[مريم : 23] فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا
23 - (فأجاءها) جاء بها (المخاض) وجع الولادة (إلى جذع النخلة) لتعتمد عليه فولدت والحمل والتصوير والولادة في ساعة (قالت يا) للتنبيه (ليتني مت قبل هذا) الأمر (وكنت نسيا منسيا) شيئا متروكا لا يعرف ولا يذكر
وقوله "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة" يقول تعالى ذكره : فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة، ثم قيل : لما أسقطت الباء منه أجاءها، كما يقال : أتيتك بزيد، فإذا حذفت الباء قيل آتيتك زيداً كما قال جل ثناؤه "آتوني زبر الحديد" والمعنى : ائتوني بزبر الحديد، ولكن الألف مدت لما حذفت الباء، وكما قالوا : خرجت به وأخرجته ، وذهبت به وأذهبته ، وإنما هو أفعل من المجيء ، كما يقال : جاء هو، وأجأته أنا: أي جئت به ، ومثل من أمثال العرب : شر ما أجاءني إلى مخة عرقوب ، وأشاء ويقال : شر ما يجيئك ويشيئك إلى ذلك ، ومنه قول زهير:
وجار سار معتمداً إليكم أجاءته المخافة والرجاء
يعني : جاء به ، وأجاءه إلينا وأشاءك : من لغة تميم ، وأجاءك من لغة أهل العالية، وإنما تأول من تأول ذلك بمعنى : ألجأها، لأن المخاض لما جاءها إلى جذع النخلة، كان قد ألجأها إليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال : ثنا الحسن، قال : ثنا ورقاء، جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله "فأجاءها المخاض" قال : المخاض ألجأها.
حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال : ألجأها المخاض . قال ابن جريج : وقال ابن عباس : ألجأها المخاض إلى جذع النخلة.
حدثنا موسى، قال : ثنا عمرو، قال : ثنا أسباط ، عن السدي "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة" يقول : ألجأها المخاض إلى جذع النخلة.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة" قال : اضطرها إلى جذع النخلة.
واختلفوا في أي المكان الذي انتبذت مريم بعيسى لوضعه ، وأجاءها إليه المخاض ، فقال بعضهم : كان ذلك في أدنى أرض مصر، وآخر أرض الشام ، وذلك أنها هربت من قومها لما حملت ، فتوجهت نحو مصر هاربة منهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سهل ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما اشتملت مريم على الحمل ، كان معها قرابة لها، يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون ، وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم ، فكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد، في ذلك الزمان ، وكان لخدمته فضل عظيم ، فرغبا في ذلك ، فكانا يليان معالجته بأنفسهما، تحبيره وكناسته وطهوره ، وكل عمل يعمل فيه ، وكان لا يعمل من أهل زمانهما أحد أشذ اجتهاداً وعبادة منهما، فكان أول من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف ، فلما رأى الذي بها استفظعه ، وعظم عليه ، وفظع به ، فلم يدر على ماذا يضع أمرها، فإذا أراد يوسف أن يتهمها، ذكر صلاحها وبراءتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قط ، وإذا أراد أن يبرئها، رأى الذي ظهر عليها، فلما اشتد عليه ذلك كلمها، فكان أول كلامه إياها أن قال لها: إنه قد حدث في نفسي من أمرك أمر قد خشيته ، وقد حرصت على أن أميته وأكتمه في نفسي ، فغلبني ذلك ، فرأيت الكلام فيه أشفى لصدري ، قالت : فقل قولاً جميلاً، قال : ما كنت لأقول لك إلا ذلك ، فحدثيني ، هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت : نعم ، قال : فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها؟ قالت : نعم ، قال : فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت : نعم ، ألم تعلم أن الله تبارك وتعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذر يومئذ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر، أو لم تعلم أن الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث ، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كل واحد منهما وحده ، أم تقول : لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته ؟ قال يوسف لها: لا أقول هذا، ولكني أعلم أن الله تبارك وتعالى بقدرته على ما يشاء يقول لذلك كن فيكون ، قالت مريم : أولم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر؟ قال : بلى، فلما قالت له ذلك ، وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله تبارك وتعالى، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه ، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك . ثم تولى يوسف خدمة المسجد، وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه ، وذلك لما رأى من رقة جسمها، واصفرار لونها، وكلف وجهها، ونتو بطنها، وضعف قوتها، ودأب نظرها، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك ، فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك فإنهم إن ظفروا بك عيروك ، وقتلوا ولدك ، فأفضت ذلك إلى أختها، وأختها حينئذ حبلى، وقد بشرت بيحيى، فلما التقيا وجدت أم يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجداً معترفاً لعيسى، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ليس بينها حين ركبت وبين الإكاف شيء ، فانطلق يوسف بها حتى إذا كان متاخماً لأرض مصر في منقطع بلاد قومها، أدرك مريم النفاس ، ألجأها إلى آري حمار، يعني مذود الحمار، وأصل نخلة، وذلك في زمان أحسبه برداً أو حراً الشك من أبي جعفر، فاشتد على مريم المخاض ، فلما وجدت منه شدة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة، قاموا صفوفاً محدقين بها.
وقد روي عن وهب بن منبه قول آخر غير هذا، وذلك ما :
حدثنا به ابن حميد، قال : ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما حضر ولادها، يعني مريم ، ووجدت ما تجد المرأة من الطلق ، خرجت من المدينة مغربة من إيلياء، حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم ، فأجاءها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود بقرة تحتها ربيع من الماء، فوضعته عندها.
وقال آخرون : بل خرجت لما حضر وضعها ما في بطنها إلى جانب المحراب الشرقي منه ، فأتت أقصاه فألجأها المخاض إلى جذع النخلة ، وذلك قول السدي ، وقد ذكرت الرواية به قبل.
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال : ثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني المغيرة بن عثمان ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ما هي إلا أن حملت فوضعت .
حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج، قال : وأخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله أنه سمع ابن عباس يقول : ليس إلا أن حملت فولدت.
وقوله "يا ليتني مت قبل هذا" ذكر أنها قالت ذلك في حال الطلق استحياء من الناس.
كما حدثنا موسى، قال : ثنا عمرو، قال : ثنا أسباط، عن السدي، قال : قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا" تقول : يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه ، والحزن بولادتي المولود من غير بعل ، وكنت نسياً منسياً : شيئاً نسي فترك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر، وكذلك كل شيء نسي وترك ولم يطلب فهو نسي . ونسي بفتح النون وكسرها لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد، مثل الوتر والوتر، والجسر والجسر، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندنا، وبالكسر قرأت عامة قراء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة، وبالفتح قرأه أهل الكوفة ، ومنه قول الشاعر:
كأن لها في الأرض نسياً تقصه إذا ما غدت وإن تحدثك نبلت
ويعني بقوله : تقصه : تطلبه ، لأنها كانت نسيته حتى ضاع ، ثم ذكرته فطلبته ، ويعني بقوله : تبلت : تحسن وتصدق ، ولو وجه النسي إلى المصدر من النسيان كان صواباً، وذلك أن العرب فيما ذكر عنها تقول : نسيته نسياناً ونسياً، كما قال بعضهم من طاعة الرب وعصي الشيطان ، يعني وعصيان ، وكما تقول أتيته إتياناً وأتياً ، كما قال الشاعر:
أتن الفواحش فيهم معروفة ويرون فعل المكرمات حراما
وقوله "منسيا" مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت : ليتني كنت الشيء الذي ألقي ، فترك ونسي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج، قال : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قوله "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا" لم أخلق ، ولم أك شيئاً.
حدثنا موسى، قال : ثنا عمرو، قال : ثنا أسباط، عن السدي "وكنت نسيا منسيا" يقول : نسيا : نسي ذكري ، ومنسياً: تقول : نسي أثري ، فلا يرى لي أثر ولا عين.
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة "وكنت نسيا منسيا" : أي شيئاً لا يعرف ولا يذكر.
حدثنا الحسن، قال : أخبرنا عبد الرزاق، قال : أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله "وكنت نسيا منسيا" قال : لا أعرف ولا يدرى من أنا.
حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس "نسيا منسيا" قال : هو السقط.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد، في قوله "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا" لم أكن في الأرض شيئاً قط.
قوله تعالى: " فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة " أجاءها اضطرها، وهو تعدية جاء بالهمز. يقال: جاء به وأجاءه إلى موضع كذا، كما يقال: ذهب به وأذهبه. وقرأ شبيل ورويت عن عاصم فاجأها من المفاجأة. وفي مصحف أبي فلما أجاءها المخاض . وقال زهير:
وجار سار معتمداً إلينا أجاءته المخافة والرجاء
وقرأ الجمهور " المخاض " بفتح الميم. و ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو الطلق وشدة الولادة وأوجاعها. مخضت المرأة تمخض مخاضاً ومخاضاً. وناقة ماخض أي دنا ولادها. " إلى جذع النخلة " كأنها طلبت شيئاً تستند إليه وتتعلق به، كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق. والجذع ساق النخلة اليابسة في الصحراء الذي لا سعف عليه ولا غصن، ولهذا لم يقل إلى النخلة. " قالت يا ليتني مت قبل هذا " تمنت مريم عليها السلام الموت من جهة الدين لوجهين: أحدهما: أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك. الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنى وذلك مهلك. وعلى هذا الحد يكون تمني الموت جائزاً، وقد مضى هذا المعنى مبيناً في سورة ((يوسف)) عليه السلام. والحمد لله.
قلت: وقد سمعت أن مريم عليها السلام سمعت نداء من يقول: اخرج يا من يعبد من دون الله فحزنت لذلك، و " قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " النسي في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر ونحوه. وحكي عن العرب أنهم إذا أرادوا الرحيل عن منزل قالوا: احفظوا أنساءكم، الأنساء جمع نسي وهو الشيء الحقير يغفل فينسى. ومنه قول الكميت رضي الله تعالى عنه:
أتجعلنا جسراً لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل
وقال الفراء : النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، فقول مريم: " نسيا منسيا " أي حيضة ملقاة. وقرىء " نسيا " بفتح النون وهما لغتان مثل الحجر والحجر والوتر والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز نسئاً بكسر النون. وقرأ نوف البكالي نسئاً بفتح النون من نسأ الله تعالى في أجله أي أخره. وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب. وقرأ بكر بن حبيب نساً بتشديد السين وفتح النون دون همز. وقد حكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى عليه السلام حملت أيضاً أختها بيحيى، فجاءتها أختها زائرة فقالت: يا مريم أشعرت أنت أني حملت؟ فقالت لها: وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذلك أنه روي أنها أحست بجنينها يخر برأسه إلى ناحية بطن مريم، قال السدي فذلك قوله: " مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين " [آل عمران: 39]. وذكر أيضاً من قصصها أنها خرجت فارة مع رجل من بني إسرائيل يقال له يوسف النجار، كان يخدم معها في المسجد وطول في ذلك. قال الكلبي : قيل ليوسف - وكانت سميت له أنها حملت من الزنى - فالآن يقتلها الملك، فهرب بها، فهم في الطريق بقتلها، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: إنه من روح القدس، قال ابن عطية : وهذا كله ضعيف. وهذه القصة تقتضي أنها حملت، واستمرت حاملاً على عرف النساء، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر. قاله عكرمة، ولذلك قيل: لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظاً لخاصة عيسى. وقيل: ولدته لتسعة. وقيل: لستة. وما ذكرناه عن ابن عباس أصح وأظهر. والله أعلم.
يقول تعالى مخبراً عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال, أنها استسلمت لقضاء الله تعالى, فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك وهو جبرائيل عليه السلام عند ذلك نفخ في جيب درعها, فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد بإذن الله تعالى, فلما حملت به ضاقت ذرعاً, ولم تدر ماذا تقول للناس, فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به, غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا, وذلك أن زكريا عليه السلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك, فحملت امرأته, فدخلت عليها مريم, فقامت إليها فاعتنقتها وقالت: أشعرت يا مريم أني حبلى ؟ فقالت لها مريم: وهل علمت أيضاً أني حبلى, وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها, وكانوا بيت إيمان وتصديق, ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في بطنها يسجد للذي في بطن مريم, أي يعظمه ويخضع له, فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعاً, كما سجد ليوسف أبواه وإخوته, وكما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لادم عليه السلام, ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلاً لتعظيم جلال الرب تعالى.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين قال: قرىء على الحارث بن مسكين وأنا أسمع, قال أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال: قال مالك رحمه الله: بلغني أن عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة, وكان حملهما جميعاً معاً, فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام, لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص, ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام, فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر. وقال عكرمة : ثمانية أشهر, قال: ولهذا لا يعيش ولد الثمانية أشهر. وقال ابن جريج : أخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله الثقفي , سمع ابن عباس وسئل عن حمل مريم قال: لم يكن إلا أن حملت فوضعت, وهذا غريب, وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى: " فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة " فالفاء وإن كانت للتعقيب, لكن تعقيب كل شيء بحسبه, كقوله تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما " فهذه الفاء للتعقيب بحسبها.
وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوماً, وقال تعالى: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة" فالمشهور الظاهر, والله على كل شيء قدير أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن. ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها, وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس يقال له يوسف النجار, فلما رأى ثقل بطنها وكبره, أنكر ذلك من أمرها, ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها, ثم تأمل ما هي فيه, فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه, فحمل نفسه على أن عرض لها في القول فقال: يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي. قالت: وما هو ؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حب, وهل يكون زرع من غير بذر. وهل يكون ولد من غير أب ؟ فقالت: نعم, وفهمت ما أشار إليه.
أما قولك: هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر, فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر, وهل يكون ولد من غير أب ؟ فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم, فصدقها وسلم لها حالها, ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة, انتبذت منهم مكاناً قصياً, أي قاصياً منهم بعيداً عنهم لئلا تراهم ولا يروها.
قال محمد بن إسحاق : فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت, استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون, حتى فطر لسانها فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا, وشاع الحديث في بني إسرائيل فقالوا: إنما صاحبها يوسف ولم يكن معها في الكنيسة غيره, وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجاباً, فلا يراها أحد ولا تراه. وقوله: "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة" أي فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة في المكان الذي تنحت إليه, وقد اختلفوا فيه, فقال السدي : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس. وقال وهب بن منبه : ذهبت هاربة, فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ضربها الطلق. وفي رواية عن وهب : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس في قرية هناك يقال لها بيت لحم, قلت: وقد تقدم في أحاديث الإسراء من رواية النسائي عن أنس رضي الله عنه, والبيهقي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن ذلك ببيت لحم, فا لله أعلم, وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض, ولا تشك فيه النصارى أنه ببيت لحم, وقد تلقاه الناس, وقد ورد به الحديث إن صح.
وقوله تعالى إخباراً عنها: "قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً" فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة, فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد, ولا يصدقونها في خبرها, وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية, فقالت: "يا ليتني مت قبل هذا" أي قبل هذا الحال, "وكنت نسياً منسياً" أي لم أخلق ولم أك شيئاً, قاله ابن عباس . وقال السدي : قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس: ياليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه والحزن بولادتي المولود من غير بعل, "وكنت نسياً منسياً" نسي فترك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر, وكذلك كل شيء نسي وترك فهو نسي. وقال قتادة : "وكنت نسياً منسياً" أي شيئاً لا يعرف ولا يذكر ولا يدري من أنا. وقال الربيع بن أنس : "وكنت نسياً منسياً" هو السقط. وقال ابن زيد : لم أكن شيئاً قط, وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة عند قوله: "توفني مسلماً وألحقني بالصالحين".
23- "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة" أي ألجأها واضطرها، ومنه قول زهير:
أجاءته المخافة والرجاء
وقرأ شبل فاجأها من المفاجأة، ورويت هذه القراءة عن عاصم، وقرأ الحسن بغير همز، وفي مصحف أبي فلما أجاءها قال في الكشاف: إن أجاءها منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تعين بعد النقل إلى معنى الإلجاء، وفيه بعد، والظاهر أن كل واحد من الفعلين موضوع بوضع مستقل، والمخاض مصدر مخضت المرأة تمخض مخضاً ومخاضاً إذا دنا ولادها. وقرأ الجمهور بفتح الميم، وقرأ ابن كثير بكسرها. والجذع ساق النخلة اليابسة، كأنها طلبت شيئاً تستند إليه وتتعلق به كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق بشيء مما تجده عندها، والتعريف إما للجنس أو للعهد "قالت يا ليتني مت قبل هذا" أي قبل هذا الوقت، تمنت الموت لأنها خافت أن يظن بها السوء في دينها، أو لئلا يقع قوم بسببها في البهتان "وكنت نسياً" النسي في كلام العرب: الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يذكر ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل، ومنه قول الكميت:
أتجعلنا خسراً لكلب قضاعة ولسنا بنسي في معد ولا دخل
وقال الفراء: النسي ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، فتقول مريم "نسياً منسياً" أي حيضة ملقاة، وقد قرئ بفتح النون وكسرها، وهما لغتان مثل الحجر والحجر، والوتر والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي نساء بالهمز مع كسر النون. وقرأ نوف البكالي بالهمز مع فتح النون. وقرأ بكر بن حبيب نسياً بفتح النون وتشديد الياء بدون همز، والمنسي المتروك الذي لا يذكر ولا يخطر ببال أحد من الناس.
23 - " فأجاءها " ، أي ألجأها وجاء بها ، " المخاض " ، وهو وجع الولادة ، " إلى جذع النخلة " وكانت نخلة يابسة في الصحراء ، في شدة الشتاء ، لم يكن لها سعف .
وقيل : التجأت إليها لتستند إليها وتتمسك بها على وجع الولادة ، " قالت يا ليتني مت قبل هذا" ، تمنت الموت استحياءً من الناس وخوف الفضيحة ،" وكنت نسياً " ، قرأ حمزة و حفص " نسياً " بفتح النون ، [ والباقون بكسرها ] ، وهما لغتان ، مثل : الوتر ،والوتر ،والجسر والجسر ، وهو الشيء المنسي ،و ( النسي ) في اللغة : كل ما ألقي ونسي ولم يذكر لحقارته .
" منسياً " ، أي : متروكاً قال قتادة : شيء لا يعرف ولا يذكر . قال عكرمة و الضحاك و مجاهد : جيفة ملقاة . وقيل : تعني لم أخلق .
23ـ " فأجاءها المخاض" فألجأها المخاض، وهو في الأصل منقول من جاء لكنه خص به في الاستعمال كآتي في أعطى وقرئ المخاض بالكسر وهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج. "إلى جذع النخلة" لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة، وهو ما بين العرق والغصن وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة وكان الوقت شتاء، والتعريف إما للجنس أو للعهد إذا لم يكن ثم غيرها وكانت كالمتعلم عند الناس، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها. " قالت يا ليتني مت قبل هذا" استحياء من الناس ومخافة لومهم، وقرأ أبوعمرو و ابن كثير و ابن عامر و أبو بكر "مت" من مات يموت. " وكنت نسيا" ما من شأنه أن ينسى ولا يطلب ونظيره الذبح لما يذبح، وقرأ حمزة و حفص بالفتح وهو لغة فيه أو مصدر سمي به، وقرئ به وبالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه أهله لقلته. "منسيا" منسي الذكر بحيث لا يخطر ببالهم وقرئ بكسر الميم على الاتباع.
23. And the pangs of childbirth drove her unto the trunk of the palm tree. She said: Oh, would that I had died ere this and had become a thing of naught, forgotten!
23 - And the pains of childbirth drove her to the trunk Of a palm tree: She cried (in her anguish): Ah! would that I had died before this! would that I had been a thing forgotten and out of sight!