[طه : 119] وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى
119 - (وأنك) بفتح الهمزة وكسرها عطف على اسم إن وجملتها (لا تظمأ فيها) تعطش (ولا تضحى) لا يحصل لك حر شمس الضحى لانتقاء شمس الضحى في الجنة
وقوله "وأنك لا تظمأ فيها" اختلفت القراء في قراءتها، فقرأ ذلك بعض قراء المدينة والكوفة بالكسر، وإنك على العطف على قوله "إن لك". وقرأ ذلك بعض قراء المدينة وعامة قراء الكوفة والبصرة وأنك بفتح ألفها عطفاً بها على أن التي في قوله " أن لا تجوع فيها ". ووجهوا تأويل ذلك إلى أن لك هذا وهذا، فهذه القراءة أعجب القراءتين إلي ، لأن الله تبارك وتعالى ذكره وعد ذلك آدم حين أسكنه الجنة، فكون ذلك بان يكون عطفاً علي أن لا تجوع أولى من أن يكون خبر مبتدأ، وإن كان الآخر غير بعيد من الصواب. وعنى بقوله "لا تظمأ فيها" لا تعطش في الجنة ما دمت فيها "ولا تضحى"، يقول : لا تظهر للشمس فيؤذيك حرها، كما قال ابن أبي ربيعة:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس قوله "وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى" يقول : لا يصيبك فيها عطش ولا حر.
حدثني محمد بن سعد، قال ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله "وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى" يقول : لا يصيبك حر ولا أذى.
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي ، قال : ثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : ثني أبي ، عن خصيف عن سعيد بن جبير "لا تظمأ فيها ولا تضحى" قال : لا تصيبك الشمس.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة "ولا تضحى" قال : لا تصيبك الشمس.
" وأنك لا تظمأ فيها " أي لا تعطش. والظمأ العطش. " ولا تضحى " أي تبرز للشمس فتجد حرها. إذ ليس في الجنة شمس، إنما هو ظل ممدود، كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. قال أبو العالية : نهار الجنة هكذا: وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. قال أبو زيد: ضحا الطريق يضحو ضحواً إذا بدا لك وظهر. وضحيت وضحيت (بالكسر) ضحاً عرقت. وضحيت أيضاً للشمس ضحاء ممدود برزت وضحيت (بالفتح) مثله، والمستقبل أضحى في اللغتين جميعاً، قال عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلاً إيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر
وفي الحديث أن ابن عمر رأى رجلاً محرماً قد استظل، فقال: أضح لمن أحرمت له. هكذا يرويه المحدثون بفتح الألف وكسر الحاء من أضحيت. وقال الأصمعي : إنما هو:اضح لمن أحرمت له، بكسر الألف وفتح الحاء، من ضحيت أضحى، لأنه أمره بالبروز للشمس، ومنه قوله تعالى: "وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " وأنشد:
ضحيت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة قالصا
وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصما في رواية أبي بكر عنه " وأنك " بفتح الهمزة عطفاً على " أن لا تجوع ". ويجوز أن يكون في موضع رفع عطفاً على الموضع، والمعنى: ولك أنك لا تظمأ فيها. الباقون بالكسر على الاستئناف، أو على العطف على " إن لك ".
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان , حدثنا أسباط بن محمد , حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي, وكذا رواه علي بن أبي طلحة عنه. وقال مجاهد والحسن : ترك. وقوله: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " يذكر تعالى تشريف آدم, وتكريمه وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلاً, وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة البقرة وفي الأعراف وفي الحجر والكهف, وسيأتي في آخر سورة "ص" يذكر تعالى فيها خلق آدم وأمره الملائكة بالسجود له تشريفاً وتكريماً, ويبين عداوة إبليس لبني آدم ولأبيهم قديماً, ولهذا قال تعالى: "فسجدوا إلا إبليس أبى" أي امتنع واستكبر "فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك" يعني حواء عليهما السلام "فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى" أي إياك أن تسعى في إخراجك منها فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك, فإنك ههنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة " إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى " إنما قرن بين الجوع والعري, لأن الجوع ذل الباطن, والعري ذل الظاهر, " وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " وهذان أيضاً متقابلان, فالظمأ حر الباطن وهو العطش, والضحى حر الظاهر.
وقوله: "فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" قد تقدم أنه دلاهما بغرور "وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين" وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة, فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها وكانت شجرة الخلد, يعني التي من أكل منها خلد ودام مكثه, وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد, فقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن أبي الضحاك , سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها, وهي شجرة الخلد" ورواه الإمام أحمد .
وقوله: "فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما" قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب , حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة , عن قتادة , عن الحسن , عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس, كأنه نخلة سحوق, فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه, فأول ما بدا منه عورته, فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة, فأخذت شعره شجرة فنازعها, فناداه الرحمن: يا آدم مني تفر, فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا, ولكن استحياء, أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم" فذلك قوله: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه" وهذا منقطع بين الحسن وأبي بن كعب , فلم يسمعه منه, وفي رفعه نظر أيضاً.
وقوله: "وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة" قال مجاهد: يرقعان كهيئة الثوب, وكذا قال قتادة والسدي . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن عون , حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى , عن المنهال , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس "وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة" قال: ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما. وقوله: "وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى" قال البخاري : حدثنا قتيبة , حدثنا أيوب بن النجار عن يحي بن أبي كثير , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حاج موسى آدم, فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى, أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه, أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني أو قدره الله علي قبل أن يخلقني؟ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فحج آدم موسى", وهذا الحديث له طرق في الصحيحين وغيرهما من المسانيد.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى , أخبرنا ابن وهب , أخبرني أنس بن عياض عن الحارث بن أبي ذئاب , عن يزيد بن هرمز قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتج آدم وموسى عند ربهما, فحج آدم موسى, قال موسى: أنت الذي خلقك الله بيده, ونفخ فيك من روحه, وأسجد لك ملائكته, وأسكنك في جنته, ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك, قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه, وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء, وقربك نجياً, فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً, قال آدم: فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى؟ قال: نعم, قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فحج آدم موسى", قال الحارث : وحدثني عبد الرحمن بن هرمز بذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا قوله: 119- " وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " فإن نفي الظمأ يستلزم حصول الري ووجود المسكن الذي يدفع عنه مشقة الضحو يقال ضحى الرجل يضحى ضحواً: إذا برز للشمس فأصابه حرها، فذكر سبحانه ها هنا أنه قد كفاه الاشتغال بأمر المعاش وتعب الكد في تحصيله، ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي تحصيل الشبع والري والكسوة والكن، وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها، وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه فله في الجنة هذا كله، وإن ضيع وصيته ولم يحفظ عهده أخرجه من الجنة إلى الدنيا فيحل به التعب والنصب مما يدفع الجوع والعري والظمأ والضحو، فالمراد بالشقاء شقاء الدنيا كما قاله كثير من المفسرين لا شقاء الأخرى. قال الفراء: هو أن يأكل من كد يديه، وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصماً "وأنك لا تظمأ" بفتح أن، وقرأ الباقون بكسرها على العطف على إن لك.
119. " وأنك "، قرأ نافع وأبو بكر بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الآخرون بالفتح نسقاً على قوله: " أن لا تجوع فيها " " وأنك لا تظمأ "، لا تعطش، " فيها ولا تضحى "، يعني: لا تبرز للشمس فيؤذيك حرها. وقال عكرمة : لا تصيبك الشمس وأذاها، لأنه ليس في الجنة شمس، وأهلها في ظل ممدود.
119ـ " وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " فإنه بيان وتذكير لما له في الجنة من أسباب الكفاية وأقطاب الكفاف التي هي الشبع والري والكسوة والسكن مستغنياً عن اكتسابها والسعي في تحصيل أغراض ما عسى ينقطع ويزول منها بذكر نقائضها ، ليطرق سمعه بأصناف الشقوة المحذر عنها ، والعاطف وإن ناب عن أن لكنه ناب من حيث إنه عامل لا من حيث إنه حرف تحقيق فلا يمتنع دخوله على أن امتناع دخول إن عليه . وقرأ نافع و أبو بكر (( وإنك لا تظمأ )) بكسر الهمزة والباقون بفتحها .
119. And thou thirstest not therein nor art exposed to the sun's heat.
119 - Nor to suffer from thirst, nor from the sun's heat.