[الكهف : 91] كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا
91 - (كذلك) أي الأمر كما قلنا (وقد أحطنا بما لديه) أي عند ذي القرنين من الآلات والجند وغيرهما (خبرا) علما
وأما قوله " كذلك " فإن معناه : ثم أتبع سببا كذلك ، حتى إذا بلغ مطلع الشمس ، وكذلك : من صلة أتبع . وإنما معنى الكلام : ثم أتبع سببا، حتى بلغ مطلع الشمس ، كما أتبع سببا حتى بلغ مغربها.
وقوله " وقد أحطنا بما لديه خبرا " يقول : وقد أحطنا بما عند مطلع الشمس علما، لا يخفى علينا مما هنالك من الخلق وأحوالهم وأسبابهم ، ولا من غيرهم ، شيء . وبالذي قلنا في معنى الخبر، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبوعاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله " خبرا " قال : علما .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا " قال : علما.
قلت: وهذه الأقوال تدل على أن لا مدينة هناك. والله أعلم. وربما يكون منهم من يدخل في النهر، ومنهم من يدخل في السرب فلا تناقض بين قول الحسن و قتادة .
يقول تعالى ثم سلك طريقاً فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها وكان كلما مر بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الأقاليم المتاخمة لهم, وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفاً وتسعمائة سنة يجوب الأرض طولها والعرض حتى بلغ المشارق والمغارب ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال تعالى "وجدها تطلع على قوم" أي أمة "لم نجعل لهم من دونها ستراً" أي ليس لهم بناء يكنهم ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس, وقال سعيد بن جبير كانوا حمراً قصاراً مساكنهم الغيران أكثر معيشتهم من السمك.
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سهل بن أبي الصلت سمعت الحسن وسأل عن قول الله تعالى "لم نجعل لهم من دونها ستراً" قال إن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم قال الحسن هذا حديث سمرة , وقال قتادة ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئاً فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروفهم ومعايشهم. وعن سلمة بن كهيل أنه قال: ليست لهم أكنان إذا طلعت الشمس طلعت عليهم فلأحدهم أذنان يفرش إحداهما ويلبس الأخرى. قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: "وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً" قال هم الزنج, وقال ابن جرير في قوله: "وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً" قال لم يبنوا فيها بناء قط ولم يبن عليهم بناء قط كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسراباً لهم حتى تزول الشمس أو دخلوا البحر وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل. جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها: لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها, قالوا: لا نبرح حتى تطلع الشمس ما هذه العظام ؟ قالوا: هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس ههنا... فماتوا, قال: فذهبوا هاربين في الأرض وقوله: " كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا " قال مجاهد والسدي : علماً أي نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض فإنه تعالى "لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء".
91- "كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً" أي كذلك أمر ذي القرنين أتبع هذه الأسباب حتى بلغ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به، وقيل المعنى: لم نجعل لهم ستراً مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية والثياب، وقيل المعنى: كذلك بلغ مطلع الشمس مثل ما بلغ من مغربها، وقيل المعنى: كذلك تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم، فقضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين، ويكون تأويل الإحاطة بما لديه في هذه الوجوه على ما يناسب ذلك كما قلنا في الوجه الأول.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين، إنك سمعت ذكرهم منا، فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد، قال: ومن هو؟ قالوا ذو القرنين، قال: ما بلغني عنه شيء، فخرجوا فرحين قد غلبوا في أنفسهم، فلم يبلغوا باب البيت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات "ويسألونك عن ذي القرنين". وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري أتبع كان نبياً أم لا؟ وما أدري أذو القرنين كان نبياً أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟". وأخرج ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال: سئل علي عن ذي القرنين أنبي هو؟ قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "هو عبد ناصح الله فنصحه". وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن أبي عاصم في السنة وابن مردويه من طريق أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل علي بن أبي طالب عن ذي القرنين أنبياً كان أم ملكاً؟ قال: لم يكن نبياً ولا ملكاً. ولكن كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصحه الله، بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه فمات، ثم أحياه الله لجهادهم. ثم بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه الآخر فمات. فأحياه الله لجهادهم، فلذلك سمي ذا القرنين، وإن فيكم مثله. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمرو قال: ذو القرنين نبي. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأخرص بن حكيم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال: هو ملك مسح الأرض بالأسباب. وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن خالد بن معدان الكلاعي مرفوعاً مثله. وأخرج ابن عبد الحكم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب أنه سمع رجلاً ينادي بمنى يا ذا القرنين، فقال عمر: ها أنتم قد سمعتم بأسماء الأنبياء فما بالكم وأسماء الملائكة؟ وفي الباب غير ما ذكرناه مما يغني عنه ما قد أوردناه. وقد أخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر الجهني حديثاً يتضمن أن نفراً من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء، وكان فيما أخبرهم به أنه كان شاباً من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك في السماء، وذهب به إلى السد، وإسناده ضعيف، وفيه متنه نكارة، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل. ذكر معنى هذا ابن كثير في تفسيره وعزاه إلى ابن جرير والأموي في مغازيه، ثم قال بعد ذلك: والعجب أن أبا زرعة الداري مع جلالة قدره ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة انتهى. وقد ساقه بتمامه السيوطي في الدر المنثور، وساق أيضاً خبراً طويلاً عن وهب بن منبه وعزاه إلى ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والشيرازي في الألقاب وأبي الشيخ، وفيه أشياء منكرة جداً، وكذلك ذكر خبراً طويلاً عن محمد الباقر أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، ولعل هذه الأخبار ونحوها منقولة عن أهل الكتاب، وقد أمرنا بأن لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما ينقلونه إلينا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وآتيناه من كل شيء سبباً" قال: علماً. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار: أنت تقول إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا، قال له كعب: إن كنت قلت ذلك فإن الله قال: "وآتيناه من كل شيء سبباً". وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاصر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف تغرب في عين حامية قال ابن عباس: فقلت لمعاوية ما نقرأها إلا "حمئة" فسأل معاوية عبد بن عمرو كيف تقرؤها؟ فقال عبد الله: كما قرأتها، قال ابن عباس: فقلت لمعاوية: في بيتي نزل القرآن، فأرسل إلى كعب، فقال له: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب: سل أهل العربية فإنهم أعلم بها، وأما أنا فإني أجد في التوراة في ماء وطين، وأشار بيده إلى المغرب. قال ابن أبي حاصر: لو أني عندكما أيدتك بكلام تزداد به بصيرة في حمئة. قال ابن عباس: وما هو؟ قلت: فيما نأثر قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم واتباعه إياه:
قد كان ذو القرنين عمر مسلما ملكاً تذل له الملوك وتحشد
فأتى المشارق والمغارب يبتغي أسباب ملك من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثاط خرمد
فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم، قال: فما الثاط؟ قلت: الحمأة. قال: فما الخرمد؟ قلت: الأسود، فدعا ابن عباس غلاماً فقال: اكتب ما يقول هذا الرجل. وأخرج الترمذي وأبو داود الطيالسي وابن جرير وابن المنذر عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في عين حمئة". وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً مثله.
91 - قوله عز وجل : " كذلك " ، قيل : معناه كما بلغ مغرب الشمس كذلك بلغ مطلعها ، والصحيح أن معناه : كما حكم في القوم الذين هم عند مغرب الشمس كذلك حكم في الذين عند مطلع الشمس ، " وقد أحطنا بما لديه خبراً " ، يعني : بما عنده ومعه من الجند ، والعدة ، والآلات ( خبراً ) أي : علماً .
91."كذلك "أي أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وبسطة الملك ، أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير والاختيار . ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف لوجد أو"نجعل "أو صفة قوم أي على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم الشمس في الكفر والحكم ."وقد أحطنا بما لديه"من الجنود والآلات والعدد والأسباب ."خبراً"علماً تعلق بظواهره وخفاياه ، والمراد أن كثرة ذلك بلغت مبلغاً لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير.
91. So (it was). And We knew all concerning him.
91 - (He left them) as they were: we completely understood what was before him.