[الإسراء : 23] وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا
23 - (وقضى) أمر (ربك) أن أي بأن (ألا تعبدوا إلا إياه) أن تحسنوا (وبالوالدين إحسانا) بأن تبروهما (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما) فاعل (أو كلاهما) وفي قراءة يبلغان فأحدهما بدل من ألفه (فلا تقل لهما أف) بفتح الفاء وكسرها منونا وغير منون مصدر بمعنى تبا وقبحا (ولا تنهرهما) تزجرهما (وقل لهما قولا كريما) جميلا لينا
يعني بذلك تعالى ذكره : حكم ربك يا محمد بأمره إياكم ألا تعبدوا إلا الله ، فإنه لا ينبغي أن يعبد غيره . وقد اختلف ألفاظ أهل التاويل في تاويل قوله " وقضى ربك " وإن كان معنى جميعهم في ذلك واحد ا .
ذكر ما قالوا في ذلك :
حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني صراوية ، عن علي ، عن ابن عباس " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " يقول : أمر.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا زكريا بن سلام ، قال : جاء رجل إلى الحسن ، فقال : إنه طلق امرأته ثلاثا، فقال : إنك عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك ، فقال الرجل : قضى الله ذلك علي ؟ قال الحسن ، وكان فصيحا: ما قضى الله : أي ما أمر الله ، وقرأ هذه الاية " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " فقال الناس : تكلم الحسن في القدر.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " : أي أمر ربك في ألا تعبدوا إلا إياه فهذا قضاء الله العاجل ، وكان يقال في بعض الحكمة : من أرضى والديه أرضى خالقه ، ومن أسخط والديه فقد أسخط ربه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " قال : أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، وفي حرف ابن مسعود وصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه .
حدثنا أبوكريب ، قال : ثنا يحيي بن عيسى ، قال : ثنا نصيربن أبي الأشعث ، قال : ثني ابن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبيه ، قال : أعطاني ابن عباس مصحفا، فقال : هذا على قراءة أبي بن كعب . قال أبو كريب : قال يحيي : رأيت المصحف عند نصير فيه ووصى ربك يعني : وقضى ربك .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " قال : وأوصى ربك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " قال : أمر ألا تعبدوا إلا إياه .
حدثني الحارث ، قال : ثنا القاسم ، قا ا،: ثنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن الضحاك بن مزاحم ، أنه قرأهاووصى ربك ،وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافا .
وقوله " وبالوالدين إحسانا" يقول : وأمركم بالوالدين إحسانا أن تحسنوا إليهما وتبروهما . ومعنى الكلام : وأمركم أن تحسنوا إلى الوالدين ،. فلما حذفت أن تعلق القضاء بالإحسان ، كما يقال في الكلام : امرك به خيرا، وأوصيك به خيرا، بمعنى : آمرك أن تفعل به خيرا، ثم تحذف أن فيتعلق الأمر والوصية بالخير، كما قال الشاعر:
عجبت من دهماء إذ تشكونا ومن أبي دهماء إذ يوصينا خيرا
بها كاننا جافونا
وعمل يوصينا في الخير.
واختلفت القراء في قراءة قوله "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما" فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والبصرة، وبعض قراء الكوفيين "إما يبلغن" على التوحيد على توجيه ذلك إلى أحدهما لأن أحدهما واحد ، فوحدوا "يبلغن" لتوحيده ، وجعلوا قوله " أو كلاهما" معطوفا على الأحد . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين إما يبلغان على التثنية وكسر النون وتشديدها، وقالوا : قد ذكر الوالدان قبل ، وقوله يبلغان خبر عنهما بعد ما قدم أسماءهما، قالوا : والفعل إذا جاء بعد الاسم كان الكلام أن يكون فيه دليل على أنه خبر عن اثنين أو جماعة . قالوا : والدليل على أنه خبر عن اثنين في الفعل المستقبل الألف والنون . قالوا : وقوله " أحدهما أو كلاهما" كلام مستانف ، كما قيل : " فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم" وكقوله " وأسروا النجوى" : ثم ابتدأ فقال " الذين ظلموا".
وأولى القراءتين بالصوابء عندي في ذلك ، قراءة من قرأه " إما يبلغن " على التوحيد على أنه خبر عن أحدهما، لأن الخبر عن الأمر بالإحسان في الوالدين ، قد تناهى عند قوله " وبالوالدين إحسانا" ثم ابتدأ قوله "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما" . وقوله " فلا تقل لهما أف " يقول : فلا تؤفف من شيء تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس ، ولكن اصبر على ذلك منهما، واحتسب في الأجر صبرك عليه منهما، كما صبرا عليك في صغرك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التاويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن محبب ، قال : ثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله " فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما" قال : إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويخرآن ، فلا تقل لهما أف تقذرهما .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد إما يبلغان عندك الكبر فلا تقل لهما أف حين ترى الأذى، وتميط عنهما الخلاء والبول ، كما كانا يميطانه عنك صغيرا ، ولا تؤذهما . وقد اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى أف ، فقال بعضهم : معناه : كل ما غلظ من الكلام وقبح . وقال آخرون : الأف : وسخ الأظفار والتف كل ما رفعت بيدك من الأرض من شيء حقير. وللعرب في أف لغات ست رفعها بالتنوين وغير التنوين وخفضها كذلك ونصبها، فمن خفض ذلك بالتنوين ، وهي قراءة عامة أهل المدينة، شبهها بالأصوات التي لا معنى لها، كقولهم في حكاية الصوت غاق غاق ، فخفضوا القاف ونونوها، وكان حكمها السكون ، فإنه لا شيء يعربها من أجل مجيئها بعد حرف ساكن وهو الألف ، فكرهوا أن يجمعوا بين ساكنين ، فحركوا إلى أقرب الحركات من السكون ، وذلك الكسر، لأن المجزوم إذا حرك ، فإنما يحرك إلى الكسر. وأما الذين خفضوا بغير تنوين ، وهي قراءة عامة قراء الكوفيين والبصريين ، فإنهم قالوا : إنما يدخلون التنوين فيما جاء من الأصوات ناقصا، كالذي يأتي على حرفين مثل مه وصه وبخ ، فيتمم بالتنوين لنقصانه عن أبنية الأسماء. قالوا: وأف تام لا حاجة بنا إلى تتمته بغيره ، لأنه قد جاء على ثلاثة أحرف . قالوا: وإنما كسرنا الفاء الثانية لئلا نجمع بين ساكنين. وأما من ضم ونون ، فإنه قال : هو اسم كسائر الأسماء التي تعرب وليس بصوت ، وعدل به عن الأصوات . وأما من ضم ذلك بغير تنوين ، فإنه قال : ليس هو باسم متمكن فيعرب بإعراب الأسماء المتمكنة، وقالوا: نضمه كما نضم قوله " لله الأمر من قبل ومن بعد" وكما نضم الاسم في النداء المفرد، فنقول : يا زيد. ومن نصبه بغير تنوين ، وهو قراءة بعض المكيين وأهل الشام فإنه شبهه بقولهم : مد يا هذا ورد. ومن نصب بالتنوين ، فإنه أعمل الفعل فيه ، وجعله اسما صحيحا، فيقول : ما قلت له : أفا ولا تفا. وكان بعض نحويي البصرة يقول : قرئت : أف ، وأفا لغة جعلوها مثل نعتها. وقرأ بعضهم أف ، وذلك أن بعض العرب يقول : أف لك على الحكاية : أي لا تقل لهما هذا القول . قال : والرفع قبيح ، لأنه لم يجىء بعده بلام ، والذين قالوا : أف ، فكسروا كثير، وهو أجود . وكسر بعضهم ونون . وقال بعضهم : أفي ، كانه أضاف هذا القول إلى نفسه ، فقال : أفي هذا لكما، والمكسور من هذا منون وغير منون على أنه اسم غير متمكن ، نحو أمس وما أشبهه ، والمفتوح بغير تنوين كذلك . وقال بعض أهل العربية : كل هذه الحركات الست تدخل في أف أ حكاية تشبه بالاسم مرة وبالصوت أخرى . قال : وأكثر ما تكسر الأصوات بالتنوين إذا كانت على حرفين مثل صه ومه وبخ . وإذا كانت على ثلاثة أحرف شبهت بالأدوات أف مئل : ليت ومد، وأف مثل مد يشبه بالأدوات . وإذا قال أف مثل صه . وقالوا سمعت مض يا هذا ومض . وحكي عن الكسائي أنه قال : سمعت ما علمك أهلك إلا مض ومض ، وهذا كإف وإف . ومن قال : أفا جعله مثل سحقا وبعدا . والذي هو أولى بالصحة عندي في قراءة ذلك ، قراءة من قرأه " فلا تقل لهما أف " بكسر الفاء بغير تنوين لعلتين : إحداهما: أنها أشهر اللغات فيها وأفصحها عند العرب ، والثانية : أن حظ كل ما لم يكن له معرب من الكلام السكون ، فلما كان ذلك كذلك . وكانت الفاء في أف حظها الوقوف ، ثم لم يكن إلى ذلك سبيل لاجتماع الساكنين فيه . وكان حكم الساكن إذا حرك أن يحرك إلى الكسر حركت إلى الكسر، كما قيل : مد وشد: ورد الباب.
وقوله : " ولا تنهرهما" يقول جل ثناؤه : ولا تزجرهما.
كما حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا واصل الرقاشي ، عن عطاء بن أبي رباح ، في قوله "فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما" قال : لا تنفض يدك على والديك ، يقال منه : نهره ينهره نهرا ، وانتهره ينتهره انتهارا .
وأما قوله " وقل لهما قولا كريما" فإنه يقول جل ثناؤه : وقل لهما قولا جميلا حسنا .
كما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج "وقل لهما قولا كريما" قال : أحسن ما تجد من القول .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن عبد الله بن المختار، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عمر بن الخطاب "قولا كريما" قالا : لا تمتنع من شيء يريدانه . قال أبو جعفر : وهذا الحديث خطا، أعني حديث هشام بن عروة ، إنما هو عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، ليس فيه عمر، حدث عن ابن علية وغيره ، عن عبد الله بن المختار .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة " وقل لهما قولا كريما" : أي قولا لينا سهلآ.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني حرملة بن عمران ، عن أبي الهداج التحبيبي ، قال قلت لسعيد بن المسيب : كل ما ذكر الله عز وجل في القرآن من بر الوالدين ، فقد عرفته ، إلا قوله " وقل لهما قولا كريما" ما هذا القول الكريم ؟ قال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظ.
فيه ست عشرة مسألة :
الأولى " وقضى " أي أمر وألزم وأوجب . قال ابن عباس والحسن وقتادة : وليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء أمر . وفي مصحف ابن مسعود ووصى وهي قراءة أصحابه وقراءة ابن عباس أيضا وعلي وغيرهما ، وكذلك عند أبي بن كعب . قال ابن عباس : إنما هو ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين فقرئت وقضى ربك إذا لو كان على القضاء ما عصى الله أحد . وقال الضحاك : تصحفت على قوم وصى بقضى حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف . وذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك وقال . عن ميمون بن مهران أنه قال : إن على قول ابن عباس لنورا ، قال الله تعالى : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك " ثم أبى أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك . وقال : لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا ، ثم قال علماؤنا المتكلمون وغيرهم القضاء يستعمل في اللغة على وجوه : فالقضاء بمعنى الأمر ، كقوله تعالى : " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " معناه أمر . والقضاء بمعنى الخلق ، كقوله تعالى : "فقضاهن سبع سماوات في يومين " يعني خلقهن . والقضاء بمعنى الحكم كقوله تعالى : " فاقض ما أنت قاض " يعني احكم ما أنت تحكم والقضاء بمعنى الفراغ كقوله : " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان " أي فرغ منه ، ومنه قوله تعالى " فإذا قضيتم مناسككم " وقوله تعالى : " فإذا قضيت الصلاة " والقضاء بمعنى الإرادة ، كقوله تعالى : " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " والقضاء بمعنى العهد ، كقوله تعالى : " وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر" .
فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعاني فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصي بقضاء الله ، لأنه إن أريد به الأمر فلا خلاف أنه لا يجوز ذلك ، لأن الله تعالى لم يأمر بها ، فإنه لا يأمر بالفحشاء . وقال زكريا بن سلام : جاء رجل إلى الحسن فقال إنه طلق امرأته ثلاثا . فقال : إنك قد عصيت ربك وبانت منك . فقال الرجل : قضى الله ذلك علي ! فقال الحسن وكان فصيحا : ما قضى الله ذلك ! اي ما أمر الله به ، وقرأ هذه الآية : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه .
الثانية : أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده ، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك ، كما قرن شكرهما بشكره فقال : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا . وقال أن اشكر لي ولولديك إلي المصير . وفي صحيح البخاري عن عبدالله قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله عز وجل ؟ قال :
الصلاة على وقتها قال : ثم أي ؟ قال ثم بر الوالدين قال ثم أي ؟ قال الجهاد في سبيل الله فأخبر صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام . ورتب ذلك بـ ثم التي تعطي الترتيب والمهلة .
الثالثة : من البر بهما والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبهما ولا يعقهما ، فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف ، وبذلك وردت السنة الثابتة ، ففي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه .
الرابعة : عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما ، كما أن برهما موافقتهما على أغراضهما . وعلى هذا إذا لم يكن ذلك الأمر معصية ، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباح في أصله ، وكذلك إذا كان من قبيل المندوب . وقد ذهب بعض الناس إلى أن أمرهما بالمباح يصيره في حق الولد مندوبا إليه وأمرهما بالمندوب يزيده تأكيدا في ندبيته .
الخامسة : روى الترمذي عن ابن عمر قال :
كانت تحتي امرأة أحبها ، وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا عبدالله بن عمر طلق امرأتك . قال هذا حديث حسن صحيح .
السادسة : روى الصحيح عن أبي هريرة قال :
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال أمك قال : ثم من ؟ قال : أبوك . فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب ، لذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأم ثلاث مرات وذكر الأب في الرابعة فقط . وإذا توصل هذا المعنى شهد له العيان . وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب ، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب . وروي عن مالك أن رجلا قال له : إن أبي في بلد السودان ، وقد كتب إلي أن أقدم عليه ، وأمي تمنعني من ذلك ، فقال له : أطع أباك ، ولا تعص أمك . فدل قول مالك هذا أن برها متساو عنده . وقد سئل الليث عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم ، وزعم أن لها ثلثي البر . وحديث أبي هريرة يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر ، وهو الحجة على من خالف . وقد زعم المحاسبي في كتاب الرعاية له أنه لا خلاف بين العلماء ان للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع ، على مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه . والله أعلم .
السابعة : لا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين ، بل إن كانا كفرين يبرهما ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد ، قال الله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم . وفي صحيح البخاري" عن أسماء قالت :
قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها ، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها ؟ قال : نعم صلي أمك ". وروى أيضا عن أسماء قالت : أتتني أمي راغبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أأصلها ؟ قال : نعم . قال بان عيينة : فأنزل الله عز وجل فيها : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين . الأول معلق والثاني مسند .
الثامنة : من الإحسان إليهما والبر بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد غلا بإذنها . روى الصحيح عن عبدالله بن عمرو قال :
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال : أحي والداك ؟ قال نعم : قال : ففيهما فجاهد . لفظ مسلم في غير الصحيح قال : نعم ، وتركتهما يبكيان . قال : اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما . وفي خبر آخر أنه قال : نومك مع أبويك على فراشهما يضاحكانك ويلاعبانك أفضل لك من الجهاد معي . ذكره ابن خوير منداد . ولفظ البخاري في كتاب بر الوالدين : أخبرنا أبو نعيم أخبرنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو قال :
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة ، وترك أبويه يبكيان فقال : ارجع إليهما فأضحكهما كما ابكيتهما . قال ابن المنذر : في هذا الحديث النهي عن الخروج بغير إذن الأبوين ما لم يقع النفير ، فإذا وقع وجب الخروج على الجميع . وذلك بين في حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيش الأمراء ...، فذكر قصة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وابن رواحة وأن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بعد ذلك : أن الصلاة جامعة ح فاجتمع الناس فحمد الله واثنى عليه ثم قال :
أيها الناس ، اخرجوا فامدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد فخرج الناس مشاة وركبانا في حر شديد . فدل قوله ، أخرجوا فامدوا إخوانكم أن العذر في التخلف عن الجهاد إنما هو ما لم يقع النفير ، مع قوله عليه السلام .
فإذا استنفرتم فانفروا .
قلت : وفي هذه الأحاديث دليل على أن المفروض أو المندوبات متى اجتمعت قدم الأهم منها . وقد استوفي هذا المعنى المحاسبي في كتاب الرعاية .
التاسعة : واختلفوا في الوالدين المشركين هل يخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية ح فكان الثوري يقول : لا يغزو إلا بإذنهما . وقال الشافعي : له أن يغزو بغير إذنهما . قال ابن المنذر : والأجداد آباء . والجدات أمهات فلا يغزو المرء إلا بإذنهم ولا أعلم دلالة توجب ذلك لغيرهم من الإخوة وسائر القرابات . وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل .
العاشرة : من تمام برهما صلة أهل ودهما ، ففي الصحيح عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
غن من أبر البر صلة الرجل أهل وده أبيه بعد أن يولي . وروى ابو اسيد وكان بدريا قال :
كنت مع النبي صلى الله عليهوسلم جالسا فجاءه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، هل بقي من بر والدي من بعد موتهما شيء أبرهما به ؟ قال : نعم . الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنقاذ عهدهما بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من فبلهما فهذا الذي بقي عليك . وكان صلى الله عليهوسلم يهدي لصدائق خديجة برا بها ووفاء لها هي زوجته فما ظنك بالوالدين .
الحادية عشرة : قوله تعالى : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ك خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجات فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر ، فألزم في هذهالحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل ، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلا عليه ، فيحتاجان أن يلبي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغرهان يليا منه ز فلذلك خص هذه الحالة بالذكر . وأيضا فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة ويحصل الملل ويكثر الضجر فيظهر غضبه على أبويه وتنتفخ لهما اوداجه ، ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة ، واقل المكروه ما يظهره بتنفسه المتردد من الضجر . وقد امر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة ، وهو السالم عن كل عيب فقال : فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما . روى مسلم عن ابي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
رغم أنفه رغم أنفه قيل /ن يارسول الله ؟ قال : من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة . وقال البخاري في كتاب بر الوالدين : حدثنا مسدد حدثنا بر بن المفضل حدثنا عبد الحمن بن إسحاق عن ابي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي . رغم أنف رجل أدرك ابويه عند الكبر أو احدهما فلم يدخلاه الجنة . ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له . حدثنا ابن أبي أويس حدثني اخي عن سليمان بن بلال عن محمد بن هلال عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة السالمي عن أبيه رضي الله عنه قال : إن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم :
أحضروا المنير فلما خرج رقي إلى المنبر ، فرقي في أول درحة منه قال آمين ثم رقي في الثانية فقال آمين ثم لما رقي في الثالثة قال آمين ، فلما فرغ ونزل من المنبر قلنا : يا رسول الله ، لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه منك ؟ قال : وسمعتموه ؟ قلنا نعم . قال : إن جبريل عليه السلام اعترض قال : بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت آمين فلما رقيت في الثانية قال بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك قفلت آمين فلما رقيت في الثالثة قال بعد من أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت آمين . حدثنا أبو نعيم حدثنا سلمة بن وردان سمعت أنسا رضي الله عنه يقول :
ارتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر درجة فقال آمين ثم ارتقى درجة فقال آمين ثم ارتقى الثالثة فقال آمين ، ثم استوى وجلس فقال أصحابه : يا رسول الله ، علام آمنت قال : اتاني جبريل عليه السلام فقال رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت آمين ورغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخل الجنة فقلت آمين . الحديث .
فالسعيد الذي يبادر اغتنام فرصة برهما لئلا تفوته بموتهما فيندم على ذلك . الشقي من عفهما ، لا سيما من بلغه الأمر ببرهما .
الثانية عشرة : قوله تعالى : فلا تقل لهما أف . أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم . وعن أبي رجاء العطاردي قال : الأف الكلام القذع الرديء الخفي . وقال مجاهد : معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه منك في الصغر فلا تقذرهما وتقول أف . والآية اعم من هذا . والأف والتف وسخ الأظفار . ويقال لكل ما يضجر ويستثقل : أف له . قال الأزهري : والتف أيضا لاشيء الحقير . وقرئ أف منون مخفوض ، كما تخفض الأصوات وتنون ، تقول : صه ومه . وفيه عشر لغات : أف ، وأف ، وأف ، وأفا واف ، وأف ، وأفه ، وإف لك بكسر الهمزة ، وأف بضم الهمزة وتسكين الفاء ، وأفا مخففة الفاء . وفي الحديث .
فألقى طرف ثوبه على أنفه ثم قال أف اف . قال أبو بكر ك معناه استقدار لما شم . وقال بعضهم : معنى أف الاحتقار والاستقلال ، أخذ من الأفف وهو القليل . وقال القتبي : أصله نفخك الشيء يسقط عليك من رماه وتراب وغير ذلك ، وللمكان تريد إماطة شيء لتقعد فيه ، فقيلت هذه الكلمة لك مستثقل . وقال أبو عمرو بن العلاء : الأف وسخ بين الأظفار ، والتف قلامتها . وقال الزجاج : معنى أف النتن . وقال الأصمعي : الأف وسخ الأذن ن والتف وسخ الأظفار ، فكثر استعماله حتى ذكر في كل ما يتاذى به . وروي من حديث علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لو عليم الله من العقوق شيئا أردأ من أف لذكره فليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار . ولعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة . قال علماؤنا : وإنما صارت قوله أف للأبوين أردأ شيء لأنه رفضهما رفض كفر النعمة ، وجحد التربية ورد الوصية التي أوصاه في التنزيل . و أف كلمة مقولة لكل شيء مرفوض ، ولذلك قال إبراهيم لقومه : أف لكم ولما تعبدون من دون الله . أي رفض لكم ولهذه الأصنام معكم .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : ولا تنهرهما : النهر : الزجر والغلظة . وقل لهما قولا كريما أي لينا لطيفا ، مثل : يا أبتاه ويا أماه ، من غير ان يسميهما ويكنيهما ، قاله عطاء . وقال أبو الهداج التجيبي : قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قول : وقل لهما قولا كريما ما هذا القول الكريم ؟ قال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ .
يقول تعالى آمراً بعبادته وحده لا شريك له, فإن القضاء ههنا بمعنى الأمر, قال مجاهد "وقضى" يعني وصى, وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود والضحاك بن مزاحم " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " ولهذا قرن بعبادته بر الوالدين, فقال: "وبالوالدين إحساناً" أي وأمر بالوالدين إحساناً, كقوله في الاية الأخرى "أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير". وقوله "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف" أي لا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء "ولا تنهرهما" أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح, كما قال عطاء بن رباح في قوله "ولا تنهرهما" أي لا تنفض يدك عليهما, ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح, أمره بالقول والفعل الحسن, فقال: "وقل لهما قولاً كريماً" أي ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم, " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " أي تواضع لهما بفعلك "وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا" أي في كبرهما وعند وفاتهما, قال ابن عباس : ثم أنزل الله "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" الاية.
وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: "آمين آمين آمين قيل يا رسول الله علام أمنت ؟ قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك, قل: آمين, فقلت آمين, ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له, قل: آمين, فقلت آمين, ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة, قل: آمين, فقلت آمين".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم , حدثنا علي بن زيد أخبرنا زرارة بن أوفى عن مالك بن الحارث , عن رجل منهم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من ضم يتيماً من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه, وجبت له الجنة البتة, ومن أعتق امرأ مسلماً, كان فكاكه من النار يجزى بكل عضو منه عضواً منه" ثم قال: حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة , سمعت علي بن زيد فذكر معناه, إلا أنه قال عن رجل من قومه يقال له مالك أو ابن مالك , وزاد "ومن أدرك والديه أو أحدهما, فدخل النار فأبعده الله".
(حديث آخر) وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان عن حماد بن سلمة , حدثنا علي بن زيد عن زرارة بن أوفى عن مالك بن عمرو القشيري , سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار, فإن كل عظم من عظامه محررة بعظم من عظامه, ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله عز وجل, ومن ضم يتيماً من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله وجبت له الجنة".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة عن قتادة , سمعت زرارة بن أوفى يحدث عن أبي بن مالك القشيري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك, فأبعده الله وأسحقه", ورواه أبو داود الطيالسي عن شعبة به, وفيه زيادات أخر.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا عفان , حدثنا أبو عوانة , حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "رغم أنف, ثم رغم أنف ثم رغم أنف رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة" صحيح من هذا الوجه, ولم يخرجوه, سوى مسلم من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن بلال عن سهيل به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا ربعي بن إبراهيم , قال أحمد وهو أخو إسماعيل بن علية وكان يفضل على أخيه, عن عبد الرحمن بن إسحاق , عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي, ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان فانسلخ فلم يغفر له, ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر, فلم يدخلاه الجنة" قال ربعي : ولا أعلمه إلا قال "أو أحدهما". ورواه الترمذي عن أحمد بن إبراهيم الدورقي عن ربعي بن إبراهيم , ثم قال: غريب من هذا الوجه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد , حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل , حدثنا أسيد بن علي عن أبيه علي بن عبيد , عن أبي أسيل وهو مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ جاءه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله هل بقي علي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به ؟ قال: "نعم خصال أربع: الصلاة عليهما, والاستغفار لهما, وإنفاذ عهدهما, وإكرام صديقهما, وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما, فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما" ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن سليمان وهو ابن الغسيل به.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا روح , حدثنا ابن جريج , أخبرني محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن عن معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك فقال: "فهل لك من أم قال نعم قال: فالزمها فإن الجنة عند رجليها" ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول, ورواه النسائي وابن ماجه من حديث ابن جريج به.
(حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا ابن عياش عن يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يوصيكم بآبائكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب" وأخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عياش به.
(حديث آخر) قال أحمد : حدثنا يونس , حدثنا أبو عوانة عن أشعث بن سليم عن أبيه , عن رجل من بني يربوع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول: "يد المعطي العليا, أمك وأباك, وأختك وأخاك, ثم أدناك أدناك".
(حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده: حدثنا إبراهيم بن المستمر العروقي , حدثنا عمرو بن سفيان , حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن ليث بن أبي سليم عن علقمة بن مرثد , عن سليمان بن بريدة عن أبيه " أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل أديت حقها ؟ قال لا ولا بزفرة واحدة" أو كما قال, ثم قال البزار : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه. قلت: و الحسن بن أبي جعفر ضعيف, والله أعلم.
ثم لما ذكر ما هو الركن الأعظم وهو التوحيد أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال: 23- "وقضى ربك" أي أمر أمراً جزماً، وحكماً قطعاً، وحتماً مبرماً "أن لا تعبدوا" أي أن لا تعبدوا، فتكون أن ناصبة، ويجوز أن تكون مفسرة ولا نهي. وقرئ ووصى ربك أي وصى عباده بعبادته وحده، ثم أردفه بالأمر ببر الوالدين فقال: "وبالوالدين إحساناً" أي وقضى بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً، أو وأحسنوا بهما إحساناً، ولا يجوز أن يتعلق بالوالدين بإحساناً، لأن المصدر لا يتقدم عليه ما هو متعلق به. قيل ووجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله سبحانه أنهما السبب الظاهر في وجود المتولد بينهما، وفي جعل الإحسان إلى الأبوين قريناً لتوحيد الله وعبادته من الإعلان بتأكد حقهما والعناية بشأنهما ما لا يخفى، وهكذا جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترناً بشكره فقال: " أن اشكر لي ولوالديك " ثم خص سبحانه حالة الكبر بالذكر لكونها إلى البر من الولد أحوج من غيرها فقال: "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما" إما مركبة من إن الشرطية وما الإبهامية لتأكيد معنى الشرط ثم أدخلت نون التوكيد في الفعل لزيادة التقرير كأنه قيل: إن هذا الشرط مما سيقع ألبتة عادة. قال النحويون: إن الشرط يشبه النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت، فلهذا صح دخول النون المؤكدة عليه. وقرأ حمزة والكسائي " يبلغن " قال الفراء: ثني لأن الوالدين قد ذكرا قبله فصار الفعل على عددهما، ثم قال: "أحدهما أو كلاهما" على الاستئناف، وأما على قراءة "يبلغن" فأحدهما فاعل بالاستقلال وقوله "أو كلاهما" فاعل أيضاً لكن لا بالاستقلال بل بتبعية العطف، والأولى أن يكون أحدهما على قراءة يبلغان بدل من الضمير الراجع إلى الوالدين في الفعل ويكون كلاهما عطفاً على البدل، ولا يصح جعل كلاهما تأكيداً للضمير لاستلزام العطف المشاركة، ومعنى عندك في كنفك وكفالتك، وتوحيد الضمير في عندك ولا تقل وما بعدهما للإشعار بأن كل فرد من الأفراد منهي بما فيه النهي، ومأمور بما فيه الأمر، ومعنى "فلا تقل لهما أف" لا تقل لواحد منهما في حالتي الاجتماع والانفراد، وليس المراد حالة الاجتماع فقط، وفي أف لغات: ضم الهمزة مع الحركات الثلاث في الفاء، وبالتنوين وعدمه، وبكسر الهمز والفاء بلا تنوين، وأفي ممالاً، وأفة بالهاء. قال الفراء: تقول العرب فلان يتأفف من ريح وجدها: أي يقول أف أف. وقال الأصمعي: الأف وسخ الأذن، والثف وسخ الأظفار، يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن الأفف الضجر، وقال القتيبي: أصله أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله، فالصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قول القائل أف، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم. وقال الزجاج: معناه النتن. وقال أبو عمرو بن العلاء: الأف وسخ بين الأظفار والثف قلامتها. والحاصل أنه اسم فعل ينبئ عن التضجر والاستثقال، أو صوف ينبئ عن ذلك، فنهي الولد عن أن يظهر منه ما يدل على التضجر من أبويه أو الاستثقال لهما، وبهذا النهي يفهم النهي عن سائر ما يؤذيهما بفحوى الخطاب أو بلحنه كما هو متقرر في الأصول "ولا تنهرهما" النهر: الزجر والغلظة، يقال نهره وانتهره: إذا استقبله بكلام يزجره. قال الزجاج: معناه لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجوههما "وقل لهما" بدل التأفيف والنهر "قولاً كريماً" أي ليناً لطيفاً أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع التأدب والحياء والاحتشام.
23 - قوله عز وجل : " وقضى ربك " ، وأمر ربك ، قاله ابن عباس و قتادة و الحسن .
قال الربيع بن أنس : وأوجب ربك .
قال مجاهد : وأوصى ربك .
وحكى عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأها ووصى ربك . وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافاً .
" أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " ، أي : وأمر بالوالدين إحساناً براً بهما وعطفاً عليهما .
" إما يبلغن عندك الكبر " ،قرأ حمزة و الكسائي بالألف على التثنية فعلى هذا قوله : " أحدهما أو كلاهما "، كلام مستأنف ، كقوله تعالى " ثم عموا وصموا كثير منهم " ( المائدة - 71 ) وقوله " وأسروا النجوى الذين ظلموا " ، وقوله : " الذين ظلموا " ابتداء وقرأ الباقون " يبلغن " على التوحيد .
" فلا تقل لهما أف " ، فيه ثلاث لغات ، قرأ ابن كثير و ابن عامر ، و يعقوب : بفتح الفاء ،وقرأ أبو جعفر ، و نافع ، و حفص بالكسر والتنوين والباقون بكسر الفاء غير منون ، ومعناها واحد وهي كلمة كراهية .
قال أبو عبيدة : أصل التف والأف الوسخ على الأصابع إذا فتلتها .
وقيل : ( الأف ) : ما يكون في المغابن من الوسخ ، و( التف ) : ما يكون في الأصابع .
وقيل : ( الأف ) : وسخ الأذن و( التف ) وسخ الأظافر .
وقيل : ( الأف ) : وسخ الظفر ، و ( التف ) : ما رفعته بيدك من الأرض من شيء حقير .
" ولا تنهرهما " ، ولا تزجرهما .
" وقل لهما قولاً كريماً " ، حسناً جميلاً ليناً ، قال ابن المسيب : كقول العبد المذنب للسيد الفظ .
وقال مجاهد : لا تسميهما ، ولا تكنهما ، وقل : يا أبتاه [ يا أماه ] .
وقال مجاهد : في هذه الآية أيضاً : إذا بلغا عندك من الكبر ما يبولان فلا تتقذرهما ، ولا تقل لهما أف حين تميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيراً .
23."وقضى ربك"وأمر أمراً مقطوعاً به."أن لا تعبدوا"بأن لا تعبدوا."إلا إياه"لأن غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام،وهو كالتفصيل لسعي الآخرة .ويجوز أن تكون"أن"مفسرة و"لا"ناهية ." وبالوالدين إحساناً"وبأن تحسنوا، أو وأحسنوا بالوالدين إحساناً لأنهما السبب الظاهر للوجود والتعيش، ولا يحوز أن تتعلق الباء بالإحسان لأن صلته لا تتقدم عليه."إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما""إما"هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيداً ولذلك صح لحوق النون والمؤكدة للفعل،وأحدهما فاعل"يبلغن"ويدل على قراءة حمزة والكسائي من ألف يبلغان الراجع إلى الوالدين،وكلاهما عطف على أحدهما فاعلاً أو بدلاً ولذلك لم يجز أن يكون تأكيداً للألف، ومعنى "عندك"أن يكونا في كنفك وكفالتك."فلا تقل لهما أف"فلا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنتهما ، وهو صوت يدل على تضجر . وقيل هو اسم الفعل الذي هو أتضجر، وهو مبنى على الكسر لالتقاء الساكنين وتنوينه في قراءة نافع وحفصللتنكير .وقرأابن كثير وابن عامر ويعقوببالفتح على التخفيف . وقرئ منوناً والضم للاتباع كمنذ منوناً وغير منون ، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياساً بطريق الأولى . وقيل عرفاً كقولك:فلان لا يملك النقير والقطمير، ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة من قتل أبيه وهو في صف المشركين، نهى عما يؤذيهما بعد الأمر بالإحسان بهما. "ولا تنهرهما"ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ. وقيل النهي والنهر والنهم أخوات . "وقل لهما "بدل التأفيف والنهر."قولاً كريماً"جميلاً لا شراسة فيه.
23. Thy Lord hath decreed, that ye worship none save Him, and (that ye show) kindness to parents. If one of them or both of them to attain old age with thee, say not "Fie" unto them nor repulse them, but speak unto them a gracious word.
23 - Thy Lord hath decreed that ye worship none but him, and that ye be kind to parents. whether one or both of them attain old age in thy life, say not to them a word of contempt, nor repel them, but address them in terms of honor.