[الكهف : 94] قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا
94 - (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج) بالهمز وتركه هما اسمان أعجميان لقبيلتين فلم ينصرفا (مفسدون في الأرض) بالنهب والغي عند خروجهم إلينا (فهل نجعل لك خرجا) جعلا من المال وفي قراءة خراجا (على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) حاجزا فلا يصلوا إلينا
وقوله ملأ إن ياجوج ومأجوج مفسدون في الأرض اختلفت القراء في قراءة قوله ملأ إن يأجوج ومأجوج * فقرأت القراء من أهل الحجاز والعراق وغيرهم (إن ياجوج وماجوج بغير همز على فاعول من يججت ومججت ، وجعلوا الألفين فيهما زائدتين ، غير عاصم بن أبي النجود والأعرج ، فإنه ذكر أنهما قرآ ذلك بالهمز فيهما جميعا، وجعلا الهمز فيهما من أصل الكلام ، وكأنهما جعلا ياجوج : يفعول من أ ججت ، ومأ جوج : مفعول . والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا، إن ياجوج وماجوج بالف بغير همز لإجماع الحجة من القراء عليه ، وأنه الكلام المعروف على ألسن العرب ، ومنه قول رؤبة بن العجاج : لو أن ياجوج وماجوج معا وعاد عادوا واستجاشوا تبعا وهم أمتان من وراء السد. وقوله إمفسدون في الأرض اختلف أهل التاويل في معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتين الأمتين ، فقال بعضهم : كانوا ياكلون الناس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن الوليد الرملي ، قال : ثنا إبراهيم بن أيوب الخوزاني ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول في قوله " إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض " قال : كانوا يأكلون الناس . وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن ياجوج وماجوج سيفسدون في الأرض ، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون .
ذكر من قال ذلك ، وذكر صفة اتباع ذي القرنين الأسباب التي ذكرها الله في هذه الآية ، وذكر سبب بنائه للردم :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب ، ممن قد أسلم ، مما توارثوا من علم ذي القرنين ، أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر اسمه مرزبما بن مردبة اليوناني ، من ولد يونن بن يافث بن نوح .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان الكلاعي ، وكان خالد رجلا قد أدرك الناس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين ، فقال :" ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب " قال خالد: وسمع عمر بن الخطاب رجلا يقول : يا ذا القرنين ، فقال : اللهم غفرأ، أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء، حتى تسموا بأسماء الملائكة؟ فإن كان رسول الله في صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، فالحق ما قال ، والباطل ما خالفه .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : فحدثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني ، وكان له علم بالأحاديث الأول ، أنه كان يقول : ذو القرنين رجل من الروم ، ابن عجوز من عجائزهم ، ليس لها ولد غيره ، وكان اسمه الإسكندر. وإنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ، فلما بلغ وكان عبدا صالحا، قال الله عز وجل له : يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض ، وهي أمم مختلفة ألسنتهم ، وهم جميع أهل الأرض ، ومنهم أمتان بينهما طول الأرض كله ، ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله ، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج وماجوج . فأما الأمتان اللتان بينهما طول الأرض : فامة عند مغرب الشمس ، يقال لها : ناسك . وأما الأخرى : فعند مطلعها يقال لها : منسك . وأما اللتان بينهما عرض الأرض ، فامة في قطر الأرض الأيمن ، يقال لها : هاويل . وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر، فامة يقال لها : تاويل ، فلما قال الله له ذلك، قال له ذو القرنين : إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت ، فاخبرني عن هذه الأمم التي بعثتني إليها، بأي قوة أكابرهم ، وبأي جمع أكاثرهم ، وباي حيلة أكايدهم ، وبأي صبر أقاسيهم ، وبأي لسان أناطقهم ، وكيف لي بان أفقه لغاتهم ، وباي سمع أعي قولهم ، وباي بصر أنفذهم ، وباي حجة أخاصمهم ، وبأي قلب أعقل عنهم ، وبأي حكمة أدبر أمرهم ، وباي قسط أعدل بينهم ، وبأي حلم أصابرهم ، وبأي معرفة أفصل بينهم ، وبأي علم أتقن أمورهم ، وبأي يد أسطو عليهم ، وبأي رجل أطؤهم ، وبأي طاقة أخصمهم ، وبأي جند أقاتلهم ، وبأي رفق أستالفهم ، فإنه ليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم لهم ، ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم ، وأنت الرب الرحيم ، الذي لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يحملها إلا طاقتها، ولا يعنتها ولا يفدحها، بل أنت ترأفها وترحمها. قال الله عز وجل : إني ساطوقك ما حملتك ، أشرح لك صدرك ، فيسع كل شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كل شيء ، وأبسط لك لسانك ، فتنطق بكل شيء ، وأفتح لك سمعك فتعي كل شيء ، وأمد لك بصرك ، فتنفذ كل شيء ، وأدبر لك أمرك فتتقن كل شيء ، وأحصي لك فلا يفوتك شيء ، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء ، وأشد لك ظهرك ، فلا يهدك شيء ، وأشد لك ركنك فلا يغلبك شيء ، وأشد لك قلبك فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة، فاجعلهما جندا من جنودك ، يهديك النور أمامك ، وتحوطك الظلمة من ورائك ، وأشد لك عقلك فلا يهولك شيء ، وأبسط لك من بين يديك ، فتسطو فوق كل شيء ، وأشد لك وطاتك ، فتهد كل شيء ، وألبسك الهيبة فلا يرومك شيء . . ولما قيل له ذلك ، انطلق يؤم الأمة التي عند مغرب الشمس ، فلما بلغهم ، وجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله ، وقوة وبأسا لا . يطيقه إلا الله، وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة، وقلوبا متفرقة، فلما رأى ذلك كاثرهم بالظلمة، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها، فأحاطتهم من كل مكان ، وحاشتهم حتى جمعتهم في مكان واحد، ثم أخذ عليهم بالنور، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته ، فمنهم من آمن له ، ومنهم من صد ، فعمد إلى الذين تولوا عنه ، فادخل عليهم الظلمة، فدخلت في أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم ، ودخلت في بيوتهم ودورهم ، وغشيتهم من فوقهم ، ومن تحتهم ومن كل جانب منهم ، فماجوا فيها وتحيروا، فلما أشفقوا أن يهلكوا فيها عجوا إليه بصوت واحد، فكشفها عنهم وأخذهم عنوة، فدخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة، فجعلهم جندا واحدا، ثم انطلق بهم يقودهم ، والظلمة تسوقهم من خلفهم وتحرسهم من حولهم ، والنور أمامهم يقودهم ويدلهم ، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى، وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها هاويل ، وسخر الله له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتماره ، فلا يخطىء إذا ائتمر، وإذا عمل عملا أتقنه . فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه ، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال ، فنظمها في ساعة، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم وتلك الجنود، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها، ثم دفع إلى كل إنسان لوحا فلا يكرثه حمله ، فلم يزل كذلك دأبه حتى انتهى إلى هاويل ، فعمل فيها كعمله في ناسك . فلما فرغ منها مض على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتى انتهى الى منسك عند مطلع الشمس ، فعمل فيها وجند منها جنودا، كفعله في الأمتين اللتين قبلها، ثم كر مقبلا في ناحية الأرض اليسرى، وهو يريد تاويل وهي الأمة التي بحيال هاويل ، وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كله ، فلما بلغها عمل فيها، وجند منها كفعله فيما قبلها، فلما فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي وسط الأرض من الجن وسائر الناس ، ويأجوج ومأجوج ، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك نحو المشرق ، قالت له أمة من الإنس صالحة : يا ذا القرنين ، إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله ، وكثير منهم مشابه للإنس ، وهم أشباه البهائم ، يأكلون العشب ، ويفترسون الدواب والوحوش كما تفترسها السباع ، وياكلون خشاش الأرض كلها من الحيات والعقارب ، وكل ذي روح مما خلق الله في الأرض ، وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد، ولا يزداد كزيادتهم ، ولا يكثر ككثرتهم ، فإن كانت لهم مدة على ما نرى من نمائهم وزيادتهم ، فلا شك أنهم سيملئون الأرض ، ويجلون أهلها عنها ويظهرون عليها فيفسدون فيها، وليست تمر بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقعهم ، وننتظر أن يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين " فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا * قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما" أعدوا إلي الصخور والحديد والنحاس حتى أرتاد بلادهم ، وأعلم علمهم ، وأقيس ما بين جبليهم . ثم انطلق يؤمهم حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم ، فوجدهم على مقدار واحد، ذكرهم وأنثاهم ، مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخالب في موضع الأظفار من أيدينا، وأضراس وأنياب كاضراس السباع وأنيابها وأحناك كأحناك الإبل قوة، تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرة من الإبل ، أو كقضم الفحل المسن ، أو الفرس القوي ، وهم هلب ، عليهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ، وما يتقون به الحر والبرد إذا أصابهم ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان ، إحداهما وبرة ظهرها وبطنها،
والأخرى زغبه ظهرها وبطنها ، تسعانه إذا لبسهما ، يلتحف إحداهما ، ويفترش الأخرى، ويصيف في إحداهما ، ويشتي في الأخرى، وليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذي يموت فيه ، ومنقطع عمره ، وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد، ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد، فإذا كان ذلك أيقن بالموت ، وهم يرزقون التنين أيام الربيع ، ويستمطرونه إذا تحينوه كما نستمطر الغيث لحينه ، فيقذفون منه كل سنة بواحد، فيأكلونه عامهم كله إلى مثله من العام القابل ، فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم ، فإذا أمطروا وأخصبوا وعاشوا وسمنوا ، ورؤي أثره عليهم ، فدرت عليهم الإناث ، وشبقت منهم الرجال الذكور، وإذا أخطأهم هزلوا وأجدبوا ، وجفرت الذكور، وحالمت الإناث ، وتبين أثر ذلك عليهم ، وهم يتداعون تداعي الحمام ، ويعوون عواء الكلاب ، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم . فلما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين ، فقاس ما بينهما وهو في منقطع أرض الترك مما يلي مشرق الشمس ، فوجد بعد ما بينهما مئة فرسخ ، فلما أنشأ في عمله ، حفر له أساسا حتى بلغ الماء، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا، وجعل حشوه الصخور، وطينه النحاس ، يذاب ثم يصب عليه ، فصار كأنه عرق من جبل تحط الأرض ، ثم علاه وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب ، وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر، فصار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد، فلما فرغ منه وأحكمه ، انطلق عامدا إلى جماعة الإنس والجن ، فبينا هو يسير ، دفع إلى أمة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون ، فوجد أمة مقسطة مقتصدة ، يقسمون بالسوية ، ويحكمون بالعدل ، ويتآسون ويتراحمون ، حالهم واحدة ، وكلمتهم واحدة ، وأخلاقهم مشتبهة ، وطريقتهم مستقيمة ، وقلوبهم متالفة ، وسيرتهم حسنة، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليس على بيوتهم أبواب ، وليس عليهم أمراء، وليس بينهم قضاة، وليس بينهم أغنياء ، ولا ملوك ، ولا أشراف ولا يتفاوتون ، ولا يتفاضلون ، ولا يختلفون ، ولا يتنازعون ، ولا يستبون ، ولا يقتتلون ، ولا يقحطون ، ولا يحردون ، ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس ، وهم أطول الناس أعمارا، وليس فيهم مسكين ، ولا فقير، ولا فظ ، ولا غليظ . فلما رأى ذلك ذو القرنين من أمرهم ، عجب منه ، وقال : أخبروني أيها القوم خبركم ، فإني قد أحصيت الأرض كلها برها وبحرها ، وشرقها وغربها، ونورها وظلمتها، فلم أجد مثلكم ، فاخبروني خبركم قالوا : نعم ، فسلنا عما تريد، قال : أخبروني ، ما بال قبور موتاكم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ، ولا يخرج ذكره من قلوبنا، قال : فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب ؟ قالوا : ليس فينا متهم ، وليس منا إلا أمين مؤتمن ، قال : فما لكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا : لا نتظالم ، قال : فما بالكم ليس فيكم حكام ؟ قالوا: لا نختصم ، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا: لا نتكاثر، قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا: لا نتكابر، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من قبل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا، قال : فما بالكم لا تستبون ولا تقتتلون ؟ قالوا : من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم ، وسسنا أنفسنا بالأحلام ، قال : فما بالكم كلمتكم واحدة، وطريقتكم مستقيمة مستوية؟ قالوا : من قبل أنا لا نتكاذب ، ولا نتخادع ، ولا يغتاب بعضنا بعضا قال : فاخبروني من أين تشابهت قلوبكم ، واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صحت صدورنا، فنزع بذلك الغل والحسد من قلوبنا، قال : فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا: من قبل أنا نقتسم بالسوية، قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قبل الذل والتواضع ، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارا؟ قالوا: من قبل أنا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل ، قال : فما بالكم لا تقحطون ؟ قالوا : لا نغفل عن الاستغفار، قال : فما بالكم لا تحردون ؟ قالوا: من قبل أنا وطانا أنفسنا للبلاء منذ كنا، وأحببناه وحرصنا عليه ، فعرينا منه ، قال : فما بالكم لا تصيبكم الافات كما تصيب الناس ؟ قالوا : لا نتوكل على غير الله ، ولا نعمل بالأنواء والنجوم ، قال : حدثوني أهكذا وجدتم اباءكم يفعلون ؟ قالوا : نعم وجدنا اباءنا يرحمون مساكينهم ويواسون فقراءهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلمون عمن جهل عليهم ، ويستغفرون لمن سبهم ، ويصلون أرحامهم ، ويؤدون أماناتهم ، ويحفظون وقتهم لصلاتهم ، ويوفون بعهودهم ، ويصدقون في مواعيدهم ، ولا يرغبون عن أكفائهم ، ولايستنكفون عن أقاربهم ، فاصلح الله لهم بذلك أمرهم ، وحفظهم ما كانوا أحياء، وكان حقا على الله أن يحفظهم في تركتهم .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : إن يأجوج وماجوج يحفرون السد كل يوم ، حتى إذا كاذوا يرون شعاع الشمس قال ائذي عليهم ارجعوا فتحفرونه غدا، فيعيده الله وهو كهيئته ، يوم تركوه ، حتى إذا جاء الوقت قال : إن شاء الله ، فيحفرونه ويخرجون على الناسء فينشفون المياه ، ويتحصن الناس في حصونهم ، قيرفون بسهامهم إلى السماء، فيرجع فيها كهيئة الدماء، فيقولون : قهرنا أهل الأرض ، وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فتقتلهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم " .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري ، عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله عز وجل وهم من كل حدب ينسلون ، فيغشون الأرض ، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ، ويضمون إليهم مواشيهم ، فيشربون مياه الأرض ، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه ، حتى يتركوه يابسا، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر ، فيقول : لقد كان هاهنا ماء مرة، حتى لم يبق من الناس أحد إلا انحازإلى حصن أو مدينة، قال قائلهم : هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم ، بقي أهل السماء، قال : ثم يهز أحدهم حربته ، ثم يرمي بها إلى السماء، فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة . فبينما هم على ذلك ، بعث الله عليهم دودا في أعناقهم كالنغف ، فتخرج في أعناقهم فيصبحون موتى، لا يسمع لهم حس ، فيقول المسلمون : ألا رجل يشري لنا نفسه ، فينظر ما فعل العدو، قال : فيتجرد رجل منهم لذلك محتسبا لنفسه ، قد وطنها على أنه مقتول ، فينزل فيجدهم موتى ، بعضهم على بعض فينادي : يا معشر المسلمين ؟ ألا أبشروا، فإن الله قد كفاكم عدوكم ، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ، ويسرحون مواشيهم ، فما يكون لها رعي إلا لحومهم فتشكرعنهم أحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابت قط " .
حدثني بحر بن نصر ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : معاوية ، عن أبي الزاهرية و شريح بن عبيد : أن يأجوج وماجوج ثلاثة أصناف : صنف طولهم كطول الأرز، وصنف طوله وعرضه سواء ، وصنف يفترش أحدهم أذنه ، ويلتحف بالأخرى فتغطي سائر جسده .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، " قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض " قال : كان أبو سعيد الخدري يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل " . قال : وكان عبد الله بن مسعود يعجب من كثرتهم ويقول : لا يموت من يأجوج ومأجوج أحد حتى يولد له ألف رجل من صلبه . فالخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه في قصة يأجوج ومأجوج ، يدل على أن الذين قالوا لذي القرفين " إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض" إنما أعلموه خوفهم ما يحدث منهم من الإفساد في الأرض ، لا أنهم شكوا منهم فسادا كان منهم فيهم أو في غيرهم ، والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد في الأرض ، ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنين السد الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفساد . فإذا كان ذلك كذلك بالذي بينا، فالصحيح من تأويل قوله " إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض " إن يأجوج وماجوج سيفسدون في الأرض . وقوله " فهل نجعل لك خرجا" اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة " فهل نجعل لك خرجا" كأنهم نحوا به نحو المصدر من خرج الرأس ، وذلك جعله . وقرأته عامة قراء الكوفيين " فهل نجعل لك خرجا" بالألف ، وكأنهم نحوا به نحو الاسم ، وعنوا به أجرة على بنائك لنا سدا بيننا وبين هؤلاء القوم.
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه فهل نجعل نك خراجا بالألف ، لأن القوم فيما ذكر عنهم ، إنما عرضوا على ذي القرنين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السد، وقد بين ذلك بقوله " فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما" ولم يعرضوا عليه جزية رءوسهم . والخراج عند العرب : هو الغلة . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس فهل نجعل لك خراجا قال : أجرا " على أن تجعل بيننا وبينهم سدا" .
حدثنا الحسن بن يحيى ،قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله " فهل نجعل لك خرجا" قال : أجرا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله " فهل نجعل لك خرجا" قال : أجرا . وقوله" على أن تجعل بيننا وبينهم سدا" يقول : قالوا له : هل نجعل لك خراجا حتى أن تجعل بيننا وبين يأجوج ومأجوج حاجزا يحجز بيننا وبينهم ، ويمنعهم من الخروج إلينا؟ وهو السد .
قوله تعالى: " قالوا يا ذا القرنين " أي قالت له أمة من الإنس صالحة: " إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض " قال الأخفش: من همز " يأجوج " فجعل الألفين من الأصل يقول: يأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار. قال: ومن لا يهمز ويجعل الألفين زائدتين يقول: ( ياجوج ) من يججت وماجوج من مججت وهما غير مصروفين، قال رؤبة:
لو أن ياجوج وماجوج معا وعاد عاد واستجاشوا تبعا
ذكره الجوهري . وقيل: إنما لم ينصرفا لأنهما اسمان أعجميان، مثل طالوت وجالوت غير مشتقين، علتاهما في منع الصرف العجمة والتعريف والتأنيث. وقالت فرقة: هو معرب من أج وأجج علتاه في منع الصرف التعريف والتأنيث. وقال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين، فمن همز " يأجوج " فهو على وزن يفعول مثل يربوع، من قولك أجت النار أي ضويت، ومنه الأجيج، ومنه ملح أجاج، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفاً مثل راس، وأما " مأجوج " فهو مفعول من أج، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق ومن لم يهمز فيجوز أن يكون خفف الهمزة، ويجوز أن يكون فاعولاً من مج، وترك الصرف فيهما للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة. واختلف في إفسادهم،سعيد بن عبد العزيز: إفسادهم أكل ابن آدم. وقالت فرقة: إفسادهم إنما كان متوقعاً، أي سيفسدون، فطلبوا وجه التحرز منهم. وقالت فرقة: إفسادهم هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، والله أعلم. وقد وردت أخبار بصفتهم وخرجهم وأنهم ولد يافث. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ولد لنوح سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان ". وقال كعب الأحبار: احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك الماء، فهم متصلون بنا من جهة الأب لا من جهة الأم. وهذا فيه نظر، لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، وكذلك قال مقاتل وغيره. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل ". يعني يأجوج ومأجوج. وقال أبو سعيد: هم خمس وعشرون قبيلة من وراء يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل من هؤلاء ومن يأجوج ومأجوج حتى يخرج من صلبه ألف رجل، ذكره القشيري . " وقال عبد الله بن مسعود: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال عليه الصلاة والسلام:
يأجوج ومأجوج أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة كل أمة لا يعلم عددها إلا الله لا يموت الرجل منهم حتى يولد له ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح، قيل : يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز - شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء نحواً من الذراع وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار الشرق وبحيرة طبرية فيمنعم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس ". وقال علي رضي الله تعالى عنه: وصنف منهم في طول شبر، لهم مخالب وأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم، وعواء الذئاب، وشعور تقيهم الحر والبرد، وآذان عظام إحداها وبرة يشتون فيها، والأخرى جلدة يصيفون فيها، يحفرون السد حتى كادوا ينقبونه فيعيده الله كما كان، فيقولون: ننقبه غداً إن شاء الله تعالىفينقبونه ويخرجون، ويتحصن الناس بالحصون، فيرمون إلى السماء فيرد السهم عليهم ملطخاً بالدم، ثم يهلكهم الله تعالى بالنغف في رقابهم. ذكره الغزنوي. وقال علي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" يأجوج أمة لها أربعمائة أمير وكذا مأجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده ".
قلت: وقد جاء مرفوعاً من حديث أبي هريرة، خرجه ابن ماجة في السنن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن يأجوج ومأجوج يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غذاً فيعيده الله أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله تعالى فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليها الدم الذي اجفظ فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله تعالى عليهم نغفاً في أقفائهم فيقتلهم بها " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكراً من لحومهم " قال الجوهري : شكرت الناقة تشكر شكراً فهي شكرة، وأشكر الضرع امتلأ لبناً. وقال وهب بن منبه: رآهم ذو القرنين، وطول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخاليب في مواضع الأظفار وأضراس وأنياب كالسباع، وأحناك كأحناك الإبل، وهم هلب عليهم من الشعر ما يواريهم، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى، وكل واحد منهم قد عرف أجله لا يموت حتى يخرج له من صلبه ألف رجل إن كان ذكراً، ومن رحمها ألف أنثى إن كانت أنثى. وقال السدي و الضحاك : الترك شرذمة من يأجوج ومأجوج خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب. قال السدي بني السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك. وقاله قتادة .
قلت: وإذا كان هذا، فقد " نعت النبي صلى الله عليه وسلم الترك كما نعت يأجوج ومأجوج، فقال عليه الصلاة والسلام:
لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوماً وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر " في رواية " ينتعلون الشعر " خرجه مسلم و أبو داود وغيرهما. " ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم عددهم وكثرتهم وحدة شوكتهم قال عليه الصلاة والسلام:
اتركوا الترك ما تركوكم ". وقد خرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله تعالى، ولا يردهم عن المسلمين إلا الله تعالى، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم. وروى أبو داود عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين - قال ابن يحيى قال أبو معمر - وتكون من أمصار المسلمين فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شاطىء النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء ". الغائط المطمئن من الأرض. والبصرة الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة. وبنو قنطوراء هم الترك. يقال: إن قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، ولدت له أولاداً جاء من نسلهم الترك.
قوله تعالى: " فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا " فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: " فهل نجعل لك خرجا " استفهام على جهة حسن الأدب. " خرجا " أي جعلا. وقرىء ( خراجا ) والخرج أخص من الخراج. يقال: أد خرج رأسك وخراج مدينتك. وقال الأزهري : الخراج يقع على الضريبة، ويقع على مال الفيء، ويقع على الجزية، وعلى الغلة. والخراج اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال. والخرج: المصدر. وقوله تعالى: " على أن تجعل بيننا وبينهم سدا " أي ردماً، والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل. وثوب مردم أي مرقع، قاله الهروي . يقال: ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردماً أي سددتها. والردم أيضاً الاسم وهو السد. وقيل: الردم أبلغ من السد إذا السد كل ما يسد به، والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع. ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض. ومنه قول عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم
أي من قول يركب بعضه على بعض. وقرىء " سدا " بالفتح في السين، فقال الخليل و سيبويه : الضم هو الاسم والفتح المصدر. وقال الكسائي : الفتح والضم لغتان بمعنى واحد. وقال عكرمة و أبو عمرو بن العلاء و أبو عبيدة : ما كان من خلقة الله لم يشارك فيه أحد بعمل فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح. ويلزم أهل هذا المقالة أن يقرؤوا " سدا " بالفتح، وقبله " بين السدين " بالضم، وهي قراءة حمزة و الكسائي . وقال أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة. وقال ابن أبي اسحاق: ما رأته عيناك فهو سد بالضم، وما لا ترى فهو سد بالفتح.
الثانية: في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضرباً ويحبسون أو يكفلون ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه.
يقول تعالى مخبراً عن ذي القرنين "ثم أتبع سبباً" أي ثم سلك طريقاً من مشارق الأرض حتى إذا بلغ بين السدين وهما جبلان متناوحان بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك فيعيثون فيها فساداً ويهلكون الحرث والنسل, ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه السلام كما ثبت في الصحيحين "إن الله تعالى يقول: يا آدم فيقول لبيك وسعديك فيقول: ابعث بعث النار فيقول: وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة, فحينئذ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها فقال إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج" وقد حكى النووي رحمه الله في شرح مسلم عن بعض الناس أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب فخلقوا من ذلك, فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم وليسوا من حواء وهذا قول غريب جداً لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل ولا يجوز الاعتماد ههنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب لما عندهم من الأحاديث المفتعلة والله أعلم.
وفي مسند الإمام أحمد عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولد نوح ثلاثة: سام أبو العرب وحام أبو السودان, ويافث أبو الترك" قال بعض العلماء هؤلاء من نسل يافث أبو الترك, وقال إنما سمي هؤلاء تركاً لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة وإلا فهم أقرباء أولئك ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة, وقد ذكر ابن جرير ههنا عن وهب بن منبه أثراً طويلاً عجيباً في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها والله أعلم. وقوله: "وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً" أي لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس " قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا " قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أجراً عظيماً يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا لهم من بينهم مالاً يعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم سداً فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير "ما مكني فيه ربي خير" أي إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه كما قال سليمان عليه السلام "أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم" الاية وهكذا قال ذو القرنين: الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ولكن ساعدوني بقوة أي بعملكم وآلات البناء " أجعل بينكم وبينهم ردما * آتوني زبر الحديد " والزبر جمع زبرة وهي القطعة منه قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وهي كاللبنة يقال كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه "حتى إذا ساوى بين الصدفين" أي وضع بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولاً وعرضاً واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال "قال انفخوا" أي أجج عليه النار حتى صار كله ناراً "قال آتوني أفرغ عليه قطراً" قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي هو النحاس زاد بعضهم المذاب ويستشهد بقوله تعالى: "وأسلنا له عين القطر" ولهذا يشبه بالبرد المحبر. قال ابن جرير : حدثنا بشر عن يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال: " ذكر لنا أن رجلاً قال يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال انعته لي قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال قد رأيته " هذا حديث مرسل. وقد بعث الخليفة الواثق في دولته أحد أمرائه وجهز معه جيشاً سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا فتوصلوا من هناك إلى بلاد ومن ملك إلى ملك حتى وصلوا إليه ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيماً وعليه أقفال عظيمة ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك, وأن عنده حرساً من الملوك المتاخمة له وأنه عال منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال ثم رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم أكثر من سنتين وشاهدوا أهوالاً وعجائب. ثم قال الله تعالى.
94- "قالوا" أي هؤلاء القوم الذين لا يفهمون قولاً، قيل إن فهم ذي القرنين لكلامهم من جملة الأسباب التي أعطاه الله، وقيل إنهم قالوا ذلك لترجمانهم، فقال لذي القرنين بما قالوا له: "يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض" يأجوج ومأجوج اسمان عجميان بدليل منع صرفهما، وبه قال الأكثر. وقيل مشتقان من أج الظليم في مشيه إذا هرول، وتأججت النار إذا تلهبت، قرأهما الجمهور بغير همز، وقرأ عاصم بالهمز. قال ابن الأنباري: وجه همزهما وإن لم يعرف له أصل أن العرب قد همزت حروفاً لا يعرف للهمز فيها أصل كقولهم: كبأث ورثأت واستشأت الريح. قال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين، فيمن همز فهو على وزن يفعول مثل يربوع، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفاً مثل راس. وأما مأجوج، فهو مفعول من أج، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق. قال: وترك الصرف فيهما على تقدير كونهما عربيين للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة.
واختلف في نسبهم، فقيل هم من ولد يافث بن نوح، وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم. وقال كعب الأحبار: احتلم آدم فاختلط ماؤه بالتراب فخلقوا من ذلك الماء. قال القرطبي: وهذا فيه نظر، لأن الأنبياء لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، كذلك قال مقاتل وغيره.
وقد وقع الخلاف في صفتهم، فمن الناس من يصفهم بصغر الجثث وقصر القامة، ومنهم من يصفهم بكبر الجثث وطول القامة، ومنهم من يقول لهم مخالب كمخالب السباع، وإن منهم صنفاً يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، ولأهل العلم من السلف ومن بعدهم أخبار مختلفة في صفاتهم وأفعالهم.
واختلف في إفسادهم في الأرض، فقيل هو أكل بني آدم، وقيل هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد، وقيل كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء القوم الذين شكوهم إلى ذي القرنين في أيام الربيع فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه "فهل نجعل لك خرجاً" هذا الاستفهام من باب حسن الأدب مع ذي القرنين. وقرئ خراجاً. قال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة ويقع على مال الفيء، ويقع على الجزية وعلى الغلة. والخراج أيضاً اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال، والخرج المصدر. وقال قطرب: الخرج الجزية والخراج في الأرض، وقيل الخرج ما يخرجه كل أحد من ماله، والخراج ما يجيبه السلطان، وقيل هما بمعنى واحد "على أن تجعل بيننا وبينهم سداً" أي ردماً حاجزاً بيننا وبينهم. وقرئ سداً بفتح السين. قال الخليل وسيبويه: الضم هو الاسم، والفتح المصدر. وقال الكسائي: الفتح والضم لغتان بمعنى واحد، وقد سبق قريباً ما حكيناه عن أبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة وابن الأنباري من الفرق بينهما. وقال ابن أبي إسحاق: ما رأته عيناك فهو ساد بالضم، وما لا ترى فهو سد بالفتح، وقد قدمنا بيان من قرأ بالفتح وبالضم في السدين.
94 - " قالوا يا ذا القرنين " فإن قيل : كيف قالوا ذلك وهم لا يفقهون ؟
قيل : كلم عنهم مترجم ، دليله : قراءة ابن مسعود : لا يكادون يفقهون قولاً قال الذين من دونهم ياذا القرنين .
" إن يأجوج ومأجوج " ، قرأهما عاصم بمهزتين [ وكذلك في الأنبياء ، ( فتحت يأجوج ومأجوج ) ] ، والآخرون بغير همز [ في السورتين ] ، وهما لغتان ، أصلهما من أجيج النار ، وهو ضوؤها وشررها ، شبهوا به لكثرتهم وشدتهم .
وقيل : بالهمزة من شدة أجيج النار ، وبترك الهمز اسمان أعجميان ، مثل : هاروت وماروت ، وهم من أولاد يافث بن نوح .
قال الضحاك : هم جيل من الترك . قال السدي : الترك سرية من يأجوج ومأجوج ، خرجت فضرب ذو القرنين السد ، [ فبقيت خارجه ، فجميع الترك منهم . وعن قتادة : أنهم اثنان وعشرون قبيلة ، بني ذو القرنين السد ] على إحدى وعشرين قبيلة فبقيت واحدة فهم الترك ، سموا الترك لأنهم تركوا خارجين .
قال أهل التواريخ :أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب والعجم والروم ، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ، ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ، ويأجوج ومأجوج ، قال ابن عباس في رواية عطاء : هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء . روي عن حذيفة مرفوعاً : " إن يأجوج أمة ، ومأجوج أمة ، كل أمة أربعمائة ألف أمة ،لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه ، كلهم قد حمل السلاح وهم من ولد آدم ، يسيرون إلى خراب الدنيا . وقيل : هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز ، شجر الشام، طوله عشرون ومائة ذراع في السماء ، وصنف منهم عرضه وطوله سواء ، عشرون ومائة ذراع ، وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد ، وصنف منهم يفترش أحدهم [ إحدى أذنيه ] ويلتحف الأخرى ، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ، ومن مات منهم . أكلوه ، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان ، يشربون أنهار المشارق وبحيرة طبرية ".
وعن علي أنه قال : منهم من طوله شبر ، ومنهم من هو مفرط في الطول .
وقال كعب : هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب ، فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم .
وذكر وهب بن منبه : أن ذا القرنين كان رجلاً من الروم ابن عجوز ، فلما بلغ كان عبداً صالحاً . قال الله له : إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم ، منهم أمتان بينهما طول الأرض : إحداهما عند مغرب الشمس ، يقال لها ناسك ، والأخرى عند مطلعها ، يقال لها منسك ، وأمتان بينهما عرض الأرض ، إحداهما : في القطر الأيمن ، يقال لها : هاويل ، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها : تأويل ، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج ، فقال ذو القرنين : بأي قوة أكابرهم ؟ وبأي جمع أكاثرهم ؟ وبأي لسان أناطقهم ؟ قال الله عز وجل : إني سأوطقك وأبسط لك لسانك ، وأشد عضدك فلا يهولنك شيء ، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك ، يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك ، فانطلق ، حتى أتى مغرب الشمس فوجد جمعاً وعدداً لا يحصيه إلا الله فكابرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد ، فدعاهم إلى الله وعبادته ، فمنهم من آمن ، ومنهم من صد عنه ، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب جنداً عظيماً فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك ، ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس ، فعمل فيها وجند منها جنوداً كفعله في الأمتين ، ثم أخذ ناحية الأرض اليسرى فأتى تاويل فعمل فيها كعلمه فيها قبلها ، ثم عمد إلى الأمم التي في وسط الأرض ، فلما دنا مما يلي منقطع الترك نحو المشرق ، قالت له أمة صالحة من الإنس : ياذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقاً أشباه البهائم يفترسون الدواب والوحوش ، [ لهم أنياب وأضراس ] كالسباع ، يأكلون الحيات والعقارب ، وكل ذي روح ، خلق في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم ، ولا شك أنهم سيملؤون الأرض ويظهرون عليها ويفسدون فيها ، فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً ، قال ما ملكني فيه ربي خير ، قال : أعدوا إلى الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم ، فانطلق حتى توسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا ، لهم مخاليب كالأظفار في أيدينا وأنياب وأضراس كالسباع ، ولهم هدب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ويتقون به من الحر وبالبرد ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى يصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى ، يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا ، فلما عاين ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين ، فقاس ما بينهما ، فحفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل حشوه الصخر وطينه النحاس ، يذاب فيصب عليه ، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض .
قوله تعالى : " قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض " ، قال الكلبي : فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه ولا شيئاً يابساً إلا احتملوا ، وأدخلوا أرضهم ، وقد لقوا منهم أذى شديداً وقتلاً .
وقيل : فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس .
وقيل : معناه أنهم سيفسدون في الأرض عند خروجهم .
" فهل نجعل لك خرجاً " ، قرأ حمزة و الكسائي " خراجاً " بالألف ، وقرأ الآخرون " خرجاً " بغير ألف ، وهما لغتان بمعنى واحد ، أي جعلاً وأجراً من أموالنا .
وقال أبو عمرو : ( الخرج ) : ما تبرعت به ، و ( الخراج ) : ما لزمك أداؤه . وقيل : ( الخراج ) : على الأرض ، و ( الخرج ) : على الرقاب . يقال : أد خرج رأسك وخراج مدينتك .
" على أن تجعل بيننا وبينهم سداً " ، أي حاجزا ً ، فلا يصلون إلينا .
94."قالوا يا ذا القرنين"أي قال مترجمهم وفي مصحف ابن مسعود قال الذين من دونهم . "إن يأجوج ومأجوج" قبيلتان من ولد يافث بن نوح ،وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل. وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف. وقيل عربيان من أج الظليم إذا أسرع وأصلهما الهمز كما قرأ عاصم ومنع صرفهما للتعريف والتأنيث . " مفسدون في الأرض " أي في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلاف الزرع . قيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا احتملوه،وقيل كانوا يأكلون الناس. "فهل نجعل لك خرجاً" نخرجه من أموالنا.وقرأ حمزة و الكسائي خراجاً وكلاهما واحد كالنول والنوال. وقيل الخراج على الأرض والذمة والخرج المصدر. "على أن تجعل بيننا وبينهم سداً "يحجز دون خروجهم علينا وقد ضمه من ضم السدين غير حمزة و الكسائي .
94. They said: O Dhul-Qarneyn! Lo! Gog and Magog are spoiling the land. So may we pay thee tribute on condition that thou set a barrier between us and them?
94 - They said: O Zul Qarnain the Gog and Magog (people) do great mischief on earth: shall we then render thee tribute in order that thou mightest erect a barrier between us and them?