم"، أي: العبيد والخدم يطوفون عليكم فيترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالهم بغير إذن، "بعضكم على بعض"، أي: يطوف، "بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم"، واختلف العلماء في حكم هذه الآية: فقال قوم: منسوخ.
قال ابن عباس رضي الله عنه: لم يكن للقوم ستور ولا حجاب، فكان الخدم والولائد يدخلون فربما يرون منهم مالا يحبون، فأمروا بالاستئذان، وقد بسط الله الرزق واتخذ الناس الستور فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان.
وذهب قوم إلى أنها غير منسوخة، روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قالت: سألت الشعبي عن هذه الآية: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم أمنسوخة هي؟ قال: لا والله، قلت: إن الناس لا يعملون بها، قال: الله المستعان.
وقال سعيد بن جبير في هذه الآية: إن ناساً يقولون نسخت، والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون به الناس.
58 -" يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " رجوع إلى تتمة الأحكام السالفة بعد الفراغ من الإلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها والوعد عليها والوعيد على الإعراض عنها ، والمراد به خطاب الرجال والنساء غلب فيه الرجال لما روي أن غلام أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت . وقيل أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدلج بن عمرو الأنصاري وكان غلاماً وقت الظهيرة ليدعو عمر ، فدخل وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي الله تعالى عنه : لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بإذن ، ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده وقد أنزلت هذه الآية : " والذين لم يبلغوا الحلم منكم " والصبيان الذي لم يبلغوا من الأحرار فعبر عن البلوغ بالاحتلام لأنه أقوى دلائله . " ثلاث مرات " في اليوم والليلة مرة . " من قبل صلاة الفجر " لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة ، ومحله النصب بدلاً من ثلاث مرات أو الرفع خبراً لمحذوف أي هي من قبل صلاة الفجر . " وحين تضعون ثيابكم " أي ثيابكم لليقظة للقيلولة . " من الظهيرة " بيان للحين . " ومن بعد صلاة العشاء " لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف . " ثلاث عورات لكم " أي هي ثلاث أوقات يختل فيها تستركم ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده وأصل العورة الخلل ومنها اعور المكان ورجل أعور . وقرأ أبو بكر و حمزة و الكسائي " ثلاث " بالنصب بدلاً من " ثلاث مرات " . " ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن " بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان ، وليس فيه ما ينافي آية الاستئذان فينسخها لأنه في الصبيان ومماليك المدخول عليه وتلك في الأحرار البالغين . " طوافون عليكم " أي هم طوافون استئناف ببيان العذر الرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة وكثرة المداخلة ، وفيه دليل على تعليل الأحكام وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها بأنها عورات . " بعضكم على بعض " بعضكم طائف على بعض أو يطوف بعضكم على بعض . " كذلك " مثل ذلك التبيين . " يبين الله لكم الآيات " أي الأحكام . " والله عليم " بأحوالكم . " حكيم " فيما شرع لكم .
58. O ye who believe! Let your slaves, and those of you who have not come to puberty, ask leave of you at three times (before they come into your presence): Before the prayer of dawn, and when ye lay aside your raiment for the heat of noon, and after the prayer of night. Three times of privacy for you. It is no sin for them or for you at other times, when some of you go round attendant upon others (if they come into your presence without leave). Thus Allah maketh clear the revelations for you. Allah is Knower, Wise.
58 - O ye who believe! Let those whom your right hands possess, and the (children) among you who have not come of age ask your permission (before they come to your presence), on three occasions: before morning prayer; the while ye doff your clothes for the noonday heat; and after the late night prayer: these are your three times of undress: outsides those times it is not wrong for you or for them to move about attending to each other: thus does God make clear the Signs to you: for God is full of knowledge and wisdom.