[المؤمنون : 103] وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ
103 - (ومن خفت موازينه) بالسيئات (فأولئك الذين خسروا أنفسهم) فهم (في جهنم خالدون)
القول في تأويل قوله تعالى : " ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون " .
تقدم الكلام فيهما.(الأعراف 8 و9)
قوله تعالى: " فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون " موازينه جمع ميزان، وأصله موزان، قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله. ويمكن أن يكون ذلك ميزاناً واحداً عبر عنه بلفظ الجمع، كما تقول: خرج فلان إلى مكة على البغال، وخرج إلى البصرة في السفن. وفي التنزيل: "قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما" [الشعراء: 105] "كذبت عاد المرسلين" [الشعراء: 123] وإنما هو رسول واحد في أحد التأويلين. وقيل: الموازين جمع موزون، لا جمع ميزان. أراد بالموازين الأعمال الموزونة. "ومن خفت موازينه" مثله. وقال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان، فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته، فذاك قوله: "فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون" ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة فيوضع في كفة الميزان فيخف وزنه حتى يقع في النار. وما أشار إليه ابن عباس قريب مما قيل: يخلق الله تعالى كل جزء من أعمال العباد جوهراً فيقع الوزن على تلك الجواهر. ورده ابن فورك وغيره وفي الخبر:
"إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي! ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت؟ فيقول أنا محمد نبيك وهذه صلواتك التي كنت تصلي علي قد وفيتك أحوج ما تكون إليها". ذكره القشيري في تفسيره. وذكر أن البطاقة (بكسر الباء) رقعة فيها رقم المتاع بلغة أهل مصر. وقال ابن ماجة: قال محمد بن يحيى: البطاقة الرقعة، وأهل مصر يقولون للرقعة بطاقة. وقال حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، يقول الله تعالى: يا جبريل زن بينهم فرد من بعض على بعض. قال: وليس ثم ذهب ولا فضة، فإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فرد على المظلوم، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتحمل على الظالم، فيرجع الرجل وعليه مثل الجبال. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"أن الله تعالى يقول يوم القيامة يا آدم ابرز إلى جانب الكرسي عند الميزان وانظر ما يرفع إليك من أعمال بنيك فمن رجح خيره على شره مثقال حبة فله الجنة ومن رجح شره على خيره مثال حبة فله النار حتى تعلم أني لا أعذب إلا ظالماً".
يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور, وقام الناس من القبور "فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" أي لا تنفع الأنساب يومئذ ولا يرني والد لولده ولا يلوي عليه, قال الله تعالى: " ولا يسأل حميم حميما * يبصرونهم " أي لايسأل القريب عن قريبه وهو يبصره ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره, وهو كان أعز الناس عليه في الدنيا ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة, قال الله تعالى: " يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه " الاية, وقال ابن مسعود : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والاخرين, ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجىء فليأخذ حقه ـ قال فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيراً, ومصداق ذلك في كتاب الله قال الله تعالى: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون" رواه ابن أبي حاتم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم , حدثنا عبد الله بن جعفر , حدثتنا أم بكر بنت المسور بن مخرمة عن عبد الله بن أبي رافع عن المسور ـ هو ابن مخرمة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاطمة بضعة مني, يغيظني ما يغيظها, وينشطني ما ينشطها, وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري" وهذا الحديث له أصل في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني, يريبني ما يريبها, ويؤذيني ما آذاها".
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر , حدثنا زهير عن عبد الله بن محمد عن حمزة بن أبي سعيد الخدري عن أبيه , قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: ما بال رجال يقولون إن رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنفع قومه ؟ بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والاخرة, وإني أيها الناس فرط لكم إذا جئتم قال رجل: يا رسول الله أنا فلان بن فلان, فأقول لهم: أما النسب فقد عرفت ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى" وقد ذكرنا في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من طرق متعددة عنه رضي الله عنه أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي" رواه الطبراني والبزار والهيثم بن كليب والبيهقي , والحافظ الضياء في المختارة وذكر أنه أصدقها أربعين ألفاً إعظاماً وإكراماً رضي الله عنه, فقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي القاسم البغوي : حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع , حدثنا إبراهيم بن عبد السلام عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري" وروي فيها من طريق عمار بن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً "سألت ربي عز وجل أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي ولا يتزوج إلي أحد منهم إلا كان معي في الجنة فأعطاني ذلك" ومن حديث عمار بن سيف عن إسماعيل عن عبد الله بن عمرو .
وقوله تعالى: "فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون" أي من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة, قاله ابن عباس , "فأولئك هم المفلحون" أي الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة, وقال ابن عباس : أولئك الذين فازوا بما طلبوا, ونجوا من شر ما منه هربوا "ومن خفت موازينه" أي ثقلت سيئاته على حسناته "فأولئك الذين خسروا أنفسهم" أي خابوا وهلكوا وفازوا بالصفقة الخاسرة. وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث , حدثنا داود بن المحبر , حدثنا صالح المري عن ثابت البناني وجعفر بن زيد ومنصور بن زاذان عن أنس بن مالك يرفعه قال: إن لله ملكاً موكلاً بالميزان, فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان, فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمعه الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً, وإن خف ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً, إسناده ضيعف فإن داود بن المحبر ضعيف متروك, ولهذا قال تعالى: "في جهنم خالدون" أي ما كثون فيها دائمون مقيمون فلا يظعنون "تلفح وجوههم النار" كما قال تعالى: "وتغشى وجوههم النار" وقال تعالى: "لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم" الاية.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا فروة بن أبي المغراء , حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن أبي سنان ضرار بن مرة عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن جهنم لما سيق لها أهلها تلقاهم لهبها, ثم تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم إلا سقط على العرقوب" وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى القزاز , حدثنا الخضر بن علي بن يونس القطان , حدثنا عمر بن أبي الحارث بن الخضر القطان , حدثنا سعيد بن سعيد المقبري عن أخيه عن أبيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: "تلفح وجوههم النار" قال: تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم.
وقوله تعالى: "وهم فيها كالحون" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني عابسون. وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود "وهم فيها كالحون" قال: ألم تر إلى الرأس المشيط الذي قد بدا أسنانه وقلصت شفتاه. وقال الإمام أحمد أخبرنا علي بن إسحاق أخبرنا عبد الله هو ابن المبارك رحمه الله, أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ""وهم فيها كالحون" ـ قال ـ تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه, وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته" ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك به, وقال: حسن غريب.
103- "ومن خفت موازينه" وهي أعماله الصالحة "فأولئك الذين خسروا أنفسهم" أي ضيعوا وتركوا ما ينفعها "في جهنم خالدون" هذا بدل من صلة الموصول، أو خبر ثان لاسم الإشارة، وقد تقدم الكلام على هذه الآية مستوفى فلا نعيده.
103. " ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ".
103ـ " ومن خفت موازينه " ومن لم يكن له ما يكون له وزن ، وهم الكفار لقوله تعالى : " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً " . " فأولئك الذين خسروا أنفسهم " غبنوها حيث ضيعوا زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها . " في جهنم خالدون " بدل من الصلة أو خبر ثان (( لأولئك )) .
103. And those whose scales are light are those who lose their souls, in hell abiding.
103 - But those whose balance is light, will be those who have lost their souls; in Hell will they abide.