[الأنبياء : 70] وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ
70 - (وأرادوا به كيدا) وهو التحريق (فجعلناهم الأخسرين) في مرادهم
القول في تأويل قوله تعالى : " وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين " .
قوله تعالى: " وأرادوا به كيدا " أي أراد نمرود وأصحابه أن يمكروا به " فجعلناهم الأخسرين " في أعمالهم، ورددنا مكرهم عليهم بتسليط أضعف خلقنا. قال ابن عباس: سلط الله عليهم أضعف خلقه البعوض، فما برح نمرود حتى رأى عظام أصحابه وخيله تلوح، أكلت لحومهم وشربت دماءهم، ووقعت واحدة في منخره فلم تزل تأكل إلى أن وصلت دماغه، وكان أكرم الناس عليه الذي يضرب رأسه بمرزبة من حديد فأقام بهذا نحواً من أربعمائة سنة.
لما دحضت حجتهم وبان عجزهم وظهر الحق واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم, فقالوا: "حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين", فجمعوا حطباً كثيراً جداً, قال السدي : حتى إن كانت المرأة تمرض فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطباً لحريق إبراهيم, ثم جعلوه في جوبة من الأرض وأضرموها ناراً, فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مثلها, وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد. قال شعيب الجبائي, اسمه هيزن: فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة, فلما ألقوه قال: حسبي الله ونعم الوكيل, كما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل, قالها إبراهيم حين ألقي في النار, وقالها محمد عليهما السلام حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم, فزادهم إيماناً, وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وروى الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو هشام , حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر , عن عاصم عن أبي صالح , عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار, قال: اللهم إنك في السماء واحد, وأنا في الأرض واحد أعبدك" ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال: لا إله إلا أنت, سبحانك لك الحمد, ولك الملك لا شريك لك, وقال شعيب الجبائي : كان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة, فالله أعلم, وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء فقال: ألك حاجة ؟ فقال: أما إليك فلا, وأما من الله فبلى. وقال سعيد بن جبير ـ ويروى عن ابن عباس أيضاً ـ قال: لما ألقي إبراهيم, جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله ؟ قال: فكان أمر الله أسرع من أمره, قال الله "يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم" قال: لم يبق نار في الأرض إلا طفئت. وقال كعب الأحبار : لم ينتفع أحد يومئذ بنار, ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه.
وقال الثوري عن الأعمش , عن شيخ, عن علي بن أبي طالب "قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم" قال: لا تضر يه. وقال ابن عباس وأبو العالية : لولا أن الله عز وجل قال: وسلاماً لاذى إبراهيم بردها, وقال جويبر عن الضحاك : كوني برداً وسلاماً على إبراهيم , قالوا: صنعوا له حظيرة من حطب جزل, وأشعلوا فيه النار من كل جانب, فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله, قال: ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق, فلم يصبه منها شيء غير ذلك. وقال السدي : كان معه فيها ملك الظل.
وقال علي بن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين , حدثنا يوسف بن موسى , حدثنا مهران , حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن المنهال بن عمرو قال: أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار, فقال: كان فيها إما خمسين وإما أربعين, قال: ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها. وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال: إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار: وجده يرشح جبينه, قال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم. وقال قتادة : لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار, إلا الوزغ, وقال الزهري : " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله, وسماه فويسقا " . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عبيد الله بن أخي بن وهب , حدثني عمي, حدثنا جرير بن حازم أن نافعاً حدثه قال: حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت : دخلت على عائشة , فرأيت في بيتها رمحاً, فقلت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح ؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفيء النار غير الوزغ, فإنه كان ينفخ على إبراهيم" فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله. وقوله: "وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين" أي المغلوبين الأسفلين, لأنهم أرادوا بنبي الله كيداً, فكادهم الله ونجاه من النار, فغلبوا هنالك, وقال عطية العوفي : لما ألقي إبراهيم في النار, جاء ملكهم لينظر إليه, فطارت شرارة فوقعت على إبهامه, فأحرقته مثل الصوفة.
70- "وأرادوا به كيداً" أي مكراً "فجعلناهم الأخسرين" أي أخسر من كل خاسر، ورددنا مكرهم عليهم، فجعلنا لهم عاقبة السوء، كما جعلنا لإبراهيم عاقبة الخير.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه، فقالوا: يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال: إني سقيم، وقد كان بالأمس، قال "تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين" فسمعه ناس منهم، فلما خرجوا انطلق إلى أهله، فأخذ طعاماً ثم انطلق إلى آلهتهم فقربه إليهم، فقال ألا تأكلون، فكسرها إلا كبيرهم، ثم ربط في يده الذي كسر به آلهتهم، فلما رجع القوم من عيدهم دخلوا، فإذا هم بآلهتم قد كسرت، وإذا كبيرهم في يده الذي كسر الأصنام، قالوا من فعل هذا بآلهتنا؟ فقال الذين سمعوا إبراهيم يقول "تالله لأكيدن أصنامكم"، "سمعنا فتى يذكرهم" فجادلهم عند ذلك إبراهيم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "جذاذاً" قال: حطاماً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: فتاتاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً "بل فعله كبيرهم هذا" قال: عظيم آلهتهم. وأخرج أبو داود والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث كلهن في الله: قوله "إني سقيم" ولم يكن سقيماً، وقوله لسارة أختي، وقوله "بل فعله كبيرهم هذا"". وهذا الحديث هو في الصحيحين من حديث أبي هريرة بأطول من هذا. وقد روى نحو هذا أبو يعلى من حديث أبي سعد. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما جمع لإبراهيم ما جمع، وألقي في النار جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله؟ فكان أمر الله أسرع، قال الله "كوني برداً وسلاماً" فلم يبق في الأرض نار إلا طفئت. وأخرج أحمد وابن ماجه وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني في عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حين ألقي في النار لم تكن دابة إلا تطفئ عنه النار، غير الوزغ فإنه كان ينفخ على إبراهيم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله". وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر عن ابن عمر، قال: أول كلمة قالها إبراهيم حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "يا نار كوني" قال: كان جبريل هو الذي ناداها. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن علي نحوه. وأخرج ابن جرير عن معتمر بن سليمان التيمي عن بعض أصحابه قال: جاء جبريل إلى إبراهيم وهو يوثق ليلقى في النار، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن كعب قال: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن المنهال بن عمرو قال: أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار، فكان فيها إما خمسين وإما أربعين، قال: ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها، وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها.
70. قوله عز وجل: " وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين "، قيل: معناه أنهم خسروا السعي والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم.
وقيل: معناه إن الله عز وجل أرسل على نمرود وعلى قومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، ودخلت واحدة في دماغه فأهلكته.
70ـ " وأرادوا به كيداً " مكراً في إضراره . " فجعلناهم الأخسرين " أخسر من كل خاسر لما عاد سعيهم برهاناً قاطعاً على أنهم على الباطل وإبراهيم على الحق وموجباً لمزيد درجته واستحقاقهم أشد العذاب .
70. And they wished to set a snare for him, but We made them the greater losers.
70 - Then they sought a stratagem against him: but we made them the ones that lost most!