[النور : 35] اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
35 - (الله نور السماوات والأرض) أي منورهما بالشمس والقمر (مثل نوره) أي صفته في قلب المؤمن (كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة) هي القنديل والمصباح السراج أي الفتيلة الموقودة والمشكاة الطاقة غير النافذة أي الأنبوبة في القنديل (الزجاجة كأنها) والنور فيها (كوكب دري) مضيء بكسر الدال وضمها من الدرء بمعنى الدفع لدفعها الظلام وبضمها وتشديد الياء منسوب إلى الدر اللؤلؤ (يوقد) المصباح بالماضي وفي قراءة بمضارع أوقد مبنيا للمفعول بالتحتانية وفي أخرى توقد بالفوقانية أي الزجاجة (من) زيت (شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية) بل بينهما فلا يتمكن منها حر ولا برد مضرين (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) لصفائه (نور) به (على نور) بالنار ونور الله أي هداه للمؤمن نور على نور الإيمان (يهدي الله لنوره) لدين الإسلام (من يشاء ويضرب) يبين (الله الأمثال للناس) تقريبا لأفهامهم ليعتبروا فيؤمنوا (والله بكل شيء عليم) ومنه ضرب الأمثال
يعني تعالى ذكره بقوله " الله نور السماوات والأرض " هادي من السموات والأرض ، فهم بنوره إلى الحق يهتدون ، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " الله نور السماوات والأرض " يقول : الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض .
حدثنا سليمان بن عمر بن خلدة الرقي ، قال : ثنا وهب بن راشد ، عن فرقد ، عن أنس بن مالك ، قال : إن إلهي يقول : نوري هداي .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الله مدبر السموات والأرض .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد و ابن عباس في قوله " الله نور السماوات والأرض " يدبر الأمر فيهما : نجومهما وشمسهما وقمرهما .
وقال آخرون : بل عني بذلك النور : الضياء . وقالوا : معنى ذلك :ضياء السموات والأرض .
ذكر من قال ذلك :
حدثني عيد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : ثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، في قوله الله " الله نور السماوات والأرض " قال : فبدأ بنور نفسه ، فذكره ، ثم ذكر نور المؤمن .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك ، لأنه عقيب قوله " ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين " فكان ذلك بأن يكون خبرا عن موقع يقع تنزيله من خلقه ، ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه ، أولى وأشبه ، ما لم يأت ما يدل على انقضاء الخبر عنه من غيره .فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس ، آيات مبينات الحق من الباطل ، " ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين " فهديناكم بها ، وبينا لكم معالم دينكم بها ، لأني هادي أهل السموات وأهل الأرض . وترك وصل الكلام باللام ، وابتدأ الخبر عن هداية خلقه ابتداء ، وفيه المعنى الذي ذكرت ، استغناء بدلالة الكلام عليه من ذكره ، ثم ابتدأ في الخبر عن مثل هدايته خلقه بالآيات المبينات التي أنزلها إليهم ، فقال " مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " يقول : مثل ما أنار من الحق بهذا التنزيل في بيانه : كمشكاة .
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى بالهاء في قوله " مثل نوره " علام هي عائدة ، ومن ذكر ما هي ؟ فقال بعضهم : هي من ذكر المؤمن ، وقالوا : معنى الكلام : مثل نور المؤمن الذي في قلبه من الإيمان والقرآن : مثل مشكاة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، في قول الله " مثل نوره " قال : ذكر نور المؤمن فقال : مثل نوره ، يقول : مثل نور المؤمن . قال : وكان أبي يقرؤها كذلك : مثل المؤمن ، قال : هو المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب "الله نور السماوات والأرض مثل نوره " قال بدأ بنور نفسه ، فذكره ، ثم قال " مثل نوره " يقول : مثل نور من آمن به . قال : وكذلك كان يقرأ أبي ، قال : هو عبد جعل الله القرآن والإيمان في صدره .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير ، " مثل نوره " قال : مثل نور المؤمن .
حدثني علي بن الحسن الأزدي ، قال ثنا يحيى بن اليمان ، عن أبي سنان ، عن ثابت عن الضحاك في قوله " مثل نوره " قال : نور المؤمن .
وقال آخرون بل عني بالنور : محمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : الهاء التي في قوله " مثل نوره " : عائدة على اسم الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن حفص ، عن شمر ، قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار ، فقال له : حدثني عن قول الله عز وجل " الله نور السماوات والأرض " ، فقال كعب : الله نور السموات والأرض ، مثل نوره : مثل محمد صلى الله عليه وسلم : كمشكاة .
حدثني علي بن الحسن الأزدي ، قال : ثنا يحيى بن اليمان ، عن اشعث ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير في قوله " مثل نوره " قال : محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل عين بذلك : هدى الله وبيانه ، وهو القرآن ، قالوا : والهاء من ذكر الله . قالوا : ومعنى الكلام : الله هادي أهل السموات والأرض بآياته المبينات ، وهي النور الذي استنار به السموات والأرض ، مثل هداه وآياته التي هدى بها خلقه ، ووعظهم بها في قلوب المؤمنين : كمشكاة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس " مثل نوره " قال : مثل هذا القرآن في القلب ، كمشكاة .
حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " مثل نوره " : نور القرآن الذي انزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وعباده ، هذا مثل القرآن " كمشكاة فيها مصباح " .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن مسلم ، في قول الله تبارك وتعالى " الله نور السماوات والأرض مثل نوره " ونوره الذي ذكر : القرآن ، ومثله الذي ضرب له .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : مثل نور الله ، وقالوا : يعني بالنور : الطاعة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " وذلك أن اليهود قالوا لمحمد : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضر الله مثل ذلك لنوره ، فقال " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة " قال وهو مثل ضربه الله لطاعته ، فسمى طاعته نورا ، ثم سماها أنوارا شتى .
وقوله " كمشكاة " اختلف أهل التأويل في معنى المشكاة والمصباح ، وما المراد بذلك .
وبالزجاجة ، فقال بعضهم : المشكاة كل كوة لا منفذ لها ، وقالوا : هذا مثل ضربه الله لقلب محمد صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن حفص ، عن شمر ، قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار ، فقال له : حدثني عن قول الله " مثل نوره كمشكاة " قال : المشكاة وهي الكوة ، ضربها الله مثلا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، " كمشكاة فيها مصباح المصباح " قلبه " في زجاجة الزجاجة " صدره الزجاجة " كأنها كوكب دري " شبه صدر النبي صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدري ، ثم رجع المصباح إلى قلبه ، فقال " يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية " لم تمسها شمس المشرق ولا شمس المغرب " يكاد زيتها يضيء " يكاد محمد يبين للناس ، وإن لم يتكلم أنه نبي ، كما يكاد ذلك الزيت يضيء " ولو لم تمسسه نار نور على نور " .
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " كمشكاة " يقول : موضع الفتيلة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " الله نور السماوات والأرض " إلى " كمشكاة " قال : المشكاة : كوة البيت .
وقال آخرون : عني بالمشكاة : صدر المؤمن ، وبالمصباح : القرآن والإيمان ، وبالزجاجة : قلبه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي كعب " مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " قال : مثل المؤمن قال جعل الإيمان والقرآن في صدره كمشكاة ، قال : المشكاة : صدره " فيها مصباح " قال : والمصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره " المصباح في زجاجة " قال والزجاجة : قلبه ." الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد " ، قال : فمثله مما استنار فيه القرآن والإيمان كأنه كوكب دري ، يقول :مضيء " يوقد من شجرة مباركة " والشجرة المباركة ، أصله المباركة الإخلاص لله وحده وعبادته ، لا شريك له " لا شرقية ولا غربية " قال : فمثله مثل شجرة التف بها الشجر ، فهي خضراء ناعمة ، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت ، لا إذا طلعت ، ولا إذا غربت ، وكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الغير ، وقد ابتلي بها ، فثبته الله فيها ، فهو بين أربع خلال ، إن أعطي شكر ، وإن ابتلي صبر ، وإن حكم عدل ، وإن قال صدق ، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات ، قال " نور على نور "فهو يتقلب في خمسة من النور ، فكلامه نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة في الجنة .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني يحيى بن اليمان ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي كعب ، قال : المشكاة : صدر المؤمن "فيها مصباح " ، قال : القرآن .
قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، نحو حديث عبد الأعلى ، عن عبيد الله .
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس "مثل نوره كمشكاة " قال مثل هداه في قلت المؤمن ، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار ، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء ، كذلك يكون قلت المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ، ونورا على نور ، كما قال إبراهيم صلوات الله عليه قبل أن تجيئه المعرفة " قال هذا ربي " حين رأى الكوكب من غير أن يخبره أحد أن له ربا ، فلما أخبره الله أنه ربه ، ازداد هدى على هدى .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره ، فقال " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " والمشكاة : كوة البيت فيها مصباح " المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري " والمصباح : السراج يكون في الزجاجة ، وهو مثل ضربه الله لطاعته ، فسمى طاعته نورا ، وسماها أنواعا شتى .
وقوله " يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية " قال : هي شجرة لا يفيء عليها ظل شرق ، ولا ظل غرب ، ضاحية ، ذلك أصفى للزيت ، " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار " قال معمر ، وقال الحسن : ليست من شجر الدنيا ، ليست شرقية ولا غربية .
وقال آخرون : هو مثل للمؤمن غير أن المصباح وما فيه مثل لفؤاده ، والمشكاة مثل لجوفه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد و ابن عباس جميعا : المصباح وما فيه مثل فؤاد المؤمن وجوفه ، المصباح مثل الفؤاد ، والكوة مثل الجوف .
قال ابن جريج " كمشكاة " : كوة غير نافذة . قال ابن جريج ،وقال ابن عباس : قوله " نور على نور " يعني : إيمان المؤمن وعمله .
وقال آخرون : بل ذلك مثل للقرآن في قلب المؤمن .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة " قال : ككوة " فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري " .
حدثني يونس ، قال : اخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله الله " الله نور السماوات والأرض مثل نوره " نور القرآن الذي أنزل على رسوله وعباده ، فهذا مثل القرآن " كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة " فقرأ حتى بلغ " مباركة " فهذا مثل القرآن يستضاء به في نوره ويعلمونه ويأخذون به ، وهو كما هو لا ينقص ، فهذا مثل ضربه الله لنوره . وفي قوله " يكاد زيتها يضيء " قال الضوء : إشراق ذلك الزيت ، والمشكاة : التي فيها الفتيلة التي في المصباح ، والقناديل تلك المصابيح .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن عياض في قوله " كمشكاة" قال : الكوة .
حدثنا ابن بشار ، قال :ثنا أبو عامر ، قال : ثنا قرة ، عن عطية ، في قوله " كمشكاة " قال : قال ابن عمر : المشكاة : الكوة .
وقال آخرون : المشكاة : القنديل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله " كمشكاة " قال : القنديل ، ثم العمود الذي فيه القنديل .
حدثني الحارث ، قال :ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " كمشكاة " : الصفر الذي في جوف القنديل .
حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : ثنا خالد بن عبدالله بن داود ، عن رجل ، عن مجاهد ، قال : المشكاة : القنديل .
وقال آخرون : المشكاة : الحديد الذي يعلق به القنديل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن المفضل ، قال : ثنا هشيم ، قال : ثنا داود بن أبي هند ، عن مجاهد ، قال : المشكاة الحدائد التي يعلق بها القنديل .
وأولى الأقوال بالصواب ، قول من قال : ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به ، فقال : مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد ، الذي أنزله إليهم ، فآمنوا به ، وصدقوا بما فيه ، في قلوب المؤمنين ، مثل مشكاة ، وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة ، وذلك هو نظير الكوة التي تكون في الحيطان التي لا منقذ لها ، وإ،ما جعل ذلك العمود مشكاة ، لأنه غير نافذ ، وهو أجوف مفتوح الأعلى ، فهو كالكوة التي في الحائط التي لا تنفذ ، ثم قال " فيها مصباح " وهو السراج ، وجعل السراج وهو المصباح مثلا لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات المبينات ، ثم قال " المصباح في زجاجة " يعني : أن السراج الذي في المشكاة في القنديل ، وهو الزجاجة وذلك مثل للقرآن ، يقول : القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله قلبه في صدره . ثم مثل الصدر في خلوصة من الكفر بالله ، والشك فيه ، واستنار بنور القرآن ، واستضاءته بآيات ربه المبينات ، ومواعظه فيها ، بالكوكب الدري ، فقال : الزجاجة ، وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه كأنها كوكب دري .
واختلف القراء في قراءة قوله " دري " فقرأته عامة قراء الحجاز " دري " بضم الدال ، وترك الهمز ، وقرأ بعض قراء البصرة والكوفة : دري بكسر الدال وهمزة بعض قراء الكوفة دري بضم الدال وهمزة ، وكأن الذين ضموا داله ، وتركوا الهمزة ، وجهوا معناه إلى ما قاله أهل التفسير الذي ذكرنا عنهم من أن الزجاجة في صفائها وحسنها كالدر ، وأنها منسوبة إليه لذلك من نعتها وصفها ، ووجه الذين قرءوا ذلك بكسر داله وهمزه ، إلى أنه فعيل من دريء الكوكب : أي دفع ورجم به الشيطان ، من قوله " ويدرأ عنها العذاب " : أي يدفع ، والعرب تسمي الكواكب العظام التي لا تعرف أسماءها الدراري بغير همز .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول : هي الدرارئ بالهمز ، من يدرأن . وأما الذين قرءوه بضم داله وهمزه ، فإن كانوا أرادوا به دروء مثل سبوح وقدوس من درأت ، ثم استثقلوا كثرة الضمات فيه ، فصرفوا بعضها إلى الكسرة ، فقالوا : درئ ، كما قيل : " وقد بلغت من الكبر عتيا " مريم : 8 وهو فعول ، من عتوت عتوا ، ثم حولت بعض ضماتها إلى الكسر ، فقيل : عتيا ، فهو مذهب ، وإلا فلا أعرف لصحة قراءتهم ذلك كذلك وجها ، وذلك أنه لا يعرف في كلام العرب فعيل ، وقد كان بعض أهل العربية يقول : هو لحن .
والذي هو أولى القراءات عندي في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأ " دري " بضم داله ، وترك همزه على النسبة إلى الدر ، لأن أهل التأويل بتأويل ذلك جاءوا ، وقد ذكرنا أقوالهم في ذلك قبل ، ففي ذلك مكتفى عن الاستشهاد على صحتها بغيره ، فتأويل الكلام : الزجاجة : وهي صدر المؤمن ، " كأنها " : يعني كأن الزجاجة ، وذلك مثل لصدر المؤمن " كوكب " يقول : في صفائها وضيائها وحسنها . وإنما يصف صدره بالنقاء من كل ريب وشك ، في أسباب الإيمان بالله ، وبعده من دنس المعاصي ، كالكواكب الذي يشبه الدر في الصفاء والضياء والحسن .
واختلفوا أيضا في قراءة قوله " يوقد من شجرة مباركة " فقرأ ذلك بعض المكيين والمدنيين وبعض البصريين توقد من شجرة بالتاء ، وفتحها ، وتشديد القاف ، وفتح الدال ، وكأنهم وجهوا معنى ذلك إلى توقد المصباح من شجرة مباركة . وقرأه بعض عامة قراء المدنيين يوقد بالياء ، وتخفيف القاف ، ورفع الدال ، بمعنى : يوقد المصباح موقده من شجرة ، ثم لم يسم فاعله . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة ( توقد ) بضم التاء وتخفيف القاف ورفع الدال ، بمعنى : يوقد الزجاجة موقدها من شجرة مباركة لما لم يسم فاعله ، فقيل توقد . وقرأه بعض أهل مكة توقد بفتح التاء ، وتشديد القاف ، وضم الدال ، بمعنى : تتوقد الزجاجة من شجرة ، ثم أسقطت أحدى التاءين ، اكتفاء بالباقية من الذاهبة . وهذه القراءات متقاربات المعاني ، وإن اختلفت الألفاظ بها ، وذلك أن الزجاجة إذا وصفت بالتوقد ، أو بأنها توقد ، فمعلوم معنى ذلك ، فإن المراد به توقد فيها المصباح ، أو يوقد فيها المصباح ، ولكن وجهوا الخبر إلى أن وصفها بذلك ، أقرب في الكلام منها ، وفهم السامعين معناه والمراد منه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فبأي القراءات قرأ القارئ فمصيب ، غير أن أعجب القراءات إلي ، أن أقرأ بها في ذلك توقد بفتح التاء ، وتشديد القاف ، وفتح الدال ، بمعنى : وصف المصباح بالتوقد ، لأن التوقد والاتقاد لا شك أنهما من صفته ، دون الزجاجة ، فمعنى الكلام إذن : كمشكاة فيها مصباح ، المصباح من دهن شجرة مباركة ، زيتونة لا شرقية ولا غربية .
وقد ذكرنا بعض ما روي عن بعضهم من الاختلاف في ذلك فيما قد مضى ، ونذكر باقي ما حضنا مما لم نذكره قبل ، فقال بعضهم : إنما قيل لهذه الشجرة : لا شرقية ولا غربية : أي ليست شرقية وحدها ، حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت ، وإنما لها نصيبها من الشمس بالغداة ما دامت بالجانب الذي يلي الشرق ، ثم لا يكون لها نصيب منها إذا مالت إلى جانب الغرب ، ولا هي وحدها ، فتصيبها الشمس بالعشي ، إذا مالت إلى جانت الغرب ، ولا تصيبها بالغداة ، ولكنها شرقية غربية ، تطلع الشمس بالغداة ، وتغرب عليها ، فيصيبها حر الشمس بالغداة والعشي ، قالوا : وإذا كانت كذلك ، كان أجود لزيتها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله " زيتونة لا شرقية ولا غربية " قال : لا يسترها من الشمس جبل ولا واد ، إذا طلعت ، وإذا غربت .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا حرمي بن عمارة ، قال : ثنا شعبة ، قال : أخبرني عمارة ، عن عكرمة في قوله " لا شرقية ولا غربية " قال : الجرة تكون في مكان لا يسترها من الشمس شيء تطلع عليها ، وتغرب عليها .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد و ابن عباس " لا شرقية ولا غربية " قالا : هي التي بشق الجبل ، التي يصيبها شروق الشمس وغروبها ، إذا طلعت أصابتها ، وإذا غربت أصابتها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليست شرقية ولا غربية .
ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثني محمد بن الصلت ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس " لا شرقية ولا غربية " قال ك هي شجرة وسط الشجر ، ليست من الشرق ، ولا من الغرب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " زيتونة لا شرقية ولا غربية " متيامنة الشأم ، لا شرقي ولا غربي .
وقال آخرون : ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا عوف ، عنه الحسن ، في قول الله " لا شرقية ولا غربية " قال : والله لو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية ، ولكنما هو مثلا ضربه الله لنوره .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عثمان ، يعني ابن الهيثم ، قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في قول الله " زيتونة لا شرقية ولا غربية " قال : لو كانت في الأرض هذه الزيتونة ، كانت شرقية أو غربية ولكن والله ما هي في الأرض ، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : اخبرنا عوف ، عن الحسن ، في قوله " لا شرقية ولا غربية " قال : هذا مثل ضربه الله ، ولو كانت هذه الشجرة في الدنيا ، لكانت إما شرقية ، وإما غربية .
وأولى هذه الأقوال بتأويل ذلك : قول من قال : إنها شرقية غربية ، وقال : ومعنى الكلام : ليست شرقية تطلع عيها الشمس بالعشي دون الغداة ، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب ، فهي شرقية وغربية .
وإنما قلنا ذلك أولى بمعنى الكلام ، لأن الله إنما وصف الزيت الذي يوقد على هذا المصباح بالصفاء والجودة ، فإذا كان شجره شرقيا غربيا ، كان زيته لا شك أجود وأصفى وأضوأ .
وقوله " يكاد زيتها يضيء " يقول تعالى ذكره : يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء من صفائه ، وحسن ضيائه . " ولو لم تمسسه نار " يقول : فكيف إذا مسته النار .
وإنما أريد بقوله " يوقد من شجرة مباركة " أن هذا القرآن من عند الله ، وأنه كلامه ، فجعل مثله ومثل كونه من عنده ، مثل المصباح الذي يوقد من الشجرة المباركة ، التي وصفها جل ثناؤه في هذه الآية . وعني بقوله " يكاد زيتها يضيء " : أن حجج الله تعالى ذكره على خلقه . تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر ، أو أعرض عنها ولها " ولو لم تمسسه نار " يقول : ولو لم يزدها الله بيانا ووضوحا ، بإنزاله هذا القرآن إليهم ، منبها لهم على توحيده ، فيكف إذا نبههم به ، وذكرهم بآياته ، فزادهم به حجة إلى حججه عليهم قبل ذلك ، فذلك بيان من الله ، ونور على البيان ، والنور الذي كان قد وضعه لهم ونصبه قبل نزوله .
وقوله " نور على نور " يعني النار على هذا الزيت الذي كاد يضيء ، ولو لم تمسسه النار .
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " نور على نور " قال : النار على الزيت .
قال أبن جعفر : وهو عندي كما ذكرت مثل القرآن ، ويعني بقوله " نور على نور " هذا القرآن نور من عند الله ، أنزله إلى خلقه يستضيئون به . " على نور " على الحجج والبيان الذي قد نصبه لهم قبل مجيء القرآن إنزاله إياه ، مما يدل على حقيقة وحدانيته ، فذلك بيان من الله ، ونور على البيان ، والنور الذي كان وضعه لهم ، ونصبه قبل نزوله .
وذكر عن زيد بن أسلم في ذلك ، ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم ، في قوله " نور على نور " يضيء بعضه بعضا ، يعين القرآن .
وقوله " يهدي الله لنوره من يشاء " : يقول تعالى ذكره : يوفق الله لاتباع نوره ، وهو هذا القرآن ، من يشاء من عباده . وقوله " ويضرب الله الأمثال للناس " يقول : ويمثل الله الأمثال والأشياء للناس ، كما مثل لهم مثل هذا القرآن في قلب المؤمن ، بالمصباح في المشكاة ، وسائر ما في هذه الآية من الأمثال . " والله بكل شيء عليم " يقول : والله يضرب الأمثال ، وغيرها من الأشياء كلها ، ذو علم .
النور في كلام العرب: الأضواء المدركة بالبصر. واستعمل مجازاً فيما صح من المعاني ولاح، فيقال منه: كلام له نور. ومنه الكتاب المنير، ومنه قول الشاعر:
نسب كأن عليه من شمس الضحا نوراً ومن فلق الصباح عمودا
والناس يقولون: فلان نور البلد، وشمس العصر وقمره. قال:
فإنك شمس والملوك كواكب
وقال آخر:
هلا خصصت من البلاد بمقصد قمر القبائل خالد بن يزيد
وقال آخر:
إذا سار عبد الله من مرو ليلةً فقد سار منها نورها وجمالها
فيجوز أن يقام: لله تعالى نور، من جهة المدح لأنه أوجد الأشياء، ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها وعنه صدورها، وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة جل وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وقد قال هشام الجوالقي وطائفة من المجسمة: هو نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام. وهذا كله محال على الله تعالى عقلاً ونقلاً على ما يعرف في موضعه من علم الكلام. ثم إن قولهم متناقض، فإن قولهم جسم أو نور حكم عليه بحقيقة ذلك، وقولهم لا كالأنوار ولا كالأجسام نفي لما أثبتوه من الجسمية والنور، وذلك تناقض، وتحقيقه في علم الكلام. والذي أوقعهم في ذلك ظواهر اتبعوها منها هذه الآية، " وقوله عليه السلام إذا قام من الليل يتهجد:
اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ". " وقال عليه السلام وقد سئل:
هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نوراً ". إلى غير ذلك من الأحاديث.
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: المعنى أي به وبقدرته أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها، وقامت مصنوعاتها. فالكلام على التقريب للذهن، كما يقال: الملك نور أهل البلد، أي به قوام أمرها وصلاح جملتها، لجريان أموره على سنن السداد. فهو في الملك مجاز، وهو في صفة الله حقيقة محضة، إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نوراً هادياً، لأن ظهور الموجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات، تبارك الله تعالى لا رب غيره. قال معناه مجاهد و الزهري وغيرهما. قال ابن عرفة: أي منور السموات والأرض. وكذا قال الضحاك والقرظي. كما يقولون: فلان غياثنا، أي مغيثنا. وفلان زادي، أي مزودي. قال جرير:
وأنت لنا نور وغيث وعصمة ونبت لمن يرجو نداك وريق
أي ذو ورق. وقال مجاهد : مدبر الأمور في السموات والأرض. أبي بن كعب و الحسن و أبو العالية : مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقال ابن عباس وأنس: المعنى الله هادي أهل السموات والأرض. والأول أعم للمعاني وأصح مع التأويل.
قوله تعالى: " مثل نوره " أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن، والدلائل تسمى نوراً. وقد سمى الله تعالى كتابه نوراً فقال: " وأنزلنا إليكم نورا مبينا " [النساء: 174] وسمى نبيه نوراً فقال: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين " [المائدة: 15]. وهذا لأن الكتاب يهدي ويبين، وكذلك الرسول. ووجه الإضافة إلى الله تعالى أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها. وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به، بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة، وذلك أن يريد مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة، كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة، التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس، فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر. والمشكاة: الكوة في الحائط غير النافذة، قاله ابن جبير وجمهور المفسرين، وهي أجمع للضوء، والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها، وأصلها الوعاء يجعل فيه الشيء. والمشكاة وعاء من أدم كالدلو يبرد فيها الماء، وهو على وزن مفعلة كالمقراة والمصفاة. قال الشاعر:
كأن عينيه مشكاتان في حجر قيضا اقتياضا بأطراف المناقير
وقيل: المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد : هي القنديل. وقال " في زجاجة " لأنه جسم شفاف، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج. والمصباح: الفتيل بناره. " كأنها كوكب دري " أي في الإنارة والضوء. وذلك يحتمل معنيين: إما أن يريد أنها بالمصباح كذلك، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك. وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور. قال الضحاك: الكوكب الدري هو الزهرة.
قوله تعالى: " يوقد من شجرة مباركة " أي من زيت شجرة، فحذف المضاف. والمباركة المنماة، والزيتون من أعظم الثمار نماء، والرمان كذلك. والمعسان يقتضي ذلك. وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس:
ليت شعري مسافر بن أبي عمرو وليت يقولها المحزون
بورك الميت الغريب كما بو رك نبع الرمان والزيتون
وقيل: من بركتهما أن أغصانهما تورق من أسفلها إلى أعلاها. وقال ابن عباس: في الزيتونة منافع، يسرج بالزيت، وهو إدام ودهان ودباغ، ووقود يوقد بحطبه وتفله، وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة، حتى الرماد يغسل به الأبريسم. وهي أول شجرة نبتت في الدنيا، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان، وتنبت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة، ودعا لها سبعون نبياً بالبركة، منهم إبراهيم، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قال:
" اللهم بارك في الزيت والزيتون ". قاله مرتين.
قوله تعالى: " لا شرقية ولا غربية " اختلف العلماء في قوله تعالى: " لا شرقية ولا غربية " فقال ابن عباس وعكرمة و قتادة وغيرهم: الشرقية التي تصيبها الشمس إذا شرقت ولا تصيبها إذا غربت، لأن لها ستراً. والغربية عكسها، أي أنها شجرة في صحراء ومنكشف من الأرض لا يواريها عن الشمس شيء وهو أجود لزيتها، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي شرقية غربية. وقال الطبري عن ابن عباس: إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها، فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب. قال ابن عطية : وهذا قول لا يصح عن ابن عباس، لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها، وذلك مشاهد في الوجود. وقال الحسن : ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وأما غربية. الثعلبي : وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا لأنها بدل من الشجرة، فقال " زيتونة " وقال ابن زيد: إنها من شجر الشأم، فإن شجر الشأم لا شرقي ولا غربي، وشجر الشأم هو أفضل الشجر، وهي الأرض المباركة. و " شرقية " نعت لـ" زيتونة " و " لا " ليست تحول بين النعت والمنعوت، و " لا غربية " عطف عليه.
قوله تعالى: " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار " مبالغة في حسنه وصفائه وجودته. " نور على نور " أي اجتمع في المشكاة ضوء المصباح إلى ضوء الزجاجة وإلى ضوء الزيت فصار لذلك نور على نور. واعتقلت هذه الأنوار في المشكاة فصارت كأنور ما يكون، فكذلك براهين الله تعالى واضحة، وهي برهان بعد برهان، وتنبيه بعد تنبيه، كإرساله الرسل وإنزاله الكتب، ومواعظ تتكرر فيها لمن له عقل معتبر. ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده، وذكر تفضله للعباد في ضرب الأمثال لتقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان. وقرأ عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمي " الله نور " بفتح النور والواو المشددة. واختلف المتأولون في عود الضمير في " نوره " على من يعود، فقال كعب الأحبار وابن جبير: هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، أي مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن الأنباري : " الله نور السماوات والأرض " وقف حسن، ثم تبتدىء " مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " على معنى نور محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أبي بن كعب وابن جبير أيضاً و الضحاك : هو عائد على المؤمنين. وفي قراءة أبي مثل نور المؤمنين . وروي أن في قراءته مثل نور المؤمن. وروي أن فيها مثل نور من آمن به. وقال الحسن : هو عائد على القرآن والإيمان. قال مكي: وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله: " والأرض ". قال ابن عطية : وهذه الأقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر، وفيها مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل، فعلى من قال: الممثل به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول كعب الأحبار فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المشكاة أو صدره، والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من عمله وهداه، والزجاجة قلبه، والشجرة المباركة هي الوحي، والملائكة رسل الله إليه وسببه المتصل به، والزيت هو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي. ومن قال: الممثل به المؤمن، وهو قول أبي، فالمشكاة صدره، والمصباح الإيمان والعلم، والزجاجة قلبه، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها. قال أبي: فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات. ومن قال: إن الممثل به هو القرآن والإيمان، فتقدير الكلام: مثل نوره الذي هو الإيمان في صدر المؤمن في قلبه كمشكاة، أي كهذه الجملة. وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان. وقالت طائفة: الضمير في " نوره " عائد على الله تعالى. وهذا قول ابن عباس فيما ذكر الثعلبي و الماوردي و المهدوي ، وقد تقدم معناه. ولا يوقف على هذا القول على " الأرض ". قال المهدوي : الهاء لله عز وجل، والتقدير: الله هادي أهل السموات والأرض، مثل هداه في قلوب المؤمنين كمشكاة، وروي ذلك عن ابن عباس. وكذلك قال زيد بن أسلم، و الحسن : إن الهاء لله عز وجل. وكان أبي وابن مسعود يقرأانها مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة . قال محمد بن علي الترمذي: فأما غيرهما فلم يقرأها في التنزيل هكذا، وقد وافقهما في التأويل أن ذلك نوره في قلب المؤمن، وتصديقه في آية أخرى يقول: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه " [الزمر: 22]. واعتل الأولون بأن قالوا: لا يجوز أن يكون الهاء لله عز وجل، لأن الله عز وجل لا حد لنوره. وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمر الدوري الألف من " مشكاة " وكسر الكاف التي قبلها. وقرأ نصر بن عاصم " زجاجة " بفتح الزاي و " الزجاجة " كذلك، وهي لغة. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم " دري " بضم الدال وشد الياء، ولهذه القراءة وجهان: إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفاته، وإما أن يكون أصله دريء مهموز، فعيل من الدرء وهو الدفع، وخففت الهمزة. ويقال للنجوم العظام التي لا تعرف أسماؤها: الدراري، بغير همز، فلعلهم خففوا الهمزة، والأصل من الدرء الذي هو الدفع. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم دريء بالهمز والمد وهو فعيل بمعنى أنه يدفع بعضها بعضاً وقرأ الكسائي وأبو عمرو دريء بكسر الدال والهمز من الدرء والدفع، مثل السكير والفسيق. قال سيبويه: أي يدفع بعض ضوئه بعضاً من لمعانه. قال النحاس : وضعف أبو عبيد قراءة أبي عمرو و الكسائي تضعيفاً شديداً، لأنه تأولها من درأت أي دفعت، أي كوكب يجري من الأفق إلى الأفق. وإذا كان التأويل على ما تأوله لم يكن في الكلام فائدة، ولا كان لهذا الكوكب مزية على أكثر الكواكب، ألا ترى أنه لا يقال جاءني إنسان من بني آدم. ولا ينبغي أن يتأول مثل أبي عمرو و الكسائي مع علمهما وجلالتهما هذا التأويل البعيد، ولكن التأويل لهما على ما روي عن محمد بن يزيد أن معناهما في ذلك: كوكب مندفع بالنور، كما يقال: اندرأ الحريق أي اندفع. وهذا تأويل صحيح لهذه القراءة. وحكى سعيد بن مسعدة أنه يقال: درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوءه وعلا. وقال الجوهري في الصحاح: ودرأ علينا فلان يدرأ دروءاً أي طلع مفاجأة. ومنه كوكب دريء، على فعيل، مثل سكير وخمير، لشدة توقده وتلألئه. وقد درأ الكوكب دروءاً. قال أبو عمرو بن العلاء: سألت رجلاً من سعد بن بكر من أهل ذات عرق فقلت: هذا الكوكب الضخم ما تسمونه؟ قال: الدريء، وكان من أفصح الناس. قال النحاس : فأما قراءة حمزة فأهل اللغة جميعاً قالوا: هي لحن لا تجوز، لأنه ليس في كلام العرب اسم على فعيل. وقد اعترض أبو عبيد في هذا فاحتج لحمزة فقال: ليس هو فعيل وإنما هو فعول، مثل سبوح، أبدل من الواو ياء، كما قالوا: عتي. قال أبو جعفر النحاس: وهذا الاعتراض والاحتجاج من أعظم الغلط وأشده، لأن هذا لا يجوز ألبتة، ولو جاز ما قال لقيل في سبوح سبيح. وهذا لا يقوله أحد، وليس عتي من هذا، والفرق بينهما واضح بين، لأنه ليس يخلو عتي من إحدى جهتين: إما أن يكون جمع عات فيكون البدل فيه لازماً، لأن الجمع باب تغيير، والواو لا تكون طرفاً في الأسماء وقبلها ضمة، فلما كان قبل هذه ساكن وقبل الساكن ضمة والساكن ليس بحاجز حصين أبدل من الضمة كسرة فقلبت الواو ياء. وإن كان عتي واحداً كان بالواو أولى، وجاز قلبها لأنها طرف، والواو في فعول ليست طرفاً فلا يجوز قلبها. قال الجوهري : قال أبو عبيد إن ضممت الدال قلت دري، يكون منسوباً إلى الدر، على فعلي ولم تهمزه لأنه ليس في كلام العرب فعيل. ومن همزه من القراء فإنما أراد فعولاً مثل سبوح فاستثقل فرد بعضه إلى الكسر. وحكى الأخفش عن بعضهم دريء من درأته، وهمزها وجعلها على فعيل مفتوحة الأول. قال: وذلك من تلألئه. قال الثعلبي : وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء دريء بفتح الدال مهموزاً. قال أبو حاتم: هذا خطأ لأنه ليس في الكلام فعيل، فإن صح عنهما فهما حجة. " يوقد " قرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام وحفص " يوقد " بياء مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال. وقرأ الحسن والسلمي وأبو جعفر وأبو عمرو بن العلاء البصري " توقد " مفتوحة الحروف كلها مشددة القاف، واختارها أبو حاتم وأبو عبيد. قال النحاس : وهاتان القراءتان متقاربتان، لأنهما جميعاً للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف، لأنه الذي ينير ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له. و " توقد " فعل ماض من توقد يتوقد، ويوقد فعل مستقبل من أوقد يوقد. وقرأ نصر بن عاصم " توقد " والأصل على قراءته تتوقد حذف إحدى التاءين لأن الأخرى تدل عليها. وقرأ الكوفيون " توقد " بالتاء يعنون الزجاجة. فهاتان القراءتان على تأنيث الزجاجة. " من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية " تقدم القول فيه. " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور " على تأنيث النار. وزعم أبو عبيد أنه لا يعرف إلا هذه القراءة. وحكى أبو حاتم أن السدي روى عن أبي مالك عن ابن عباس أنه قرأ ولو لم يمسسه نار بالياء. قال محمد بن يزيد: التذكير على أنه تأنيث غير حقيقي، وكذا سبيل المؤنث عنده. وقال ابن عمر: المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله تعالى في قلبه يوقد من شجرة مباركة، أي أن أصله من إبراهيم وهو شجرته، فأوقد الله تعالى في قلب محمد صلى الله عليه وسلم النور كما جعله في قلب إبراهيم عليه السلام. وقال محمد بن كعب: المشكاة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، والمصباح محمد صلوات الله عليهم أجمعين، سماه الله تعالى مصباحاً كما سماه سراجاً فقال: " وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا " [الأحزاب: 46] يوقد من شجرة مباركة وهي آدم عليه السلام، بورك في نسله وكثر منه الأنبياء والأولياء. وقيل: هي إبراهيم عليه السلام، سماه الله تعالى مباركاً لأن أكثر الأنبياء كانوا من صلبه. " لا شرقية ولا غربية " أي لم يكن يهودياً ولا نصرانياً وإنما كان حنيفاً مسلماً. وإنما قال ذلك لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق. " يكاد زيتها يضيء " أي يكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن أوحى الله تعالى إليه. " نور على نور " نبي من نسل نبي. وقال الضحاك : شبه عبد المطلب بالمشكاة وعبد الله بالزجاجة والنبي صلى الله عليه وسلم بالمصباح كان في قلبهما، فورث النبوة من إبراهيم. " من شجرة " أي شجرة التقى والرضوان وعشيرة الهدى والإيمان، شجرة أصلها نبوة، وفرعها مروءة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبريل وميكائيل. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: ومن غريب الأمر أن بعض الفقهاء قال إن هذا مثل ضربه الله تعالى لإبراهيم محمد ولعبد المطلب وابنه عبد الله، فالمشكاة هي الكوة بلغة الحبشة، فشبه عبد المطلب بالمشكاة فيها القنديل وهو الزجاجة، وشبه عبد الله بالقنديل وهو الزجاجة، ومحمد كالمصباح يعني من أصلابهما، وكأنه كوكب دري وهو المشتري " يوقد من شجرة مباركة " يعني إرث النبوة من إبراهيم عليه السلام هو الشجرة المباركة، يعني حنيفية لا شرقية ولا غربية، لا يهودية ولا نصرانية. " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار " يقول: يكاد إبراهيم يتكلم بالوحي من قبل أن يوحى إليه. " نور على نور " إبراهيم ثم محمد صلى الله عليه وسلم. قال القاضي : وهذا كله عدول عن الظاهر، وليس بمتنع في التمثيل أن يتوسع المرء فيه.
قلت: وكذلك في جميع الأقوال لعدم ارتباطه بالآية ما عدا القول الأول، وأن هذا مثل ضربه الله تعالى لنوره، ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظم مثلا تنبيهاً لخلقه إلا ببعض خلقه، لأن الخلق لقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم، ولولا ذلك ما عرف الله إلا الله وحده، قاله ابن العربي . قال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإن مسته النار زاد ضوؤه، كذلك قلب المؤمن يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم زاده هدىً على هدىً ونوراً على نور، كقول إبراهيم من قبل أن تجيئه المعرفة: " هذا ربي " [الأنعام: 76]، من قبل أن يخبره أحد أن له رباً، فلما أخبره الله أنه ربه زاد هدىً، فقال له ربه: " أسلم قال أسلمت لرب العالمين " [البقرة: 131]. ومن قال إن هذا مثل للقرآن في قلب المؤمن قال: كما أن هذا المصباح يستضاء به ولا ينقص فكذلك القرآن يهتدى به ولا ينقص، فالمصباح القرآن، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه وفهمه، والشجرة المباركة شجرة الوحي. " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار " تكاد حجج القرآن تتضح ولو لم يقرأ. " نور على نور " يعني أن القرآن نور من الله تعالى لخلقه، مع ما أقام لهم من الدلائل والإعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نوراً على نور. ثم أخبر أن هذا النور المذكور عزيز، وأنه لا يناله إلا من أراد الله هداه فقال: " يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس " أي يبين الأشباه تقريباً إلى الأفهام. " والله بكل شيء عليم " أي بالمهدي والضال. وروي عن ابن عباس أن اليهود قالوا: يا محمد، كيف يخلص نور الله تعالى من دون السماء، فضرب الله تعالى ذلك مثلا لنوره.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "الله نور السموات والأرض" يقول هادي أهل السموات والأرض. قال ابن جريج : قال مجاهد وابن عباس في قوله "الله نور السموات والأرض" يدبر الأمر فيهما نجومهما وشمسهما وقمرهما. وقال ابن جرير : حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي , حدثنا وهب بن راشد عن فرقد عن أنس بن مالك قال: إن الله يقول نوري هداي واختار هذا القول ابن جرير . وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى: "الله نور السموات والأرض مثل نوره" قال هو المؤمن الذي جعل الله الإيمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال "الله نور السموات والأرض" فبدأ بنور نفسه ثم ذكر نور المؤمن فقال: مثل نور من آمن به, قال: فكان أبي بن كعب يقرؤها مثل نور من آمن به فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره, وهكذا قال سعيد بن جبير وقيس بن سعد عن ابن عباس أنه قرأها كذلك مثل نور من آمن بالله وقرأ بعضهم "الله نور السموات والأرض" وعن الضحاك " الله نور السماوات والأرض ".
وقال السدي في قوله "الله نور السموات والأرض" فبنوره أضاءت السموات والأرض. وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة أن يحل بي غضبك أو ينزل بي سخطك, لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله" وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: اللهم لك الحمد, أنت قيم السموات والأرض أنت نور السموات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد ومن فيهن" الحديث, وعن ابن مسعود قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور العرش من نور وجهه. وقوله تعالى: "مثل نوره" في هذا الضمير قولان (أحدهما) أنه عائد إلى الله عز وجل أي مثل هداه في قلب المؤمن قاله ابن عباس "كمشكاة" (والثاني) أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام تقديره مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة, فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه كما قال تعالى: "أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه" فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لا كدر فيه ولا انحراف, فقوله "كمشكاة" قال ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغير واحد: هو موضع الفتيلة من القنديل هذا هو المشهور ولهذا قال بعده "فيها مصباح" وهو الزبالة التي تضيء. وقال العوفي عن ابن عباس قوله "الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح" وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل (ذلك) لنوره فقال "الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة" والمشكاة كوة في البيت, قال وهو مثل ضربه الله لطاعته فسمى الله طاعته نوراً ثم سماها أنواعاً شتى, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : هن الكوة بلغة الحبشة وزاد بعضهم فقال: المشكاة الكوة التي لا منفذ لها, وعن مجاهد المشكاة الحدائد التي يعلق بها القنديل, والقول الأول أولى وهو أن المشكاة هو موضع الفتيلة من القنديل ولهذا قال "فيها مصباح" وهو النور الذي في الذبالة, قال أبي بن كعب : المصباح النور وهو القرآن والإيمان الذي في صدره, وقال السدي : هو السراج "المصباح في زجاجة" أي هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية, وقال أبي بن كعب وغير واحد: وهي نظير قلب المؤمن "الزجاجة كأنها كوكب دري" قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة من الدر أي كأنها كوكب من در, وقرأ آخرون دريء ودريء بكسر الدال وضمها مع الهمزة من الدرء وهو الدفع, وذلك أن النجم إذا رمي به يكون أشد استنارة من سائر الأحوال, والعرب تسمي مالا يعرف من الكواكب دراري, قال أبي بن كعب : كوكب مضيء, وقال قتادة : مضيء مبين ضخم "يوقد من شجرة مباركة" أي يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة "زيتونة" بدل أو عطف بيان "لا شرقية ولا غربية" أي ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار ولا في غربيها فيقلص عنها الفيء قبل الغروب بل هي في مكان وسط تقرعه الشمس من أول النهار إلى آخره فيجيء زيتها صافياً معتدلاً مشرقاً.
وروى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد , أخبرنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله "زيتونة لا شرقية ولا غربية" قال: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر ولا جبل ولا كهف ولا يواريها شيء وهو أجود لزيتها. وقال يحيى بن سعيد القطان عن عمران بن حدير عن عكرمة في قوله تعالى: "زيتونة لا شرقية ولا غربية" قال: هي بصحراء وذلك أصفى لزيتها. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا أبو نعيم , حدثنا عمرو بن فروخ عن حبيب بن الزبير عن عكرمة وسأله رجل عن قوله تعالى: "زيتونة لا شرقية ولا غربية" قال: تلك بأرض فلاة إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها فإذا غربت غربت عليها, فذلك أصفى ما يكون من الزيت. وقال مجاهد في قوله تعالى: "زيتونة لا شرقية ولا غربية" قال: ليست بشرقية لا تصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولكنها شرقية وغربية تصيبها إذا طلعت وإذا غربت.
وعن سعيد بن جبير في قوله "زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء" قال هو أجود الزيت, قال إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس, فالشمس تصيبها بالغداة والعشي فتلك لا تعد شرقية ولا غربية. وقال السدي قوله "زيتونة لا شرقية ولا غربية" يقول ليست بشرقية يحوزها المشرق ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق ولكنها على رأس جبل أو في صحراء تصيبها الشمس النهار كله. وقيل المراد بقوله تعالى: "لا شرقية ولا غربية" أنها في وسط الشجر ليست بادية للمشرق ولا للمغرب.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله تعالى: "زيتونة لا شرقية ولا غربية" قال هي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت قال فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها فيثبته الله فيها فهو بين أربع خلال, إن قال صدق, وإن حكم عدل, وإن ابتلي صبر, وإن أعطي شكر, فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات, قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله "زيتونة لا شرقية ولا غربية" قال هي وسط الشجر لا تصيبها شرقاً ولا غرباً, وقال عطية العوفي "لا شرقية ولا غربية" قال هي شجرة في موضع من الشجر يرى ظل ثمرها في ورقها, وهذه من الشجر لا تطلع عليها الشمس ولا تغرب.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار , حدثنا عبد الرحمن الدشتكي , حدثنا عمرو بن أبي قيس عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "لا شرقية ولا غربية" ليست شرقية ليس فيها غرب, ولا غربية ليس فيها شرق, ولكنها شرقية غربية, وقال محمد بن كعب القرظي "لا شرقية ولا غربية" قال هي القبلية, وقال زيد بن أسلم "لا شرقية ولا غربية" قال الشام, وقال الحسن البصري لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية, ولكنه مثل ضربه الله تعالى لنوره, وقال الضحاك " يوقد من شجرة مباركة " قال رجل صالح "زيتونة لا شرقية ولا غربية" قال: لا يهودي ولا نصراني, وأولى هذه الأقوال القول الأول, وهو أنها في مستوى من الأرض في مكان فسيح باد ظاهر ضاح للشمس تفرعه من أول النهار إلى آخره ليكون ذلك أصفى لزيتها وألطف كما قال غير واحد ممن تقدم, ولهذا قال تعالى: "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار" قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني لضوء إشراق الزيت.
وقوله تعالى: "نور على نور" قال العوفي عن ابن عباس يعني بذلك إيمان العبد وعمله, وقال مجاهد والسدي : يعني نور النار ونور الزيت, وقال أبي بن كعب "نور على نور" فهو يتقلب في خمسة من النور: فكلامه نور, وعمله نور, ومدخله نور, ومخرجه نور, ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة. وقال شمر بن عطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: حدثني عن قول الله تعالى: "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار" قال: يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي, كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء. وقال السدي في قوله تعالى "نور على نور" قال: نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا ولا يضيء واحد بغير صاحبه كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا, فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه.
وقوله تعالى: "يهدي الله لنوره من يشاء" أي يرشد الله إلى هدايته من يختاره, كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو , حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري , حدثنا الأوزاعي , حدثني ربيعة بن زيد عن عبد الله الديلمي عن عبد الله بن عمرو : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ, فمن أصاب من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأ ضل فلذلك أقول: جف القلم على علم الله عز وجل".
(طريق أخرى عنه) قال البزار : حدثنا أيوب عن سويد عن يحيى بن أبي عمرو السيباني , عن أبيه , عن عبد الله بن عمرو , سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم نوراً من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل" ورواه البزار عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر بلفظه حروفه. وقوله تعالى: "ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم" لما ذكر تعالى هذا مثلاً لنور هداه في قلب المؤمن ختم الاية بقوله "ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم" أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر , حدثنا أبو معاوية حدثنا شيبان عن ليث عن عمرو بن مرة , عن أبي البحتري , عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر, وقلب أغلف مربوط على غلافه, وقلب منكوس, وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد: فقلب المؤمن سراجه فيه نوره, وأما القلب الأغلف فقلب الكافر, وأما القلب المنكوس فقلب المنافق, عرف ثم أنكر, وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق, ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب,ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح, فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه" إسناده جيد ولم يخرجوه.
لما بين سبحانه من الأحكام ما بين أردف ذلك بكونه سبحانه في غاية الكمال فقال: 35- "الله نور السماوات والأرض" وهذه الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها، والاسم الشريف مبتدأ، ونور السماوات والأرض خبره، إما على حذف مضاف: أي ذو نور السماوات والأرض، أو لكون المراد المبالغة في وصفه سبحانه بأنه نور لكمال جلاله وظهور عدله وبسطه أحكامه، كما يقال فلان نور البلد وقمر الزمن وشمس العصر، ومنه قول النابغة:
فإنك شمس والملوك كواكب إذا ظهرت لم يبق فيهن كوكب
وقول الآخر:
هلا قصدت من البلاد لمفضل قمر القبائل خالد بن يزيد
ومن ذلك قول الشاعر:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها
وقول الآخر:
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراومن فلق الصباح عمودا
ومعنى النور في اللغة: الضياء، وهو الذي يبين الأشياء ويري الأبصار حقيقة ما تراه، فيجوز إطلاق النور على الله سبحانه على طريقة المدح، ولكونه أوجد الأشياء المنورة وأوجد أنوارها ونورها، ويدل على هذا المعنى قراءة زيد بن علي وابي جعفر وعبد العزيز المكي "الله نور السماوات والأرض" على صيغة الفعل الماضي، وفاعله ضمير يرجع إلى منيرتين باستقامة أحوال أهلهما وكمال تدبيره عز وجل لمن فيهما، كما يقال الملك نور البلد، هكذا قال الحسن ومجاهد والأزهري والضحاك والقرظي وابن عرفة وابن جرير وغيرهم، ومثله قول الشاعر:
وانت لنا نور وغيث وعصمة ونبت لمن يرجو نداك وريف
وقال هشام الجواليقي وطائفة من المجسمة: إنه سبحانه نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام، وقوله: "مثل نوره" مبتدأ وخبره "كمشكاة" أي صفة نوره الفائض عنه، عنه، الظاهر على الأشياء كمشكاة، والمشكاة الكوة في الحائط غير النافذة، كذا حكاه الواحدي عن جميع المفسرين، وحكاه القرطبي عن جمهورهم. ووجه تخصيص المشكاة أنها أجمع للضوء الذي يكون فيه من مصباح أو غيره، وأصل المشكاة الوعاء الذي يجعل فيه الشيء. وقيل المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد هي القنديل. والأول أولى، ومنه قول الشاعر:
كأن عينيه مشكاتان في جحر
ثم قال: "فيها مصباح" وهو السراج "المصباح في زجاجة" قال الزجاج: النور في الزجاج وضوء النار أبين منه في كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج، ووجه ذلك: أن الزجاج جسم شفاف يظهر فيه النور أكمل ظهور. ثم وصف الزجاجة فقال: "الزجاجة كأنها كوكب دري" أي منسوب إلى الدر لكون فيه من الصفاء والحسن ما يشابه الدر. وقال الضحاك: الكوكب الدري الزهرة. قرأ أبو عمر "دري" بكسر الدال. قال أبو عمرو: لم أسمع أعرابياً يقول: إلا كأنه كوكب دري بكسر الدال، أخذوه من درأت النجوم تدرأ إذا اندفعت. وقرأ حمزة بضم الدال مهموزاً، وأنكره الفراء والزجاج والمبرد. قال أبو عبيد: إن ضممت الدال وجب أن لا تهمز، لأنه ليس في كلام العرب. والدراري هي المشهورة من الكواكب كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت. ثم وصف المصباح بقوله: "يوقد من شجرة مباركة" ومن هذه هي الإبتدائية: أي ابتداء إيقاد المصباح منها، وقيل هو على تقدير مضاف: أي يوقد من زيت شجرة مباركة، والمباركة الكثيرة المنافع. وقيل المنماة، والزيتون من أعظم الثمار نماء، ومنه قول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس:
ليت شعري مسافر بن أبي عمرو وليت يقولها المحزون
بورك الميت الغريب كما بورك نبع الرمان والزيتون
قيل ومن بركتها أن أغصانها تورق من أسفلها إلى أعلاها، وهي إدام ودهان ودباغ ووقود، وليس فيها شيء إلا وفيه منفعة، ثم وصفها بأنها "لا شرقية ولا غربية".
وقد اختلف المفسرون في معنى هذا الوصف، فقال عكرمة وقتادة وغيرهم: إن الشرقية هي التي تصيبها الشمس إذا شرقت. ولا تصيبها إذا غربت. والغربية هي التي تصيبها إذا غربت، ولا تصيبها إذا شرقت. وهذه الزيتونة هي في صحراء بحيث لا يسترها عن الشمس شيء لا في حال شروقها ولا في حال غروبها، وما كانت من الزيتون هكذا فثمرها أجود. وقيل إن المعنى: إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها، فهي غير منكشفة من جهة الشرق، ولا من جهة الغرب، حكى هذاابن جرير عن ابن عباس. قال ابن عطية: وهذا لا يصح عن ابن عباس، لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها، وذلك مشاهد في الوجود. ورجح القول الأول الفراء والزجاج. وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية. قال الثعلبي: قد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا، لأن قوله زيتونة بدل من قوله شجرة. قال ابن زيد: إنها من شجر الشام، فإن الشام لا شرقي ولا غربي، والشام هي الأرض المباركة. وقد قرىء "توقد" بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الزجاجة دون المصباح، وبها قرأ الكوفيون. وقرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر وأهل
الشام وحفص "يوقد" بالتحتية مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال. وقرأ الحسن والسلمي وأبو عمر بن العلاء وأبو جعفر "توقد" بالفوقية مفتوحة وفتح الواو وتشديد القاف وفتح الدال على أنه فعل ماض من توقد يتوقد، والضمير في هاتين القراءتين راجع إلى المصباح. قال النحاس: وهاتان القراءتان متقاربتان لأنهما جميعاً للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف لأنه الذي ينير ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له. وقرأ نصر بن عاصم كقراءة أبي عمرو ومن معه إلا أنه ضم الدال على أنه فعل مضارع، وأصله تتوقد. ثم وصف الزيتونة بوصف آخر فقال: "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار" قرأ الجمهور "تمسسه" بالفوقية، لأن النار مؤنثة. قال أبو عبيد: إنه لا يعرف إلا هذه القراءة. وحكى أبو حاتم أن السدي روى عن ابي مالك عن ابن عباس أنه قرأ "يمسسه" بالتحتية لكون تأنيث النار غير حقيقي. والمعنى: أن هذا الزيت في صفائه وإنارته يكاد يضيء بنفسه من غير أن تمسه النار أصلاً، وارتفاع "نور" على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هي نور، و"على نور" متعلق بمحذوف هو صفة لنور مؤكدة له، والمعنى: هو نور كائن على نور. قال مجاهد: والمراد النار على الزيت. وقال الكلبي: المصباح نور، والزجاجة نور وقال السدي: نور الإيمان ونور القرأن "يهدي الله لنوره من يشاء" من عباده: أي هداية خاصة موصلة إلى المطلوب، وليس المراد بالهداية هنا مجرد الدلالة "ويضرب الله الأمثال للناس"أي يبين الأشياء بأشباهها ونظائرها تقريباً لها إلى الأفهام وتسهيلاً لإدراكها، لأن إبراز المعقول في هيئة المحسوس وتصويره بصورته يزيده وضوحاً وبياناً "والله بكل شيء عليم" لا يغيب عنه شيء من الأشياء معقولاً كان أو محسوساً، ظاهراً أو باطناً.
قوله عز وجل: 35- "الله نور السموات والأرض"، قال ابن عباس: هادي أهل السموات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهداه من الضلالة ينجون.
وقال الضحاك: منور السموات والأرض، يقال: نور السماء بالملائكة ونور الأرض بالأنبياء.
وقال مجاهد: مدبر الأمور في السموات والأرض.
وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية: مزين السموات والأرض، زين السماء بالشمس والقمر والنجوم، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. ويقال: بالنبات والأشجار.
وقيل: معناه الأنوار كلها منه، كما يقال: فلان رحمة أي منه الرحمة. وقد يذكر مثل هذا اللفظ على طريق المدح كما قال القائل:
إذا سار عبد الله من مرو ليلةً فقد سار منها نورها وجمالها
قوله تعالى: "مثل نوره" أي: مثل نور الله تعالى في قلب المؤمن، وهو النور الذي يهتدى به، كما قال "فهو على نور من ربه" (الزمر-22)، وكان ابن مسعود يقرأ: مثل نوره في قلب المؤمن. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: الذي أعطى المؤمن. وقال بعضهم: الكناية عائدة إلى المؤمن، أي: مثل نور قلب المؤمن، وكان أبي يقرأ: مثل نور من آمن به وهو عبد جعل الإيمان والقرآن في صدره. وقال الحسن وزيد بن أسلم: أراد بالنور القرآن. وقال سعيد بن جبير والضحاك: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: أراد بالنور الطاعة، سمي طاعة الله نوراً وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلاً، "كمشكاة"، وهي الكوة التي لا منفذ لها فإن كان لها منفذ فهي كوة. وقيل: المشكاة حبشية. قال مجاهد: هي القنديل "فيها مصباح" أي: سراج، أصله من الضوء، ومنه الصبح، ومعناه: كمصباح في مشكاة، "المصباح في زجاجة"، يعني القنديل، قال الزجاج: إنما ذكر الزجاجة لأن النور وضوء النار فيها أبين من كل شيء، وضوؤه يزيد في الزجاج، ثم وصف الزجاجة، فقال: "الزجاجة كأنها كوكب دري"، قرأ أبو عمرو والكسائي: درئ بكسر الدال والهمزة، وقرأ حمزة وأبو بكر بضم الدال والهمزة، فمن كسر الدال فهو فعيل من الدرء، وهو الدفع، لأن الكوكب يدفع الشياطين من السماء، وشبهه بحالة الدفع لأنه يكون في تلك الحالة أضوأ وأنور، ويقال: هو من درأ الكوكب إذا اندفع منقبضاً فيتضاعف ضوءه في ذلك الوقت. وقيل: دري أي: طالع، يقال: درأ النجم إذا طلع وارتفع. ويقال: درأ علينا فلان أي طلع وظهر، فأما رفع الدال مع الهمزة كما قرأ حمزة، قال أكثر النحاة: هو لحن، لأنه ليس في كلام العرب فعيل بضم الفاء وكسر العين.
قال أبو عبيدة: وأنا أرى لها وجهاً وذلك أنها دروء على وزن فعول من درات، مثل سبوح وقدوس، وقد استثقلوا كثرة الضمات فردوا بعضها إلى الكسر، كما قالوا: عتياً وهو فعول من عتوت، وقرأ الآخرون "دري" بضم الدال وتشديد الياء بلا همز، أي: شديد الإنارة، نسب إلى الدر في صفائه وحسنه، وإن كان الكوكب أكثر ضوءاً من الدر لكنه يفضل الكواكب بضيائه، كما يفضل الدر سائر الحب.
وقيل: الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام، وهي زحل، والمريخ، والمشترى، والزهرة، وعطارد.
وقيل: شبهه بالكوكب، ولم يشبهه بالشمس والقمر، لأن الشمس والقمر يلحقهما الخسوف والكواكب لا يلحقها الخسوف.
"يوقد" قرأ أبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: توقد بالتاء وفتحها وفتح الواو والدال وتشديد القاف على الماضي، يعني المصباح، أي: اتقد، يقال توقدت النار أي: اتقدت. قرأ أهل الكوفة غير حفص توقد بالتاء وضمها وفتح القاف خفيفاً، يعني الزجاجة أي: نار الزجاجة لأن الزجاجة لا توقد، وقرأ الآخرون بالياء وضمها خفيفاً يعني المصباح، "من شجرة مباركة زيتونة"، أي: من زيت شجرة مباركة، فحذف المضاف بدليل قوله تعالى "يكاد زيتها يضيء" وأراد بالشجرة المباركة: الزيتونة/ وهي كثيرة البركة، وفيها منافع كثيرة، لأن الزيت يسرج به، وهو أضوأ وأصفى الأدهان، وهو إدام وفاكهة، ولا يحتاج في استخراجه إلى إعصار بل كل أحد يستخرجه، وجاء في الحديث: أنه مصحة من الباسور، وهي شجرة تورق من أعلاها إلا أسفلها.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو الحسن القاسم بن بكر الطيالسي، أخبرنا أبو أمية الطرسوسي، أخبرنا قبيصة بن عقبة، أخبرنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن عيسى، عن عطاء الذي كان بالشام، وليس بابن أبي رباح، عن أسد بن ثابت وأبي أسلم الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة".
قوله تعالى: "لا شرقية ولا غربية"، أي: ليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت، ولا غربية وحدها فلا تصيبها الشمس بالغداة إذا طلعت، بل هي ضاحية الشمس طول النهار، تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها، فتكون شرقية وغربية تأخذ حظها من الأمرين، فيكون زيتها أضوأ، وهذا كما يقال: فلان ليس بأسود ولا بأبيض، يريد لبس بأسود خالص ولا بأبيض خالص، بل اجتمع فيه كل واحد منهما، وهذا الرمان ليس بحلو ولا حامض، أي اجتمعت فيه الحلاوة والحموضة، هذا قول ابن عباس في رواية عكرمة والكلبي، والأكثرين.
وقال السدي وجماعة: معناه أنها ليست في مقناة لا تصيبها الشمس ولا في مضحاة لا يصيبها الظل، فهي لا تضرها شمس ولا ظل.
وقيل: معناه أنها معتدلة ليست في شرق يضرها الحر، ولا في غرب يضرها البرد.
وقيل: معناه هي شامية لأن الشام لا شرقي ولا غربي.
وقال الحسن: ليست هذه من أشجار الدنيا ولو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية وإنما هو مثل ضربه الله لنوره.
"يكاد زيتها"، دهنها، "يضيء"، من صفائه، "ولو لم تمسسه نار"، أي: قبل أن تصيبه النار، "نور على نور"، يعني نور المصباح على نور الزجاجة.
واختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل، فقال بعضهم: وقع هذا التمثيل لنور محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس لكعب الأحبار: أخبرني عن قوله تعالى: "مثل نوره كمشكاة" فقال كعب: هذا مثل ضربه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فالمشكاة صدره، والزجاجة قلبه، والمصباح فيه النبوة، توقد من شجرة مباركة هي شجرة النبوة، يكاد نور محمد وأمره يتبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم تمسسه نار.
وروى سالم عن ابن عمر في هذه الآية قال: المشكاة: جوف محمد، والزجاجة: قلبه، والمصباح: النور الذي جعله الله فيه، لا شرقية ولا غربية: ولا يهودي ولا نصراني، توقد من شجرة مباركة: إبراهيم، نور على نور، قلب إبراهيم، ونور: قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن كعب القرظي: المشكاة إبراهيم، والزجاجة: إسماعيل والمصباح: محمد صلوات الله عليهم أجمعين سماه الله مصباحاً كما سماه سراجاً، فقال تعالى: "وسراجاً منيراً" (الأحزاب-46)، " يوقد من شجرة مباركة " وهي إبراهيم، سماه مباركة لأن أكثر الأنبياء من صلبه، "لا شرقية ولا غربية" يعني: إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً، لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، تكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه "نور على نور": نبي من نسل نبي، نور محمد على نور إبراهيم.
وقال بعضهم: وقع هذا التمثيل لنور قلب المؤمن. روى أبو العالية عن أبي بن كعب قال: هذا مثل المؤمن، فالمشكاة نفسه والزجاجة صدره، والمصابح ما جعل الله فيه من الإيمان، والقرآن في قلبه يوقد من شجرة مباركة وهي الإخلاص لله وحده، فمثله كمثل الشجرة التي التف بها الشجر خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس لا إذا طلعت ولا إذا غربت فكذلك المؤمن، قد احترس من أن يصيبه شيء من الفتن فهو بين أربع خلال إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، يكاد زيتها يضيء أي: يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يتبين له لموافقته إياه نور على نور. قال أبي فهو يتقلب في خمسة أنوار: قوله نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة.
قال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوئه، كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدىً على هدى ونوراً على نور.
قال الكلبي: قوله "نور على نور" يعني: إيمان المؤمن وعمله.
وقال السدي: نور الإيمان ونور القرآن.
وقال الحسن وابن زيد: هذا مثل القرآن، فالمصباح هو القرآن فكما يستضاء بالمصباح يهتدى بالقرآن، والزجاجة قلب المؤمن والمشكاة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة الوحي، يكاد زيتها يضيء تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم يقرأ، نور على نور: يعني القرآن نور من الله عز وجل لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن، فازداد بذلك نوراً على نور.
قوله عز وجل: "يهدي الله لنوره من يشاء"، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لدين الإسلام، وهو نور البصيرة، وقيل: القرآن "ويضرب الله الأمثال للناس"، يبين الله الأشياء للناس تقريباً للأفهام وتسهيلاً لسبل الإدراك، "والله بكل شيء عليم".
35 -" الله نور السماوات والأرض " النور في الأصل كيفية تدركها الباصرة أولاً وبواسطتها سائر المبصرات كالكيفية الفائضة ن النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما ، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله تعالى إلا بتقدير مضاف كقولك : زيد كرم بمعنى ذو كرم ، أو على تجوز إما بمعنى منور السموات والأرض وقد قرئ به فإنه تعالى نورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار أو بالملائكة والأنبياء . أو مدبرهما من قولهم للرئيس الفائق في التدبير : نور القوم لأنهم يهتدون به في الأمور . أو موجدهما فإن النور ظاهر بذاته مظهر لغيره وأصل الظهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم ، والله سبحانه وتعالى موجود بذاته موجد لما عداه . أو الذي به تدرك أو يدرك أهلها من حيث إنه يطلق على الباصرة لتعلقها به أو لمشاركتها له في توقف الإدراك عليه ثم على البصيرة لأنها أقوى إدراكاً فإنها تدرك نفسها وغيرها من الكليات والجزئيات الموجودات والمعدومات ، وتغوص في بواطنها وتتصرف فيها بالتركيب والتحليل ، ثم إن هذه الإدراكات ليست لذاتها وإلا لما فارقتها فهي إذن من سبب يفيضها عليها وهو الله سبحانه وتعالى ابتداء أو بتوسط من الملائكة والأنبياء ولذلك سموا أنواراً ، ويقرب منه قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : معناه هادي من فيهما فهم بنوره يهتدون ، وإضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالهما على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات البشرية عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما . " مثل نوره " صفة نوره العجيبة الشأن ، وإضافته إلى ضميره سبحانه وتعالى دليل على أن إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره . " كمشكاة " كصفة مشكاة ، وهي الكوة الغير النافذة . وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإمالة . " فيها مصباح " سراج ضخم ثاقب ، وقيل المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل والمصباح الفتيلة المشتعلة . " المصباح في زجاجة " في قنديل ن الزجاج . " الزجاجة كأنها كوكب دري " مضيء متلألئ كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدر أو فعيل كمريق من الدرء فإنه يدفع الظلام بضوئه ، أو بعض ضوئه بعضاً من لمعانه إلا أنه قلبت همزته ياء ويدل عليه قراءة حمزة و أبي بكر على الأصل ، وقراءة أبي عمرو و الكسائي (( دريء )) كشريب وقد قرئ به مقلوباً . " يوقد من شجرة مباركة زيتونة " أي ابتداء ثقوب المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت ذبالته بزيتها ، وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم إبدال الزيتونة عنها تفخيم لشأنها ، وقرأ نافع و ابن عامر و حفص بالياء والبناء للمفعول من أوقد و حمزة و الكسائي و أبو بكر بالتاء كذلك على إسناده إلى " الزجاجة " بحذف المضاف ، وقرئ (( توقد )) من تتوقد ويوقد بحذف التاء لاجتماع زيادتين وهو غريب . " لا شرقية ولا غربية " تقع الشمس عليها حيناً بعد حين بل بحيث تقع عليها طول النهار كالتي تكون على قلة ، أو صحراء واسعة فإن ثمرتها تكون أنضج وزيتها أصفى ، أو لا نابتة في شرق المعمورة وغربها بل في وسطها وهو الشام فإن زيتونه أجود الزيتون ، أو لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائماً فتحرقها أو في مقيأة تغيب عنها دائماً فتتركها نيئاً وفي الحديث " لا خير في شجرة ولا نبات في مقيأة ولا خير فيهما في مضحى " . " يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار " أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لتلألئه وفرط وبيصه . " نور على نور " نور متضاعف فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت وزهرة القنديل وضبط المشكاة لأشعته ، وقد ذكر في معنى التمثيل وجوه ، الأول : أنه تمثيل للهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها وظهور ما تضمنته من الهدى بالمشكاة المنعوتة ، أو تشبيه للهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم بالمصباح ، وإنما ولي الكاف المشكاة لاشتمالها عليه ، وتشبيهه به أوفق من تشبيهه بالشمس ، أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها ، ويؤيده قراءة أبي : (( مثل نور المؤمن )) ، أو تمثيل لما منح الله به عباده من القوى الداركة الخمس المترتبة التي منوط بها المعاش والمعاد وهي : الحساسة التي تدرك بها المحسوسات بالحواس الخمس ، والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت ، والعاقلة التي تدرك الحقائق الكلية ، والمفكرة وهي التي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم ما لم تعلم ، والقوة القدسية التي تتجلى فيها لوائج الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء المعنية بقوله تعالى : " ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا " بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية وهي : (( المشكاة )) ، و(( الزجاجة )) ، و(( المصباح )) ، و(( الشجرة )) ، و(( الزيت )) ، فإن الحساسة كالمشكاة لأن محلها كالكوى ووجهها إلى الظاهر لا تدرك ما وراءها وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات ، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب وضبطها للأنوار العقلية وإنارتها بما تشتمل عليه من المعقولات ، والعاقلة كالمصباح لإضاءتها بالإدراكات الكلية والمعارف الإلهية ، والمفكرة كالشجرة المباركة لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها الزيتونة المثمرة بالزيت الذي هو مادة المصابيح التي لا تكون شرقية ولا غربية لتجردها عن اللواحق الجسمية ، أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة في القبيلين منتفعة من الجانبين ، والقوة القدسية كالزيت فإنها لصفائها وشدة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تفكر ولا تعلم ، أو تمثيل للقوة العقلية في مراتبها بذلك فإنها في بدء أمرها خالية عن العلوم مستعدة لقبولها كالمشكاة ، ثم تنتقش بالعلوم الضرورية بتوسط إحساس الجزئيات بحيث تتمكن من تحصيل النظريات فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها قابلة للأنوار ، وذلك التمكن إن كان بفكر واجتهاد فكالشجرة الزيتونة وإن كان بالحدس فكالزيت ، وإن كان بقوة قدسية فكالتي يكاد زيتها يضيء لأنها تكاد تعلم ولو لم تتصل بملك الوحي والإلهام الذي مثله النار من حيث إن العقول تشتعل عنه ، ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح ، فإذا استحضرتها كانت نوراً على نور . " يهدي الله لنوره " لهذا النور الثاقب . " من يشاء " فإن الأسباب دون مشيئته لاغية إذ بها تمامها . " ويضرب الله الأمثال للناس " إدناء للمعقول من المحسوس توضيحاً وبياناً . " والله بكل شيء عليم " معقولاً كان أو محسوساً ظاهراً كان أو خفياً ، وفيه وعد ووعيد لمن تدبرها ولمن لم يكترث بها .
35. Allah is the Light of the heavens and the earth. The similitude of His light is as a niche wherein is a lamp. The lamp is in a glass. The glass is as it were a shining star. (This lamp is) kindled from a blessed tree, an olive neither of the East nor of the West, whose oil would almost glow forth (of itself) though no fire touched it. Light upon light, Allah guideth unto His light whom He will. And Allah speaketh to mankind in allegories, for Allah is knower of all things.
35 - God is the Light of the heavens and the earth. The parable of His Light is as if there were a Niche and within it a Lamp: the Lamp enclosed in Glass: the glass as it were a brilliant star: lit from a blessed Tree, an Olive, neither of the East nor of the West, whose Oil is well nigh Luminous, though fire scarce touched it: light upon Light! God doth guide whom He will to His Light: God doth set forth Parables for men: and God doth know all things.