[مريم : 22] فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا
22 - (فحملته فانتبذت) تنحت (به مكانا قصيا) بعيدا عن أهلها
وفي هذا الكلام متروك ترك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر منه عنه "فنفخنا فيه من روحنا" بغلام "فحملته فانتبذت به مكانا قصيا" وبذلك جاء تأويل أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سهل ، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني
عبد الصمد بن معقل ابن أخي وهب بن منبه، قال : سمعت وهباً قال : لما أرسل الله جبريل إلى مريم تمثل لها بشراً سوياً فقالت له "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا" ثم نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت.
حدثنا ابن حميد، قال : ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني، قال : لما قال ذلك ، يعني لما قال جبريل "قال كذلك قال ربك هو علي هين" الآية استسلمت لأمر الله ، فنفخ في جيبها ثم انصرف عنها.
حدثنا موسى، قال : ثنا عمرو، قال : ثنا أسباط، عن السدي، قال : طرحت عليها جلبابها لما قال جبريل ذلك لها، فأخذ جبريل بكميها، فنفخ في جيب درعها، وكان مشقوقاً من قدامها، فدخلت النفخة صدرها، فحملت ، فأتتها أختها امرأة زكريا ليلة تزورها، فلما فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكريا : يا مريم أشعرت أني حبلى ، قالت مريم : أشعرت أيضا أني حبلى ، قالت امرأة زكريا : إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك ، فذلك قوله "مصدقا بكلمة من الله".
حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : يقولون : إنه إنما نفخ في جيب درعها وكمها.
وقوله "فانتبذت به مكانا قصيا" يقول : فاعتزلت بالذي حملته ، وهو عيسى ، وتنحت به عن الناس مكاناً قصياً. يقول : مكانا نائياً قاصياً عن الناس ، يقال : هو بمكان قاص وقصف بمعنى واحد، كما قال ا لراجز :
لتقعدن مقعد القصي مني ذي القاذورة المقلي
يقال منه : قصا المكان يقصو قصواً: إذا تباعد، وأقصيت الشيء : إذا أبعدته وأخرته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله "فانتبذت به مكانا قصيا" قال : مكاناً نائياً.
حدثني محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم، قال : ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال : ثنا الحسن، قال : ثنا ورقاء، جميعاً، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله "مكانا قصيا" قال : قاصياً.
حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله .
حدثنا موسى، قال : ثنا عمرو، قال : ثنا أسباط، عن السدي، قال : لما بلغ أن تضع مريم ، خرجت إلى جانب المحراب الشرقي منه فأتت أقصاه.
قوله تعالى: " فانتبذت به مكانا قصيا " أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد، قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال، وإنما بعدت فراراً من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج. قال ابن عباس: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال وهذا هو الظاهر، لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل. وقيل: غير ذلك على ما يأتي:
يقول تعالى مخبراً عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال, أنها استسلمت لقضاء الله تعالى, فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك وهو جبرائيل عليه السلام عند ذلك نفخ في جيب درعها, فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد بإذن الله تعالى, فلما حملت به ضاقت ذرعاً, ولم تدر ماذا تقول للناس, فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به, غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا, وذلك أن زكريا عليه السلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك, فحملت امرأته, فدخلت عليها مريم, فقامت إليها فاعتنقتها وقالت: أشعرت يا مريم أني حبلى ؟ فقالت لها مريم: وهل علمت أيضاً أني حبلى, وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها, وكانوا بيت إيمان وتصديق, ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في بطنها يسجد للذي في بطن مريم, أي يعظمه ويخضع له, فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعاً, كما سجد ليوسف أبواه وإخوته, وكما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لادم عليه السلام, ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلاً لتعظيم جلال الرب تعالى.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين قال: قرىء على الحارث بن مسكين وأنا أسمع, قال أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال: قال مالك رحمه الله: بلغني أن عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة, وكان حملهما جميعاً معاً, فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام, لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص, ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام, فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر. وقال عكرمة : ثمانية أشهر, قال: ولهذا لا يعيش ولد الثمانية أشهر. وقال ابن جريج : أخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله الثقفي , سمع ابن عباس وسئل عن حمل مريم قال: لم يكن إلا أن حملت فوضعت, وهذا غريب, وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى: " فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة " فالفاء وإن كانت للتعقيب, لكن تعقيب كل شيء بحسبه, كقوله تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما " فهذه الفاء للتعقيب بحسبها.
وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوماً, وقال تعالى: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة" فالمشهور الظاهر, والله على كل شيء قدير أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن. ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها, وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس يقال له يوسف النجار, فلما رأى ثقل بطنها وكبره, أنكر ذلك من أمرها, ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها, ثم تأمل ما هي فيه, فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه, فحمل نفسه على أن عرض لها في القول فقال: يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي. قالت: وما هو ؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حب, وهل يكون زرع من غير بذر. وهل يكون ولد من غير أب ؟ فقالت: نعم, وفهمت ما أشار إليه.
أما قولك: هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر, فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر, وهل يكون ولد من غير أب ؟ فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم, فصدقها وسلم لها حالها, ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة, انتبذت منهم مكاناً قصياً, أي قاصياً منهم بعيداً عنهم لئلا تراهم ولا يروها.
قال محمد بن إسحاق : فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت, استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون, حتى فطر لسانها فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا, وشاع الحديث في بني إسرائيل فقالوا: إنما صاحبها يوسف ولم يكن معها في الكنيسة غيره, وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجاباً, فلا يراها أحد ولا تراه. وقوله: "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة" أي فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة في المكان الذي تنحت إليه, وقد اختلفوا فيه, فقال السدي : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس. وقال وهب بن منبه : ذهبت هاربة, فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ضربها الطلق. وفي رواية عن وهب : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس في قرية هناك يقال لها بيت لحم, قلت: وقد تقدم في أحاديث الإسراء من رواية النسائي عن أنس رضي الله عنه, والبيهقي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن ذلك ببيت لحم, فا لله أعلم, وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض, ولا تشك فيه النصارى أنه ببيت لحم, وقد تلقاه الناس, وقد ورد به الحديث إن صح.
وقوله تعالى إخباراً عنها: "قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً" فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة, فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد, ولا يصدقونها في خبرها, وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية, فقالت: "يا ليتني مت قبل هذا" أي قبل هذا الحال, "وكنت نسياً منسياً" أي لم أخلق ولم أك شيئاً, قاله ابن عباس . وقال السدي : قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس: ياليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه والحزن بولادتي المولود من غير بعل, "وكنت نسياً منسياً" نسي فترك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر, وكذلك كل شيء نسي وترك فهو نسي. وقال قتادة : "وكنت نسياً منسياً" أي شيئاً لا يعرف ولا يذكر ولا يدري من أنا. وقال الربيع بن أنس : "وكنت نسياً منسياً" هو السقط. وقال ابن زيد : لم أكن شيئاً قط, وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة عند قوله: "توفني مسلماً وألحقني بالصالحين".
22- "فحملته" ها هنا كلام مطوي، والتقدير: فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلأى بطنها فحملته، وقيل كانت النفخة في ذيلها، وقيل في فمها. قيل إن وضعها كان متصلاً بهذا الحمل من غير مضي مدة للحمل، ويدل على ذلك قوله: "فانتبذت به مكاناً قصياً" أي تنحت واعتزلت إلى مكان بعيد، والقصي هو البعيد. قيل كان هذا المكان وراء الجبل، وقيل أبعد مكان في تلك الدار، وقيل أقصى الوادي، وقيل إنها حملت به ستة أشهر، وقيل ثمانية أشهر، وقيل سبعة.
22 - قوله عز وجل : " فحملته " ، قيل : إن جبريل رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبست .
وقيل : مد جيب درعها بأصبعه ثم نفخ في الجيب .
وقيل : نفخ في كم قميصها . وقيل : في فيها .
وقيل : نفخ جبريل عليه السلام نفخاً من بعيد فوصل الريح إليها فحملت بعيسى في الحال، " فانتبذت به " ، أي تنحت بالحمل وانفردت ، " مكاناً قصياً " ، بعيداً من أهلها .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم ، فراراً من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج .
واختلفوا في مدة حملها ووقت وضعها ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : كان الحمل والولادة في ساعة واحة .
وقيل : كان مدة حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء .
وقيل : كان مدة حلمها ثمانية أشهر ، وكان ذلك آية أخرى لأنه لا يعيش ولد يولد لثمانية أشهر ، وولد عيسى لهذه المدة وعاش .
وقيل : ولدت لستة أشهر .
وقال مقاتل بن سليمان : حملته مريم في ساعة ،وصور في ساعة ،ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها ، وهي بنت عشر سنين ، وكانت قد حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى .
22ـ "فحملته" بأن نفخ في درعها فدخلت النفخة في جوفها وكان مدة حملها سبعة أشهر، وقيل ستة، وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره، وقيل ساعة كما حملته نبذته وسنها ثلاث عشرة سنة، وقيل عشر سنين وقد حاضت حيضتين. "فانتبذت به" فاعتزلت وهو في بطنها كقوله:
تدوس بنا الجماجم والتريبا
والجار والمجرور في موضع الحال. "مكاناً قصياً" بعيداً من أهلها وراء الجبل وقيل أقصى الدار.
22. And she, conceived him, and she withdrew with him to a place.
22 - So she conceived him, And she retired with him to a remote place.