[طه : 4] تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى
4 - (تنزيلا) بدل من اللفظ بفعله الناصب له (ممن خلق الأرض والسماوات العلى) جمع عليا ككبرى وكبر
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هذا القرآن تنزيل من الرب الذي خلق الأرض والسماوات العلى. والعلى : جمع عليا.
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله "تنزيلا" فقال بعض نحويي البصرة : نصب ذلك بمعنى : نزل الله ذلك تنزيلا. وقال بعض من أنكر ذلك من قيله هذا من كلامين ، ولكن المعنى : هو تنزيل ، ثم أسقط هو، واتصل بالكلام الذي قبله ، فخرج منه ، ولم يكن من لفظه.
قال أبو جعفر: والقولان جميعاً عندي غير خطأ.
" تنزيلا " مصدر، أي نزلناه تنزيلا. وقيل: بدل من قوله: " تذكرة ". وقرأ أبو حيوة الشامي " تنزيل " بالرفع على معنى هذا تنزيل. " ممن خلق الأرض والسماوات العلى " أي العالية الرفيعة، وهي جمع العليا، كقوله: كبرى وصغرى وكبر وصغر، أخبر عن عظمته وجبروته وجلاله.
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شيبة الواسطي , حدثنا أبو أحمد ـ يعني الزبيري ـ أنبأنا إسرائيل عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: طه يا رجل, وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبي مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى أنهم قالوا: طه بمعنى يا رجل.. وفي رواية عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنها كلمة بالنبطية معناها يا رجل. وقال أبو صالح : هي معربة.
وأسند القاضي عياض في كتابه الشفاء من طريق عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا هاشم بن القاسم عن ابن جعفر عن الربيع بن أنس قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى " , فأنزل الله تعالى: "طه" يعني: طأ الأرض يا محمد "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" ثم قال: ولا يخفى بما في هذا الإكرام وحسن المعاملة وقوله: " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " قال جويبر عن الضحاك : لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم قام به هو وأصحابه, فقال المشركون من قريش: ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى, فأنزل الله تعالى: " طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى " فليس الأمر كما زعمه المبطلون, بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيراً كثيراً, كما ثبت في الصحيحين عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".
وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال: حدثنا أحمد بن زهير , حدثنا العلاء بن سالم , حدثنا إبراهيم الطالقاني , حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن سماك بن حرب , عن ثعلبة بن الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي" إسناده جيد, وثعلبة بن الحكم هذا هو الليثي , ذكره أبو عمر في استيعابه, وقال: نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة, وروى عنه سماك بن حرب .
وقال مجاهد في قوله: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" هي كقوله: " فاقرؤوا ما تيسر منه " وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة. وقال قتادة : " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " لا والله ما جعله شقاء, ولكن جعله رحمة ونوراً ودليلاً إلى الجنة "إلا تذكرة لمن يخشى" إن الله أنزل كتابه وبعث رسوله رحمة رحم بها عباده ليتذكر ذاكر, وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله وهو ذكر أنزل الله فيه حلاله وحرامه.
وقوله: "تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى" أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد هو تنزيل من ربك, رب كل شيء ومليكه القادر على ما يشاء, الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها, وخلق السموات العلى في ارتفاعها ولطافتها, وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام, وبعد ما بينها والتي تليها مسيرة خمسمائة عام, وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا حديث الأوعال من رواية العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه. وقوله: "الرحمن على العرش استوى" تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضاً, وأن المسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.
وقوله: "له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى" أي الجميع ملكه, وفي قبضته, وتحت تصرفه ومشيئته وإرادته وحكمه, وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه لا إله سواه ولا رب غيره. وقوله: "وما تحت الثرى" قال محمد بن كعب : أي ما تحت الأرض السابعة. وقال الأوزاعي : إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعباً سئل فقيل له: ما تحت هذه الأرض ؟ فقال: الماء. قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض. قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الماء قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض. قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الماء, قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض, قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الماء, قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض, قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الصخرة, قيل: وما تحت الصخرة ؟ قال: ملك, قيل: وما تحت الملك ؟ قال: حوت معلق طرفاه بالعرش, قيل: وما تحت الحوت ؟ قال: الهواء والظلمة وانقطع العلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب , حدثنا عمي , حدثنا عبد الله بن عياش , حدثنا عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام, والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء, والحوت على صخرة, والصخرة بيد الملك, والثانية سجن الريح, والثالثة فيها حجارة جهنم, والرابعة فيها كبريت جهنم, والخامسة فيها حيات جهنم, والسادسة فيها عقارب جهنم, والسابعة فيها سقر وفيها إبليس مصفد بالحديد يد أمامه ويد خلفه, فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء أطلقه" وهذا حديث غريب جداً, ورفعه فيه نظر.
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا أبو موسى الهروي عن العباس بن الفضل قال: قلت ابن الفضل الأنصاري ؟ قال: نعم, عن القاسم بن عبد الرحمن عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال: " كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فأقبلنا راجعين في حر شديد, فنحن متفرقون بين واحد واثنين منتشرين, قال وكنت في أول العسكر إذا عارضنا رجل فسلم, ثم قال: أيكم محمد ؟ ومضى أصحابي ووقفت معه, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل في وسط العسكر على جمل أحمر مقنع بثوبه على رأسه من الشمس, فقلت: أيها السائل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتاك, فقال: أيهم هو ؟ فقلت: صاحب البكر الأحمر, فدنا منه فأخذ بخطام راحلته, فكف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت محمد ؟ قال: نعم. قال: إني أريد أن أسألك عن خصال لا يعلمهن أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلان ؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم سل عما شئت قال: يا محمد أينام النبي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنام عيناه ولا ينام قلبه قال: صدقت ثم قال: يا محمد من أين يشبه الولد أباه وأمه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماء الرجل أبيض غليظ, وماء المرأة أصفر رقيق, فأي الماءين غلب على الاخر نزع الولد فقال: صدقت, فقال: ما للرجل من الولد, وما للمرأة منه ؟ فقال للرجل العظام والعروق والعصب, وللمرأة اللحم والدم والشعر قال: صدقت, ثم قال: يا محمد ما تحت هذه ؟ ـ يعني الأرض ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلق فقال: فما تحتهم ؟ قال أرض. قال: فما تحت الأرض ؟ قال: الماء. قال: فما تحت الماء ؟ قال: ظلمة. قال: فما تحت الظلمة ؟ قال: الهواء. قال: فما تحت الهواء ؟ قال: الثرى. قال: فما تحت الثرى ؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء, وقال: انقطع علم الخلق عند علم الخالق, أيها السائل ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فقال صدقت, أشهد أنك رسول الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس هل تدرون من هذا ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال هذا جبريل عليه السلام". هذا حديث غريب جداً, وسياق عجيب, تفرد به القاسم بن عبد الرحمن هذا, وقد قال فيه يحيى بن معين : ليس يساوي شيئاً, وضعفه أبو حاتم الرازي , وقال ابن عدي : لا يعرف. قلت: وقد خلط في هذا الحديث, ودخل عليه شيء في شيء وحديث في حديث, وقد يحتمل أنه تعمد ذلك أو أدخل عليه فيه, والله أعلم.
وقوله: " وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى " أي أنزل هذا القرآن الذي خلق الأرض والسموات العلى الذي يعلم السر وأخفى, كما قال تعالى: "قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : "يعلم السر وأخفى" قال: السر ما أسره ابن آدم في نفسه "وأخفى" ما أخفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه, فالله يعلم ذلك كله, فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد, وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة, وهو قوله: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" وقال الضحاك "يعلم السر وأخفى" قال: السر ما تحدث به نفسك, وأخفى ما لم تحدث به نفسك بعد.
وقال سعيد بن جبير : أنت تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غداً, والله يعلم ما تسر اليوم وما تسر غداً, وقال مجاهد "وأخفى" يعني الوسوسة, وقال أيضاً هو و سعيد بن جبير "وأخفى" أي ما هو عالمه مما لم يحدث به نفسه. وقوله: "الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى" أي الذي أنزل عليك القرآن, هو الله الذي لا إله إلا هو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى, وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة الأعراف ولله الحمد والمنة.
وانتصاب 4- "تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى" على المصدرية: أي أنزلناه تنزيلاً، وقيل بدل من قوله تذكرة، وقيل هو منصوب على المدح، وقيل منصوب ب"يخشى": أي يخشى تنزيلاً من الله على أنه مفعول به، وقيل منصوب على الحال بتأوله باسم الفاعل. وقرأ أبو حيوة الشامي تنزيل بالرفع على معنى هذا تنزيل، وممن خلق متعلق بتنزيلاً، أو بمحذوف هو صفة له، وتخصيص خلق الأرض والسموات لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عز وجل، والعلى: جمع العليا: أي المرتفعة كجمع كبرى وصغرى على كبر وصغر. ومعنى الآية إخبار العباد عن كمال عظمته سبحانه وعظيم جلاله.
4 - " تنزيلاً " ، بدل من قوله " تذكرةً " " ممن خلق الأرض " أي : من الله الذي خلق الأرض ، " والسموات العلى " ، يعني : العالية الرفيعة ،وهي جمع العليا كقوله : كبرى وكبر ، وصغرى وصغر .
4ـ " تنزيلاً " نصب بإضمار فعله أو بـ " يخشى " ، أو على المدح أو البدل من " تذكرة " إن جعل حالاً ، وإن ، جعل مفعولاً له لفظاً أو معنى فلا لأن الشيء لا يعلل بنفسه ولا بنوعه . " ممن خلق الأرض والسموات العلى " مع ما بعده إلى قوله " له الأسماء الحسنى " تفخيم لشأن المنزل بفرط تعظيم المنزل بذكر أفعاله وصفاته على الترتيب الذي هو عند العقل ، فبدأ بخلق الأرض
والسموات التي هي أصول العالم ، وقدم الأرض لأنها أقرب إلى الحس وأظهر عنده من السموات العلى ، وهو جمع العليا تأنيث الأعلى ، ثم أشار إلى وجه إحداث الكائنات وتدبير أمرها بأن قصد العرش فأجرى منه الأحكام والتقادير ، وأنزل منه الأسباب على ترتيب ومقادير حسب ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته فقال :
4. A revelation from Him Who created the earth and the high heavens,
4 - A revelation from him who created the earth And the heavens on high.