[النور : 55] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
55 - (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) بدلا من الكفار (كما استخلف) بالبناء للفاعل والمفعول (الذين من قبلهم) من بني إسرائيل بدلا من الجبابرة (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) وهو الإسلام بأن يظهره على جميع الأديان ويوسع لهم في البلاد فيملكوها (وليبدلنهم) بالتخفيف والتشديد (من بعد خوفهم) من الكفار (أمنا) وقد أنجز الله وعده لهم بما ذكر وأنثى عليهم بقوله (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) هو مستأنف في حكم التعليل (ومن كفر بعد ذلك) الإنعام منهم به (فأولئك هم الفاسقون) وأول من كفر به قتلة عثمان رضي الله عنه فصاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا
قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا الآية أخرج الحاكم وصححه والطبراني عن أبي بن كعب قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون الا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت وعد الله الذين آمنوا منكم الآية وأخرج ابن أبي حاتم عن البراء قال فينا نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد
يقول تعالى ذكره : " وعد الله الذين آمنوا " بالله ورسوله " منكم " أيها الناس " وعملوا الصالحات " يقول : وأطاعوا الله ورسوله فيما أمره و نهياه " ليستخلفنهم في الأرض " يقول : ليورثنهم الله أرض المشركين من العرب والعجم ، فيجعلهم ملوكها و ساستها " كما استخلف الذين من قبلهم " يقول : كما فعل من قبلهم ذلك ببني إسرائيل ، إذ أهلك الجبابرة بالشأم ، وجعلهم ملوكها و سكانها " وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم " يقول : وليوطئن لهم دينهم ، يعني ملتهم التي ارتضاها لهم ، فأمرهم بها . و قيل وعد الله الذين آمنوا ، ثم تلقى ذلك بجواب اليمين بقوله " ليستخلفنهم " لأن الوعد قول يصلح فيه أن ، وجواب اليمين كقوله : وعدتك أن أكرمك ، ووعدتك لأكرمنك .
واختلف القراء في قراءة قوله " كما استخلف " فقرأته عامة القراء " كما استخلف " بفتح التاء واللام ، بمعنى : كما استخلف الله الذين من قبلهم من الأمم . وقرأ ذلك عاصم كما استخلف بضم التاء ، وكسر اللام ، على مذهب ما لم يسم فاعله .
واختلفوا أيضا في قراءة قوله " وليبدلنهم " فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار سوى عاصم " وليبدلنهم " بتشديد الدال ، بمعنى : وليغيرن حالهم عما هي عليه ، من الخوف إلى الأمن ، والعرب تقول : قد مبدل بالتشديد . وربما قيل بالتخفيف ، وليس بالفصيح . فأما إذا جعل مكان الشيء المبدل غيره ، فذلك بالتخفيف : أبدلته فهو مبدل . وذلك كقولهم : أبدل هذا الثوب : أي جعل مكانه آخر غيره ، وقد يقال بالتشديد ، غير أن الفصيح من الكلام على ما وصفت . وكان عاصم يقرؤه وليبدلنهم بتخفيف الدال .
والصواب من القراءة في ذلك : التشديد ، على المعنى الذي وصفت قبل ، لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليه ، وأن ذاك تغيير حال الخوف إلى الأمن ، وأرى عاصما ذهب إلى أن الأمن لما كان خلاف الخوف ، وجه المعنى إلى أنه ذهب بحال الخوف ، وجاء بحال الأمن ، فخفف ذلك .
و من الدليل على ما قلنا ، من أن التخفيف إنما هو ما كان في إبدال شيء مكان آخر، قول أبي النجم :
عزل الأمير للأمير المبدل
وقوله " يعبدونني " يقول : يخضعون لي بالطاعة ، و يتذللون لأمري ونهيي " لا يشركون بي شيئا " يقول : لا يشركون في عبادتهم إياي الأوثان والأصنام ولا شيئا غيرها ، بل يخلصون لي العبادة ، فيفردونها إلي ، دون كل ما عبد من شيء غيري . وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل شكاية بعض أصحابه إليه ، في بعض الأوقات التي كانوا فيها من العدو في خوف شديد ، مما هم فيه من الرعب والخوف ، و ما يلقون بسبب ذلك من الأذى والمكروه .
ذكر الرواية بذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ،عن أبي العالية ، قوله " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " ... الآية ، قال : مكث النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين خائفا ، يدعو إلى الله سرا وعلانية ،قال : ثم أمر بالهجرة إلى المدينة ، قال : فمكث بها هو و أصحابه خائفون ،يصبحون في السلاح ، و يمسون فيه ، فقال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ، و نضع عنا السلاح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تغبرون إلا يسيرا ، حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبيا فيه ، ليس فيه حديدة ، فأنزل الله هذه الآية " وعد الله الذين آمنوا منكم " ... إلى قوله " فمن كفر بعد ذلك " ، قال : يقول : من كفر بهذه النعمة " فأولئك هم الفاسقون " وليس يعني الكفر بالله . قال : فأظهره الله على جزيرة العرب ، فآمنوا ، ثم تجبروا ، فغير الله ما بهم ، وكفروا بهذه النعمة ، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم ، قال القاسم : قال أبو علي : بقتلهم عثمان بن عفان رضي الله عنه .
واختلف أهل التأويل في معنى الكفر الذي ذكره الله في قوله " فمن كفر بعد ذلك " فقال أبو العالية ما ذكرنا عنه من أنه كفر بالنعمة لا كفر بالله .
وروي عن حذيفة في ذلك ما :
حدثنا به ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي الشعثاء ، قال كنت جالسا مع حذيفة و عبد الله بن مسعود ، فقال حذيفة : ذهب النفاق ، و إنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و إنما هو الكفر بعد الإيمان ، قال : فضحك عبد الله ، فقال : لم تقول ذلك ؟ قال : علمت ذلك ، قال " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض " ... حتى بلغ آخرها .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا ابن أبي عدي ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي الشعثاء ، قال : قعدت إلى ابن مسعود ، و حذيفة ، قال : حذيفة : ذهب النفاق فلا نفاق ، وإنما هو الكفر بعد الإيمان ، فقال عبد الله : تعلم ما تقول ؟ قال : فتلا هذه الآية " إنما كان قول المؤمنين " النور : 51 ... حتى بلغ " فأولئك هم الفاسقون " قال : فضحك عبد الله ، قال : فلقيت أبا الشعثاء بعد ذلك بأيام ، فقلت : من أي شيء ضحك عبد الله ؟ قال : لا أدري ، إن الرجل ربما ضحك من الشيء الذي يعجبه ، وربما ضحك من الشيء الذي لا يعجبه ، فمن أي شيء ضحك ؟ لا أدري . والذي قال أبو العالية من التأويل أشبه بتأويل الآية ، و ذلك أن الله وعد الإنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية ، أنه منعم به عليهم ، ثم قال عقيب ذلك : فمن كفر هذه النعمة بعد ذلك " فأولئك هم الفاسقون " .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قول : " يعبدونني لا يشركون بي شيئا " قال : تلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد " أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا " قال : لا يخافون غيري .
نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قاله مالك . وقيل: إن سبب هذه الآية أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شكا جهد مكافحة العدو، وما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم، وأنهم لا يضعون أسلحتهم، فنزلت الآية. وقال أبو العالية :
مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين بعدما أوحي إليه خائفاً هو وأصحابه، يدعون إلى الله سراً وجهراً، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح. فقال رجل: يا رسول الله، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام: لا تلبثون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس عليه حديدة. ونزلت هذه الآية، وأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فوضعوا السلاح وأمنوا. قال النحاس : فكان في هذه الآية دلالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله جل وعز أنجز ذلك الوعد. قال الضحاك في كتاب النقاش : هذه تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، لأنهم أهل الإيمان وعملوا الصالحات. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الخلافة بعدي ثلاثون ". وإلى هذا القول ذهب ابن العربي في أحكامه، واختاره وقال: قال علماؤنا هذه الآية دليل على خلافة الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وأن الله استخلفهم ورضي أمانتهم، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم، لأنهم لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا، فاستقر الأمر لهم، وقاموا بسياسة المسلمين، وذبوا عن حوزة الدين، فنفذ الوعد فيهم، وإذا لم يكن هذا الوعد لهم نجز، وفيهم نفذ، وعليهم ورد، ففيمن يكون إذاً، وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا، ولا يكون فيما بعده. رضي الله عنهم. وحكى هذا القول القشيري عن ابن عباس. واحتجوا بما رواه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً ". قال سفينة: أمسك عليك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشراً، وخلافة عثمان ثنتي عشرة سنة، وخلافة علي ستاً. وقال قوم: هذا وعد لجميع الأمة في ملك الأرض كلها تحت كلمة الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام:
" زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ". واختار هذا القول ابن عطية في تفسيره حيث قال: والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واستخلافهم هو أن يملكهم البلاد ويجعلهم أهلها، كالذي جرى في الشأم والعراق وخراسان والمغرب. قال ابن العربي : قلنا لهم هذا وعد عام في النبوة والخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة، فنفذ الوعد في كل أحد يقدره وعلى حاله، حتى في المفتين والقضاة والأئمة، وليس للخلافة محل تنفذ فيه الموعدة الكريمة إلا من تقدم من الخلفاء. ثم ذكر اعتراضاً وانفصالاً معناه: فإن قيل هذا الأمر لا يصح إلا في أبي بكر وحده، فأما عمر وعثمان فقتلا غيلةً، وعلي قد نوزع في الخلافة. قلنا: ليس في ضمن الأمن والسلامة من الموت بأي وجه كان، وأما علي فلم يكن نزاله في الحرب مذهباً للأمن، وليس من شرط الأمن رفع الحرب إنما شرطه ملك الإنسان لنفسه باختياره، لا كما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة. ثم قال في آخر كلامه: وحقيقة الحال أنهم كانوا مقهورين فصاروا قاهرين، وكانوا مطلوبين فصاروا طالبين، فهذا نهاية الأمن والعز.
قلت: هذه الحال لم تختص بالخلفاء الأربعة رضي الله عنهم حتى يخصوا بها من عموم الآية، بل شاركهم في ذلك جميع المهاجرين بل وغيرهم. ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين في أحد وغيرها وخاصة الخندق، حتى أخبر الله تعالى عن جميعهم فقال: " إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا " [الأحزاب: 10 -11]. ثم إن الله المراد بقوله: " ليستخلفنهم في الأرض ". وقوله: " كما استخلف الذين من قبلهم " يعني بني إسرائيل، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر، وأورثهم أرضهم وديارهم فقال: " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها " [الأعراف: 137]. وهكذا كان الصحابة مستضعفين خائفين، ثم إن الله تعالى أمنهم ومكنهم وملكهم، فصح أن الآية عامة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم غير مخصوصة، إذ التخصيص لا يكون إلا بخبر ممن يجب له التسليم، ومن الأصل المعلوم التمسك بالعموم. وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال أصحابه: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال عليه السلام: لا تلبثون إلا قليلاً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس عليه حديدة ". وقال صلى الله عليه وسلم:
" والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ". خرجه مسلم في صحيحه، فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم. فالآية معجزة النبوة، لأنها إخبار عما سيكون فكان.
قوله تعالى: " ليستخلفنهم في الأرض " فيه قولان: أحدهما: يعني أرض مكة، لأن المهاجرين سألوا الله تعالى ذلك فوعدوا كما وعدت بنو إسرائيل، قال معناه النقاش . الثاني: بلاد العرب والعجم. قال ابن العربي : وهو الصحيح، لأن أرض مكة محرمة على المهاجرين، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لكن البائس سعد بن خولة ". يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. وقال في الصحيح أيضاً:
" يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً ". واللام في " ليستخلفنهم " جواب قسم مضمر، لأن الوعد قول، مجازها: قال الله للذين آمنوا وعمروا الصالحات والله ليستخلفنهم في الأرض فيجعلهم ملوكها وسكانها. " كما استخلف الذين من قبلهم " يعني بني إسرائيل، أهلك الجبابرة بمصر والشأم وأورثهم أرضهم وديارهم. وقراءة العامة " كما استخلف " بفتح التاء واللام، لقوله: " وعد ". وقوله : " ليستخلفنهم ". وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم " استخلف " بضم التاء وكسر اللام على الفعل المجهول. " ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم " وهو الإسلام، كما قال تعالى: " ورضيت لكم الإسلام دينا " [المائدة: 3] وقد تقدم. وروى سليم بن عامر عن المقداد بن الأسود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ما على ظهر الأرض بيت حجر ولا مدر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل أما بعزهم فيجعلهم من أهلها وأما بذلهم فيدينون بها ". ذكره الماوردي حجة لمن قال: إن المراد بالأرض بلاد العرب والعجم، وهو القول الثاني، على ما تقدم آنفاً. " وليبدلنهم " قرأ ابن محيصن و ابن كثير ويعقوب وأبو بكر بالتخفيف، من أبدل، وهي قراءة الحسن ، واختيار أبي حاتم. الباقون بالتشديد، من بدل، وهي اختيار أبي عبيد، لأنها أكثر ما في القرآن، قال الله تعالى: " لا تبديل لكلمات الله " [يونس: 64]. وقال: " وإذا بدلنا آية " [النحل: 101] ونحوه، وهما لغتان. قال النحاس : وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: قرأ عاصم والأعمش " وليبدلنهم " مشددة، وهذا غلط على عاصم، وقد ذكر بعده غلطاً أشد منه، وهو أنه حكى عن سائر الناس التخفيف. قال النحاس : وزعم أحمد بن يحيى أن بين التثقيل والتخفيف فرقاً، وأنه يقال: بدلته أي غيرته، وأبدلته أزلته وجعلت غيره. قال النحاس : وهذا القول صحيح، كما تقول: أبدل لي هذا الدرهم، أي أزله وأعطني غيره. وتقول: قد بدلت بعدنا، أي غيرت، غير أنه قد يستعمل أحدهما موضع الآخر، والذي ذكره أكثر. وقد مضى هذا في ((النساء)) والحمد لله، وذكرنا في سورة ((إبراهيم)) الدليل من السنة على أن بدل معناه إزالة العين، فتأمله هناك. وقرىء " عسى ربنا أن يبدلنا " [القلم: 32] مخففاً ومثقلاً. " يعبدونني " هو في موضع الحال، أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص. ويجوز أن يكون استئنافاً على طريق الثناء عليهم. " لا يشركون بي شيئاً " فيه أربعة أقوال: أحدها: لا يعبدون إلها غيري، حكاه النقاش . الثاني: لا يراءون بعبادتي أحداً. الثالث: لا يخافون غيري، قاله ابن عباس. الرابع: لا يحبون غيري، قاله مجاهد . " ومن كفر بعد ذلك " أي بهذه النعم. والمراد كفران النعمة، لأنه قال تعالى: " فأولئك هم الفاسقون " والكافر بالله فاسق بعد هذا الإنعام وقبله.
هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض, أي أئمة الناس والولاة عليهم, وبهم تصلح البلاد, وتخضع لهم العباد. وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمناً وحكماً فيهم, وقد فعله تبارك وتعالى, وله الحمد والمنة, فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها, وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام, وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس, وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه.
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة, قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق, فلم شعث ما وهى بعد موته صلى الله عليه وسلم, وأطد جزيرة العرب ومهدها, وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد رضي الله عنه, ففتحوا طرفاً منها, وقتلوا خلقاً من أهلها. وجيشاً آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام, وثالثاً صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر, ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها وتوفاه الله عز وجل واختار له ما عنده من الكرامة.
ومن على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق, فقام بالأمر بعده قياماً تاماً, لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله. وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس. وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته, وقصر قيصر, وانتزع يده عن بلاد الشام, وانحدر إلى القسطنطينية, وأنفق أموالهما في سبيل الله, كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله, عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة.
ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها, ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص, وبلاد القيروان, وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط, ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين, وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية, وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز, وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جداً, وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان, وجبى الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه, وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن, ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها, ويبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها" فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله, وصدق الله ورسوله فنسأل الله الإيمان به وبرسوله, والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا.
قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر , حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً" ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني, فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قال "كلهم من قريش". ورواه البخاري من حديث شعبة عن عبد الملك بن عمير به, وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك, وذكر معه أحاديث أخر, وفي هذا الحديث دلالة على أنه لابد من وجود اثني عشر خليفة عادلاً وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر, فإن كثيراً من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء, فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش يلون فيعدلون, وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة, ثم لا يشترط أن يكونوا متتابعين, بل يكون وجودهم في الأمة متتابعاً ومتفرقاً, وقد وجد منهم أربعة على الولاء وهم أبو بكر, ثم عمر, ثم عثمان, ثم علي رضي الله عنه, ثم كانت بعدهم فترة, ثم وجد منهم من شاء الله, ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى. ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكنيته كنيته, يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الخلافة بعدي ثلاثون سنة, ثم تكون ملكاً عضوضاً" وقال الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً" الاية, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سراً, وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة, فقدموها فأمرهم الله بالقتال, فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح, فغبروا بذلك ما شاء الله, ثم إن رجلاً من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "لن تصبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيه حديدة" وأنزل الله هذه الاية, فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب, فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله تعالى قبض نبيه صلى الله عليه وسلم, فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه, فأدخل عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط وغيروا فغير بهم, وقال بعض السلف: خلافة أبى بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله, ثم تلا هذه الاية.
وقال البراء بن عازب : نزلت هذه الاية ونحن في خوف شديد, وهذه الاية الكريمة كقوله تعالى: " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ". وقوله تعالى: "كما استخلف الذين من قبلهم" كما قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض" الاية, وقال تعالى: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض" الايتين.
وقوله "وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم" الاية, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه "أتعرف الحيرة ؟ قال: لم أعرفها, ولكن قد سمعت بها. قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد, ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز قلت: كسرى بن هرمز, قال نعم كسرى بن هرمز, وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد". قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد, ولقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز, والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق , أخبرنا سفيان عن أبي سلمة عن الربيع بن أنس عن أبي العالية , عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض, فمن عمل منهم عمل الاخرة للدنيا لم يكن له في الاخرة نصيب". وقوله تعالى: "يعبدونني لا يشركون بي شيئاً" قال الإمام أحمد : حدثنا عفان , حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس أن معاذ بن جبل حدثه قال: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل, قال "يا معاذ. قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك, قال: ثم سار ساعة, ثم قال : يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك, ثم سار ساعة, ثم قال : يا معاذ بن جبل . قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال :هل تدري ما حق الله على العباد ؟ قلت: الله ورسوله أعلم.. قال : فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. قال: ثم سار ساعة, ثم قال يا معاذ بن جبل. قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال : فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قال: قلت الله ورسوله أعلم. قال : فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم " , أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة .
وقوله تعالى: "ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" أي فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك فقد خرج عن أمر ربه, وكفى بذلك ذنباً عظيماً, فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز وجل وأطوعهم لله, كان نصرهم بحسبهم أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب, وأيدهم تأييداً عظيماً, وحكموا في سائر العباد والبلاد, ولما قصر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم, ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة " ـ وفي رواية " حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " ـ وفي رواية ـ " حتى يقاتلوا الدجال " ـ وفي رواية ـ " حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون" وكل هذه الروايات صحيحة, ولا تعارض بينها.
55- "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات" هذه الجملة مقررة لما قبلها من أن طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب لهدايتهم، وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل الأعمال الصالحات بالاستخلاف لهم في الأرض لما استخلف الذين من قبلهم من الأمم، وهو وعد يعم جميع الأمة. وقيل هو خاص بالصحابة، ولا وجه لذلك، فإن الإيمان وعمل الصالحات لا يختص بهم، بل ويمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة، ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله فقد أطاع الله ورسوله، واللام في "ليستخلفنهم في الأرض" جواب لقسم محذوف، أو جواب للوعد بتنزيله منزلة القسم، لأنه ناجز لا محالة، ومعنى ليستخلفهم في الأرض: ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف الملوك في مملوكاتهم، وقد أبعد من قال إنها مختصة بالخلفاء الأربعة، أو بالمهاجرين، أو بأن المراد بالأرض أرض مكة، وقد عرفت أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وظاهر قوله: "كما استخلف الذين من قبلهم" كل من استخلفه الله في أرضه فلا يخص ذلك ببني إسرائيل ولا أمة من الأمم دون غيرها. قرأ الجمهور "كما استخلف" بفتح الفوقية على البناء للفاعل. وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم بضمها على البناء للمفعول، ومحل الكاف النصب على المصدرية: أي استخلافاً كما استخلف، وجملة "وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم" معطوفة على ليستخلفنهم داخلة تحت حكمه كائنة من جملة الجواب، والمراد بالتمكين هنا: التثبيت والتقرير: أي يجعله الله ثابتاً مقرراً ويوسع لهم في البلاد ويظهر دينهم على جميع الأديان، والمراد بالدين هنا: الإسلام، كما في قوله: "ورضيت لكم الإسلام ديناً" ذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أولاً، وهو جعلهم ملوكاً، وذكر التمكين ثانياً، فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض والطرو، بل على وجه الاستقرار والثابت، بحيث يكون الملك لهم ولعقبهم من بعدهم، وجملة "وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً" معطوفة على التي قبلها. قرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر "ليبدلنهم" بالتخفيف من أبدل، وهي قراءة الحسن واختارها أبو حاتم. وقرأ الباقون بالتشديد من بدل واختارها أبو عبيد، وهما لغتان، وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى، فقراء التشديد أرجح من قراءة التخفيف. قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى ثعلب أن بين التخفيف والتثقيل فرقاً، وأنه يقال بدلته: أي غيرته، وأبدلته: أزلته وجعلت غيره. قال النحاس، وهذا القول صحيح. والمعنى: أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمناً، ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخشون إلا الله سبحانه ولا يرجون غيره. وقد كان المسلمون قبل الهجرة وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين، لا يخرجون إلا في السلاح ولا يمسون ويصبحون إلا على ترقب لنزول المضرة بهم من الكفار، ثم صاروا في غاية الأمن والدعة وأذل الله لهم شياطين المشركين وفتح عليهم البلاد، ومهد لهم في الأرض ومكنهم منها، فلله الحمد، وجملة "يعبدونني" في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم، وجملة "لا يشركون بي شيئاً" في محل نصب على الحال من فاعل يعبدونني: أي يعبدونني، غير مشركين بي في العبادة شيئاً من الأشياء، وقيل معناه: لا يراءون بعبادتي أحداً، وقيل معناه: لا يخافون غيري، وقيل معناه لا يحبون غيري "ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" أي من كفر هذه النعم بعد ذلك الوعد الصحيح، أو من استمر على الكفر، أو من كفر بعد إيمان، فأولئك الكافرون هم الفاسقون، أي الكاملون في الفسق. وهو الخروج عن الطاعة والطغيان في الكفر.
قوله عز وجل: 55- "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض"، قال أبو العالية في هذه الآية: مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد الوحي عشر سنين مع أصحابه، وأمروا بالصبر على أذى الكفار، وكانوا يصبحون ويمسون خائفين، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة، وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه، فقال رجل منهم: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فأنزل الله هذه الآية: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم" أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة، يعني: والله ليستخلفنهم، أي: ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها، "كما استخلف الذين من قبلهم"، قرأ أبو بكر عن عاصم: كما استخلف بضم التاء وكسر اللام على ما لم يسم فاعله، وقرأ الآخرون بفتح التاء واللام لقوله تعالى: وعد الله. قال قتادة: "كما استخلف" داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء. وقيل: كما استخلف الذين من قبلهم أي: بني إسرائيل حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم، "وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم"، أي: اختار، قال ابن عباس: يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان، "وليبدلنهم"، قرأ ابن كثير وأبو بكر ويعقوب بالتخفيف من الإبدال، وقرأ الآخرون بالتشديد من التبديل، وهما لغتان، وقال بعضهم: التبديل تغيير حال إلى حال، والإبدال رفع الشيء وجعل غيره مكانه، "من بعد خوفهم أمناً، يعبدونني"، آمنين، "لا يشركون بي شيئاً"، فأنجز الله وعده، وأظهر دينه، ونصر أولياءه، وأبدلهم بعد الخوف أمناً وبسطاً في الأرض.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن الحكم، أخبرنا النضر، أخبرنا إسرائيل، أخبرنا سعيد الطاهري، أخبرنا محمد بن خليفة، "عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها، قال: فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد؟، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، لئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب وفضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم، فليقولن له: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالاً/ وأفضل عليك ؟ فيقول: بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم، قال عدي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة، قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت ممن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يخرج ملء كفه".
وفي الآية دلالة على خلافة الصديق وإمامة الخلفاء الراشدين.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم البغوي، أخبرنا على بن الجعد، أخبرني حماد هو ابن مسلمة بن دينار، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً" ثم قال: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشراً، وعثمان اثنتا عشر، وعلي ستة. قال علي: قلت لحماد: سفينة القائل لسعيد أمسك؟ قال: نعم.
قوله عز وجل: "ومن كفر بعد ذلك"، أراد به كفران النعمة، ولم يرد الكفر بالله، "فأولئك هم الفاسقون"، العاصون لله.
قال أهل التفسير: أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه، فلما قتلوه غير الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخواناً.
أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم المعروف بابن أبي نصر، أخبرنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة المعروف بالطرابلسي، أخبرنا إسحاق ابن إبراهيم بن عباد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن حميد بن هلال قال: قال عبد الله ابن سلام في عثمان: إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اليوم، فو الله لئن قتلتموه ليذهبون ثم لا يعودون أبداً، فو الله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له، وإن سيف الله لم يزل مغموداً عنكم، والله لئن قتلتموه ليسلنه الله ثم لا يغمده عنكم، إما قال: أبداً، وإما قال: إلى يوم القيامة، فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفاً، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفاً.
55 -" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمة أوله ولمن معه ومن للبيان " ليستخلفنهم في الأرض " ليجعلهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في مماليكهم ، وهو جواب قسم مضمر تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم ، أو الوعد في تحققه منزل منزلة القسم . " كما استخلف الذين من قبلهم " يعني بني إسرائيل استخلفهم في مصر والشام بعد الجبابرة ، وقرأ أبو بكر بضم التاء وكسر اللام وإذا ابتدأ ضم الألف والباقون بفتحهما وإذا ابتدؤوا كسورا الألف . " وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم " وهو الإسلام بالتقوية والتثبيت . " وليبدلنهم من بعد خوفهم " من الأعداء ، وقرأ ابن كثير و أبو بكر بالتخفيف . " أمناً " منهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ، ثم هاجروا إلى المدينة وكان يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى أنجز الله وعده فأظهرهم على العرب كلهم وفتح لهم بلاد الشرق والغرب ، وفيه دليل على صحة النبوة للإخبار عن الغيب على ما هو به وخلافة الخلفاء الراشدين إذ لم يجتمع الموعود والموعود عليه لغيرهم بالإجماع . وقيل الخوف من العذاب والأمن منه في الآخرة . " يعبدونني " حال من الذين لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد ، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن . " لا يشركون بي شيئاً " حال من الواو أي يعبدونني غير مشركين . " ومن كفر " ومن ارتد أو كفر هذه النعمة . " بعد ذلك " بعد الوعد أو حصول الخلافة . " فأولئك هم الفاسقون " الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح مثل هذه الآيات ، أو كفروا تلك النعمة العظيمة .
55. Allah hath promised such of you as believe and do good works that He will surely make them to succeed (the present rulers) in the earth even as He caused those who were before them to succeed others); and that He will surely establish for them their religion which He hath approved for them, a will give them in exchange safety after their fear. They serve Me. They ascribe no thing as partner unto Me. Those who disbelieve henceforth, they are the miscreants.
55 - God has promised, to those among you who believe and work righteous deeds, that He will, of a surety, grant them in the land, inheritance (of power), as He granted it to those before them; that He will establish in authority their religion the one which He has chosen for them; and that He will change (their state), after the fear in which they (lived), to one of security and peace: They will worship Me (alone) and not associate aught with Me. If any do reject Faith after this, they are rebellious and wicked.