[الإسراء : 38] كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا
38 - (كل ذلك) المذكور (كان سيئه عند ربك مكروها)
وقوله : " كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها " فإن القراء اختلفت فيه ، فقرأه بعض قراء المدينة وعامة قراء الكوفة " كل ذلك كان سيئهً عند ربك مكروهاً" على الإضافة بمعنى : كل هذا الذي ذكرنا من هذه الأمور التي عددنا من مبتدأ قولنا" وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " . . . إلى قولنا " ولا تمش في الأرض مرحاً" " كان سيئهً " يقول : سىء ما عددنا عليك عند ربك مكروهاً. وقال قارئو هذه القراءة : إنما قيل " كل ذلك كان سيئهً " بالإضافة، لأن فيما عددنا من قوله " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " أموراً ، هي أمر بالجميل ، كقوله : " وبالوالدين إحساناً " ، وقوله : " وآت ذا القربى حقه " وما أشبه ذلك ، قالوا: فليس كل ما فيه نهياً عن سيئة، بل فيه نهي عن سيئة، وأمر بحسنات ، فلذلك قرأنا اسيئه . وقرأ عامة قراء أهل المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة كل ذلك كان سيئة وقالوا: إنما عني بذلك : كل مما عددنا من قولنا : " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " ولم يدخل فيه ما قبل ذلك . قالوا : وكل ما عددنا من ذلك الموضع إلى هذا الموضع سيئة لا حسنة فيه ، فالصواب قراءته بالتنوين . ومن قرأ هذه القراءة، فإنه ينبغي أن يكون من نيته أن يكون المكروه مقدماً على السيئة، وأن يكون معنى الكلام عنده : كل ذلك كان مكروهاً سيئة، لأنه إن جعل قوله : مكروهاً نعد السيئة من نعت السيئة، لزمه أن تكون القراءة : كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهة، وذلك خلاف ما في مصاحف المسلمين .
وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأ " كل ذلك كان سيئه " على إضافة السىء إلى الهاء، بمعنى : كل ذلك الذي عددنا من " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " ." كان سيئه " لأن في ذلك أموراً منهياً عنها، وأموراً مأموراً بها، وابتداء الوصية والعهد من ذلك الموضع دون قوله : " ولا تقتلوا أولادكم " إنما هو عطف على ما تقدم من قوله : " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " فإذا كان ذلك كذلك ، فقراءته بإضافة السيىء إلى الهاء أولى وأحق من قراءته سيئة بالتنوين ، بمعنى السيئة الواحدة .
فتأويل الكلام إذن : كل هذا الذي ذكرنا لك من الأمور التي عددناها عليك كان سيئه مكروهاً عند ربك يا محمد، يكرهه وينهى عنه ولا يرضاه ، فاتق مواقعته والعمل به .
الرابعة : قوله تعالى : " كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها " ذلك إشارة إلى جملة ما تقدم ذكره مما أمر به ونهى عنه وذلك يصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر . وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي مسروق سيئة على إضافة سيء إلى الضمير ولذلك قال : مكروها نصب على خبر كان . والسيء : هو المكروه وهو الذي لا يرضاه الله عز وجل ولا يأمر به . وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية من قوله : وقضى ربك إلى قوله كان سيئة مأمورات بها ومنهيات عنها فلا يخبر عن الجميع بأنه سيئة فيدخل المأمور به في المنهي عنه . واختار هذه القراءة أبو عبيد . ولأن في قراءة أبي كل ذلك كان سيئاته فهذه لا تكون إلا للإضافة . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو سيئة بالتنوين ، أي كل ما نهى الله ورسوله عنه سيئة . وعلى هذا انقطع الكلام عند قوله : وأحسن تأويلا ثم قال : ولا تقف ما ليس لك به علم ، ولا تمش ، ثم قال : " كل ذلك كان سيئه " بالتنوين . وقيل : إن قوله : ولا تقتلوا أولادكم إلى هذه الآية كان سيئة لا حسنة فيه ، فجعلوا كلا محيطا بالمنهي عنه دون غيره . وقوله : مكروها ليس نعتا بسيئة ، بل هو بدل منه والتقدير كان سيئة وكان مكروها . وقد قيل : إن مكروها خبر ثان لكان حمل على لفظة كل ، وسيئة محمول على المعنى في جميع هذه الأشياء المذكورة قبل . قال بعضهم : ونعت لسيئة ، لأنه لما كان تأنيثا غير حقيقي أن توصف جاز أن توصف بمذكر . وضعف ابن علي الفارسي هذا وقال : إن المؤنث إذا ذكر فإنما ينبغي أن يكون ما بعده مذكرا ، و إنما التساهل أن يتعدم الفعل المسند إلى المؤنث و هو في صيغة ما يسهد إلى المذكر ، ألا ترى قول الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودقها و لا أرض أبقل إببقالها
مستقبح عندهم . و لو قال قائل : أبقل أرض لم يكن قبيحا . قال أبو علي : و لكن يجوز في قوله مكروها أن يكون بدلا من سيئة . و يجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في عند ربك و يكون عند ربك في موضع الصفة لسيئة .
الخامسة : استدل العلماء بهذه الآية على ذم الرقص وتعاطيه . فقال :ولا تمش في الأرض مرحا وذم المختال . والرقص أشد المرح والبطر . أو لسن الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الإطراب والسكر ، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشعر معه على الطنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما . فما أقبح من ذي لحية ، وكيف إذا كان شيبة ، يرقص ويصفق على إيقاع الألحان والقضبان ، وخصوصا إن كانت أصوات النسوان ومردان ، وهو يحسن لمن بين يديه الموت والسؤال والحشر والصراط ثم هو إلى إحدى الدارين ، يشمس بالرقص شمس البهاء ، ويصفق تصفيق النسوان ، ولقد رأيت مشايخ في عمر ما بان لهم سن من التبسم فضلا عن الضحك مع إدمان مخالطتي لهم . وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله : ولقد حدثني بعض المشايخ عن الإمام الغزالي أنه قال : الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول إلا باللعب . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في الكهف وغيرها إن شاء الله تعالى .
يقول تعالى ناهياً عباده عن التجبر والتبختر في المشية "ولا تمش في الأرض مرحاً" أي متبختراً متمايلاً مشي الجبارين "إنك لن تخرق الأرض" أي لن تقطع بمشيك, قاله ابن جرير , واستشهد عليه بقول رؤبة بن العجاج :
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
وقوله: "ولن تبلغ الجبال طولاً" أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك, بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده, كما ثبت في الصحيح "بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان يتبختر فيهما, إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته, وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض, وفي الحديث "من تواضع لله رفعه الله, فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير, ومن استكبر وضعه الله فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير, حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير" , وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع : حدثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير , حدثنا حجاج بن محمد عن أبي بكر الهذلي قال بينما نحن مع الحسن إذ مر عليه ابن الأهيم يريد المنصور , وعليه جباب خز قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه, وانفرج عنها قباؤه, وهو يمشي ويتبختر, إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال: أف أف, شامخ بأنفه, ثاني عطفه, مصعر خده, ينظر في عطفيه, أي حميق ينظر في عطفه في نعم غير مشكورة ولا مذكورة, غير المأخوذ بأمر الله فيها, ولا المؤدي حق الله منها, والله أن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون في كل عضو منه نعمة, وللشيطان به لعنة, فسمعه ابن الأهيم فرجع يعتذر إليه, فقال: لا تعتذر إلي وتب إلى ربك, أما سمعت قول الله تعالى: "ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا".
ورأى البختري العابد رجلاً من آل علي يمشي وهو يخطر في مشيته, فقال له: يا هذا, إن الذي أكرمك به لم تكن هذه مشيته, قال: فتركها ورأى ابن عمر رجلاً يخطر في مشيته, فقال: إن للشياطين إخواناً. وقال خالد بن معدان : إياكم والخطر, فإن الرجل يده من سائر جسده, رواهما ابن أبي الدنيا , وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا خلف بن هشام البزار , حدثنا حماد بن زيد عن يحيى عن سعيد عن بحنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مشت أمتي المطيطاء, وخدمتهم فارس والروم, سلط بعضهم على بعض".
وقوله: " كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها " أما من قرأ سيئة, أي فاحشة فمعناه عنده كل هذا الذي نهيناه عنه من قوله: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق" إلى هنا فهو سيئه مؤاخذ عليها مكروه عند الله لا يحبه ولا يرضاه, وأما من قرأ سيئه على الإضافة فمعناه عنده كل هذا الذي ذكرناه من قوله: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " إلى هنا فسيئه أي فقبيحه مكروه عند الله, هكذا وجه ذلك ابن جرير رحمه الله.
والإشارة بقوله: 38- "كل ذلك" إلى جميع ما تقدم ذكره من الأوامر والنواهي، أو إلى ما نهى عنه فقط من قوله: "ولا تقف" "ولا تمش" قرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ومسروق "سيئه" على إضافة سيء إلى الضمير ويؤيد هذه القراءة قوله: "مكروهاً" فإن السيء هو المكروه، ويؤيدها أيضاً قراءة أبي: كان سيئاته، واختار هذه القراءة أبو عبيد. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو "سيئةً" على أنها واحدة السيئات، وانتصابها على خبرية كان، ويكون مكروهاً صفة لسيئة على المعنى، فإنها بمعنى سيئاً، أو هو بدل من سيئة، وقيل هو خبر ثان لكان حملاً على لفظ كل ورجح أبو علي الفارسي البدل، وقد قيل في توجيهه بغير هذا مما فيه تعسف لا يخفى. قال الزجاج: والإضافة أحسن، لأن ما تقدم من الآيات فيه سيء وحسن، فسيئه المكروه ويقوي ذلك التذكير في المكروه، قال: ومن قرأ بالتنوين جعل "كل ذلك" إحاطة بالمنهي عنه دون الحسن، المعنى: كل ما نهى الله عنه كان سيئة وكان مكروهاً، قال: والمكروه على هذه القراءة بدل من السيئة وليس بنعت، والمراد بالمكروه عند الله هو الذي يبغضه ولا يرضاه، لا أنه غير مراد مطلقاً، لقيام الأدلة القاطعة على أن الأشياء واقعة بإرادته سبحانه، وذكر مطلق الكراهة مع أن في الأشياء المتقدمة ما هو من الكبائر إشعاراً بأن مجرد الكراهة عنده تعالى يوجب انزجار السامع واجتنابه لذلك. والحاصل أن في الخصال المتقدمة ما هو حسن وهو المأمور به، وما هو مكروه وهو المنهي عنه، فعلى قراءة الإضافة تكون الإشارة إلى المنهيات، ثم الإخبار عن هذه المنهيات بأنها سيئة مكروهة عند ذلك.
38 - " كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً " ، قرأ ابن عامر وأهل الكوفة : برفع الهمزة وضم الهاء ، على الإضافة ، ومعناه : كل الذي ذكرنا من قوله : " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " " كان سيئه " أي : سئ ما عددنا عليك عند ربك مكروهاً ، لأنه قد عد أموراً حسنة كقوله : " وآت ذا القربى حقه " " واخفض لهما جناح الذل " وغير ذلك .
وقرأ الآخرون : " سيئة " منصوبة منونة يعني : كل الذي ذكرنا من قوله : " ولا تقتلوا أولادكم " إلى هذا الموضع سيئة لا حسنة فيه ، إذ الكل يرجع إلى المنهي عنه دون غيره ، ولم يقل مكروهة لأن فيه تقديماً وتأخيراً ، وتقديره : كل ذلك كان مكروهاً سيئةً : [ وقوله " مكروهاً " على التكرير ، لا على الصفة ، مجازه : كل ذلك كان سيئةً وكان مكروهاً ] ، أو رجع إلى المعنى دون اللفظ ، لأن السيئة الذنب وهو مذكر .
38."كل ذلك "إشارة إلى الخصال الخمس والعشرين المذكورة . من قوله تعالى :"لا تجعل مع الله إلهاً آخر"وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنها المكتوبة في ألواح موسى عليه السلام . "كان سيئه"يعني المنهي عنه فإن المذكورات مأمورات ومناه . وقرأ الحجازيان والبصريان "سيئه"على أنها خبر"كان "والاسم ضمير"كل "، و"ذلك"إشارة إلى ما نهى عنه خاصة وعلى هذا قوله:"عند ربك مكروهاً"بدل من "سيئه"أو صفة لها محمولة على المعنى ، فإنه بمعنى سيئاً وقد قرئ به ، ويجوز أن ينتصب مكروهاً على الحال من المستكن في"كان "أو في الظرف على أنه صفة "سيئه"، والمراد به المبغوض المقابل للمرضى لا ما يقابل المراد ليقام القاطع على أن الحوادث كلها واقعة بإرادته تعالى.
38. The evil of all that is hateful in the sight of thy Lord.
38 - Of all such things the evil is hateful in the sight of thy Lord.