[الحج : 6] ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
6 - (ذلك) المذكور من بدء خلق الإنسان الى آخر إحياء الأرض (بأن) بسبب أن (الله هو الحق) الثابت الدائم (وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير)
يعني تعالى ذكره بقوله " ذلك " : هذا الذي ذكرت لكم أيها الناس من بدئنا خلقكم في بطون أمهاتكم ، ووصفنا أحوالكم قبل الميلاد و بعده ، طفلا ، و كهلا ، و شيخا هرما ، و تنبيهناكم على فعلنا بالأرض الهامدة بما ننزل عليها من الغيث لتؤمنوا و تصدقوا بأن ذلك الذي فعل ذلك ، الله الذي هو الحق لا شك فيه ، و أن من سواه مما تعبدون من الأوثان و الأصنام باطل لأنها لا تقدر على فعل شيء من ذل ك، و تعلموا أن القدرة التي جعل بها هذه الأشياء العجيبة ، لا يتعذر عليها أن يحيى بها الموتى بعد فنائها و دروسها في التراب ، و أن فاعل ذلك على كل ما أراد و شاء من شيء قادر ، لا يمتنع عليه شيء أراده ، و لتوقنوا بذلك أن الساعة التي وعدتكم أن أبعث فيها الموتى من قبورهم جائية لا محالة " لا ريب فيها " يقول : لا شك في مجيئها وحدوثها " و أن الله يبعث من في القبور " حينئذ من فيها من الأموات أحياء إلى موقف الحساب ، فلا تشكوا في ذلك ، و لا تمتروا فيه .
قوله تعالى: " ذلك بأن الله هو الحق " لما ذكر افتقار الموجودات إليه وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره في قوله: " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث " - إلى قوله - " بهيج ". قال بعد ذلك: " ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ". فنبه سبحانه وتعالى بهذه على أن كل ما سواه وإن كان موجوداً حقاً فإنه لا حقيقة له من نفسه، لأنه مسخر مصرف. والحق الحقيقي: هو الموجود المطلق الغني المطلق، وأن وجود كل ذي وجود عن وجوب وجوده، ولهذا قال في آخر السورة: " وأن ما يدعون من دونه هو الباطل " [الحج: 62]. والحق الموجود الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، وهو الله تعالى. وقيل: ذو الحق على عباده. وقيل: الحق بمعنى في أفعاله. وقال الزجاج : " ذلك " في موضع رفع، أي الأمر ما وصف لكم وبين. " بأن الله هو الحق " أي لأن الله هو الحق. قال: ويجوز أن يكون " ذلك " نصباً، أي فعل الله ذلك بأنه هو الحق. " وأنه يحيي الموتى " أي بأنه " وأنه على كل شيء قدير " أي وبأنه قادر على ما أراد.
لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد, ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد بما يشاهد من بدئه للخلق فقال: "يا أيها الناس إن كنتم في ريب" أي في شك "من البعث" وهو المعاد, وقيام الأرواح والأجساد, يوم القيامة "فإنا خلقناكم من تراب" أي أصل برئه لكم من تراب, وهو الذي خلق منه آدم عليه السلام "ثم من نطفة" أي ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين "ثم من علقة ثم من مضغة" وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين يوماً كذلك يضاف إليه ما يجتمع إليها, ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله, فتمكث كذلك أربعين يوماً, ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط, ثم يشرع في التشكيل والتخطيط فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء, فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط, وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط, ولهذا قال تعالى: "ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة" أي كما تشاهدونها "لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى" أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها, كما قال مجاهد في قوله تعالى: "مخلقة وغير مخلقة" قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق, فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة, أرسل الله تعالى ملكاً إليها فنفخ فيها الروح وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبح, وذكر وأنثى, وكتب رزقها وأجلها, وشقي أو سعيد.
كما ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات, بكتب رزقه وعمله وأجله, وشقي أو سعيد, ثم ينفخ فيه الروح".
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال: النطفة إذا استقرت في الرحم, أخذها ملك بكفه فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قيل: غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دماً, وإن قيل: مخلقة قال: أي رب ذكر أو أنثى, شقي أو سيعد, ما الأجل وما الأثر, وبأي أرض يموت ؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك ؟ فتقول: الله, فيقال من رازقك ؟ فتقول الله, فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب, فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة, قال: فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل رزقها وتطأ أثرها, حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان, ثم تلا عامر الشعبي "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة" فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة, وإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دماً, وإن كانت مخلقة نكست في الخلق.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرىء , حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين يوماً أو خمس وأربعين, فيقول: أي رب أشقي أم سيعد ؟ فيقول الله ويكتبان, فيقول: أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله ويكتبان, ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله, ثم تطوى الصحف فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص" ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ومن طريق آخر عن أبي الطفيل بنحو معناه.
وقوله: "ثم نخرجكم طفلا" أي ضعيفا في بدنه وسمعه وبصره وبطشه وعقله, ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئاً, ويلطف به ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار, ولهذا قال: "ثم لتبلغوا أشدكم" أي يتكامل القوي ويتزايد, ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المظهر, "ومنكم من يتوفى" أي في حال شبابه وقواه, "ومنكم من يرد إلى أرذل العمر" وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم وتناقص الأحوال من الخرف وضعف الفكر, ولهذا قال: "لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً" كما قال تعالى: "الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير".
وقد قال الحافظ أبو يعلى بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده : حدثنا منصور بن أبي مزاحم , حدثنا خالد الزيات , حدثني داود أبو سليمان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري عن أنس بن مالك رفع الحديث قال: "المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتبت لوالده أو لوالدته, وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه, فإذا بلغ الحنث أجرى الله عليه القلم أمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا, فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث: الجنون والجذام والبرص, فإذا بلغ الخمسين, خفف الله حسابه, فإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب. فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء. فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته, فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وشفعه في أهل بيته, وكتب أمين الله وكان أسير الله في أرضه, فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً كتب الله مثل ما كان يعمل في صحته من الخير, فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه".
هذا حديث غريب جداً, وفيه نكارة شديدة, ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده موقوفاً ومرفوعاً, فقال: حدثنا أبو النضر , حدثنا الفرج , حدثنا محمد بن عامر عن محمد بن عبد الله العامري , عن عمرو بن حعفر عن أنس قال: "إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة, أمنه الله من أنواع البلايا: من الجنون, والبرص, والجذام, فإذا بلغ الخمسين لين الله حسابه, وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه الله عليها, وإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء, وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته ومحا عنه سيئاته وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهله" ثم قال: حدثنا هاشم , حدثنا الفرج , حدثني محمد بن عبد الله العامري عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب , عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
رواه الإمام أحمد أيضا: حدثنا أنس بن عياض , حدثني يوسف بن أبي بردة الأنصاري عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري , عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون, والبرص, والجذام" وذكر تمام الحديث كما تقدم سواء, رواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبد الله بن شبيب عن أبي شيبة عن عبد الله بن عبد الملك عن أبي قتادة العدوي , عن ابن أخي الزهري عن عمه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه أنواعاً من البلاء: الجنون, والجذام, والبرص, فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب, فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب, فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وسمي أسير الله وأحبه أهل السماء, فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته, فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهل بيته".
وقوله: "وترى الأرض هامدة" هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة الهامدة, وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء. وقال قتادة : غبراء متهشمة. وقال السدي : ميتة, "فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج" أي فإذا أنزل الله عليها المطر, اهتزت اي تحركت بالنبات, وحييت بعد موتها, وربت أي ارتفعت لما سكن فيها الثرى, ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون من ثمار وزروع وأشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومه وروائحها وأشكالها ومنافعها, ولهذا قال تعالى: "وأنبتت من كل زوج بهيج" أي حسن المنظر طيب الريح.
وقوله: "ذلك بأن الله هو الحق" أي الخالق المدبر الفعال لما يشاء "وأنه يحيي الموتى" أي كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع "إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير" "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" "وأن الساعة آتية لا ريب فيها" أي كائنة لا شك فيها ولا مرية, "وأن الله يبعث من في القبور" أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمماً ويوجدهم بعد العدم, كما قال تعالى: " وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون " والايات في هذه كثيرة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز , حدثنا حماد بن سلمة قال: أنبأنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين العقيلي واسمه لقيط بن عامر أنه قال: يا رسول الله أكلنا يرى ربه عز وجل يوم القيامة, وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به ؟ قلنا: بلى, قال: فا الله أعظم قال: قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى, وما آية ذلك في خلقه ؟ قال: أما مررت بوادي أهلك محلاً ؟ قال: بلى. قال ثم مررت به يهتز خضراً ؟ قال: بلى. قال فكذلك يحيي الله الموتى وذلك آيته في خلقه". ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث حماد بن سلمة به.
ثم رواه الإمام أحمد أيضاً: حدثنا علي بن إسحاق , أنبأنا ابن المبارك , أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن سليمان بن موسى عن أبي رزين العقيلي قال: " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ؟ قال أمررت بأرض من أرض قومك مجدبة, ثم مررت بها مخصبة ؟ قال: نعم. قال كذلك النشور" والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبيس بن مرحوم , حدثنا بكير بن السميط عن قتادة عن أبي الحجاج عن معاذ بن جبل قال: من علم أن الله هو الحق المبين, وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من في القبور, دخل الجنة.
وجملة 6- "ذلك بأن الله هو الحق" مستأنفة، لما ذكر افتقار الموجودات إليه سبحانه وتسخيرها على وفق إرادته واقتداره. قال بعد ذلك هذه المقالات، وهي إثبات أنه سبحانه الحق، وأنه المتفرد بإحياء الموتى، وأنه قادر على كل شيء من الأشياء. والمعنى: أنه المتفرد بهذه الأمور وأنها من شأنه لا يدعى غيره أنه يقدر على شيء منها، فدل سبحانه بهذا على أنه الحق الحقيقي الغني المطلق، وأن وجود كل موجود مستفاد منه، والحق هو الموجود الذي لا يتغير ولا يزول، وقيل ذو الحق على عباده، وقيل الحق في أفعاله. قال الزجاج: ذلك في موضع رفع: أي الأمر ما وصفه لكم وبين بأن الله هو الحق. قال: ويجوز أن يكون ذلك نصباً.
6. " ذلك بأن الله هو الحق "، أي: لتعلموا أن الله هو الحق، " وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير ".
6ـ " ذلك " إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة وتحويله على أحوال متضادة ، وإحياء الأرض بعد موتها وهو مبتدأ خبره : " بأن الله هو الحق " أي بسبب أنه الثابت في نفسه الذي به تتحقق الأشياء . " وأنه يحيي الموتى " وأنه يقدر على إحيائها وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة . " وأنه على كل شيء قدير " لأن قدرته لذاته الذي نسبته إلى الكل على سواء ، فلما دلت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها .
6. That is because Allah, He is the Truth. Lo! He quickeneth the dead, and lo! He is Able to do all things;
6 - This is so, because God Is the Reality: it is he who gives life to the dead, and it is he who has power over all things.