[طه : 40] إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى
40 - (إذ) للتعليل (تمشي أختك) مريم لتتعرف من خبرك وقد أحضروا مراضع وأنت لا تقبل ثدي واحدة منهن (فتقول هل أدلكم على من يكفله) فأجيبت فجاءت بأمه فقبل ثديها (فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها) بلقائك (ولا تحزن) حينئذ (وقتلت نفسا) هو القبطي بمصر فاغتممت لقتله من جهة فرعون (فنجيناك من الغم وفتناك فتونا) اختبرناك في الإيقاع في غير ذلك وخلصناك منه (فلبثت سنين) عشرا (في أهل مدين) بعد مجيئك إليها من مصر عند شعيب النبي وتزوجك بابنته (ثم جئت على قدر) في علمي بالرسالة وهو أربعون سنة من عمرك (يا موسى)
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، "ولتصنع على عيني" قال : أنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت ، ثم في البحر، و "إذ تمشي أختك". وقرأ ابن نهيك ولتصنع ، بفتح التاء. وتأوله كما:
حدثنا ابن حميد، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نهيك يقرأ وبتصنع على عيني فسألته عن ذلك ، فقال : ولتعمل على عيني.
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها "ولتصنع" بضم التاء، لإجماع الحجة من القراء عليها. وإذا كان ذلك كذلك ، فأولى التأويلين به ، التأويل الذي تأوله قتادة، وهو "وألقيت عليك محبة مني" ولتغذى على عيني ، ألقيت عليك المحبة مني. وعنى بقوله "على عيني" بمرأى مني ومحبة بإرادة.
وقوله "إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله" يقول تعالى ذكره : حين تمشي أختك تتبعك حتى وجدتك ، ثم تأتي من يطلب المراضع لك ، فتقول : هل أدلكم على من يكفله ؟ وحذف من الكلام ما ذكرت بعد قوله "إذ تمشي أختك" استغناء بدلالة الكلام عليه.
وإنما قالت أخت موسى ذلك لهم لما:
حدثنا موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما ألقته أمه في اليم "قالت لأخته قصيه" [القصص : 11]فلما التقطه آل فرعون ، وأرادوا له المرضعات فلم يأخذ من أحد من النساء وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع ، فأبى أن يأخذ فقالت أخته : "هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون" [القصص : 2 ]؟ فأخذوها وقالوا : بل قد عرفت هذا الغلام ، فدلينا على أهله ، قالت : ما أعرفه ، ولكن إنما قلت هم للملك ناصحون.
حدثنا ابن حميد، قال : ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ، قال : قالت : يعني أم موسى لأخته : قصيه فانظري ماذا يفعلون به ، فخرجت في ذلك "فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون" [القصص : 11]، وقد احتاج إلى الرضاع والتمس الثدي ، وجمعوا له المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه ، فلا يؤتى بامرأة، فيقبل ثديها، فيرمضهم ذلك ، فيؤتى بمرضع بعد مرضع ، فلا يقبل شيئاً منهم ، فقالت لهم أخته حين رأت من وجدهم به وحرصهم عليه "هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون" [القصص : 12] أي لمنزلته عندكم وحرصكم على مسرة الملك. وعنى بقوله "هل أدلكم على من يكفله" هل أدلكم على من يضمه إليه فيحفظه ويرضعه ويربيه. وقيل : معنى "وكفلها زكريا" [آل عمران : 37] ضمها.
وقوله "فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن" يقول تعالى ذكره : فرددناك إلى أمك بعد ما صرت في أيدي آل فرعون ، كيما تقر عينها بسلامتك ونجاتك من القتل والغرق في اليم ، وكيلا تحزن عليك من الخوف من فرعون عليك أن يقتلك.
كما حدثنا ابن حميد، قال : ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ، قال : لما قالت أخت موسى لهم ما قالت ، قالوا : هات فأتت أمه فأخبرتها ، فانطلقت معها حتى أتتهم ، فناولوها إياه ، فلما وضعته في حجرها أخذ ثديها، وسروا بذلك منه ، ورده الله إلى أمه كي تقر عينها، ولا تحزن ، فبلغ لطف الله لها وله ، أن رد عليها ولدها وعطف عليها نفع فرعون وأهل بيته مع الأمنة من القتل الذي يتخوف على غيره ، فكأنهم كانوا من أهل بيت فرعون في الأمان والسعة ، فكان على فرش فرعون وسرره.
وقوله "وقتلت نفسا" يعني جل ثناؤه بذلك : قتله القبطي الذي قتله حين استغاثه عليه الإسرائيلي ، فوكزه موسى وقوله "فنجيناك من الغم" يقول تعالى ذكره : فنجيناك من غمك بقتلك النفس التي قتلت ، إذ أرادوا أن يقتلوك بها فخلصناك منهم ، حتى هربت إلى أهل مدين ، فلم يصلوا إلى قتلك وقودك.
وكان قتله إياه فيما ذكر خطأ كما:
حدثني واصل بن عبد الأعلى، قال : ثنا محمد بن فضيل ، عن أبيه ، عن سالم ، عن عبد الله بن عمر، قال : "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ، فقال الله له "وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا"".
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، ومحمد بن عمرو، قالا : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد "فنجيناك من الغم" قال : من قتل النفس.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة "فنجيناك من الغم" النفس التي قتل.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله "وفتناك فتونا" فقال بعضهم : ابتليناك ابتلاء واختبرناك اختباراً.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية عن علي ، عن ابن عباس ، قوله "وفتناك فتونا"يقول :اختبرناك اختباراً.
حدثني محمد بن سعد، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، "وفتناك فتونا" قال : ابتليت بلاء.
حدثني العباس بن الوليد الآملي ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا أصبغ بن زيد الجهني ، قال أخبرني القاسم بن أيوب ، قال : ثني سعيد بن جبير، قال : سألت عبد الله بن عباس ، عن قول الله لموسى "وفتناك فتونا" فسألته على الفتون ما هي ؟ فقال لي : استأنف النهار يا ابن جبير، فإن لها حديثاً طويلاً. قال : فلما أصبحت غدوت على ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني ، قال : فقال ابن عباس : تذاكر فرعون وجلساؤه ما وعد الله إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك وما يشكون ، ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان الله وعد إبراهيم ، فقال فرعون : فكيف ترون ؟ قال : فأتمروا بينهم ، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه ، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، وأن الصغار يذبحون ، قالوا : يوشك أن تفنوا بني إسرائيل ، فتصيرون إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر، فيقل أبناؤهم ، ودعوا عاماً لا تقتلوا منهم أحداً، فتشب الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم ، فتخافون مكاثرتهم إياكم ، ولن يقلوا بمن تقتلون ، فأجمعوا أمرهم على ذلك ، فحملت أم موسى بهارون في العام المقبل الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة، حتى إذا كان العام المقبل حملت بموسى، فوقع في قلبها الهم والحزن ، وذلك من الفتون يا ابن جبير، مما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به ، فأوحى الله إليها "ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين" [القصص : 7]، وأمرها إذا ولدته أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم ، فلما ولدته فعلت ما أمرت به ، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبليس ، فقالت في نفسها: ما صنعت بابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابه ، فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري آل فرعون ، فرأينه فأخذنه ، فهممن أن يفتحن الباب ، فقال بعضهن لبعض : إن في هذا مالاً، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة فرعون بما وجدنا فيه ، فحملنه كهيئته لم يحركن منه شيئاً، حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه الغلام ، فألقى عليه منها محبة لم يلق مثلها منها على أحد من الناس "وأصبح فؤاد أم موسى فارغا" [القصص : . ا] من كل شيء إلا من ذكر موسى ، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بشفارهم يريدون أن يذبحوه ، وذلك من الفتون يا ابن جبير، فقالت للذباحين : انصرفوا عني ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل ، فآتي فرعون فاستوهبه إياه ، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم ، فلما أتت به فرعون قالت : "قرة عين لي ولك" [القصص : 19 ] قال فرعون : يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه فقال : والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت به ، لهداه الله به كما هدى به امرأته ، ولكن الله حرمه ذلك ، فأرسلت إلى من حولها من كل أنثى لها لبن ، لتختار له ظئراً، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فحزنها ذلك ، فأمرت به فاخرج إلى السوق مجمع الناس ترجو أن تصيب له ظئرا يأخذ منها، فلم يقبل من أحد، وأصبحت أم موسى ، فقالت لأخته : قصيه واطلبيه ، هل تسمعين له ذكراً ، أحي ابني ، أو قد أكلته دواب البحر وحيتانه ، ونسيت الذي كان الله وعدها، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون ، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤورات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ، فأخذوها وقالوا : وما يدريك ما نصحهم له ، هل يعرفونه ؟ حتى شكوا في ذلك ، وذلك من الفتون يا ابن جبير، فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه ، رغبتهم في ظؤورة الملك ، ورجاء منفعته ، فتركوها، فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت ، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها حتى امتلأ جنباه ، فانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا، فأرسلت إليها، فأتيت بها وبه ، فلما رأت ما يصنع بها قالت : امكثي عندي حتى ترضعي ابني هذا فإني لم أحب حبه شيئاً قط ، قال : فقالت : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي ، فيضيع ، فإن طابت نفسك أن تعطينيه ، فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً فعلت ، وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي ، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله تبارك وتعالى منجز وعده ، فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها، فأنبته الله نباتاً حسناً، وحفظه لما قضى فيه ، فلم يزل بنو إسرائيل وهم مجتمعون في ناحية المدينة يمتنعون به من الظلم والسخرة التي كانت فيهم ، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى : أزيريني ابني ، فوعدتها يوماً تزيرها إياه فيه ، فقالت لخواصتها وظؤورتها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة ليرى ذلك ، وأنا باعثة أمينة تحصي كل ما يصنع كل إنسان منكم ، فلم تزل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون ، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته ، وفرحت به ، وأعجبها ما رأت من حسن أثرها عليه ، وقالت : انطلقن به إلى فرعون ، فلينحله ، وليكرمه ، فلما دخلوا به عليه جعلته في حجره ، فتناول موسى لحية فرعون حتى مدها فقال عدو من أعداء الله : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم أنه سيصرعك ويعلوك ، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير، بعد كل بلاء ابتلي به وأريد به ، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون ، فقالت : ما بدا لك في هذا الصبي الذي قد وهبته لي ؟ قال : ألا ترين يزعم أنه سيصرعني ويعلوني ، فقالت : اجعل بيني وبينك أمراً تعرف فيه الحق ، ائت بجمرتين ولؤلؤتين ، فقربهن أليه ، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت أنه يعقل ، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين ، فاعلم أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل ، فقرب ذلك إليه ، فتناول الجمرتين ، فنزعوهما منه مخافة أن تحرقا يده ، فقالت المرأة : ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما قد هم به ، وكان الله بالغاً فيه أمره.
فلما بلغ أشده ، وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كل امتناع ، فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة، إذ هو برجلين يقتتلان ، أحدهما من بني إسرائيل ، والآخر من آل فرعون ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى واشتد غضبه ، لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل ، وحفظه لهم ، ولا يعلم الناس إلا أنما ذلك من قبل الرضاعة غير أم موسى، إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره ، فوكز موسى الفرعوني فقتله ، وليس يراهما أحد إلا الله والإسرائيلي ، فقال موسى حين قتل الرجل : "هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين" [القصص : 15] ثم قال "رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم" [القصص : 16] "فأصبح في المدينة خائفا يترقب" [القصص : 18] الأخبار، فأتى فرعون ، فقيل له : إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلاً من آل فرعون ، فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم في ذلك ، فقال : ابغوني قاتله ومن يشهد عليه ، لأنه لا يستقيم أن يقضي بغير بينة ولا ثبت ، فطلبوا له ذلك ، فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتاً، إذ مر موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس وكره الذي رأى، فغضب موسى ، فمد يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم "إنك لغوي مبين" [القصص : 18] فنظر الإسرائيلي موسى بعد ما قال ، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمر الذي قتل فيه الفرعوني ، فخاف أن يكون بعد ما قال له "إنك لغوي مبين" [القصص : 18] أن يكون إياه أراد ، ولم يكن أراده ، وإنما أراد الفرعوني ، فخاف الإسرائيلي ، فحاجز الفرعوني فقال "يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس" [القصص :19]وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا، فانطلق الفرعوني إلى قومه ، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ؟ فأرسل فرعون الذباحين ، فسلك موسى الطريق الأعظم ، فطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم. وجاء رجل من شيعة موسى من أقص المدينة، فاختصر طريقاً قريباً حتى سبقهم إلى موسى ، فأخبره الخبر، وذلك من الفتون يا ابن جبير.
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً، عن ًبن أبي نجيح ، عن مجاهد، قوله "فتونا" قال : بلاء إلقاؤه في التابوت ، ثم في البحر، ثم التقاط آل فرعون إياه ، ثم خروجه خائفاً. قال محمد بن عمرو، وقال أبو عاصم : خائفاً، أو جائعاً شك أبو عاصم، وقال الحارث : خائفا يترقب ، ولم يشك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد، مثله ، وقال : "خائفا يترقب"، ولم يشك.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة قوله "وفتناك فتونا" يقول : ابتليناك بلاء.
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله "وفتناك فتونا" هو البلاء على إثر البلاء.
وقال آخرون : معنى ذلك : خلصناك.
ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد "وفتناك فتونا" خلصناك إخلاصا.
حدثني ابن المثنى، قال : ثنا محمد بن جعفر، قال : ثنا شعبة، عن يعلى بن مسلم ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، يفسر هذا الحرف "وفتناك فتونا" قال : خلصناك إخلاصا.
قال أبو جعفر: وقد بينا فيما مض من كتابنا هذا معنى الفتنة، وأنها الابتلاء والاختبار بالأدلة المغنية عن الإعادة في هذا الموضع.
وقوله "فلبثت سنين في أهل مدين" وهذا الكلام قد حذف منه بعض ما به تمامه اكتفاء بدلالة ما ذكر عما حذف. ومعنى الكلام : وفتناك فتوناً، فخرجت خائفاً إلى أهل مدين ، فلبثت سنين فيهم.
وقوله "ثم جئت على قدر يا موسى" يقول جل ثناؤه : ثم جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون رسولاً ولمقداره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله "ثم جئت على قدر يا موسى" يقول : لقد جئت لميقات يا موسى.
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً، عن مجاهد، قال "على قدر يا موسى" قال : موعد.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد، قال : على ذي موعد.
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله "على قدر يا موسى" قال : قدر الرسالة والنبوة. والعرب تقول : جاء فلان على قدر: إذا جاء لميقات الحاجة إليه ، ومنه قول الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر
" إذ تمشي أختك " العامل في " إذ تمشي " " ألقيت " أو " تصنع ". ويجوز أن يكون بدلاً من " إذ أوحينا " وأخته اسمها مريم. " فتقول هل أدلكم على من يكفله " وذلك أنها خرجت متعرفة خبره، وكان موسى لما وهبه فرعون من امرأته طلبت له المراضع، وكان لا يأخذ من أحد حتى أقبلت أخته، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها فمصه وفرح به. فقالوا لها: تقيمين عندنا، فقالت: إنه لا لبن لي ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون. قالوا: ومن هي؟ قالت: أمي. فقالوا: لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون. وكان هارون أكبر من موسى بسنة. وقيل: بثلاث. وقيل: بأربع، وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها، قاله ابن عباس. فجاءت الأم فقبل ثديها. فذلك قوله تعالى: " فرجعناك إلى أمك " وفي مصحف أبي فرددناك " كي تقر عينها ولا تحزن " وروى عبد الحميد عن ابن عامر " كي تقر عينها " بكسر القاف. قال الجوهري : وقررت به عيناً وقررت به قرة وقروراً فيهما. ورجل قرير العين، وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت. وأقر الله عينه أي أعطاه حتى تقر فلا تطمح إلى من هو فوقه، ويقال: حتى تبرد ولا تسخن. وللسرور دمعة باردة، وللحزن دمعة حارة. وقد تقدم هذا المعنى في ((مريم)). " ولا تحزن " أي على فقدك. " وقتلت نفسا " قال ابن عباس: قتل قبطياً كافراً. قال كعب: وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة. في صحيح مسلم : وكان قتله خطأ، على ما يأتي. " فنجيناك من الغم " أي آمناك من الخوف والقتل والحبس. " وفتناك فتونا " أي اختبرناك اختباراً حتى صلحت للرسالة. وقال قتادة : بلوناك بلاء. مجاهد : أخلصناك إخلاصاً. وقال ابن عباس: اختبرناك بأشياء قبل الرسالة، أولها حملته أمه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره بلحية فرعون، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون، ثم قتله القبطي وخروجه خائفاً يترقب، ثم رعايته الغنم ليتدرب بها على رعاية الخلق. فيقال: إنه ند له من الغنم جدي فاتبعه أكثر النهار، وأتعبه، ثم أخذه فقبله وضمه إلى صدره، وقال له: أتعبتني وأتعبت نفسك، ولم يغضب عليه. قال وهب بن منبه: ولهذا اتخذه الله كليماً، وقد مضى في ((النساء)).
قوله تعالى: " فلبثت سنين في أهل مدين " يريد عشر سنين أتم الأجلين. وقال وهب: لبث عند شعيب ثمان وعشرين سنة، منها عشر مهر امرأته صفورا بنة شعيب، وثماني عشرة أقامها عنده حتى ولد له عنده. وقوله: " ثم جئت على قدر يا موسى " قال ابن عباس و قتادة وعبد الرحمن بن كيسان: يريد موافقاً للنبوة والرسالة، لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة. وقال مجاهد و مقاتل : " على قدر " على وعد وقال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدرت لك أنك تجيء فيه. والمعنى واحد. أي جئت في الوقت الذي أردنا إرسالك فيه. وقال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر
هذه إجابة من الله لرسوله موسى عليه السلام فيما سأل من ربه عز وجل, وتذكير له بنعمه السالفة عليه فيما كان من امر أمه حين كانت ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه, لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان, فاتخذت له تابوتاً, فكانت ترضعه ثم تضعه فيه وترسله في البحر وهو النيل, وتمسكه إلى منزلها بحبل, فذهبت مرة لتربط الحبل فانفلت منها وذهب به البحر, فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله: "وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها" فذهب به البحر إلى دار فرعون "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً" أي قدراً مقدوراً من الله حيث كانوا هم يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذراً من وجود موسى, فحكم الله وله السلطان العظيم والقدرة التامة أن لا يربى إلا على فراش فرعون, ويغذى بطعامه وشرابه مع محبته وزوجته له, ولهذا قال تعالى: " يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني " أي عند عدوك جعلته يحبك, قال سلمة بن كهيل "وألقيت عليك محبة مني" قال: حببتك إلى عبادي "ولتصنع على عيني" قال أبو عمران الجوني : تربى بعين الله وقال قتادة : تغذى على عيني. وقال معمر بن المثنى "ولتصنع على عيني" بحيث أرى, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف, وغذاؤه عندهم غذاء الملك فتلك الصنعة.
وقوله: "إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها" وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها, قال الله تعالى: "وحرمنا عليه المراضع من قبل" فجاءت أخته وقالت: "هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون" تعني هل أدلكم على من يرضعه لكم بالأجرة, فذهبت به وهم معها إلى أمه فعرضت عليه ثديها, فقبله ففرحوا بذلك فرحاً شديداً, واستأجروها على إرضاعه فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الاخرة أغنى وأجزل, ولهذا جاء في الحديث "مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها" وقال تعالى ههنا: "فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن" أي عليك "وقتلت نفسا" يعني القبطي "فنجيناك من الغم" وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله, ففر منهم هارباً حتى ورد ماء مدين, وقال له ذلك الرجل الصالح: "لا تخف نجوت من القوم الظالمين".
وقوله: "وفتناك فتونا" قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله في كتاب التفسير من سننه قوله "وفتناك فتوناً" (حديث الفتون) حدثنا عبد الله بن محمد , حدثنا يزيد بن هارون , أنبأنا أصبغ بن زيد , حدثنا القاسم بن أبي أيوب , أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عز وجل لموسى عليه السلام "وفتناك فتوناً" فسألته عن الفتون ما هو ؟ فقال: استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثاً طويلاً, فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون, فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً, فقال بعضهم: إن بني اسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه, وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب, فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السلام, فقال فرعون: كيف ترون ؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه, ففعلوا ذلك, فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم, والصغار يذبحون, قالوا: ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم, فاقتلوا عاماً كل مولد ذكر, واتركوا بناتهم, ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً, فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار, فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم, فتخافوا مكاثرتهم إياكم, ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم, فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان, فولدته علانية آمنة, فلما كان من قابل, حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها الهم والحزن, وذلك من الفتون ـ يا ابن جبير ـ ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به, فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين, فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم, فلما ولدت فعلت ذلك, فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها: ما فعلت با بني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه.
فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون, فلما رأينه أخذنه, فأردن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن: إن في هذا مالاً, وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه, فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً حتى دفعنه إليها, فلما فتحته رأت فيه غلاماً, فألقى الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط, وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى, فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه, وذلك من الفتون يا ابن جبير, فقالت لهم: أقروه, فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه, فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم, وإن أمر بذبحه لم ألمكم, فأتت فرعون فقالت: قرة عين لي ولك, فقال فرعون: يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها, ولكن حرمه ذلك", فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لبن لتختار له ظئراً, فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت, فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها, فلم يقبل.
وأصبحت أم موسى والهاً فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكراً: أحي ابني أم قد أكلته الدواب ؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه, فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون, والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به, فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون, فأخذوها فقالوا ما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه ؟ حتى شكوا في ذلك, وذلك من الفتون يا ابن جبير, فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظؤرة الملك ورجاء منفعة الملك فتركوها, فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر, فجاءت أمه فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه رياً, وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئراً, فأرسلت إليها فأتت بها وبه, فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي ترضعي ابني هذا, فإني لم أحب شيئاً حبه قط. قالت أم موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع, فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً, فإني غير تاركة بيتي وولدي, وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه, فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده, فرجعت به إلى بيتها من يومها, وأنبته الله نباتاً حسناً, وحفظه لما قد قضى فيه.
فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم, فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أتريني ابني فدعتها يوماً تريها إياه فيه, وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك, وأنا باعثة أميناً يحصي ما يصنع كل إنسان منكم, فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون, فلما دخل عليها بجلته وأكرمته وفرحت به, ونحلت أمه لحسن أثرها عليه, ثم قالت: لاتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه, فلما دخلت به عليه جعله في حجره فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض, فقال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه إنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك, فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه, وذلك من الفتون يا ابن جبير بعد كل بلاء ابتلي به.
وأريد به فتوناً فجاءت امرأة فرعون فقالت: ما بدالك في هذا الغلام الذي وهبته لي ؟ فقال ألاترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني ؟ فقالت: اجعل بيني وبينك أمراً يعرف الحق به, ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقدمهن إليه, فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين, عرفت أنه يعقل, وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل, فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين, فتناول الجمرتين, فانتزعهمامنه مخافة أن يحرقا يده, فقالت المرأة: ألا ترى ؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به, وكان الله بالغاً فيه أمره, فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع, فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعوني والاخر إسرائيلي, فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضباً شديداً, لأنه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم لا يعلم الناس إلا إنما ذلك من الرضاع إلا أم موسى إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره, فوكز موسى الفرعوني فقتله, وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي, فقال موسى حين قتل الرجل: هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين, ثم قال: "رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم".
فأصبح في المدينة خائفاً يترقب الأخبار, فأتى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قتلوا رجلاً من آل فرعون, فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم, فقال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه, فإن الملك وإن كان صفوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت, فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم, فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتاً إذا بموسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلاً من آل فرعون آخر, فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى فندم على ما كان منه وكره الذي رأى, فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني, فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم: "إنك لغوي مبين", فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال, فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني, فخاف أن يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين, أن يكون إياه أراد, ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني, فخاف الإسرائيلي وقال: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس, وإنما قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله, فتتاركا وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس, فأرسل فوعون الذباحين ليقتلوا موسى, فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم, فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة, فاختصر طريقاً حتى سبقهم إلى موسى فأخبره, وذلك من الفتون يا ابن جبير.
فخرج موسى متوجهاً نحو مدين ولم يلق بلاء قبل ذلك, وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز وجل, فإنه قال: "عسى ربي أن يهديني سواء السبيل * ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان" يعني بذلك حابستين غنمهما, فقال لهما: ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس ؟ قالتا: ليس لنا قوة نزاحم القوم وإنما نسقي من فضول حياضهم فسقى لهما فجعل يغترف في الدلو ماء كثيراً حتى كان أول الرعاء, فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما, وانصرف موسى عليه السلام فاستظل بشجرة وقال: " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلاً بطاناً, فقال: إن لكما اليوم لشأناً, فأخبرتاه بما صنع موسى, فأمر إحداهما أن تدعوه, فأتت موسى فدعته, فلما كلمه قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان, ولسنا في مملكته, فقالت إحداهما: "يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين" فاحتملته الغيرة على أن قال لها: ما يدريك ما قوته وما أمانته ؟ فقالت: أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا, لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه, وأما الأمانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له, فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك, ثم قال لي: امشي خلفي وانعتي لي الطريق, فلم يفعل هذا إلا وهو أمين, فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت, فقال له: هل لك " أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين " ؟ ففعل فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة, وكانت سنتان عدة منه, فقضى الله عنه عدته فأتمها عشراً.
قال سعيد وهو ابن جبير : فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال: هل تدري أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت: لا, وأنا يومئذ لا أدري, فلقيت ابن عباس فذكرت له ذلك, فقال: أما علمت أن ثمانياً كانت على نبي الله واجبة لم يكن نبي الله لينقص منها شيئاً, ويعلم أن الله كان قاضياً عن موسى عدته التي كان وعده, فإنه قضى عشر سنين, فلقيت النصراني فأخبرته ذلك, فقال: الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك, قلت: أجل وأولى, فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن, فشكا إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه, فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام, وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه, فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه, وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه, فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليهما السلام, فانطلقا جميعاً إلى فرعون, فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما, ثم أذن لهما بعد حجاب شديد, فقالا: "إنا رسولا ربك" قال: فمن ربكما ؟ فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن ؟ قال: فما تريدان ؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت, قال: أريد أن تؤمن بالله وترسل معنا بني إسرائيل, فأبى عليه وقال: ائت بآية إن كنت من الصادقين, فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة, فاغرة فاها, مسرعة إلى فرعون, فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل, ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء, يعني من غير برص, ثم ردها فعادت إلى لونها الأول, فاستشار الملأ حوله فيما رأى, فقالوا له: هذان ساحران "يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى", يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش, وأبوا على موسى أن يعطوه شيئاً مما طلب, وقالوا له: اجمع لهما السحرة, فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما, فأرسل إلى المدئن فحشر له كل ساحر متعالم, فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعمل هذا الساحر ؟ قالوا: يعمل بالحيات, قالوا: فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل, فما أجرنا إن نحن غلبنا ؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصتي, وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم, فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى.
قال سعيد بن جبير : فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء. فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر "لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين" يعنون موسى وهارون استهزاء بهما ؟ فـ " قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا " " فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون " فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة, فأوحى الله إليه أن ألق عصاك, فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيمة فاغرة فاها, فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جزراً إلى الثعبان تدخل فيه حتى ما أبقت عصاً ولا حبلاً إلا ابتعلته, فلما عرف السحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كل هذا, ولكن هذا أمر من الله عز وجل, آمنا بالله وبما جاء به موسى من عند الله, ونتوب إلى الله مما كنا عليه, فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه, وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون "فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين" وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه, فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه, وإنما كان حزنها وهمها لموسى, فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة, كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل, فإذا مضت أخلف موعده وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا ؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات, كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل, فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً, فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه, ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه, فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل, فيصير عاصياً لله.
فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى: إنا لمدركون افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب. قال: وعدني ربي إذا أتيت البحر انفلق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه, ثم ذكر بعد ذلك العصا, فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى, فانفلق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى, فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه, التقى عليهم البحر كما أمر, فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه, فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه, ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم "قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه" الاية. قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم, ومضى فأنزلهم موسى منزلاً وقال: أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم, فإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها, فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوماً, وقد صامهن ليلهن ونهارهن, وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم, فتناول موسى من نبات الأرض شيئاً فمضعه فقال له ربه حين أتاه: لم أفطرت وهو أعلم بالذي كان, قال: يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح. قال: أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك, ارجع فصم عشراً ثم ائتني.
ففعل موسى عليه السلام ما أمر به, فلما رأى قومه أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك, وكان هارون قد خطبهم وقال: إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ولكم فيهم مثل ذلك, فإني أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية, ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا, فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير, ثم أوقد عليه النار فأحرقته, فقال: لا يكون لنا ولا لهم, وكان السامري من قوم يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل, ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا, فقضي له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة, فمر بهارون فقال له هارون عليه السلام: يا سامري ألا تلقي ما في يدك, وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك ؟ فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر, ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد, فألقاها ودعا له هارون, فقال: أريد أن يكون عجلاً, فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد, فصار عجلاً أجوف ليس فيه روح وله خوار, قال ابن عباس : لا والله ما كان له صوت قط إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه, وكان ذلك الصوت من ذلك, فتفرق بنو إسرائيل فرقاً, فقالت فرقة: يا سامري ما هذا وأنت أعلم به ؟ قال: هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق, فقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى, فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا, وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى, وقالت فرقة: هذا من عمل الشيطان, وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق, وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به, فقال لهم هارون: "يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري" قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوماً ثم أخلفنا, هذه أربعون يوماً قد مضت, وقال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه: يتبعه, فلما كلم الله موسى وقال له ما قال, أخبره بما لقي قومه من بعده "فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً" فقال لهم ما سمعتم في القرآن, وأخذ برأس أخيه يجره إليه, وألقى الألواح من الغضب, ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له, وانصرف إلى السامري فقال له: ما حملك على ما صنعت ؟ قال: قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم " فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي * قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ", ولو كان إلهاً لم يخلص إلى ذلك منه, فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة, واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون, فقالوا لجماعتهم: يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فيكفر عنا ما عملنا, فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً لذلك لا يألو الخير خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل, فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض! فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل, فقال: " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " وفيهم من كان اطلع الله منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به, فلذلك رجفت بهم الأرض فقال: " ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " فقال: يا رب سألتك التوبة لقومي, فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي, هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة ؟ فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد, فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن, وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون, واطلع الله من ذنوبهم, فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا, وغفر الله للقاتل والمقتول.
ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة, وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب, فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف, فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها, فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم, فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون, ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم, ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون, خلقهم خلق منكر, وذكروا من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها, فقالوا: يا موسى إن فيها قوماً جبارين لا طاقة لنا بهم, ولا ندخلها ما داموا فيها, فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون قيل ليزيد هكذا قرأه ؟ قال: نعم من الجبارين آمنا بموسى وخرجا إليه فقالوا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم, فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم, فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون, ويقول أناس: إنهم من قوم موسى, فقال الذين يخافون من بني إسرائيل: " قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " فأغضبوا موسى, فدعا عليهم وسماهم فاسقين, ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ, فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين, وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار, وظلل عليهم الغمام في التيه, وأنزل عليهم المن والسلوى, وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ, وجعل بين ظهرانيهم حجراً مربعاً, وأمر موسى فضربه بعصاه, فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية ثلاثة أعين, وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها, فلا يرتحلون من مكان إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس.
رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل, فقال: كيف يفشي عليه ولم يكن علم به, ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك ؟ فغضب ابن عباس فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري , فقال له: يا أبا إسحاق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون ؟ الاسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني ؟ قال: إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره, وهكذا رواه النسائي في السنن الكبرى, وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيرهما, كلهم من حديث يزيد بن هارون به, وهو موقوف من كلام ابن عباس , وليس فيه مرفوع إلا قليل منه, وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار , أو غيره, والله أعلم, وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضاً. وقوله عز وجل :
40- "إذ تمشي أختك" ظرف لألقيت، أو لتصنع، ويجوز أن يكون بدلاً من "إذ أوحينا" وأخته اسمها مريم "فتقول هل أدلكم على من يكفله" وذلك أنها خرجت متعرفة لخبره فوجدت فرعون وامرأته آسية يطلبان له مرضعة، فقالت لهما هذا القول: أي هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه ويربيه، فقالا لها ومن هو؟ قالت أمي، فقالا هل لها لبن؟ قالت نعم لبن أخي هارون، وكان هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل بأكثر، فجاءت الأم فقبل ثديها، وكان لا يقبل ثدي مرضعة غيرها، وهذا هو معنى "فرجعناك إلى أمك" وفي مصحف أبي فرددناك، والفاء فصيحة " كي تقر عينها " قرأ ابن عامر في رواية عبد الحميد عنه "كي تقر" بكسر القاف، وقرأ الباقون بفتحها. قال الجوهري: قررت به عيناً قرة وقروراً، ورجل قرير العين، وقد قرت عينه تقر وتقر. نقيض سخنت، والمراد بقرة العين: السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم عليها فراقه "ولا تحزن" أي لا يحصل لها ما يكدر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب، ولو أراد الحزن بالسبب الذي قرت عينها بزواله لقدم نفي الحزن على قرة العين، فيحمل هذا النفي للحزن على ما يحصل بسبب يطرأ بعد ذلك، ويمكن أن يقال إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين، وقيل المعنى: ولا تحزن أنت يا موسى بفقد إشفاقها، وهو تعسف "وقتلت نفساً" المراد بالنفس هنا: نفس القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، وكان قتله خطأ "فنجيناك من الغم" أي الغم الحاصل معك من قتله خوفاً من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعاً، وقيل الغم هو القتل بلغة قريش، وما أبعد هذا "وفتناك فتوناً" الفتنة تكون بمعنى المحنة، وبمعنى الأمر الشاق، وكل ما يبتلى به الإنسان، والفتون يجوز أن يكون مصدراً كالثبور والشكور والكفور: أي ابتليناك ابتلاءً، واختبرناك اختباراً، ويجوز أن يكون جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجور في حجرة ويدور في بدرة: أي خلصناك مرة بعد مرة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن يصطفيه الله لرسالته، ولعل المقصود بذكر تنجيته من الغم الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو الامتنان عليه بصنع الله سبحانه له وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل "فلبثت سنين في أهل مدين" قال الفراء: تقدير الكلام وفتناك فتوناً، فخرجت إلى أهل مدين فلبث سنين ومثل هذا الحذف كثير في التنزيل، وكذا في كلام العرب فإنهم يحذفون كثيراً من الكلام إذا كان المعنى معروفاً، ومدين هي بلد شعيب، وكانت على ثماني مراحل من مصر، هرب إليها موسى فأقام بها عشر سنين، وهي أتم الأجلين، وقيل أقام عند شعيب ثمان وعشرين سنة منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب، ومنها ثماني عشرة بسنة بقي فيها عنده حتى ولد له، والفاء "فلبثت" تدل على أن المراد بالمحن المذكورة هي ما كان قبل لبثه في أهل مدين "ثم جئت على قدر يا موسى" أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبياً، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به. قال الشاعر:
نال الخلافة إذ كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر
وكلمة ثم المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدة، وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرق غنمه ونحو ذلك.
40. " إذ تمشي أختك "، واسمها مريم، متعرفةً خبره، " فتقول: هل أدلكم على من يكفله "؟ أي: على امرأة ترضعه وتضمه إليها، وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة، فلما قالت ذلك لهم أخته قالوا: نعم، فجاءت بالأم فقبل ثديها، فذلك قوله تعالى: " فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها "، بلقائك، " ولا تحزن "، أي: لأن يذهب عنها الحزن.
" وقتلت نفساً "، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان قتل قبطياً كافراً. قال كعب الأحبار : كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة، " فنجيناك من الغم "، أي من غم القتل وكربه، " وفتناك فتوناً " ، قال ابن عباس رضي الله عنه: اختبرناك اختباراً. وقال الضحاك و مقاتل : ابتليناك ابتلاءً. وقال مجاهد : أخلصناك إخلاصاً.
وعن ابن عباس في رواية سعيد بن جبير : أن الفتون وقوعه في محنة بعد محنة خلصه الله منها، أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح الأطفال، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت، ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم أخذه بلحية فرعون حتى هم بقتله، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، ثم قتله القبطي، وخروجه إلى مدين خائفاً. فكان ابن عباس يقص القصة على سعيد بن جبير ، فعلى هذا معنى: " فتناك " خلصناك من تلك المحن، كما يفتن الذهب بالنار فيخلص من كل خبث فيه، ((والفتون)): مصدر.
" فلبثت "، فمكثت، أي: فخرجت من مصر فلبثت، " سنين في أهل مدين "، يعني ترعى الأغنام عشر سنين، ومدين بلدة شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر، هرب إليها موسى.
وقال وهب : لبث عند شعيب عليه السلام ثمانياً وعشرين سنة، عشر سنين منها مهر ابنته ((صفيرا)) بنت شعيب، وثمان عشرة سنة أقام عنده حتى ولد له.
" ثم جئت على قدر يا موسى "، قال مقاتل : على موعد ولم يكن هذا الموعد مع موسى وإنما كان موعداً في تقدير الله، قال محمد بن كعب : جئت على القدر الذي قدرت أنك تجيء.
وقال عبد الرحمن بن كيسان : على رأس أربعين سنة، وهو القدر الذي يوحي فيه إلى الأنبياء، وهذا معنى قول أكثر المفسرين، أي على الموعد الذي وعده الله وقدره أنه يوحي إليه بالرسالة، وهو أربعون سنة.
40ـ " إذ تمشي أختك " ظرف لـ " ألقيت " أو " لتصنع " أو بدل من " إذ أوحينا " على أن المراد بها وقت متسع . " فتقول هل أدلكم على من يكفله " وذلك لأنه كان لا يقبل ثدي المراضع ، فجاءت أخته مريم متفحصة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها فقالت " هل أدلكم " فجاءت بأمه فقبل ثديها . " فرجعناك إلى أمك " وفاء بقولنا " إنا رادوه إليك " " كي تقر عينها " بلقائك . " ولا تحزن " هي بفراقك أو أنت على فراقها وفقد إشفاقها . " وقتلت نفساً " نفس القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي . " فنجيناك من الغم " غم قتله خوفاً من عقاب الله تعالى واقتصاص فرعون بالمغفرة والأمن منه بالهجرة إلى مدين . " وفتناك فتوناً " وابتليناك ابتلاء ، أو أنواعاً من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة ، فخلصناك مرة بعد أخرى وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الألاف ، والمشي راجلاً على حذر وفقد الزاد وأجر نفسه إلى غير ذلك أوله ولما سبق ذكره . " فلبثت سنين في أهل مدين " لبثت فيهم عشر سنين قضاء لأوفي الأجلين ، ومدين على ثمان مراحل من مصر . " ثم جئت على قدر " قدرته لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر ، أو على مقدار من السن يوحى فيه إلى الأنبياء . " يا موسى " كرره عقيب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك .
40. When thy sister went and said: Shall I show you one who will nurse him? and We restored thee to thy mother that her eyes might be refreshed and might not sorrow. And thou didst kill a man and We delivered thee from great distress, and tried thee with a heavy trial. And thou didst tarry years among the folk of Midian. Then comest thou (hither) by (My) providence, O Moses,
40 - Behold! thy sister goeth forth and saith, shall I show you one who will nurse And rear the (child)? So We brought thee back To thy mother, that her eye might be cooled and she should not grieve. Then thou didst slay a man, but we saved thee from trouble, and we tried thee in various ways. Then didst thou tarry A number of years with the people of midian. then didst thou come hither as ordained, O Moses!