[طه : 84] قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى
84 - (قال هم أولاء) أي بالقرب مني يأتون (على أثري وعجلت إليك رب لترضى) عني أي زيادة على رضاك وقبل الجواب أتى بالاعتذار بحسب ظنه وتخلف المظنون لما
"قال هم أولاء على أثري" يقول : قومي على أثري يلحقون بي . "وعجلت إليك رب لترضى" يقول : وعجلت أنا فسبقتهم رب ، كيما ترضى عني.
وإنما قال الله تعالى ذكره لموسى : ما أعجلك عن قومك ؟ لأنه جل ثناؤه فيما بلغنا، حين نجاه وبني إسرائيل من فرعون وقومه ، وقطع بهم البحر، وعدهم جانب الطور الأيمن ، فتعجل موسى إلى ربه ، وأقام هارون في بني إسرائيل ، يسير بهم على أثر موسى.
كما حدثنا ابن حميد، قال : ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ، قال : وعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومه ونجاه وقومه ، ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة، تلقاه فيها بما شاء فاستخلف موسى هارون في بني إسرائيل ، ومعه السامري ، يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به ، فلما كلم الله موسى، قال له "ما أعجلك عن قومك يا موسى *قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى".
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله "وعجلت إليك رب لترضى" قال : لأرضيك.
فبقي صلى الله عليه وسلم متحيراً عن الجواب وكنى عنه بقوله: " هم أولاء على أثري " وإنما سأله عن السبب الذي أعجله بقوله: " ما " فأخبر عن مجيئهم بالأثر. ثم قال: " وعجلت إليك رب لترضى " فكنى عن ذكر الشوق وصدقه إلى ابتغاء الرضا. ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: " وعجلت إليك رب لترضى " قال: شوقاً. وكانت عائشة رضي الله عنها إذا آوت إلى فراشها تقول: هاتوا المجيد. فتؤتى بالمصحف فتأخذه في صدرها وتنام معه تتسلى بذلك، رواه سفيان عن مسعر عن عائشة رضي الله عنها. " وكان عليه الصلاة والسلام إذا أمطرت السماء خلع ثيابه وتجرد حتى يصيبه المطر ويقول:
إنه حديث عهد بربي " فهذا من الرسول صلى الله عليه وسلم وممن بعده من قبيل الشوق، ولذلك قال الله تبارك اسمه فيما يروى عنه: ((طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق)). قال ابن عباس: كان الله عالماً ولكن قال " وما أعجلك عن قومك " رحمة لموسى، وإكراماً له بهذا القول، وتسكيناً لقلبه، ورقة عليه، فقال مجيباً لربه: " هم أولاء على أثري ". قال أبو حاتم قال عيسى: بنو تميم يقولون: " هم أولى " مقصورة مرسلة، وأهل الحجاز يقولون " أولاء " ممدودة. وحكى الفراء هم أولاي على أثري وزعم أبو إسحاق الزجاج: أن هذا لا وجه له. قال النحاس : وهو كما قال، لأن هذا ليس مما يضاف فيكون مثل هداي. ولا يخلو من إحدى جهتين: إما أن يكون اسماً مبهماً فإضافته محال، وإما أن يكون بمعنى الذين فلا يضاف أيضاً، لأن ما بعده من تمامه وهو معرفة. وقرأ ابن أبي إسحاق ونصر ورويس عن يعقوب على إثري بكسر الهمزة وإسكان الثاء وهو بمعنى أثر، لغتان. " وعجلت إليك رب لترضى " أي عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني. يقال: رجل عجل وعجل وعجول وعجلان بين العجلة، والعجلة خلاف البطء.
لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون " فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون " وواعده ربه ثلاثين ليلة, ثم أتبعها عشراً, فتمت أربعين ليلة, أي يصومها ليلاً ونهاراً, وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك, فسارع موسى عليه السلام مبادراً إلى الطور, واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون, ولهذا قال تعالى: " وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري " أي قادمون ينزلون قريباً من الطور "وعجلت إليك رب لترضى" أي لتزداد عنى رضا "قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري" أخبر تعالى نبيه موسى بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري.
وفي الكتب الإسرائيلية أنه كان اسمه هارون أيضاً, وكتب الله تعالى له في هذه المدة الألواح المتضمنة للتوراة كما قال تعالى: "وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين" أي عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري.
وقوله: "فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً" أي بعدما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم, هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم, وتسلم التوراة التي فيها شريعتهم, وفيها شرف لهم, وهم قوم قد عبدوا غير الله, ما يعلم كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه وسخافة عقولهم وأذهانهم, ولهذا قال: رجع إليهم غضبان أسفاً, والأسف شدة الغضب. وقال مجاهد : غضبان أسفاً أي جزعاً, وقال قتادة والسدي : أسفاً حزيناً على ما صنع قومه من بعده "قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً" أي أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والاخرة وحسن العاقبة, كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه وغير ذلك من أيادي الله "أفطال عليكم العهد" أي في انتظار ما وعدكم الله ونسيان ما سلف من نعمه وما بالعهد من قدم, "أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم" أم ههنا بمعنى بل, وهي للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني, كأنه يقول: بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي, قالوا أي بنو إسرائيل في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم "ما أخلفنا موعدك بملكنا" أي عن قدرتنا واختيارنا, ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد, يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر, فقذفناها أي ألقيناها عنا.
وقد تقدم في حديث الفتون أن هارون عليه السلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار, وهي في رواية السدي عن أبي مالك عن ابن عباس , إنما أراد هارون أن يجتمع الحلي كله في تلك الحفيرة, ويجعل حجراً واحداً, حتى إذا رجع موسى عليه السلام, رأى فيه ما يشاء ثم جاء ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول, وسأل من هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته, فدعا له هارون وهو لا يعلم ما يريد فأجيب له, فقال السامري عند ذلك: أسأل الله أن يكون عجلاً, فكان عجلاً له خوار أي صوت استدراجاً, وإمهالاً ومحنة واختباراً, ولهذا قال: " فكذلك ألقى السامري * فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار ".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبادة بن النجتري , حدثنا يزيد بن هارون , أخبرنا حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو ينحت العجل, فقال له: ما تصنع ؟ فقال: أصنع ما يضر ولا ينفع, فقال هارون: اللهم أعطه ما سأل على ما في نفسه, ومضى هارون. وقال السامري: اللهم إني أسألك ان يخور فخار, فكان إذا خار سجدوا له, وإذا خار رفعوا رؤوسهم. ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال: أعمل ما ينفع ولا يضر. وقال السدي كان يخور ويمشي فقالوا: أي الضلال منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه: "هذا إلهكم وإله موسى فنسي" أي نسيه ههنا وذهب يتطلبه, كذا تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس , وبه قال مجاهد , وقال سماك عن عكرمة عن ابن عباس : "فنسي", أي نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم, وقال محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فقال: "هذا إلهكم وإله موسى" قال: فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط يعني مثله, يقول الله: "فنسي" أي ترك ما كان عليه من الإسلام يعني السامري. قال الله تعالى رداً عليهم وتقريعاً لهم وبياناً لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه: " أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا " أي العجل, أفلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه ولا إذا خاطبوه, "ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً", أي في دنياهم ولا في أخراهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره. فيخرج من فمه فيسمع له صوت, وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري أن هذا العجل اسمه بهموت, وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل, فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير, كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب, يعني هل يصلي فيه أم لا ؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق, قتلوا ابن بنت رسول الله يعني الحسين, وهم يسألون عن دم البعوضة.
فأجاب موسى عن ذلك 84- "قال هم أولاء على أثري" أي هم بالقرب مني، تابعون لأثري واصلون بعدي. وقيل لم يرد أنهم يسيرون خلفه، بل أراد أنهم بالقرب منه ينتظرون عوده إليهم، ثم قال مصرحاً بسبب ما سأله الله عنه فقال: "وعجلت إليك رب لترضى" أي لترضى عني بمسارعتي إلى امتثال أمرك أو لتزداد رضا عني بذلك. قال أبو حاتم: قال عيسى بن عمر: بنو تميم يقولون أولا مقصورة، وأهل الحجاز يقولون أولاء ممدودة. وقرأ ابن أبي إسحاق ونضر ورويس عن يعقوب على إثري بكسر الهمزة وإسكان الثاء، وقرأ الباقون بفتحها وهما لغتان. ومعنى عجلت إليك: عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني، يقال: رجل عجل وعجول وعجلان: بين العجلة، والعجلة خلاف البطء.
84. " قال "، مجيباً لربه تعالى: " هم أولاء على أثري "، أي: هم بالقرب مني يأتون من بعدي، " وعجلت إليك رب لترضى "، لتزداد رضاً.
84ـ " قال " موسى . " هم أولاء على أثري " أي ما تقدمتهم إلا بخطى يسيرة لا يعتد بها عادة وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة يتقدم بها الرفقة بعضهم بعضاً . " وعجلت إليك رب لترضى " فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك توجب مرضاتك .
84. He said: They are close upon my track. I hastened unto Thee that Thou mightest be well pleased.
84 - He replied: behold, they are close on my footsteps: I hastened to thee, O my Lord, to please thee.