[طه : 46] قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى
46 - (قال لا تخافا إنني معكما) بعوني (أسمع) ما يقول (وأرى) ما يفعل
يقول الله تعالى ذكره : قال الله لموسى وهارون "لا تخافا" فرعون "إنني معكما" أعينكما عليه ، وأبصركما "أسمع" ما يجري بينكما وبينه ، فأفهمكما ما تحاورانه به "وأرى" ما تفعلان ويفعل ، لا يخفى علي من ذلك شيء.
فيه مسألتان:
الأولى: قال العلماء: لما لحقهما ما يلحق البشر من الخوف على أنفسهما عرفهما الله سبحانه أن فرعون لا يصل إليهما ولا قومه. وهذه الآية ترد على من قال: إنه لا يخاف، والخوف من الأعداء سنة الله في أنبيائه وأوليائه مع معرفتهم به وثقتهم. ولقد أحسن البصري رحمه الله حين قال للمخبر عن عامر بن عبد الله - أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء، فحال الأسد بينهم وبين الماء، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: فقد خاطرت بنفسك. فقال: لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي من أن يعلم الله أني أخاف شيئاً سواه -: قد خاف من كان خيراً من عامر، موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين * فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين " [القصص: 20- 21] وقال: " فأصبح في المدينة خائفا يترقب " [القصص: 18] وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم: " فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى " [طه: 67 - 68].
قلت: ومنه حفر النبي صلى الله عليه وسل الخندق حول المدينة تحصيناً للمسلمين وأموالهم، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحد، ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة، تخوفاً على أنفسهم من مشركي مكة، وهرباً بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم. وقد قالت أسماء بنت عميس لعمر لما قال لها سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم: كذبت يا عمر، كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار - أو أرض - البعداء البغضاء في الحبشة، وذلك في الله ورسوله، وايم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نؤذي ونخاف. الحديث بطوله خرجه مسلم . قال العلماء: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم عليه كاذب، وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها. قالوا: ولا ضار أضر من سبع عاد في فلاة من الأرض على من لا آلة معه يدفعه بها عن نفسه، من سيف أو رمح أو نبل أو قوس وما أشبه ذلك.
الثانية: قوله تعالى: " إنني معكما " يريد بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. وهذا كما تقول: الأمير مع فلان إذا أردت أنه يحميه. وقوله: " أسمع وأرى " عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية، تبارك الله رب العالمين.
يقول تعالى إخباراً عن موسى وهارون عليهما السلام, أنهما قالا متسجيرين بالله تعالى شاكيين إليه: "إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى" يعنيان أن يبدر إليهما بعقوبة أو يعتدي عليهما, فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن يفرط يعجل. وقال مجاهد : يبسط علينا. وقال الضحاك عن ابن عباس أو أن يطغى: يعتدي "قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى" أي لا تخافا منه, فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه, وأرى مكانكما ومكانه, لا يخفى علي من أمركم شيء, واعلما أن ناصيته بيدي, فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري, وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا علي بن محمد الطنافسي , حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة , عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: لما بعث الله عز وجل موسى إلى فرعون قال: رب أي شيء أقول ؟ قال: قل هيا شراهيا. قال الأعمش : فسر ذلك: أنا الحي قبل كل شيء والحي بعد كل شيء, إسناده جيد, وشيء غريب "فأتياه فقولا إنا رسولا ربك" قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس أنه قال: مكثا على بابه حيناً لا يؤذن لهما حتى أذن لهما بعد حجاب شديد.
وذكر محمد بن إسحاق بن يسار أن موسى وأخاه هارون خرجا فوقفا بباب فرعون يلتمسان الإذن عليه, وهما يقولان: إنا رسولا رب العالمين فآذنوا بنا هذا الرجل, فمكثا فيما بلغني سنتين يغدوان ويروحان لا يعلم بهما ولا يجترىء أحد على أن يخبره بشأنهما حتى دخل عليه بطال له يلاعبه ويضحكه, فقال له: أيها الملك إن على بابك رجلاً يقول قولاً عجيباً يزعم أن له إلهاً غيرك أرسله إليك. قال ببابي ؟ قال: نعم, قال: أدخلوه, فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصاه, فلما وقف على فرعون قال: إني رسول رب العالمين, فعرفه فرعون, وذكر السدي أنه لما قدم بلاد مصر ضاف أمه وأخاه, وهما لا يعرفانه, وكان طعامهما ليلتئذ الطفيل وهو اللفت, ثم عرفاه وسلما عليه, فقال له موسى: يا هارون إن ربي قد أمرني أن آتي هذا الرجل فرعون فأدعوه إلى الله وأمرك أن تعاونني. قال: افعل ما أمرك ربك, فذهبا وكان ذلك ليلاً, فضرب موسى باب القصر بعصاه فسمع فرعون, فغضب وقال: من يجترىء على هذا الصنيع الشديد, فأخبره السدنة والبوابون بأن ههنا رجلاً مجنوناً يقول إنه رسول الله, فقال علي به, فلما وقفا بين يديه قالا وقال لهما ما ذكر الله في كتابه.
وقوله: "قد جئناك بآية من ربك" أي بدلالة ومعجزة من ربك "والسلام على من اتبع الهدى" أي والسلام عليك إن اتبعت الهدى, ولهذا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم كتاباً كان أوله "بسم الله الرحمن الرحمن, من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم, سلام على من اتبع الهدى, أما بعد, فإني أدعوك بدعاية الإسلام, فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين" وكذلك لما كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً صورته من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله, سلام عليك, أما بعد فإني قد أشركتك في الأمر, فلك المدر ولي الوبر, ولكن قريشاً قوم يعتدون, فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب, سلام على من اتبع الهدى, أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" ولهذا قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون " والسلام على من اتبع الهدى * إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى " أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن العذاب متمحض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته, كما قال تعالى: " فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى " وقال تعالى: "فأنذرتكم ناراً تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى" وقال تعالى: " فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى " أي كذب بقلبه, وتولى بفعله.
وجملة 46- "قال لا تخافا" مستأنفة جواب سؤال مقدر، نهي لهما عن الخوف الذي حصل معهما من فرعون، ثم علل ذلك بقوله: "إنني معكما" أي بالنصر لهما، والمعونة على فرعون، ومعنى "أسمع وأرى" إدراك ما يجري بينهما وبينه بحيث لا يخفى عليه سبحانه منه خافية، وليس بغافل عنهما.
46. " قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى "، قال ابن عباس: أسمع دعاءكما فأجيبه، وأرى ما يراد بكما فأمنعه، لست بغافل عنكما، فلا تهتما.
46ـ " قال لا تخافا إنني معكما " بالحفظ والنصر . " أسمع وأرى " ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل ، فأحدث في كل ما يصرف شره عنكما ويوجب نصرتي لكما ، ويجوز أن لا قدر شيء على معنى إنني حافظكما سامعاً ومبصراً ، والحافظ إذا كان قادراً سميعاً بصيراً تم الحفظ .
46. He said: Fear not. Lo! I am with you twain, Hearing and Seeing.
46 - He said: fear not: for I am with you: I hear and see (everything).