[النور : 32] وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
32 - (وأنكحوا الأيامى منكم) جمع أيم وهي من ليس لها زوج بكرا كانت أو ثيبا ومن ليس له زوج وهذا في الأحرار والحرائر (والصالحين) المؤمنين (من عبادكم وإمائكم) وعباد من جموع عبد (إن يكونوا) أي الأحرار (فقراء يغنهم الله) بالتزوج (من فضله والله واسع) لخلقه (عليم) بهم
يقول تعالى ذكره : وزوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم ، ومن أهل الصلاح من عيدكم ومماليككم . والأيامى : جميع أيم ، وإنما جمع الأيم أيامى ، لأنها فعيلة في المعنى ، فجمعت كذلك ، كما جمعت اليتيمة : يتامى ، ومنه قول جميل .
أحب الأيامى إذ بثينة أيم وأحببت لما أن غنيت الغوانيا
ولو جمعت أيائم كان صوابا ، والأيم يوصف به الذكر والأنثى ، يقال : رجل أيم ، وامرأة أيم وأيمة : إذا لم يكن لها زوج ، ومنه قول الشاعر :
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم
" إن يكونوا فقراء " يقول : إن يكن هؤلاء الذين تنكحونهم من أيامى رجالكم ونسائكم وعبيدكم وإمائكم ، أهل فاقة وفقر ، فإن الله يغنيهم من فضله ، فلا يمنعنكم فقرهم من إنكاحهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم " قال : أخر الله سبحانه بالنكاح ، ورغبهم فيه وأمرهم أن يزجوا أحرارهم وعبيدهم ، ووعدهم في ذلك الغني ، فقال " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ".
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا حسن أبو الحسن ، وكان إسماعيل بن صبيح مولى هذا ، قال : سمعت القاسم بن الوليد ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : التمسوا الغنى في النكاح ، يقول الله " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " وأنكحوا الأيامى منكم " قال : أيامى النساء : اللاتي ليس لهن أزواج .
وقوله " والله واسع عليم " يقول جل ثناؤه : والله واسع الفضل ، جواد بعطاياه ، فزوجوا إماءكم ، فإن الله واسع يوسع عليهم من فضله ، إن كانوا فقراء . عليم : يقول : هو ذو علم بالفقير منهم والغني لا يخفى عليه حال خلقه في شيء وتدبيرهم .
القول في تأويل قوله تعالى : "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " .
يقول تعالى ذكره : " وليستعفف الذين لا يجدون " ما ينكحون به النساء عن إتيان ما حرم الله عليهم من الفواحش " حتى يغنيهم الله من " سعة " فضله " ، ويوسع عليهم من رزقه .
وقوله " والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم " يقول جل ثناؤه : والذين يلتمسون المكاتبة منكم من مماليككم " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " .
واختلف أهل العلم في وجه مكاتبة الرجل عبده الذي قد علم فيه خيرا ، وهل قوله " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " على وجه الفرض ، أم هو على وجه الندب ؟ فقال بعضهم : فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم فيه خيرا ، إذا سأله العبد ذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : أواجب علي إذا علمت مالا أن أكاتبه ؟ قال : ما أراه إلا واجبا ، وقالها عمرو بن دينار ، قال : قلت لعطاء : أتأثره عن أحد ؟ قال : لا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن بكر ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، أن سيرين ، أراد أن يكاتبه ، فتلكا عليه ، فقال له عمر : لتكاتبه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، ابن عباس ، قال : لا ينبغي لرجل إذا كان عنده المملوك الصالح الذي له المال ، يريد أن يكاتب ألا يكاتبه .
وقال آخرون : ذلك غير واجب على السيد ، وإنما قوله " فكاتبوهم " ندب من الله سادة العبيد إلى كتابة من علم فيه منهم خير ، لا إيجاب .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال مالك بن انس : الأمر عندنا : أن ليس على سيد العبد أن يكاتبه ، إذا سأله ذلك ، ولم اسمع بأحد من الأئمة أكره أحدا على أن يكاتب عبده .
وقد سمعت بعض أهل العلم ، إذا سئل عن ذلك ، فقيل له : إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " يتلو هاتين الآيتين "وإذا حللتم فاصطادوا " المائدة : 2 ، " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله " الجمعة : 10 قال مالك : فإنما ذلك أمر أذن الله فيه للناس وليس بواجب على الناس ، ولا يلزم أحد . وقال الثوري : إذا أراد العبد من سيده أن يكاتبه ، فإن شاء السيد أن يكاتبه كاتبه ، ولا يجبر السيد على ذلك .
حدثني بذلك علي عن زيد عنه .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " قال : ليس بواجب عليه أن يكاتبه ، إنما هذا أمر أذن اله فيه ودليل .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب : قول من قال : واجب على سيد العبد أن يكاتبه ، إذا علم فيه خيرا ، وسأله العبد الكتابة ، وذلك أن ظاهر قوله " فكاتبوهم " ظاهر أمر ، وأمر الله فرض الانتهاء إليه ، ما لم يكن دليل من كتاب أو سنة ، على أنه ندب ، لما قد بينا من العلة في كتابنا المسمى البيان عن أصول الأحكام .
وأما الخير الذي أخر الله تعالى ذكره عباده بكتابة عبيدهم إذا علموه فيهم ، فهو القدرة على الاحتراف والكسب ، لأداء ما كوتبوا عليه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الكريم الجزري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كره أن يكاتب مملوكه إذا لم تكن له حرفة ، قال : تطعمني أوساخ الناس .
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " يقول : إن علمتم لهم حيلة ، ولا تلقوا مؤنتهم على المسلمين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا أشهب ، قال : سئل مالك بن أنس ، عن قوله " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " فقال : إنه ليقال : الخير : القوة على الأداء .
حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني ابن زيد ، عن أبيه ، قول الله " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " قال : الخير : القوة على ذلك .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن علمتم فيهم صدقا ، ووفاء ، وأداء .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، قال اخبرنا يونس ، عن الحسن ، في قوله " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " قال : صدقا ، ووفاء وأداء ، وأمانة .
قال : ثنا ابن علية ، قال : ثنا عبد الله ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد و طاوس ، أنهما قالا في قوله " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " قالا : مالا ، وأمانة .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : ثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " قال : أداء ، وأمانة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن المغيرة ، قال : كان إبراهيم يقول في هذه الآية " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " قال : صدقا ، ووفاء ، أو أحدهما .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، في قوله " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " قال : أداء ومالا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : اخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عمرو بن دينار : أحسبه كل ذلك المال والصلاح .
حدثني علي بن سهل ، قال : ثنا زيد ، قال : ثنا سفيان " إن علمتم فيهم خيرا " يعني : صدقا ، ووفاء ، وأمانة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " إن علمتم فيهم خيرا " قال : إن علمت فيه خيرا لنفسك ، يؤدي إليك ويصدقك ما حدثك ، فكاتبه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن علمتم لهم مالا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " يقول : إن علمتم لهم مالا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس " إن علمتم فيهم خيرا " قال : مالا .
حدثنا ابن بشار و ابن المثنى ، قالا : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد : " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " قال ك مالا .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله " إن علمتم فيهم خيرا " قال لهم مالا ، فكاتبوهم .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن أبي جريج عن مجاهد " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " قال : إن علمتم لهم مالا ، كائنة أخلاقهم وأديانهم ما كانت .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور ، عن زاذان ، عن عطاء بن أبي رباح " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " قال : مالا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن مجاهد ، قال : إن علمتم عندهم مالا .
حدثني يونس ، قال : اخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني محمد بن عمرو اليافعي ، عن ابن جريج ، أن عطاء بن أبي رباح ، كان يقول : ما نراه إلا المال ، يعني قوله " إن علمتم فيهم خيرا " قال : ثم تلا ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا ) البقرة : 180 .
وأولى هذه الأقوال في معنى ذلك عندي : قول من قال : معناه : فكاتبوهم إن علمتم فيهم قوة على الاحتراف والاكتساب ، ووفاء بما أوجب على نفسه وألزمها ، وصدق لهجة . وذلك أن هذه المعاني هي الأسباب التي بمولى العبد الحاجة إليها إذا كاتب عبده ، مما يكون في العبد ، فأما المال وإن كان من الخير ، فإنه لا يكون في العبد ، وإنما يكون عنده أو له لا فيه ، والله إنما أوجب علينا مكاتبة العبد إذا علمنا فيه خيرا ، لا إذا علمنا عنده أو له ، فلذلك لم نقل : إن الخير في هذا الموضع معني به المال .
وقوله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " يقول تعالى ذكره : وأعطوهم من مال الله الذي أعطاكم .
ثم اختلف أهل التأويل في المأمور بإعطائه من مال الله الذي أعطاه من هو ؟ وفي المال أي الأموال هو ؟ فقال بعضهم : الذي أمر الله بإعطائه المكاتب من مال الله : هو مولى العبد المكاتب ، ومال الله الذي أمر بإعطائه منه هو مال الكتابة ، والقدر الذي أمر أن يعطيه منه : الربع .
وقال آخرون : بل ما شاء من ذلك المولى .
ذكر من قال ذلك :
حدثني عمرو بن علي ، قال : ثنا عمران بن عيينة ، قال : ثنا عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي في قول الله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : ربع المكاتبة .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي ، في قول الله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : ربع الكتابة يحطها عنه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا بن علية ، عن ليث ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي رضي الله عنه ، في قوله الله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : الربع من أول نجومه .
قال أخبرنا ابن علية ، قال قال عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي في قوله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : الربع من مكاتبته .
حدثنا محمد بن إسماعيل الآحمسي ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثني عبد الملك بن أبي سليمان عن عبد الملك بن أعين ، قال : كاتب أبو عبد الرحمن غلاما في أربعة آلاف درهم ، ثم وضع له الربع ، ثم قال : لولا أني رأيت عليا رضوان الله عليه كاتب غلاما له ، ثم وضع له الربع ، ما وضعت لك شيئا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كاتب غلاما له على ألف ومئتين ، فترك الربع وأشهدني ، فقال لي : كان صديقك يفعل هذا ، يعني عليا رضوان الله عليه ، يتأول " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الملك ، قال : ثني فضالة بن أبي أمية ، عن أبيه ، قال : كاتبني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فاستقرض لي من حفصة مائتي درهم . قلت : ألا تجعلها في مكاتبتي ؟ قال : إني لا أدري أدرك ذاك أم لا .
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، بلغني انه كاتبه على مائة أوقية .
قال ثنا سفيان ، عن عبد الملك ، قال : ذكرت ذلك لعكرمة ، فقال : هو قول الله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " .
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قول الله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " يقول : ضعوا عنهم من مكاتبتهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " يقول : ضعوا عنهم مما قاطعتموهم عليه .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، في قوله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : مما أخرج الله لكم منهم .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : آتهم مما في يديك .
حدثني الحسين بن عمرو العنقزي ، قال : ثني أبي ، عن اسباط ، عن السدي ، عن أبيه قال : كاتبتني زينب بنت قيس بن مخرمة من بني المطلب بن عبد مناف ، على عشرة آلاف ، فتركت لي ألفا وكانت زينب قد صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعا .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : اخبرنا أبو مسعود الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، مولى أبي أسيد ، قال : كاتبني أبو أسيد ، على ثنتي عشرة مئة ، فجئته بها ، فأخذ منها ألفا ، ورد علي مئتين .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه ، لم يضع عنه شيئا من أول نجومه ، مخافة أن يعجز ، فترجع إليه صدقته ، ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته ، وضع عنه ما أحب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مخرمة ، عن أبيه ، عن نافع ، قال كاتب عبد الله بن عمر غلاما له يقال له شرف ، على خمسة وثلاثين ألف درهم ، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف ، ولم يذكر نافع أنه أعطاه شيئا غير الذي وضع له .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال قال مالك : سمعت بعض أهل العلم يقول : إن ذلك أن يكاتب الرجل غلامه ، ثم يضع عنه من آخر كتابته شيئا مسمى ، قال مالك : وذلك أحسن ما سمعت ، وعلى ذلك أهل العلم ، وعمل الناس عندنا .
حدثني علي ، قال ثنا زيد ، قال : ثنا سفيان : أحب إلى أن يعطيه الربع ، أو أقل منه شيئا وليس بواجب ، وأن يفعل ذلك حسن .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عطاء ، عن عبد الله بن حبيب أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي رضي الله عنه " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : هو ربع المكاتبة .
وقال آخرون : بل ذلك حض من الله أهل الأموال ، على أن يعطوهم سهمهم الذي جعله لهم من الصدقات المفروضة لهم في أموالهم بقوله : " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب " التوبة : 60 قال : فالرقاب التي جعل فيها أحد سهمان الصدقة الثمانية : هم المكاتبون ، قال : وإياه عنى جل ثناؤه بقوله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " أي سهمهم من الصدقة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثني يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن ابن زيد ، عن أبيه ، قوله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : يحث الله عليه يعطونه .
حدثني يعقوب ، قال : ثني ابن علية ، قال : أخبرنا يونس ، عن الحسن " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : حث الناس عليه : مولاه وغيره .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، في قوله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : يعطي مكاتبه وغيره ، حث الناس عليه .
حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم ، عن مغيرة عن إبراهيم أنه قال في قوله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : أمر مولاه والناس جميعا أن يعينوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد قال : ثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : أمر المسلمين أن يعطوهم مما آتاهم الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني ابن زيد ، عن أبيه " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : ذلك في الزكاة على الولاة يعطونهم من الزكاة يقول الله " وفي الرقاب " التوبة : 60
قال : ثني ابن زيد ، عن أبيه " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال : الفيء والصدقات . وقرأ قول الله ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) التوبة : 60 ، وقرأ حتى بلغ ( وفي الرقاب ) التوبة : 60 فأمر الله أن يوفوها منه ، فليس ذلك من الكتابة ، قال : وكان أبي يقول ما له وللكتابة ، هو من مال الله الذي فرض له فيه نصيبا .
وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي : القول الثاني ، وهو قول من قال : عنى به إيتاءهم سهمهم من الصدقة المفروضة .
وإنما قلنا ذلك أولى القولين ، لأن قوله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " أمر من الله تعالى ذكره بإيتاء المكاتبين من ماله الذي آتى أهل الأموال ، وأمر الله فرض على عباده الانتهاء إليه ، ما لم يخبرهم أن مراده الندب ، لما قد بينا في غير موضع من كتابنا ، فإذ كان ذلك كذلك ، ولم يكن اخبرنا في كتابه ، ولا .
على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه ندب ، ففرض واجب . وإذا كان ذلك كذلك ، وكانت الحجة قد قامت أن لا حق لأحد في مال أحد غيره من المسلمين ، إلا ما أوجبه الله لأهل سهمان الصدقة ، في أموال الأغنياء منهم ، وكانت الكتابة التي يقتضيها سيد المكاتب من مكاتبه مالا من مال سيد المكاتب ، فيفاد أن الحق الذي أوجب الله له على المؤمنين ، أن يؤتوه من أموالهم ، هو ما فرض على الأغنياء في أموالهم له ، من الصدقة المفروضة ، إذ كان لا حق في أموالهم لأحد سواها .
فيه سبع مسائل:
الأولى: هذه المخاطبة تدخل في باب الستر والصلاح، أي زوجوا من لا زوج له منكم فإنه طريق التعفف، والخطاب للأولياء. وقيل للأزواج. والصحيح الأول، إذ لو أراد الأزواج لقال وانكحوا بغير همز، وكانت الألف للوصل. وفي هذا دليل على أن المرأة ليس لها أن تنكح نفسها بغير ولي، وهو قول أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة : إذا زوجت الثيب أو البكر نفسها بغير ولي كفأً لها جاز. وقد مضى هذا في ((البقرة)) مستوفى.
الثانية: اختلف العلماء في هذا الأمر على ثلاثة أقوال، فقال علماؤنا: يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت، ومن عدم صبره، ومن قوته على الصبر وزوال خشية العنت عنه. وإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا أو فيهما فالنكاح حتم. وإن لم يخش شيئاً وكانت الحال مطلقة فقال الشافعي : النكاح مباح. وقال مالك و أبو حنيفة : هو مستحب. تعلق الشافعي بأنه قضاء لذة فكان مباحاً كالأكل والشرب. وتعلق علماؤنا بالحديث الصحيح:
" من رغب عن سنتي فليس مني ".
الثالثة: قوله تعالى: " الأيامى منكم " أي الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، واحدهم أيم. قال أبو عمرو: أيامى مقلوب أيايم. واتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي المرأة التي لا زوج لها، بكراً كانت أو ثيباً، حكى ذلك أبو عمرو و الكسائي وغيرهما. تقول العرب: تأيمت المرأة إذا أقامت لا تتزوج. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنا وامرأة سفعاء الخدين تأيمت على ولدها الصغار حتى يبلغوا أو يغنيهم الله من فضله كهاتين في الجنة ". وقال الشاعر:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم
ويقال: أيم بين الأيمة. وقد آمت هي، وإمت أنا. قال الشاعر:
لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاءً بسلمى أن تئيم كما إمت
قال أبو عبيد: يقال رجل أيم وامرأة أيم، وأكثر ما يكون ذلك في النساء، وهو كالمستعار في الرجال. وقال أمية بن بي الصلت:
لله در بني علي أيم منهم وناكح
وقال قوم: هذه الآية ناسخة لحكم قوله تعالى: " والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " [النور: 3]، وقد بيناه في أول السورة والحمد لله.
الرابعة: المقصود من قوله تعالى: " وأنكحوا الأيامى منكم " الحرائر والأحرار، ثم بين حكم المماليك فقال: " والصالحين من عبادكم وإمائكم ". وقرأ الحسن والصالحين من عبيدكم ، وعبيد اسم للجمع. قال الفراء : ويجوز وإمائكم بالنصب، يرده على " الصالحين " يعني الذكور والإناث، ولاصلاح الإيمان. وقيل: المعنى ينبغي أن تكون الرغبة في تزويج الإماء والعبيد إذا كانوا صالحين فيجوز تزويجهم، ولكن لا ترغيب فيه ولا استحباب، كما قال: " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " [النور: 33]. ثم قد تجوز الكتابة وإن لم يعلم أن في العبد خيراً، ولكن الخطاب ورد في الترغيب والاستحباب، وإنما يستحب كتابة من فيه خير.
الخامسة: أكثر العلماء على أن للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح، وهو قول مالك و أبي حنيفة وغيرهما. قال مالك : ولا يجوز ذلك إذا كان ضرراً. وروي نحوه عن الشافعي ، ثم قال: ليس للسيد أن يكره العبد على النكاح. وقال النخعي : كانوا يكرهون المماليك على النكاح ويغلقون عليهم الأبواب. تمسك أصحاب الشافعي فقالوا: العبد مكلف فلا يجبر على النكاح، لأن التكليف يدل على أن العبد كامل من جهة الآدمية، وإنما تتعلق به المملوكية فيما كان حظاً للسيد من ملك الرقبة والمنفعة، بخلاف الأمة فإنه له حق المملوكية في بضعها ليستوفيه، فأما بضع العبد فلا حق له فيه، ولأجل ذلك لا تباح السيدة لعبدها. هذه عمدة أهل خراسان والعراق، وعمدتهم أيضاً الطلاق، فإنه يملكه العبد بتملك عقده. ولعلمائنا النكتة العظمة في أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد، ولذلك لا يتزوج إلا بإذنه بالاجماع. والنكاح وبابه إنما هو من المصالح، ومصلحة العبد موكولة إلى السيد، هو يراها ويقيمها للعبد.
السادسة: قوله تعالى: " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " رجع الكلام إلى الأحرار، أي لا تمتنعوا عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة، " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ". وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضا الله واعتصاماً من معاصيه. وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، وتلا هذه الآية. وقال عمر رضي الله عنه: عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح، وقد قال الله تعال: " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ". وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً. ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ثلاثة كلهم حق على الله عونه: المجاهد في سبيل الله والناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء ". أخرجه ابن ماجه في سننه. فقد نجد الناكح لا يستغني، قلنا: لا يلزم أن يكون هذا على الدوام، بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد. وقد قيل: يغنيه، أي يغني النفس. وفي الصحيح :
" ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ". وقد قيل: ليس وعد لا يقع فيه خلف، بل المعنى أن المال غاد ورائح، فارجوا الغنى. وقيل: المعنى يغنهم الله من فضله إن شاء، كقوله تعالى: " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " [الأنعام: 41] وقال تعالى: " يبسط الرزق لمن يشاء " [الرعد: 26]. وقيل: المعنى إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بالحلال ليتعففوا عن الزنى.
السابعة: هذه الآية دليل على تزويج الفقير، ولا يقول كيف أتزوج وليس لي مال، فإن رزقه على الله. وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي أتته تهب له نفسها لمن ليس له إزار واحد، وليس لها بعد ذلك فسخ النكاح بالإعسار لأنها دخلت عليه، وإنما يكون ذلك إذا دخلت على اليسار فخرج معسراً، أو طرأ الإعسار بعد ذلك لأن الجوع لا صبر عليه، قاله علماؤنا. وقال النقاش : هذه الآية حجة على من قال: إن القاضي يفرق بين الزوجين إذا كان الزوج فقيراً لا يقدر على النفقة، لأن الله تعالى قال: " يغنهم الله " ولم يقل يفرق. وهذا انتزاع ضعيف، وليس هذه الآية حكما فيمن عجز عن النفقة، وإنما هي وعد بالإغناء لمن تزوج فقيراً. فأما من تزوج موسرا وأعسر بالنفقة فإنه يفرق بينهما، قال الله تعالى:
" وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " [النساء: 130]. ونفحات الله تعالى مأمولة في كل حال موعود بها.
اشتملت هذه الايات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة والأوامر المبرمة, فقوله تعالى: "وأنكحوا الأيامى منكم" إلى آخره, هذا أمر بالتزويج. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه. واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام "يا معشر الشباب, من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء", أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود , وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "تزوجوا توالدوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة". وفي رواية: "حتى بالسقط", الأيامى جمع أيم, ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له, سواء كان قد تزوج ثم فارق أول لم يتزوج واحد منهما, حكاه الجوهري عن أهل اللغة, يقال رجل أيم وامرأة أيم.
وقوله تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" الاية, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى, فقال "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا محمود بن خالد الأزرق , حدثنا عمر بن عبد الواحد عن سعيد ـ يعني ابن عبد العزيز ـ قال: بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" وعن ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح. يقول الله تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" رواه ابن جرير , وذكر البغوي عن عمر بنحوه, وعن الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف, والمكاتب يريد الأداء, والغازي في سبيل الله" رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه . وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره, ولم يقدر على خاتم من حديد, ومع هذا فزوجه بتلك المرأة وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن. والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله, وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث "تزوجوا فقراء يغنكم الله" فلا أصل له ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الان, وفي القرآن غنية عنه, وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها, ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله" هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجاً بالتعفف عن الحرام كما قال صلى الله عليه وسلم "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" الحديث, وهذه الاية مطلقة, والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم " أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم, لأن الولد يجيء رقيقاً "والله غفور رحيم" قال عكرمة في قوله "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً" قال: هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي, فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها, وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات والأرض حتى يغنيه الله.
وقوله تعالى: "والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه, وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب, لا أمر تحتم وإيجاب, بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة, إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه قال الثوري عن جابر عن الشعبي : إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه. وكذا قال ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن رجل عن عطاء بن أبي رباح : إن يشأ يكاتبه وإن يشأ لم يكاتبه. وكذا قال مقاتل بن حيان والحسن البصري , وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب أخذاً بظاهر هذا الأمر.
وقال البخاري : وقال روح عن ابن جريج قلت لعطاء : أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه, قال: ما أراه إلا واجباً. وقال عمرو بن دينار : قلت لعطاء : أتأثره عن أحد ؟ قال: لا, ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنساً المكاتبة, وكان كثير المال فأبى, فانطلق إلى عمر رضي الله عنه, فقال: كاتبه, فأبى فضربه بالدرة, ويتلو عمر رضي الله عنه "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" فكاتبه هكذا ذكره البخاري تعليقاً, ورواه عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه ؟ قال: ما أراه إلا واجباً. وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار , حدثنا محمد بن بكر , حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك : أن سيرين أراد أن يكاتبه, فتلكأ عليه فقال له عمر : لتكاتبنه, إسناد صحيح. وقال سعيد بن منصور : حدثنا هشيم بن جويبر عن الضحاك قال: هي عزمة, وهذا القول القديم من قولي الشافعي , وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب لقوله عليه السلام "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب من نفسه". وقال ابن وهب : قال مالك : الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك, ولم أسمع أحداً من الأئمة أكره أحداً على أن يكاتب عبده. قال مالك : وإنما ذلك أمر من الله تعالى وإذن منه للناس وليس بواجب. وكذا قال الثوري وأبو حنيفة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم, واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الاية.
وقوله تعالى: "إن علمتم فيهم خيراً" قال بعضهم: أمانة, وقال بعضهم: صدقاً, وقال بعضهم: مالاً, وقال بعضهم: حيلة وكسباً. وروى أبو داود في المراسيل , عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً" قال "إن علمتم فيهم حرفة, ولا ترسلوهم كلا على الناس", وقوله تعالى: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" اختلف المفسرون فيه, فقال بعضهم: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها, ثم قال بعضهم: مقدار الربع, وقيل الثلث, وقيل النصف, وقيل جزء من الكتابة من غير حد.
وقال آخرون: بل المراد من قوله "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكاة, وهذا قول الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبيه ومقاتل بن حيان , واختاره ابن جرير , وقال إبراهيم النخعي في قوله "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" قال: حث الناس عليه مولاه وغيره, وكذا قال بريدة بن الحصيب الأسلمي وقتادة , وقال ابن عباس : أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدم في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ثلاثة حق على الله عونهم" فذكر منهم المكاتب يريد الأداء, والقول الأول أشهر. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل , حدثنا وكيع عن ابن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر : أنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية , فجاء بنجمه حين حل فقال: يا أبا أمية اذهب فاستعن به في مكاتبتك, فقال: يا أمير المؤمنين, لو تركته حتى يكون من آخر نجم ؟ قال: أخاف أن لا أدرك ذلك, ثم قرأ "فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" قال عكرمة : فكان أول نجم أدي في الإسلام.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد , حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته, ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحب, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاية "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" قال: يعني ضعوا عنهم في مكاتبتهم, وكذا قال مجاهد وعطاء والقاسم بن أبي بزة وعبد الكريم بن مالك الجزري والسدي , وقال محمد بن سيرين في قوله: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته, وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا الفضل بن شاذان المقرى , أخبرنا إبراهيم بن موسى , أخبرنا هشام بن يوسف عن ابن جريج , أخبرني عطاء بن السائب : أن عبد الله بن جندب أخبره عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ربع الكتابة" وهذا حديث غريب ورفعه منكر والأشبه أنه موقوف على علي رضي الله عنه كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله.
وقوله تعالى: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء" الاية, كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني, وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت, فلماء جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك, وكان سبب نزول هذه الاية الكريمة, فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول , فإنه كان له إماء, فكان يكرههن على البغاء طلباً لخراجهن, ورغبة في أولادهن ورياسة منه فيما يزعم.
ذكر الاثار الواردة في ذلك
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار رحمه الله في مسنده : حدثنا أحمد بن داود الواسطي , حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج , حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري قال: كانت جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول , يقال لها معاذة يكرهها على الزنا, فلما جاء الإسلام نزلت "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء" الاية, وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر في هذه الاية, قال: نزلت في أمة لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة, كان يكرهها على الفجور, وكانت لا بأس بها فتأبى, فأنزل الله هذه الاية " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " وروى النسائي من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر نحوه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي , حدثنا علي بن سعيد , حدثنا الأعمش , حدثني أبو سفيان عن جابر قال: كان لعبد الله بن أبي ابن سلول , جارية يقال لها مسيكة, وكان يكرهها على البغاء, فأنزل الله " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان بن طلحة بن نافع , فدل على بطلان قول من قال: لم يسمع منه إنما هو صحيفة حكاه البزار . وقال أبو داود الطيالسي عن سليمان بن معاذ عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس : أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية فولدت أولاداً من الزنا, فقال لها مالك : لتزنين, قالت: والله لا أزني, فضربها فأنزل الله عز وجل "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء".
وروى البزار أيضا: حدثنا أحمد بن داود الوسطي , حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج , حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال:كانت جارية لعبدالله بن أبي . يقال لها معاذ , يكرهها على الزنا, فلما جاء الاسلام نزلت " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أن رجلاً من قريش أسر يوم بدر وكان عند عبد الله بن أبي أسيراً, وكانت لعبد الله بن أبي جارية يقال لها معاذة وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة وكانت تمتنع منه لإسلامها, وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده, فقال تبارك وتعالى: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً".
وقال السدي : أنزلت هذه الاية الكريمة في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين وكانت له جارية تدعى معاذة وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبي من يعذرنا من محمد يغلبنا على مملوكتنا فأنزل الله فيهم هذا, وقال مقاتل بن حيان : بلغني ـ والله أعلم ـ أن هذه الاية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما إحداهما اسمها مسيكة وكانت للأنصار, وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة, فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتا ذلك له, فأنزل الله في ذلك "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء" يعني الزنا.
وقوله تعالى: "إن أردن تحصناً" هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له, وقوله تعالى: "لتبتغوا عرض الحياة الدنيا" أي من خراجهن ومهورهن وأولادهن وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن, وفي رواية "مهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث, وثمن الكلب خبيث" وقوله تعالى: "ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" أي لهن كما تقدم في الحديث عن جابر . وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم, وإثمهن على من أكرههن وكذا قال مجاهد وعطاء الخراساني والأعمش وقتادة .
وقال أبو عبيد : حدثني إسحاق الأزرق عن عوف عن الحسن في هذ الاية "فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" قال لهن والله لهن والله. وعن الزهري قال غفور لهن ما أكرهن عليه. وعن زيد بن أسلم قال غفور رحيم للمكرهات, حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده, وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة , حدثنا يحيى بن عبد الله , حدثني ابن لهيعة , حدثني عطاء عن سعيد بن جبير قال في قراءة عبد الله بن مسعود "فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم" لهن وإثمهن على من أكرههن, وفي الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
ولما فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها قال تعالى: "ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات" يعني القرآن فيه آيات واضحات مفسرات "ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم" أي خبراً عن الأمم الماضية وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى كما قال تعالى " فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين " أي زاجراً عن ارتكاب المآثم والمحارم "للمتقين" أي لمن اتقى الله وخافه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن: فيه حكم ما بينكم وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وهو الفصل ليس بالهزل, من تركه من جبار قصمه الله, ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
32- لما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى ما يحل للعباد من النكاح الذي يكون به قضاء الشهوة وسكون دواعي الزنا ويسهل بعده غض البصر عن المحرمات وحفظ الفرج عما لا يحل، 32- فقال "وأنكحوا الأيامى منكم" الأيم التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً، والجمع أيامى والأصل أيايم، بتشديد الياء، ويشمل الرجل والمرأة. قال أبو عمرو والكسائي: اتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي المرأة التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً. قال أبو عبيد: يقال رجل أيم وامرأة أيم، وأكثر ما يكون في النساء، وهو كالمستعار في الرجال، ومنه قول أمية بنت أبي الصلت:
لله در بني علي أيم منهم وناكح
ومنه أيضاً قول الآخر:
لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاء سليمى أن تأيم كما إمت
والخطاب في الآية للأولياء، وقيل للأزواج، والأول أرجح، وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها، وقد خالف في ذلك أبو حنيفة.
واختلف أهل العلم في النكاح هل مباح، أو مستحب، أو واجب؟ فذهب إلى الأول الشافعي وغيره، وإلى الثاني مالك وأبو حنيفة، وإلى الثالث بعض أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك، فقالوا: إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية وجب عليه وإلا فلا. والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع تلك الخشية، وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بعد ترغيبه في النكاح: "ومن رغب عن سنتي فليس مني" ولكن مع القدرة عليه، وعلى مؤنه كما سيأتي قريباً، والمراد بالأيامى هنا الأحرار والحرائر، وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله: "والصالحين من عبادكم وإمائكم" قرأ الجمهور "عبادكم" وقرأ الحسن عبيدكم قال الفراء:ويجوز يالنصب برده على الصالحين، والصلاح هو الايمان. وذكر سبحانه الصلاح في المماليك دون الأحرار لأن الغالب في الأحرار الصلاح بخلاف المماليك، وفيه دليل على أن المملوك لا يزوج نفسه، وإنما يزوجه مالكه. وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح. وقال مالك: لا يجوز. ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار فقال: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله"أي لا تمتنعوا من تزويج الأحرار بسبب فقر الرجل والمرأة أو أحدهما، فإنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله سبحانه ويتفضل عليهم بذلك. قال الزجاج: حث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر، ولا يلزم أن يكون هذا حاصلاً لكل فقير إذا تزوج فإن ذلك مقيد بالمشيئة، وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا. وقيل المعنى: إنه يغنيه بغنى النفس، وقيل المعنى: إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا. والوجه الأول أولى، ويدل عليه قوله سبحانه: "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء" فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك، وجملة "والله واسع عليم" مؤكدة لما قبلها ومقررة لها، والمراد أنه سبحانهذو سعة لا ينقص من سعة ملكه غنى من يغنيه من عباده عليم بمصالح خلقه، يغني من يشاء ويفقر من يشاء.
قوله عز وجل: 32- "وأنكحوا الأيامى منكم" الأيامى: جمع أيم، وهو من لا زوج له من رجل أو امرأة، يقال: رجل أيم وامرأة أيمة، ومعنى الآية: زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم، "والصالحين من عبادكم وإمائكم"، وهذا الأمر أمر ندب واستحباب.
يستحب لمن تاقت نفسه إلى النكاح ووجد أهبة النكاح أن يتزوج، وإن لم يجد أهبة النكاح يكسر شهوته بالصوم، لما أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن الحسين الطوسي، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفرايني، أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن مسعود، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أيوب البجلي، أخبرنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان عن الأعمش عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تناكجوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب فطرتي فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح".
أما من لا تتوق نفسه إلى النكاح وهو قادر عليه فالتخلي للعبادة له أفضل من النكاح عند الشافعي رحمه الله، وعند أصحاب الرأي النكاح أفضل.
قال الشافعي: وقد ذكر الله تعالى عبداً كرمه فقال: "وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين" (آل عمران-39)، والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليه، وذكر القواعد من النساء ولم يندبهن إلى النكاح.
وفي الآية دليل على أن تزويج النساء الأيامى إلى الأولياء، لأن الله تعالى خاطبهم به، كما أن تزويج العبيد والإماء إلى السادات، لقوله عز وجل: "والصالحين من عبادكم وإمائكم". وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، روي ذلك عن عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وعائشة، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وشريح، وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز، إليه ذهب الثوري، والأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد وإسحاق.
وجوز أصحاب الرأي للمرأة الحرة تزويج نفسها.
وقال مالك: إن كانت المرأة دنيئة يجوز لها تزويج نفسها، وإن كانت شريفة فلا.
والدليل على أن الولي شرط من جهة الإخبار: ما أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا محمد بن الحسن بن أحمد المخلدي، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، أخبرنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا أبو عوانة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي".
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن ابن شهاب، عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، ثلاثاً، فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له".
قوله عز وجل: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم"، قيل: الغنى ها هنا: القناعة. وقيل: اجتماع الرزقين، رزق الزوج ورزق الزوجة. وقال عمر: عجبت لمن ابتغى الغنى بغير النكاح، والله عز وجل يقول: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله". وروي عن بعضهم: أن الله تعالى وعد الغنى بالنكاح وبالتفرق فقال تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله"، وقال تعالى: "وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته" (النساء-130).
32 -" وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم " لما نهى عما عسى يفضي إلى السفاح المخل بالنسب المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية إلى بقاء النوع بعد الزجر عن مبالغة فيه عقبه بأمر النكاح الحافظ له والخطاب للأولياء والسادة ، وفيه دليل على وجوب تزويج المولية والمملوك وذلك عند طلبهما ، وإشعار بأن المرأة والعبد لا يستبدان به إذ لو استبدا لما وجب على الولي والمولى ، و(( أيامى )) مقلوب أيايم كيتامى ، جميع أيم وهو العزب ذكراً كان أو أنثى بكراً كان أو ثيباً قال :
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم
وتخصيص " الصالحين " لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهم ، وقيل المراد الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه ، " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " رد لما عسى يمنع من النكاح ، والمعنى لا يمنعن فقر الخطاب أو المخطوبة من المناكحة فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غاد ورائح ، أو وعد من الله بالإغناء لقوله صلى الله عليه وسلم " اطلبوا الغنى في هذه الآية " . لكن مشروط بالمشيئة كقوله تعالى : " إن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء " . " والله واسع " ذو سعة لا تنفد نعمته إذ لا تنتهي قدرته . " عليم " يبسط الرزق ويقدر على ما تقتضيه حكمته .
32. And marry such of you as are solitary and the pious of your slaves and maid servants. If they be poor; Allah will enrich them of His bounty. Allah is of ample means, Aware.
32 - Marry those among you who are single, or the virtuous ones among your slaves, male or female: if they are in poverty, God will give them means out of His grace: for God encompasseth all, and He knoweth all things.