[الحج : 77] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون
77 - (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) أي صلوا (واعبدوا ربكم) وحدوه (وافعلوا الخير) كصلة اللاحم ومكارم الأخلاق (لعلكم تفلحون) تفوزون بالبقاء في الجنة
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله و رسوله " اركعوا " لله في صلاتكم " واسجدوا " له فيها " واعبدوا ربكم " يقول : و ذلوا لربكم ، و اخضعوا له بالطاعة " وافعلوا الخير " الذي أمركم ربكم بفعله " لعلكم تفلحون " يقول : لتفلحوا بذلك ، فتدركوا به طلباتكم عند ربكم .
القول في تأويل قوله تعالى : " وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس " .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " وجاهدوا في الله حق جهاده " فقال بعضهم : معناه : وجاهدوا المشركين في سبيل الله حق جهاده .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد عن عبد الله بن عباس ، في قوله " وجاهدوا في الله حق جهاده " كما جاهدتم أول مرة ، فقال عمر من أمر بالجهاد ؟ قال : قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس ، فقال عمر : صدقت .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تخافوا في الله لومة لائم ن قال : وذلك هو حق الجهاد .
ذكر من قال ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله " وجاهدوا في الله حق جهاده " لا تخافوا في الله لومة لائم .
وقال آخرون : معنى ذلك : اعملوا بالحق ، حق عمله ، وهذا قول ذكره عن الضحاك بعض من في رواية نظر .
والصواب في من قالوا في ذلك : قول من قال : عني به الجهاد في سبيل الله ، لأن المعروف من الجهاد وهو الأغلب على قول القائل : جاهدت في الله ، وحق الجهاد : هو استفراغ الطاقة فيه .
وقوله : " هو اجتباكم " يقول : هو اختاركم لدينه ، واصطفاكم لحرب أعدائه ، والجهاد في سبيله .
وقال ابن زيد في ذلك ، ما :
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله " هو اجتباكم " قال : هو هداكم .
وقوله : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " يقول تعالى ذكره : وما جعل عليكم ربكم في الدين الذي تعبدكم فيه من ضيق ، لا مخرج لكم مما ابتليتم به فيه ، بل وسع عليكم ن فجعل التوبة من بعض مخرجا ، والكفارة من بعض ، والقصاص من بعض ، فلا ذنب يذنب المؤمن إلا وله منه في دين الإسلام مخرج .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن زيد ، عن ابن شهاب ، قال : سأل عبد الملك بن مروان علي بن عبد الله بن عباس ، عن هذه الآية " وما جعل عليكم في الدين من حرج " فقال علي بن عبد الله : الحرج : الضيق ، فجعل الله الكفارات مخرجا من ذلك ، سمعت أبن عباس يقول ذلك .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني سفيان بن عيينة ، عن عبد الله بن أبي يزيد قال : سمعت ابن عباس يسأل عن " وما جعل عليكم في الدين من حرج " ، قال : ما هاهنا من هذيل أحد ؟ فقال رجل : نعم ، قال : ما تعدون الحرجة فيكم ؟ قال : الشيء الضيق ، قال ابن عباس : فهو كذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرازق ، عن ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس ، وذكر نحوه ، إلا أنه قال : فقال ابن عباس : أهاهنا أحد من هذيل ؟ فقال رجل : أنا ، فقال أيضا ما تعدون الحرج ، وسائر الحديث مثله .
حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، قال : ثنا يحيى بن صالح ، قال : ثنا يحيى بن حمزة عن الحكم بن عبد الله ، قال : سمعت القاسم بن محمد يحدث ، عن عائشة ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " وما جعل عليكم في الدين من حرج " قال : هو الضيق .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا يزيد بن زريع ، قال : ثنا أبو خلدة ، قال : قال لي أبو العالية : أدري ما الحرج ؟ قلت : لا أدري ، قال : الضيق ، وقرأ هذه الآية " وما جعل عليكم في الدين من حرج " .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا حماد بن مسعدة ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " قال : من ضيق .
حدثنا عمرو بن بندق ، قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن أبي خلدة ، قال : قال لي أبو العالية : هل تدري ما الحرج ؟ قلت لا ، قال : الضيق ، إن الله لم يضيق عليكم ن لم يجعل عليكم في الدين من حرج .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن القاسم أنه تلا هذه الآية " وما جعل عليكم في الدين من حرج " قال : تدرون ما الحرج ؟ قال : الضيق .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : إذا تعاجم شيء من القرآن ، فانظروا في الشعر ، فإن الشعر عربي ، ثم دعا ابن عباس أعرابيا ، فقال : ما الحرج ؟ قال : الضيق ، قال : صدقت .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " في الدين من حرج " قال : من ضيق .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرازق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
وقال آخرون : معنى ذلك " ما جعل عليكم في الدين من حرج " من ضيق في أوقات فروضكم إذا التبست عليكم ، ولكنه قد وسع عليكم حتى تيقنوا محلها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عثمان بن بشار ، عن ابن عباس ، في قوله " وما جعل عليكم في الدين من حرج " قال : هذا في هلال شهر رمضان إذا شك فيه الناس ، وفي الحج إذا شكوا في الهلال ، وفي الفطر والأضحى إذا التبس عليهم ، وأشباهه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما جعل في الإسلام من ضيق ، بل وسعه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " وما جعل عليكم في الدين من حرج " يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق هو واسع ، وهو مثل قوله في الأنعام " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا "الأنعام : 125 يقول : من أراد أن يضله يضيق عليه صدره ، وحتى يجعل عليه الإسلام ضيقا والإسلام واسع .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله " وما جعل عليكم في الدين من حرج " يقول : من ضيق ، يقول : جعل الدين واسعا ، ولم يجعله ضيقا ، وقوله : " ملة أبيكم إبراهيم " نصب ملة بمعنى : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، بل وسعه ، كملة أبيكم ، فلما لم يجعل فيها الكاف اتصلت بالفعل الذي قبلها فنصبت ، وقد يحتمل نصبها أن تكون على وجه الأمر بها ، لأن الكلام قبله أمر ، فكأن قيل : اركعوا واسجدوا ، والزموا ملة أبيكم إبراهيم .
وقوله : " هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا " يقول تعالى ذكره : سماكم يا معشر من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم المسلمين من قبل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " هو سماكم المسلمين " يقول : الله سماكم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء بن أبي رباح ، أنه سمع ابن عباس يقول : الله سماكم المسلمين من قبل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، وحدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرازق جميعا ، عن معمر ، قتادة " هو سماكم المسلمين " قال : الله سماكم المسلمين من قبل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال :ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيج ، عن مجاهد ، قوله : " هو سماكم المسلمين " . قال : الله سماكم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : " هو سماكم المسلمين من قبل " يقول : الله سماك المسلمين .
وقال آخرون : بل معناه : إبراهيم سماكم المسلمين ، وقالوا : هو كناية من ذكر إبراهيم صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " هو سماكم المسلمين " قال : ألا ترى قول إبراهيم : " واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " البقرة : 128 قال : هذا قول إبراهيم " هو سماكم المسلمين " ولم يذكر الله بالإسلام والإيمان غير هذه الأمة ، ذكرت بالإيمان والإسلام جميعا ، ولم نسمع بأمة ذكرت إلا بالإيمان ، ولا وجه لما قال ابن زيد من ذلك ، لأنه معلوم أن إبراهيم لم يسم أمة محمد مسلمين في القرآن ، لأن القرآن أنزل من بعده بدهر طويل ، وقد قال الله تعالى ذكره " هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا " ولكن الذي سمانا مسلمين من قبل نزول القرآن ، وفي القرآن ، الله الذي لم ينزل ولا يزال . وأما قوله : " من قبل " فإن معناه : من قبل نزول هذا القرآن في الكتب التي نزلت قبله ، وفي هذا يقول " وفي هذا " الكتاب .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : " هو سماكم المسلمين من قبل " وفي هذا القرآن .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد " من قبل " قال : في الكتب كلها والذكر " وفي هذا " يعني القرآن ، وقوله : " ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس " يقول تعالى ذكره اجتباكم الله وسماكم أيها المؤمنون بالله وآياته ، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مسلمين ، ليكون محمد رسول الله شهيدا عليكم يوم القيامة ، بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم ، وتكونوا أنتم شهداء حينئذ على الرسل أجمعين ، أنهم قد بلغوا أممهم ما أرسلوا به إليهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " هو سماكم المسلمين من قبل " قال : الله سماكم المسلمين من قبل " وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم " بأنه بلغكم " وتكونوا شهداء على الناس " أن رسلهم قد بلغتهم . وبه عن قتادة قال : أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي ، كان يقال للنبي : اذهب فليس عليك حرج ، وقال الله : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أنت شهيد على قومك ، وقال الله : " لتكونوا شهداء على الناس " وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : سل تعطه ، وقال الله : " ادعوني أستجب لكم " .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرازق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : " أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي ، كان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : اذهب فليس عليك حرج ، فقال الله : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " قال : وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أنت شهيد على قومك ، وقال الله : " لتكونوا شهداء على الناس " وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : سل تعطه ، وقال الله :" ادعوني أستجب لكم " " (غافر : 60) .
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا " تقدم في أول السورة أنها فضلت بسجدتين، وهذه السجدة الثانية لم يرها مالك و أبو حنيفة من العزائم، لأنه قرن الركوع بالسجود، وأن المراد بها الصلاة المفروضة، وخص الركوع والسجود تشريفاً للصلاة. وقد مضى القول في الركوع والسجود مبيناً في ((البقرة)) والحمد لله وحده.
قوله تعالى: " واعبدوا ربكم " أي امتثلوا أمره. " وافعلوا الخير " ندب فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع.
اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه السجدة الثانية من سورة الحج: هل هي مشروع السجود فيها, أم لا ؟ على قولين, وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم "فضلت سورة الحج بسجدتين, فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما". وقوله: "وجاهدوا في الله حق جهاده" أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم, كما قال تعالى: "اتقوا الله حق تقاته". وقوله: "هو اجتباكم" أي يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم, وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع "وما جعل عليكم في الدين من حرج" أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً, فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً, وفي السفر تقصر إلى اثنتين, وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة, كما ورد به الحديث, وتصلى رجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها, وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها, والقيام فيها يسقط لعذر المرض, فيصليها المريض جالساً, فإن لم يستطع فعلى جنبه, إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات, ولهذا قال عليه السلام: "بعثت بالحنيفية السمحة" وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن "بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا", والأحاديث في هذا كثيرة, ولهذا قال ابن عباس في قوله: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" يعني من ضيق.
وقوله: "ملة أبيكم إبراهيم" قال ابن جرير : نصب على تقدير "ما جعل عليكم في الدين من حرج" أي من ضيق بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم, قال: ويحتمل أنه منصوب على تقدير الزموا ملة أبيكم إبراهيم. "قلت" وهذا المعنى في هذه الاية كقوله: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً" الاية, وقوله: "هو سماكم المسلمين من قبل" وفي هذا قال الإمام عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: "هو سماكم المسلمين من قبل" قال: الله عز وجل, وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم "هو سماكم المسلمين من قبل" يعني إبراهيم, وذلك قوله: "ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" قال ابن جرير : وهذا لا وجه له, لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين, وقد قال الله تعالى: "هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا" قال مجاهد : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر, "وفي هذا" يعني القرآن, وكذا قال غيره. (قلت) وهذا هو الصواب, لأنه تعالى قال: "هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج" ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه, بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل, ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان, فقال: "هو سماكم المسلمين من قبل" أي من قبل هذا القرآن "وفي هذا" روى النسائي عند تفسير هذه الاية: أنبأنا هشام بن عمار , حدثنا محمد بن شعيب , أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن أبي سلام أنه أخبره, قال: أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم قال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صام وصلى ؟ قال نعم وإن صام وصلى فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" , وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله "يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون" من سورة البقرة, ولهذا قال "ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس" أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطاً عدولا خياراً مشهوداً بعدالتكم عند جميع الأمم, لتكونوا يوم القيامة "شهداء على الناس" لأن جيمع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها, فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم, والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك, وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً" وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته.
وقوله "فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" أي قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض وطاعة ما أوجب وترك ما حرم, ومن أهم ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج, كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة. وقوله "واعتصموا بالله" أي اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به "هو مولاكم" أي حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم "فنعم المولى ونعم النصير" يعني نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء. قال وهيب بن الورد يقول الله تعالى: ابن آدم اذكرني إذا غضبت, أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق, وإذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي, فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. رواه ابن أبي حاتم , والله اعلم.
آخر تفسير سورة الحج ولله الحمد والمنة.
ولما تضمن ما ذكره من أن الأمور ترجع إليه الزجر لعباده عن معاصيه، والحض لهم على طاعاته صرح بالمقصود فقال: 77- "يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا" أي صلوا الصلاة التي شرعها الله لكم، وخص الصلاة لكونها أشرف العبادات. ثم عمم فقال: "واعبدوا ربكم" أي افعلوا جميع أنواع العبادة التي أمركم الله بها "وافعلوا الخير" أي ما هو خير، وهم أعم من الطاعة الواجبة والمندوبة، وقيل المراد بالخير هنا المندوبات. ثم علل ذلك بقوله: "لعلكم تفلحون" أي إذا فعلتم هذه كلها رجوتم الفلاح. وهذه الآية من مواطن سجود التلاوة عند الشافعي ومن وافقه، لا عند أبي حنيفة ومن قال بقوله، وقد تقدم أن هذه السورة فضلت بسجدتين، وهذا دليل على ثبوت السجود عند تلاوة هذه الآية.
77. " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا "، أي: صلوا، لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود، " واعبدوا ربكم "، وحدوه، " وافعلوا الخير "، قال ابن عباس: صلة الرحم ومكارم الأخلاق، " لعلكم تفلحون "، لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة. واختلف أهل العلم في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية:
فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها، وهو قول عمر، وعلي، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وبه قال ابن المبارك ، و الشافعي ، و أحمد ، و إسحاق . واحتجوا بما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا قتيبة ، أخبرنا ابن لهيعة ، عن مشرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر قال: " قلت يارسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما ".
وذهب قوم إلى أنه لا يسجد هاهنا، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي.
وعدة سجود القرآن أربعة عشر عند أكثر أهل العلم، منها ثلاث في المفصل.
وذهب قوم إلى أنه ليس في المفصل سجود. روي ذلك عن أبي بن كعب، وابن عباس، وبه قال مالك . وقد صح عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: في " اقرأ " و " إذا السماء انشقت "، وأبو هريرة من متأخري الإسلام.
واختلفوا في سجود صاد، فذهب الشافعي : إلى أنه سجود شكر ليس من عزائم السجود، ويروى ذلك عن ابن عباس، وذهب قوم إلى أنه يسجد فيها، روي ذلك عن عمر، وبه قال سفيان الثوري ، و ابن المبارك ، وأصحاب الرأي، و أحمد ، و إسحاق ، فعند ابن المبارك ، و إسحاق ، و أحمد ، وجماعة: سجود القرآن خمس عشرة سجدة، فعدوا سجدتي الحج وسجدة ص، وروي عن عمرو بن العاص أن " النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدةً في القرآن ".
77ـ " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا " في صلاتكم ، أمرهم بهما لأنهم ما كانوا يفعلونها أول الإسلام ، أو صلوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها ، أو اخضعوا لله وخروا له سجداً . " واعبدوا ربكم " بسائر ما تعبدكم به . " وافعلوا الخير " وتحروا ما هو 0خير وأصلح فيما تأتون وتذرون كنوافل الطاعات وصلة الأرحام ومكارم الأخلاق " لعلكم تفلحون " أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجون الفلاح غير متيقنين له واثقين على أعمالكم ، والآية آية سجدة عندنا لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود " ولقوله عليه الصلاة والسلام فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرؤها " .
77. O, ye who believe! Bow down and prostrate yourselves, and worship your Lord, and do good, that haply ye may prosper.
77 - O ye who believe! bow down, prostrate yourselves, and adore your Lord; and do good; that ye may prosper.